يحار المرء كيف يقرأ جرح القدس الذي ينزف ضوءاً ودماً. فالقدس صارت استعارة لفلسطين كلها، وفلسطين من جنين إلى نابلس إلى رام الله، ومن حيفا إلى يافا إلى عكا والجليل صارت أسماء أُخرى للقدس.
يريدون تذكير الفلسطينيين بالنكبة التي لم تتوقف، ويخوضون حرباً رمزية من أجل تدمير الرموز الفلسطينية، فيقتحمون المسجد الأقصى بالعنف والكراهية، ويقتلون الفلسطينيات والفلسطينيين في حرب دينية – عنصرية تهدف إلى محو الوجود الفلسطيني.
هذا هو حصاد التجبّر الإسرائيلي الذي يصنعه صراع اليمين مع اليمين، في ظل اندثار شبه كامل للسلام الذي صار محالاً.
لكن في مواجهة النكبة المستمرة هناك مقاومة مستمرة.
صحيح أن الفلسطينيات والفلسطينيين يدفعون اليوم ثمن الثورة المضادة التي جعلت من العالم العربي ملعباً إسرائيلياً وسط الخراب الذي صنعه الاستبداد بمختلف أشكاله.
لكن الصحيح أيضاً أن الفلسطينيات والفلسطينيين يقاومون، لأن المقاومة صارت شرطاً للبقاء.
يقاومون بجميع الأشكال المتاحة وغير المتاحة؛ يحفرون نفقاً للحرية، يصمدون في مدنهم وقراهم ومخيماتهم ويقاتلون.
حتى نعوشهم صارت سفناً تمخر عباب كراهية الاحتلال، وتصمد أمام القراصنة ولا تغرق.
نقرأ الجرح كي نكون شهوداً، في زمن تحوّل فيه الشهود إلى شهداء.
***
تذكروا النكبة
اقترح علينا عضو الكنيست الإسرائيلي يسرائيل كاتس أن نتذكر النكبة، وهذا كلام إسرائيلي جديد بعد عقود من الجهد لإنكار حدوث النكبة. شكراً يا سيد كاتس، فذاكرتنا قوية، ولسنا في حاجة إلى مَن يذكّرنا.
والطريف أن كاتس أدلى بدلوه كردة فعل على قيام الطلاب الفلسطينيين في جامعة تل أبيب بإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية، فرفعوا العَلَم الفلسطيني على أرض قرية الشيخ مؤنس المدمرة والمهجرة، والتي أقيم جزء من جامعة تل أبيب فوق خرابها.
النائب الإسرائيلي يريد من الفلسطينيين أن يتذكروا، وحين يتذكرون يغضب، فعلى الضحية أن تتذكر بخوف وصمت، فتصير الذاكرة موتاً للروح والإرادة.
الموقف الإسرائيلي من الذاكرة الفلسطينية محيّر، هل يطلبون من ضحيتهم أن تتذكر وتنسى في آنٍ معاً؟
ماذا يعني هذا الكلام، وأين يستقيم المنطق؟
نتذكر ماذا؟ وننسى ماذا؟
أغلب الظن أن الإسرائيليين يريدون من الفلسطينيين تذكّر النكبة ونسيان المجرم، وهذا دونه صعوبات كبرى. لكن لنفترض أنه ممكن نظرياً، فكيف يستقيم هذا الوضع والمجرم لا يني عن تذكيرهم بجريمته عبر ارتكاباته المتواصلة هنا والآن، وهذا تناقض لا حلّ له.
كاتس وأمثاله يريدون منا أن ننذكر كي نخاف ونخضع، بينما ينسى المجرم خطيئته الأصلية كي يستطيع متابعة ارتكاباته.
وفي جلسة الكنيست الإسرائيلي التي أقرّت قانون حظر رفع العَلَم الفلسطيني صرخ نائب آخر في وجه سامي أبو شحادة: "اذهب إلى غزة أو إلى الأردن، يوم النكبة هو يوم حسدكم من إسرائيل."
لم يقل له اذهب إلى الضفة الغربية، فـ "يهودا والسامرة" هما ملعب للاستيطان اليهودي، ومؤهلتان للتطهير العرقي.
أمره بأن يذهب، مدّعياً أن الفلسطينيين ذهبوا في سنة 1948، ومتناسياً حقيقة أنهم قُتلوا وشُردوا وأُجبروا على الرحيل.
لكن إسرائيل تعرف أن أحداً لم يخرج بإرادته، وأنهم باقون.
غير أن الرعونة الإسرائيلية لها ما يبررها، فالسيد كاتس وأضرابه لا يجانبون الحقيقة حين يؤكدون النكبة ويقومون بنفي حدوثها في الوقت نفسه. وهذا تناقض شكلي يخفي قراراً معلناً بأن النكبة لم تتوقف.
حرب الذاكرة لم تعد هي الموضوع، فالصراع ليس على الماضي إلّا بصفته امتداد للحاضر. لا يحتاج الفلسطينيات والفلسطينيون إلى تذكّر نكبتهم، فنكبتهم مستمرة وتجري وقائعها كل يوم. لكن عليهم أن يتذكروا مذابح الماضي والطرد الجماعي وتدمير القرى وتحطيم المدن التي حدثت منذ سبعة عقود كي تنشلّ إرادتهم وتتداعى مقاومتهم. فذاكرة الخوف يجب أن تصيبهم بالشلل، وتفرض عليهم الخنوع للأشكال الجديدة من النكبة.
وكاتس وأمثاله لا يصدقون أعينهم وهم يرون كيف تبدد الخوف، وتلاشت الرهبة؛ يشاهدون العَلَم الفلسطيني في كل مكان، بينما هم يستنفرون جيشهم وشرطتهم ليسيروا بأعلامهم في مدينة محتلة منذ أكثر من نصف قرن، في الوقت الذي يرفع أولاد النكبة عَلَم وطنهم الضائع ويُقتلون، لكنهم لا يخافون.
يحار الإسرائيليون في تفسير ما يجري، فكل شيء يوحي بأن يدهم صارت هي العليا. خرج العرب من معادلة الصراع، بل صارت "مدن الملح" حليفاً موثوقاً به وتابعاً ذليلاً. أمّا العالم الذي يعيش متغيرات استراتيجية كبرى جعلت الحرب تصل إلى قلب أوروبا، فلا يبالي.
إسرائيل في قمة الغطرسة، فقد انتهت المعاني الأخلاقية التي يمكن أن تدين احتلالها. لم يعد أحد معنياً بممارسات الحثالة الأخلاقية التي تحكم إسرائيل، فالعالم بأسره يفتقد المعاني الأخلاقية التي أضاعتها النيوليبرالية والفاشيات الصاعدة.
لكن هناك مَن يتجرأ على هذا المشهد، فالفلسطينيات والفلسطينيون لم يفهموا بعد أنهم انتهوا. ومن الواضح أنهم لن يفهموا أن عليهم الخروج من الخريطة.
هذا هو المأزق الإسرائيلي الذي لا علاج له. فبعد "السور الواقي"، وموت عرفات وصعود قيادة جديدة اختارت أن تُسلم قيادها ولا تقود، اعتقد الإسرائيليون أن الحكاية الفلسطينية انتهت، وأن حكايتهم صارت هي الحكاية.
وبينما كان الإسرائيليون يطوون الحكاية ويرتاحون من عناء تبرير ما لا يبرَّر من أفعالهم، بدأت الحكاية من جديد.
الحكاية الجديدة لا تعني تكرار ما كان، بل البحث عمّا سيكون.
وهنا أتت المفاجأة.
مفاجأة باسل الأعرج قدمت نموذجاً جديداً للمقاومة المستمرة. اقتحم الجيش الإسرائيلي المنزل الذي اختبأ فيه "المثقف المشتبك" في 6 آذار / مارس 2017 وقتلوه وهو يقاوم، ثم انتشى الإسرائيليون وهم يتفرجون على مشهد العار الذي جسدته أجهزة القمع الفلسطينية بعد ذلك بأسبوع يوم تم الاعتداء على والد الشهيد الذي كان يقود تظاهرة سلمية ضد مَن يحاكمون ابنه بعد موته.
مع باسل بدأت ملامح انتفاضة ثالثة تتخذ أشكالها الجديدة التي وصلت إلى ذروتين: الأولى في العام الماضي في هبّة فلسطين كلها دفاعاً عن الشيخ جرّاح والقدس والأقصى، وصولاً إلى "سيف القدس" الذي اقتحم الأسوار وشتّت حراسها. والثانية مع اغتيال شيرين أبو عاقلة، ومسيرة الأعلام الإسرائيلية واقتحام الأقصى.
ملامح الانتفاضة الثالثة غير واضحة ومتقطعة، وتبدو كأنها مجموعة حلقات تشتعل وتخمد. إنها تؤسس نفسها على أنقاض ماضٍ لن يتكرر، وهي حركة مستمرة تتأقلم مع المتغيرات وتراهن على الزمن الآتي.
والإسرائيليون غاضبون من الزمن.
فالزمن، على الرغم من "إنجازاتهم" الاستيطانية وجبروتهم، ليس في خدمتهم.
ماذا يريدون؟
يحققون إسرائيل الكبرى، لكنهم في الوقت نفسه يوحّدون فلسطين من جديد. وهذا ما لا طاقة لهم على تحمّله، فيقعون في مأزق بنيوي لا حل له.
لكنهم يضمرون مخرجاً اسمه التطهير العرقي، هذه هي اللعبة الجديدة. كل كلام آخر هو خدعة، الحل الوحيد هو العودة إلى سنة 1948.
هل يستطيعون؟
تبدو إسرائيل اليوم كأنها ماضٍ لا يستطيع الاعتراف بأن الحاضر يخبّئ مستقبلاً مختلفاً.
بين الماضي الذي يريد أن يستعاد بالقوة العارية، والمستقبل الذي يحاول أن يولد بإرادة البقاء والمقاومة، ترتسم خريطة الصراع في فلسطين.
حرب العَلَمَين
أُصبت بالحيرة وأنا أقرأ عبارة "السجدة الملحمية" أو "السقطة الملحمية"، التي رافقت مسبرة الأعلام الصهيونية واقتحام باحات المسجد الأقصى. هذه السجدة أو السقطة هي تجسيد للرهبة أمام الخالق. إنها تقليد أشكنازي يقوم فيه المؤمن بالانسحاق أمام الله وهو يحني رأسه ويميله قليلاً إلى اليمين كي لا يقع الوجه على الأرض. إنها تعبير عن التواضع والخجل والخوف. وفي العادة تتم هذا السقطة أمام لفافات التوراة. أمّا في القدس فإن السقطة يمكن أن تتم من دون وجود الكتب المقدسة، وذلك بسبب قدسية المدينة نفسها.
لا أدري كيف وفّق العنصريون الصهيونيون بين انسحاقهم الروحي عندما غزوا باحات المسجد الأقصى وسط دوي الرصاص وقنابل الدخان، وبين عجرفتهم ووقاحتهم وتكبّرهم، وهم يهاجمون الفلسطينيين بغاز الفلفل ويحطمون كل شيء أمامهم في أحياء القدس العتيقة. يهتفون "الموت للعرب" ويستذئبون على ضحاياهم، بحماية أفواج لا تنتهي من العسكر والمستعربين.
الشرطة الإسرائيلية تتعامل مع الفلسطينيين بوحشية مفرطة، والمستوطنون الذين أتوا من مستعمرات الضفة الغربية يلوّحون بأعلامهم، معلنين أنهم أسياد القدس.
فبعد خمسة وخمسين عاماً على احتلال القدس الشرقية وإعلان ضمها إلى إسرائيل، لا يزال العَلَم الإسرائيلي في حاجة إلى الحماية العسكرية، كي يرتفع في المدينة المحتلة.
وفي مقابل احتفالية الغاز والرصاص والأعلام، رفع الفلسطينيون علمهم الوطني، كأنه الدرع الذي يحميهم من القمع، وتأكيداً لحقيقة القدس بصفتها مدينة فلسطينية محتلة.
حرب العَلَمَين التي دارت في شوارع القدس وسمائها، والعَلَم الفلسطيني الذي رفرف عالياً من مسيّرة جابت سماء المدينة، وعَلَتْ فوق الهستيريا الجماعية للمستوطنين، هما إعلان واضح بأن المدينة الفلسطينية لن تستسلم.
ما هي دلالة حرب العَلَمَين التي تدور اليوم في فلسطين؟
بدأت حرب العَلَمَين في مأتم الشهيدة شيرين أبو عاقلة، حين أصيب الجنود الإسرائيليون بجنون العَلَم الفلسطيني، وقاموا بتكسير الأعلام التي ما لبثت أن ارتفعت في الكنيسة وفي المدفن، لأن الشهيدة صارت عَلَماً يحقّ له أن يرتفع فوق دمه المسفوك أنّى يشأْ.
غير أن حرب العَلَمَين اتخذت مساراً آخر حين نقل الكنيست الإسرائيلي المعركة إلى داخل الخط الأخضر، عبر قانون غرائبي يمنع رفع العَلَم الفلسطيني في المباني التي تمولها الدولة الإسرائيلية، والمقصود بذلك هو الجامعات.
سبق أن أصدر الإسرائيليون قانوناً يمنع الاحتفال بذكرى النكبة، فقام فلسطينيو داخل الداخل بتمزيق هذا المنع، وتابعوا تذكّر مأساتهم والتذكير بجريمة التطهير العرقي الكبير التي جرت في سنة 1948.
واليوم تدخل حرب الذاكرة في منعطف جديد، فبعد ذكرى النكبة جاء دور العَلَم الوطني الفلسطيني، ومعه تستمر إسرائيل في حربها الرمزية على ضحاياها، وهي حرب لا تقل ضراوة عن القمع الوحشي ومصادرة الأراضي وتطهيرها من سكانها.
لماذا هذا الخوف من العَلَم؟
التفسير المنطقي يقول إن الإسرائيليين يشنّون حرباً شاملة على الذاكرة الفلسطينية بهدف محوها.
غير أن يسرائيل كاتس يملك رأياً آخر، فهو يريد تذكير الفلسطينيين بالنكبة وبالكارثة التي أنزلها الجيش الإسرائيلي بهم.
وبعيداً عن جدل الذاكرة والنسيان الذي فقد معناه بعدما حسمه المؤرخ الإسرائيلي بني موريس مشيراً إلى أن خطأ إسرائيل لا يكمن في التطهير العرقي، وإنما في عدم قيام بن - غوريون باستكماله في الضفة الغربية.
مسألة منع العَلَم يجب البحث فيها في السيكولوجيا السياسية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين التي تتمثل في الخوف والمحو، وهما مستويان متكاملان على الرغم من تناقضهما الظاهري.
ماذا يخيف الإسرائيليين من العَلَم الرباعي الألوان؟
في الماضي حين كانت حمّى تأسيس الكيان تسيطر على شبيبة حزبَي العمل ومبام، لم يتردد رجال البالماخ من لبس الكوفية الفلسطينية خلال معارك التطهير العرقي لفلسطين.
لم يخشَ البالماخيون الكوفية، وإنما اعتبروها دليلاً على إرادة التجذر في المكان.
غير أن الأمور اتخذت مساراً آخر تخلّى فيه الإسرائيليون عن الكوفية بعد إقامة دولتهم، بينما بقيت الكوفية رمزاً فلسطينياً محجوباً منذ فشل ثورة 1936 في تحقيق أهدافها.
ومع انطلاق الثورة المعاصرة عادت الكوفية لتحتل موقعها الفلسطيني، وصارت مع الفدائيين رمزاً وطنياً.
فلماذا هذا الموقف المتشنج من العَلَم الرباعي الألوان؟
بعد سبعة عقود على إنشاء الدولة، ونصف قرن على احتلال فلسطين كلها، فإن الإسرائيليين ليسوا واثقين من شيء.
سؤال الاحتلال المستمر حُسم، فالانسحاب أو التسوية لم يعودا على جدول أعمال أحد في إسرائيل، لكن ماذا سيفعلون؟
الجواب الإسرائيلي الذي يمارَس على أرض الواقع هو الأبارتهايد، وهذا يعني من ضمن ما يعنيه وجود قانونَين في الأراضي المحتلة: قانون إسرائيلي للمستوطنين، وقانون الطوارئ والحكم العسكري للفلسطينيين، فضلاً عن تحويل غزة إلى أكبر معسكر اعتقال في العالم.
هذا الواقع يخفي مفارقة كبرى، لأن هذه الصيغة من الضم غير المعلن، والممارسات النكبوية الإسرائيلية المستمرة، تفتح السؤال بشأن فلسطين كلها، فإذا كانت الخليل في المتخيل الإسرائيلي تشبه حيفا في كونها جزءاً من أرض إسرائيل، فلماذا لا تكون حيفا كالخليل جزءاً من فلسطين؟
الفرق بين الادّعاءَين هو أن الادعاء الإسرائيلي لا يستند إلّا على الأسطورة التوراتية، بينما يستند الافتراض الفلسطيني إلى الحاضر المعاش والماضي القريب الذي لا يزال حياً.
يقودنا هذا السؤال إلى الخوف. فالإسرائيليون لا يشعرون بالأمان، وعدم شعورهم بالأمان لا يعود إلى قوة عدوهم أو إلى ضعفهم، بل إلى سبب آخر.
قد نقول إن سبب هذا الخوف أخلاقي، لأن إسرائيل فقدت الشرعية الأخلاقية التي أضفاها عليها الغرب الاستعماري كغطاء لجريمة الإبادة الوحشية التي ارتُكبت في حقّ يهود أوروبا في الحقبة النازية.
وهذه الشرعية فُقدت عندما كشفت إسرائيل عن جوهر مشروعها كقوة احتلال وكأيديولوجيا تستند إلى التفوق العنصري.
وما المحاولات المستميتة لقوننة اعتبار انتقاد إسرائيل كجزء من الظاهرة اللاسامية، إلّا التعبير الأوضح عن الفضيحة الأخلاقية التي تمر بها إسرائيل التي صارت موضوعياً حليفة العنصريين ودعاة التفوق العنصري الأبيض واللاساميين المقنّعين في أميركا وأوروبا.
لكن المسألة الأخلاقية، على أهميتها، ليست هي السؤال الذي يؤرق الإسرائيليين.
يبدو أن الوجود المادي للشعب الفلسطيني على أرضه هو المشكلة.
في الماضي رفضوا الاعتراف بوجود هذا الشعب، ثم اعترفوا به وبمنظمة التحرير من دون الاعتراف بحقّه في تقرير المصير، وفي المرحلة التي ابتدأت مع صعود اليمين الذي فرض هيمنته على المجتمع الإسرائيلي، عادت إسرائيل إلى المربع الأول. وبدلاً من أن تنفي وجود الشعب الفلسطيني، مثلما فعلت غولدا مئير، ها هي تسعى لمحوه.
عبارة المحو ليست دقيقة، لكنها تلائم الصراع الرمزي على العَلَم. فالمحو يبدأ على المستوى الرمزي، قبل أن يجد الظرف الملائم للانتقال إلى المستوى الفعلي.
مشكلة الفلسطينيين مع إسرائيل هي أن وجودهم هو المشكلة. فالحاضر يجب أن يغيب، وعليه أن يختفي عن الأنظار، عبر الطرق الالتفافية التي توحي للمستوطنين بأن لا وجود للمدن والقرى الفلسطينية المحاصرة.
لكن هذا الغياب لا يكفي، لأن مَن افتُرض غيابهم أو تم تغييبهم جزئياً في السجون وخلف جدار الفصل العنصري، يواجهون الحواجز بالحجارة والأعلام، وقد تصل بهم الجرأة إلى مواجهة الجيش الإسرائيلي بالسلاح.
مشكلة الإسرائيليين ليست مع الفلسطينيين، بل مع أنفسهم ومع اقتناعاتهم بأن على الفلسطينيين الاختفاء.
هذا هو سبب حرب العَلَمَين.
مجرد تلويح الطالبات والطلاب بالعَلَم الفلسطيني، في جامعة تل أبيب في ذكرى النكبة، يعني أن إسرائيل مهددة بالزوال.
المسألة لا حل لها، فإصرار إسرائيل على محو الفلسطينيين يعني أنهم لم يتركوا لضحاياهم الذين يدافعون عن حقهم في الحياة سوى المقاومة.
النعش / السفينة
اتخذ نعش مراسلة قناة "الجزيرة" الشهيدة شيرين أبو عاقلة بُعداً رمزياً أمام إصرار الجنود على منع شباب القدس من حمل نجمتهم على الأكتاف، والسير بها في شوارع مدينتها.
الجنود يضربون الشبان بالعصي وأعقاب البنادق من أجل إجبارهم على إنزال النعش عن أكتافهم، والنعش ينحني ويكاد يرتطم بالأرض قبل أن يصعد من جديد، كأنه يواجه عاصفة هوجاء تهدده بالغرق.
صار النعش سفينة تبحر فوق بحر الأكتاف والأيدي والعيون.
سبق أن شاهدنا نعشاً يطير، وكان ذلك في سنة 1988 في مخيم اليرموك في دمشق. كانت الحشود الغفيرة تملأ شوارع المخيم الضيقة، فلم يستطع حَمَلَة نعش خليل الوزير (أبو جهاد) متابعة السير وجمدوا في أماكنهم. لكن النعش تابع سيره كأنه يطير فوق الأيدي. المشيعيون جامدون في أماكنهم والنعش يطير.
في زمن الانتفاضة الأولى كانت نعوش الشهداء تطير، لأنها رسمت الطريق إلى حلم الحرية. أمّا في 13 أيار / مايو، وقبيل الذكرى الرابعة والسبعين للنكبة، فإن نعش شيرين أبو عاقلة صار سفينة تشق عباب موج الكراهية والتجبّر والكبرياء.
عندما رأيتها على الأرض ووجهها يعانق التراب التبست الأمور عليّ. هل ماتت "جميلة" فلسطين، أم إنها سجدت ملتفة بملحمة صنعتها دماؤها؟ كيف سقطت بهذا الشكل بحيث عانقت عيناها التراب؟ هل تموت ساجدة مثلما يسجد الرهبان والراهبات لحظة تقديم نذورهم كي يميتوا أجسادهم؟ أم إن القناص الإسرائيلي الذي أطلق عليها رصاصته القاتلة، لم يتوقع هذا الالتحام بين الصبية وأرضها؟
ليست شيرين استثناء، فالقاتل الإسرائيلي احترف قتل الفلسطينيات والفلسطينيين من أجل إشباع غريزة الدم التي استوطنته. إنها فلسطينية أُخرى تموت، والقاتل متأكد من أنه سينجو بفعلته من أي حساب، وهكذا كان.
لكن ما لم يتوقعه أحد هو تحوّل النعش إلى سفينة أبحرت بشيرين من جنين إلى القدس، مروراً بعشرات القرى والمدن. وفي الطريق إلى القدس بدأت ترتسم ملامح البحر الذي ستطفو عليه سفينتها وهي تواجه عاصفة الحقد الإسرائيلية.
أخطأ الإسرائيليون وسيخطئون كثيراً، لأنهم لا يستطيعون فهم علاقة المقدسيين والفلسطينيين بهذه المدينة.
القدس ليست ابنة أسطورة يمكن إعادة تركيبها مثلما يفعل الصهيونيون المتدينون والعنصريون.
القدس جرح في القلب الفلسطيني والعربي، والجرح ينزف ويحوّل الحياة اليومية إلى إرادة صمود.
الأسطورة تحاول ابتلاع الجرح والجرح يقاوم.
في المأتم كشفت الأسطورة عن وجهها الملوث بالدماء، فالأسطورة التي يجري تركيب عناصرها هي غطاء للاستيطان وسلب الأراضي وإذلال الفلسطينيين.
هم في حاجة إلى أسطورة توراتية تغطي وجههم الاستعماري ببرقع الدين.
نحن أمام غزو شهدت منطقتنا ما يشبهه خلال الحروب الإفرنجية التي يطلقون عليها اسم الحروب الصليبية.
قرنان من المذابح والتهجير انتهيا كأنهما لم يكونا سوى وصمة عار على جبين الحروب الدينية.
الصهيونيون العنصريون يعتقدون أنهم قادرون على تكرار الماضي باسم جديد.
هذه هي مأساة الجرح الفلسطينيين معهم.
غير أن جرح القدس النازف استراح قليلاً وهو يرى سفينة الحرية والحب محمولة على بحر الناس.
لن نسأل شيرين لماذا قتلوها، فهي تعرف أن الشهادة للحق والحقيقة مؤهلة للتحول إلى استشهاد.
صحيح أن أيدي البحارة وأجسادهم انكفأت بعد صراع مرير مع آلة القمع، ووُضع النعش في سيارة الموتى بعدما نُزعت الأعلام عنه، لكن هذا الانكفاء كان موقتاً، إذ ما إن وصل النعش إلى الكنيسة حتى تلقفته الأيدي من جديد، ورأينا كيف عانق العَلَم الفلسطيني الأيقونات البيزنطية، وهو يستقبل أيقونة جديدة وسط الزغاريد والهتاف.
وعندما ارتفعت أصوات المنشدين يرتلون: "فليكن ذكرها مؤبداً"، فهمنا أن السفينة عبرت بحر الظلمات وعانقت نور القدس.
الصبية التي سجدت على أرض جنين المجبولة بدماء الشهداء، عبرت من الظلمة إلى النور، وأشارت لنا من خلال عين الكاميرا إلى الطريق.
جرح القدس ينزف دماً وضوءاً.
أمام النعش - السفينة، ارتسمت معالم فلسطين من جديد.