Salah Hammouri: Lawyer, Human Rights Activist, and the Perpetual Prisoner
Full text: 

يدفع الفلسطيني في المرة الأولى ثمناً لمجرد ولادته / وجوده، ثم يدفع في المرة الثانية ثمناً عند انتمائه الحرّ إلى المكان، ويدفع ثمناً أكبر عندما يسير في طريق يعتقد أنه سيقوده إلى تحرير بلده. وهذا الثمن يبدو واضحاً في عيون ووجوه آلاف الفلسطينيين، وبينهم المحامي والأسير الدائم صلاح حمّوري الذي أُجريت معه هذه المقابلة وهو خارج المعتقل، وعند البدء بتحريرها كان الاحتلال الإسرائيلي قد أعاد اعتقاله.

عند التعرف إلى صلاح حمّوري للمرة الأولى يتبادر إلى الذهن أن أصعب ما مرّ به هو الاعتقالات المتكررة والمتتالية مذ كان فتى، وخصوصاً الاعتقال الأشهر والأطول في حياته، والذي استمر 7 أعوام متواصلة. لكن بعد التعرف أكثر إلى حياته اليومية، فإنك ستجد ما هو أصعب وأعقد، ويكاد يكون أسوأ من الاعتقال نفسه.

صلاح حمّوري فلسطيني مقدسي، من أب فلسطيني وأم فرنسية، ويحمل الهوية المقدسية والجنسية الفرنسية، لكن كونه فلسطينياً فرنسياً لم يمنع الاحتلال من اعتقاله مرة تلو الأُخرى، وزجّه في زنزانات المسكوبية مذ كان فتى، وملاحقته، والدخول في تفصيلات حياته وتدميرها، وهذا كله للوصول إلى هدف واحد هو دفعه إلى مغادرة الوطن.

اعتقالات متتالية بدأت منذ سنة 2001، وبين اعتقال وآخر لم يوفر الاحتلال جهداً لتذكير صلاح بأن حياته لن تكون عادية أو سهلة. وقد تخلل الاعتقالات المتكررة رفض طلب لمّ الشمل الذي قدمه وزوجته الفرنسية إلسا، وأوامر بالمنع من دخول الضفة الغربية، واستدعاءات استخبارات وتحقيق وملاحقات، ثم ترحيل زوجته إلى فرنسا وهي حامل بابنهما الأول، ومنعها من دخول فلسطين. أمّا القرار الأخير الذي اعتبره صلاح تصعيداً بعد أن خسر الاحتلال في معاركه أمامه، فكان قرار سحب الهوية المقدسية، أي بمعنى آخر الترحيل، الأمر الذي واجهه صلاح ورفضه طوال أعوام الاعتقال والملاحقة والتضييق السابقة.

لم ينتهِ صلاح من الإجراءات ضد القرار والبحث عن آلية المواجهة والرفض، حتى فوجىء بكشف تجسس الشركة الإسرائيلية NSO على هاتفه الشخصي باستخدام تطبيق بيغاسوس، والذي تزامن مع إعلان مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان منظمةً إرهابية، وهي المؤسسة التي يعمل فيها صلاح كمحامٍ وحقوقي. مع هذا كله، من النادر أن تلتقي بصلاح من دون أن تسمع ضحكته تصدح في المكان، وأن تضحك معه من قلبك على تعليقات يلقيها هو نفسه على حالته وعلى القرارات التي تنهال على رأسه من كل حدب وصوب؛ ومَن يعرف صلاح حقّ المعرفة يدرك أنه فعلاً لا يستطع العيش من دون شوارع القدس القديمة، ودكاكينها وناسها وتحية الصباح والمساء التي يلقيها ويردّها على أهالي القدس، ولا يمكن أن يمرّ يوم من دون أن يجري على الأقل 30 اتصالاً هاتفياً بأصدقاء للاطمئنان والدردشة والتندر والضحك، ومن دون التجول في شوارع رام الله وحاراتها. يردد صلاح دائماً عبارة "بنعاشش فيها باريس" رداً على أي مقترح بالخروج لفترة من الزمن، وكنا في أثناء كل اعتقال أو إجراء جديد نقول له: "هاي البلد اللي بنعاش فيها؟" وبالنسبة إليه فإن الجواب هو نعم، فمع كل ما حدث ويحدث له، فإن هذا هو البلد الذي يمكنه أن يعيش فيه، وهو البلد الذي يريد أن يعيش فيه، وهذا كل ما يطلبه. 

 

صلاح حمّوري في مقر مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان في 1 / 10 / 2020.
المصدر: موقع "إيلاف"، في الرابط الإلكتروني.

 

عمر من الاعتقالات المتسلسلة 

هل لك أن تحدثنا عن الاعتقالات المتعددة، متى كانت، وكم كان عمرك في كل اعتقال؟

في الاعتقال الأول كان عمري ستة عشر عاماً، وكان بتاريخ 31 / 8 / 2001، وكنت طالباً في مدرسة الفرير، وقد خضعت 61 يوماً للتحقيق في زنزانات المسكوبية، ثم جرى تحويلي إلى سجن الشارون للأحداث، وحُكم عليّ مدة 5 أشهر وبضعة أيام، وذلك بتهمة نشاط طلابي داخل أروقة المدرسة.

بعد تخرّجي من المدرسة ودخولي إلى الجامعة، اعتُقلت مرة أُخرى في 20 / 2 / 2004 من منطقة بيت ساحور حيث كنا في سكن طلبة، وقد ادّعى الاحتلال حينها أن هناك مطلوبين في البيت، وتم تحويلي إلى الاعتقال الإداري لخمسة أشهر، ثم أُفرج عني في تموز/ يوليو.

اعتُقلت مرة ثالثة في 13 / 3 / 2005، وخضعت لتحقيق طويل لما يقارب 90 يوماً في زنزانات المسكوبية، وبقيت موقوفاً لثلاثة أعوام إلى حين انتهاء إجراءات المحاكمة. وعُرض عليّ في سنة 2008 أن يُفرج عني مباشرة في مقابل أن أغادر البلد لـ 15 عاماً، أو أن يُحكم عليّ بالسجن الفعلي، وهو ما رفضته، واخترت أن يُحكم عليّ وأظل في الوطن حتى لو داخل السجن. وفعلاً هذا ما حدث، لكن أُفرج عني في 18 / 12 / 2011 في صفقة التبادل مع الجندي الأسير في غزة جلعاد شاليط، قبل انتهاء فترة حكمي بنحو شهرين.

ثم توالت إجراءات التضييق والحجز، ففي سنة 2014 صدر ضدي أول أمر إبعاد عن الضفة، وهو أمر جرى تجديده 3 مرات، أي ما مجموعه عام ونصف عام. وفي 23/8/2017 اعتُقلت 13 شهراً إدارياً،* ثم اعتُقلت آخر مرة في 29/6/2020، وأُفرج عني بعد 10 أيام من التحقيق، من دون أن يتمكن الاحتلال من تقديم لائحة اتهام، أو تثبيت أي معلومات. 

متى بدأت تشعر بأنك ملاحق؟ ليس مجرد اعتقال وقضاء حكم في السجن، بل أنك ملاحق في التفصيلات كلها أيضاً؟

ما بين كل اعتقال واعتقال كنت أشعر بأن الملاحقة مستمرة، لأن الاعتقال لم يكن ينتهي بمجرد أن أخرج من السجن، فقد كان هناك دائماً استدعاءات مستمرة لمقابلة الاستخبارات بعد الإفراج عني، ودائماً هناك أسئلة عني وبشأني للشباب الذين يتم اعتقالهم والتحقيق معهم. 

نتائج خجولة للتدخل الفرنسي 

كيف تصرفتْ القنصلية الفرنسية في أول مرة تعرضتَ فيها لاعتقال، وخصوصاً أنك كنت قاصراً وتحمل الجنسية الفرنسية؟

الشيء الوحيد الذي شكّل فرقاً هو أن القنصلية كانت توفد مَن يزورني مرتين في اليوم، على اعتبار أنني قاصر ووحدي في الزنزانات، الأمر الذي شكّل لي متنفساً. أمّا على صعيد التدخل، فإن الفرنسيين لم يتمكنوا من تغيير أي شيء في موضوع الاعتقال أو التخفيف من الحكم، أو في أن أقضي 60 يوماً في الزنزانات، وحدي في أغلب الوقت، وأنا طالب مدرسة أبلغ 16 عاماً من العمر. يمكننا القول إن نتائج التدخل كانت خجولة. 

وهل كان هناك أي تعامل مختلف خلال الاعتقالات المتعددة كونك تحمل الجنسية الفرنسية، كاختلاف في ظروف التحقيق، أو الاحتجاز، أو في المكالمات، أو التدخلات؟

في أثناء اعتقالي مع الأشبال لم أشعر بأي امتياز أو فرق، وفي اعتقالي الإداري أيضاً لم يشكل تدخّل القنصلية أي فرق على الصعيد الرسمي، والفرق الوحيد هو أن القنصل كان يزورني بين فترة وأُخرى. لكن على صعيد النتائج الملموسة، لم يكن هناك أي نتائج تُذكر لها علاقة بظروف الاحتجاز والاعتقال وحتى بالتحقيق، كما لم أحصل على أي مميزات كوني فرنسياً. 

هل كنت تشعر بأن الجنسية الفرنسية عامل سلبي بالنسبة إليك؟

لم يكن هناك شعور بأنها عامل سلبي، أو بأن هناك نتائج ملموسة، لكن في مكان معين كانت أداة يمكنني أن ألوّح بها في حالات معينة داخل السجن. 

في فترة أسر الجندي الصهيوني جلعاد شاليط على يد المقاومة الفلسطينية، جرى التعامل معه كإسرائيلي فرنسي، وكان هناك تحرك واسع على المستوى الرسمي الفرنسي من أجل الإفراج عنه. ما الشعور الذي تركه عندك هذا التحرك لأجله بسبب كونه فرنسياً، والاهتمام الذي حظي به من الحكومة الفرنسية؟

أنا اعتُقلت في سنة 2005، والمقاومة أسرت شاليط بعد عام وشهر تقريباً، وفي البداية لم أكن أعرف أن هذا الجندي يحمل جنسية فرنسية، وإنما اكتشفت الموضوع متأخراً. وفي هذه القضية كان واضحاً أن فرنسا تتعامل بنوعين من المعايير، فقصة شاليط كانت تُثار بشكل رسمي وعلني وإعلامي، وكان يتم استقبال أهل شاليط في المحافل الرسمية الفرنسية وغيرها، بينما في حالتي أنا، وإلى حين إطلاق سراح شاليط، لم يقبل ساركوزي - الرئيس الفرنسي حينها - أن يذكر اسمي بشكل رسمي. وفي المقابل كان هناك حملة شعبية واسعة النطاق، وحملة تضامن كبيرة من أجل الضغط للإفراج عني، لكن اللوبي الصهيوني الكبير في فرنسا كان يضغط بشكل مستمر على ساركوزي لعدم تبنّي قضيتي. ولم يبرز التدخل الرسمي الفرنسي إلّا بعد إطلاق سراح شاليط في 18 / 10 / 2011، فأنا أذكر أنه طوال الوقت لم يكن يزورني في السجن سوى القنصل، وأن السفير الفرنسي لم يزرني قط، وهذا له دلائل طبعاً، وفقط بعد إطلاق شاليط زارني السفير، ثم تدخلت الحكومة الفرنسية كي يكون اسمي موجوداً في الدفعة الثانية من صفقة وفاء الأحرار. ومن الجدير بالذكر أنه حتى هذا التدخل كان فيه نوع من الإهانة للفرنسيين من ناحية كيف عرض الإسرائيليون الموضوع في الإعلام. 

معتقلون فلسطينيون من جنسيات متنوعة 

هل تذكر أسرى دوليين آخرين في السجون، وهل تذكر أسماء وحالات، وهل كان هناك وضع مميز لهم؟

على صعيد الإقليم كان رفاقنا من الجولان السوري المحتل، وقد عشتُ لفترة مع الشهيد سمير القنطار، أمّا على الصعيد الدولي فكان معي فلسطينيون من حَمَلة الجنسيات الدولية، فقد كان هناك اثنان يحملون الجنسية الأميركية، وفلسطيني يحمل جنسية، إمّا فنزويلية وإمّا كوبية. وفيما يتعلق بموضوع التعامل الدولي فكان هناك اختلاف كبير من دولة إلى أُخرى، فتعامل فرنسا كان أفضل كثيراً من تعامل أميركا مع الفلسطينيين الأميركيين مثلاً. 

كأس العالم لكرة القدم داخل السجن 

خلال اعتقالك الإداري خلال سنتَي 2017 و2018، كان العالم يشاهد مباريات كأس العالم لسنة 2018، والذي فازت فيه فرنسا. تحدث عن تلك الفترة، وكيف تمكنتم من مشاهدة المباريات، وكيف تفاعل الأسرى مع فرنسا كونك بينهم.

موضوع كأس العالم لسنة 2018 كان بصراحة حدثاً مميزاً داخل السجن، وذلك من ناحية كيف تمكنّا من متابعته. فقد كنت في تلك الفترة في قسم الخيم في سجن النقب، وكنت موجوداً في أقسام "حماس"، وبعد حوارات ونقاشات مع إدارة السجون قررتْ أننا ممنوعون من مشاهدة هذا الحدث، فقمنا بالتنسيق مع قناة "الأقصى" في غزة، وتم الترتيب معها على أن يبثّ تلفزيون "الأقصى" في غزة كأس العالم، وبالتالي قمنا بمدّ "الأنتينات" والكابلات اللازمة، وحضّرنا "أنتيناً" رفعناه على الجدار بطريقة مخفية، و"جبنا البثّ من غزة"، وتمكنّا من مشاهدة كأس العالم. وكنت منذ البداية أشجع فرنسا، وبدأ نوع من المناكفات بين المشجعين، فقمت بعمل شيء يشبه "ألتراس" فرنسي داخل السجن، وعشنا أجواء كأس العالم بما كان ممكناً، وفي المباراة النهائية التي كانت بين فرنسا وكرواتيا، صنعنا علم فرنسا باستخدام المناشف، ورسمنا رسمات للديك الفرنسي. لقد كانت أجواء جميلة جداً. 

أوضاع الاعتقال تزداد سوءاً 

أي اعتقال هو الأسوأ أو الأصعب بالنسبة إليك، ولماذا؟

الاعتقال الإداري الأخير هو الأسوأ بحكم الظرف العائلي. فقد جرى ترحيل زوجتي في سنة 2014 وهي حامل بابننا الذي ولد في فرنسا، وكنت أرى عائلتي من خلال السفر كل شهرين أو ثلاثة إلى فرنسا لقضاء الوقت معهم. لكن عند اعتقالي الأخير حُرمت من رؤية زوجتي وابني لمدة 13 شهراً كونهما ممنوعَين من دخول فلسطين، ولم أحصل على زيارات عائلية، ولا حتى بالحد الأدنى، أي من وراء زجاج ومن خلال سماعة الهاتف، وهذا كان أقسى ما في الاعتقال، إذ كنت أخرج إلى قاعة الزيارة وأرى الأطفال يزورون آباءهم، بينما ابني موجود في دولة أُخرى، وممنوع من دخول الوطن وزيارتي، وأنا معتقل ولا يمكنني السفر لزيارته. ولذلك كان هذا الاعتقال الأصعب بالنسبة إليّ. 

كم اختلف واقع السجون من اعتقال إلى آخر؟

هذا الموضوع طويل وشائك وفيه كثير من التفصيلات، لكني سأحاول تلخيصه قدر الإمكان. إن واقع السجون هو أساساً، امتداد للحالة النضالية والمجتمعية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في حالات المدّ والجزر، والتي مرّ بها، أكان ذلك في أثناء الانتفاضة الأولى أو الثانية أو خلال فترة أوسلو، فكل فترة من الفترات أثّرت وتأثرت بها الحياة داخل السجون.

وبالحديث عن اندلاع الانتفاضة الثانية، فإن هناك نقطة مهمة يجب أن نشير إليها، وهي أن الجيل الذي دخل إلى السجون ما بعد سنة 2000 هو جيل تلك الانتفاضة، وكان واقع السجون في تلك الفترة يتسم بحالة من الركود النضالي منذ سنة 93/94 حتى سنة 2000. فقد كان الواقع النضالي خلالها شبه مجمّد بحكم اتفاق أوسلو وتبعاته وامتداد يده إلى السجون، وإضعاف الحركة الأسيرة، وبالتالي دخل الأسرى الجدد إلى السجون في ظل واقع هشّ وواقع مشوّه نضالياً. وهكذا عاش الأسرى مخاضاً وصراعاً ما بين الجيل القديم والجيل الجديد في موضوع الاندفاعية وموضوع الثورية، كأنه كان صراعاً ما بين حكمة القدامى وثورية الجدد. وكان لا بدّ من التوصل إلى صيغة معينة في الفترة الأولى، ولا سيما مع وجود المنافسة على المناصب والمسؤوليات، ومع اعتقال أعداد هائلة بعد الاجتياح، والتي لم يستوعبها واقع السجون.

وخلال فترة اعتقالي منذ سنة 2001 حتى سنة 2020، كانت الظروف تختلف من اعتقال إلى آخر، لكنها للأسف كانت متزامنة مع تراجع في أوضاع حياة الأسرى، علماً بأن فرض ظروف حياة كريمة للأسرى يرتبط ارتباطاً تاماً بنضال الحركة الأسيرة التي حققت الكثير سابقاً. غير أنه مع ضعف الحالة النضالية، فإن إسرائيل كانت تتراجع عن أي مكتسب حققه الأسرى.

هناك مفاصل تاريخية لهذا الموضوع، والمفصل الأساسي لتراجع الحالة النضالية في السجون هو إضراب سنة 2004، فقد شكّل هذا الإضراب فعلياً أول هزيمة للجيل القديم والجيل الجديد أمام مصلحة السجون، وهي هزيمة تشبه اجتياح الضفة في سنة 2002 فيما سُمي عملية السور الواقي، فكأن إضراب سنة 2004، وانكساره، هما عملية السور الواقي لكن داخل السجون، لأن هجمة إدارة السجون كانت كبيرة بعد سنة 2004، من إلغاء الزيارات والمطابخ، إلخ، ذلك بأن الإدارة فرضت عملية سور واقٍ جديدة داخل السجون ما بعد سنة 2004.

أمّا الهجمة الثانية فكانت سنة 2006 / 2007، بعد أن أسرت المقاومة جلعاد شاليط، وتبعات ذلك على الأسرى من فرض عقوبات، وسحب الامتيازات التي انتزعوها بإضراباتهم ونضالهم داخل السجون. وبقيت حالة الركود هذه حتى سنتَي 2011 و2012، إلى أن قررت 3 فصائل وهي الجبهة الشعبية، والجهاد الإسلامي، و"فتح" في غزة، خوض إضراب مفتوح عن الطعام في سنة 2012، حقق الأسرى من خلاله بعض الإنجازات البسيطة، وأساساً إخراج القيادات والأشخاص من العزل الانفرادي.

إن الظروف داخل السجون في حالة تراجع، والسلطة الفلسطينية قامت بدور سلبي في واقع الحركة الأسيرة. فالتنسيق الأمني وعملية الخصخصة وصلا إلى السجون، وعملية الإدارة الليبرالية للاقتصاد انعكست داخلها، وهو ما أدت السلطة الفلسطينية دوراً رئيسياً فيه، من خلال الدفع إلى الاحتلال في موضوع الكانتينا، الأمر الذي رفع العبء عن الاحتلال، وهو عبء كان يتحمله تاريخياً. فبمجرد أن باتت السلطة تدفع مبلغ 300 – 400 شيكل عن كل أسير، رُفع يد الاحتلال اقتصادياً عن الموضوع، بالتالي أصبح واقع السجون عجلة اقتصادية مدرّة ومربحة للاحتلال الذي صار يسعى للإبقاء على أكبر عدد من الأسرى الفلسطينيين كي تبقى عجلة السجون الاقتصادية منتجة ومستمرة.

أستطيع أن أجزم أنه في الـ 15 عاماً الأخيرة، لم يتكلف الاحتلال أعباء مالية لبناء سجن واحد، وإنما بُنيت السجون على حسابنا الشخصي، وعلى حساب أموالنا، وعلى حساب أموال الكانتينا، وعلى حساب أموال السلطة التي تحوَّل إلى الاحتلال.

وهذا التراجع يشمل كل شيء، فهو لم يتسبب بهجمة إدارة السجون فقط، بل امتد إلى طبيعة الحياة الداخلية وطبيعة الاهتمامات أيضاً. ومع أنه لا يمكن أن نعمم بشكل قاطع، إلّا إن هناك تراجعاً في الحالة الثقافية، وفي حالة التعبئة، وفي الفردانية، والبحث عن الحلول الفردية. وأكبر دليل على هذا الموضوع هو ظاهرة الإضرابات الفردية، فالحلول الفردية التي يحاول كل أسير أن يبتدعها من أجل الخلاص الشخصي تعكس في جوهرها الأزمة الجماعية الموجودة، وانسداد الأفق، اللذين يدفعان الأسير إلى الإضراب بمفرده من أجل تحقيق خلاصه.

لقد وصل الأسرى بفعل التغيرات الاقتصادية والسياسية كلها إلى واقع معين داخل السجون، وقبلوا به إلى حدّ ما، كما قبلت به الإدارة بطريقة غير مكتوبة وغير معلنة، فحصل الأسرى على نوع من الرخاء الاقتصادي، وعلى وجود مكثف لأجهزة الهاتف، وتواصل مع الخارج لا يتجاوز العلاقات الاجتماعية. وبالتالي، أعتقد أن هذا الواقع وهذه الصيغة حيّدتا الدور الريادي للحركة الأسيرة، كما حيّدتا تأثيرها في الحركة الوطنية عامة. 

قرار الزواج وأحوال العائلة 

بالنسبة إلى قرار الارتباط، هل شعرت بأن هناك مسؤولية مختلفة في هذا القرار، ولا أقصد مسؤولية الارتباط نفسه فقط، بل مسؤولية كونك أسيراً محرراً ولك وضع خاص؟ وماذا عن قرار إنجاب الأطفال، فهل كنت ترسم سيناريوهات عن شكل حياة طفلك قبل الترحيل؟

في المرحلة التي ارتبطت فيها كان قرار الارتباط واضحاً بالنسبة إليّ وهو أن كوني أسيراً محرراً لا يجعلني استثناء، أو بالأحرى يجب ألّا يقيدني نفسياً، كما أنني كنت قد أوضحت لزوجتي وجهزتها نفسياً أنه سيكون هناك دفع أثمان، إذ كنت مقدراً بكل تأكيد أن وضعي خاص كوني أسيراً محرراً. 

 ما العلاقة التي تريدها لأطفالك مع البلد، كونهم موجودين في فرنسا وممنوعين من دخوله؟

بالنسبة إلى أطفالي، فأنا بكل تأكيد أريدهم أن يعيشوا في البلد، وأريدهم أن ينتموا إلى هذا المكان وأن يحبّوه، وليس لديّ مشكلة في أن يدفع أطفالي ثمن وجودهم هنا، فوجودهم هنا هو جزء من المعركة، لأن الاحتلال ليس مجرد استيطان مادي للأرض والبيوت، بل إنه يستهدف وجودنا الإنساني أيضاً. كنت أفضل أن يكونوا هنا، في القدس تحديداً، وأن يخوضوا معركة الوجود الفلسطيني في القدس. 

كيف كان تدخّل الحكومة الفرنسية في الموضوع كله، مثلاً: إقامة الزوجة ثم ترحيلها؛ لمّ الشمل؛ الإقامة الجبرية؛ إلخ؟

لم يتجاوز دورها الوعود؛ وعود بإجراء اتصالات، ووعود بالتدخل. 

هل كنت تتوقع في يوم من الأيام استخدام برنامج بيغاسوس ضدك أنت، وهو الذي استُخدم ضد الرئيس الفرنسي ماكرون؟

بصراحة لم أتوقع أن يستخدموا بيغاسوس ضدي، فأنا أعرف أني بالحد الأدنى مراقب، لكن لم أتوقع أن تكون المراقبة باستخدام أنظمة متقدمة تكلّف هذه الأموال الهائلة. 

هل تشعر بأنك تأثرت بموضوع التجسس، ليس فقط في الملاحقة، بل في الدخول إلى تفصيلات حياتك الشخصية أيضاً؟

طبعاً بكل تأكيد، لأن حياتي الشخصية وكل ما يتعلق بي أصبحا مكشوفَين، ولا أعرف لأي جهة من الجهات. لا أنكر أنني طوال حياتي السابقة كنت أعتقد أن هناك ملاحقة واستهدافاً وما إلى ذلك، لكن عندما يكتشف الإنسان الموضوع بهذه الطريقة يدرك كم هو مكشوف، في حياته الشخصية وحياته الاجتماعية، وحتى أولادنا الذين لا ننشر صورهم في وسائل التواصل الاجتماع أو غيره، كي نبعدهم قدر الإمكان عن الاستهداف باتوا مكشوفين بشكل كامل. إن تعبير الشخص عن آرائه الخاصة، سواء الاجتماعية أو السياسية أو مواقفه العامة، أصبح مكشوفاً كله، وأنا متأكد من أن هذا الاختراق هو بهدف إعداد ملف تقييم كامل عن الأشخاص الذين جرى اختراق أجهزتهم، من أجل الاستماع إلى آرائهم في الموضوعات كافة. 

سحب الهوية والانتقال إلى كفر عقب 

في 3 / 9 / 2020 صدر قرار سحب الهوية المقدسية من صلاح حمّوري، في خطوة متقدمة تلعب فيها سلطات الاحتلال أوراقها الأخيرة من أجل إجبار صلاح على مغادرة الوطن، ومغادرة القدس والانتقال إلى فرنسا. ومع أن الإجراءات القانونية لا تزال قائمة، إلّا إن هذا القرار اضطر صلاح إلى وقف سفره إلى فرنسا لزيارة زوجته وأطفاله، وحَصَر حركته في كفر عقب كي لا يعطي الاحتلال مسوغاً لاعتقاله وترحيله على أول حاجز عسكري يقابله. ماذا تعني لك هذه الملاحقة المستمرة من قرار سحب الهوية، والتجسس، ورفض إعطاء تصريح بالتحرك داخل القدس، ورفض الاستئناف على قرار سحب الهوية؟

هذه الملاحقة تعني أن الاحتلال صار يستخدم أوراق ضغط وتصعيد إضافية لم يكن قد استخدمها من قبل ضدي، لأنه بات واضحاً أن موضوع الاعتقال والاستهداف التقليدي لم ينجح معي. وبالتالي، فإن القرار الاستراتيجي الذي اتخذه الاحتلال اليوم هو العمل على إخراجي بشكل نهائي من الوطن، وذلك باستخدام قوانين الإرهاب الداخلية الخاصة به، وبغطاء قانوني كامل من محاكم الاحتلال. 

لأول مرة يتم حصر حركتك داخل حدود كفر عقب، كيف تقضي وقتك منذ قرار سحب الهوية، وكيف أثّر ذلك في عملك، ودراستك، وحياتك الاجتماعية؟

قرار سحب الهوية بهذا الشكل يُعتبر فعلياً إقامة جبرية أثّرت في جوانب حياتي كافة: عملي تأثر بعدم قدرتي على الذهاب إلى المحكمة؛ حياتي الاجتماعية تأثرت بحصر حدود علاقاتي الاجتماعية، ولا سيما في جزء كبير من علاقاتي مع الأصدقاء في القدس والداخل؛ فيما يتعلق بموضوع الدراسة، ليس لديّ القدرة على الذهاب إلى جامعة القدس لاستكمال دراستي؛ في موضوع السفر، لا يمكنني السفر لأنه في حال خروجي من الوطن لا يمكنني العودة إليه من جديد، الأمر الذي أثّر في الجولات وحملات المناصرة التي كنت أقوم بها. أمّا عائلتي، زوجتي وأطفالي الموجودون في فرنسا والممنوعون من الدخول إلى فلسطين، فآخر مرة تمكنت فيها من رؤيتهم كانت في أيار / مايو من العام الماضي، أي تقريباً قبل 9 أشهر، ومنذ ذلك الحين لم أرَ العائلة نهائياً. وأنا أدرك أن الأطفال يعيشون الآن في ظل أزمة "أين بابا"، وتواصلي الوحيد معهم في هذا الظرف الحالي هو من خلال مكالمات الفيديو. 

ما هي آخر التحديثات بشأن قضية سحب الهوية؟

قدمنا اعتراضاً على موضوع سحب الهوية لدى المحكمة المركزية وتم رفضه، ثم قدمنا طلب أمر احترازي للسماح بالحركة، إلى أن تنتهي الإجراءات القانونية في موضوع سحب الهوية، ورُفض أيضاً، والآن سنتوجه إلى المحكمة العليا بشأن موضوع سحب الهوية، وهو الخيار الأخير المتاح أمامنا. 

الترحيل هو الإجراء الأصعب 

أي إجراء هو الأسوأ والأعقد: السجن، أم الإقامة الجبرية، أم إبعاد زوجتك، أم المنع من دخول الضفة، أم الترحيل؟

الترحيل بكل تأكيد، فأنا رفضت الخروج من الوطن لمدة 15 عاماً، وقبلت البقاء في السجون 7 أعوام، ليس لأني لا أريد الحرية ولا أحلم بها، بل لأن هذا كان خياراً طوعياً ونابعاً عن قناعة بأننا لا يمكن أن نترك ساحة المعركة ، وحتى لو كان هناك ثمن باهظ فإننا سندفعه، وبالتالي فإن موضوع إخراجي من الوطن بالنسبة إليّ هو الخيار الأصعب والمرحلة الأسوأ، وهو الأمر الذي رفضتُه في جميع المراحل. فعلى الرغم من التضييق والملاحقات والخنق وتشتيت العائلة، فإن قراري كان ولا يزال هو البقاء في الوطن، وهو ما لن أتنازل عنه مهما يكن الثمن. 

رسالة إلى العائلة 

في حال طُلب منك توجيه رسالة من جملتين أو ثلاثة إلى طفلَيك وزوجتك، ماذا تقول لهم؟

الرسالة الوحيدة التي أوجهها إلى العائلة هي أنني لن أخضع لخيار الاختيار بين العائلة والوطن، لن تكون حسبتي هذه الحسبة، بل سأمارس قناعاتي حتى آخر نفس.

 

* قاطع صلاح حمّوري محاكم الاحتلال في هذا الاعتقال، كونه اعتقالاً إدارياً من دون تهمة أو محاكمة فعلية، واستمر النظام القضائي المكمل للدور الاستعماري للاحتلال، في تثبيت أوامر الاعتقال الإداري ضده، وعُقدت المحاكم الصورية من دون موافقة المعتقل، ومن دون تمثيل قانوني، لمدة بلغ مجموعها 13 شهراً.

Author biography: 

عُلا هنية: باحثة في شؤون الأسرى، وطالبة في برنامج الديمقراطية وحقوق الإنسان في جامعة بيرزيت.