In Memory of the Invasion of Beirut: The Death That Revived Life
Date: 
June 10 2022

أن ترى الموت.. أن تحسّه وتَتَحسّسه.. أن تعيشه.. أن تلمس حضوره في حضورك.. أن لا تأبه لمعنى أنه "شيء ما" حلّ في يومياتك، وقد يصادرها بشكل فجائي.. أن يصير توأمك، ظلّك، يصاحبك على مدى تنفّسك.. ومع ذلك، تتركه جانباً، أو خلفك. تخلعه من ذهنك، وعقلك وروحك..أن تنساه، وتتذكر موت الآخرين..

لم يكن الموت هنا كمعنى مجرد، مجرد نقاش فلسفي أو من أساطير الانبعاث الماورائي. لقد كان موتاً ملموساً ومنظوراً ومكروهاً بالسليقة.. لقد كان التحدي الأول في شعور شابة لم تطأ عتبات مهنة الصحافة المكتوبة سوى أشهر قليلة قبل ذاك اليوم.

بعد ظهيرة يوم الرابع من حزيران/يونيو عام 1982 بدأت طائرات الموت الإسرائيلية تتنقل في بث الموت على أجزاء من أرض لبنان، وتحديداً على نقاط فلسطينية ومخيمات الشتات الفلسطيني جنوباً، وفي قلب العاصمة بيروت. وفي السادس من حزيران/يونيو من العام نفسه، استكملت إسرائيل بآليات الموت التي تملك طريقها في اتجاه العاصمة بيروت.. وفي لحظات تلت تلك اللحظات استشاطت دبابات الميركافا الإسرائيلية غضباً، فأثقلت بقذائفها على كل ما يمتّ بصلة إلى نبض الحياة، ومعنى الحياة. أسقطتها على روح المدينة، وأهالي الأحياء والأزقة، وجرفت بجنازيرها الحديدية أصص الزهور على حوافي الطرقات الواسعة، وحطّمت حديد السيارات المتوقفة/الصامتة عن كل حركة على جانبي تلك الطرقات، وفلحت بهديرها رهبة السكون.

على رصيف أوتستراد كورنيش المزرعة (في العاصمة بيروت) الذي يبدأ من ساحة البربير - ما بعد المتحف الوطني – شرقاً، وصولاً إلى بدايات الإطلالة غرباً على بحر المدينة، البحر الأبيض المتوسط، على ذاك الرصيف وقفتُ – وفي حقيبتي أقلامي وأوراقي -  أراقب "هيجان" دبابات الميركافا الإسرائيلية وهي تنتزع استقرار البنى التحتية حيث كانت تمرّ.. وقفتُ أراقب أولئك الجنود المدججين بأسلحة وذخائر وطواسي حديدية، وحالة من أقصى حالات الاستنفار. ووقفتُ أترقّب الموت؛ الموت الذي شعرت به حينها، وتغلغل في عروقي وروحي وتحت مرمى بصري؛ الموت الذي ساءلني أن يدخل في يومياتي؛ الموت الذي قلت له سراً وعلانية "سنترافق"، وليغلب أحدنا الآخر؛ الموت الذي رمقته بنظرة استعلاء يومها، وأقنعته بأن لا معنى لحياتي وسط كل هذا الموت المعلن على البشر والحجر وعلى روح المدينة، وهوية المدينة.

مع الموت، كنت أنطلق من صباحاتي التي كانت تتداخل مع بعض الليالي دونما توقف، إلى حيث سبقني/نا الموت؛ موت الضجيج وضحكات الأطفال وأصوات الباعة المتجولين؛ موت المقاهي التي أغلقت، ونوافذ البيوت الصامتة، والمدارس والمؤسسات الساكنة، أنطلق إلى حيث لوائح لأسماء معلّقة على أبواب المستشفيات لأشخاص قد فارقوا الحياة.

وبرفقة الموت، ذهبتُ بقراري الذاتي إلى حيث دارت معارك بين مقاتلين/مقاومين شبّان وبين جنود العدو وآلياته على تخوم العاصمة. وواكبتُ نقل جرحى من هؤلاء، وكتبتُ عن إصرار شبّان وشابات في أحياء متفرقة على مقارعة الموت من خلال تقديمهم الخدمات لعائلات رفضت أن تترك الحياة للفراغ، أو أن تجبن أمام ضمير اللحظة، أو أن تفقد أثر معنى الحياة والوجود في عيشها اللاحق.

قبل أربعة عقود من تواريخ الشهر الجاري والسنة الحالية، استباحت إسرائيل أجزاء من الأراضي اللبنانية، اجتياحاً وغزواً وتدميراً وقتلاً، وتهجير قرى وبلدات بأكملها، وحرقاً لمصادر العيش من مزروعات ودبيب حياة. ثم في اعتقال مئات الشبان والشابات وسَوْقهم إلى معتقلات استحدثتها، وأولها معتقل أنصار، وأشهرها معتقل الخيام. فكان الموت دليل تلك القوات حيث مرّت أو حلّت أو حاولت؛ نثرته أمامها، وألقته من السماء، وأدخلته عنوة إلى المنافذ، والشقوق، ولوّحت به ثانية بثانية، ودقيقة بدقيقة، وقهرت به أبرياء، وشطبت بأدواته/أدواتها حيوات عوائل، ومصائر عيون كانت تستطلع المستقبل.

الموت الذي أتت به آلة العدو الإسرائيلي باجتياحها أراضٍ من لبنان، ما لبثت مؤشرات تقهقره تبان. وغداً لمعنى الموت معنىً آخر. صار للموت معنى الحياة، وخلود اللحظة! بدأ موتهم الآتي بقوة الحديد والقهر بالتراجع أمام قيامة انتصار الحياة، أو انتصار الحياة على موتها.. تفاوتت المعايير، والتبست موازين التقييم: من هم الموتى؟ ومن هم الأحياء؟ هل من وقعوا شهداء في مجزرة رهيبة في مخيمي صبرا وشاتيلا في إثر ذاك الاجتياح هم الموتى أم أولئك القتلة؟ شهداء المجزرة المعروفة أسماؤهم وتواريخ ولاداتهم، وهوياتهم المكتوبة، قضية وشعباً وهدفاً! أم القتلة الذين لا يحملون من التعريف إلاّ طبيعة القتل، وتقتصر هوياتهم الجمعية على ماضي وحاضر ومستقبل قائم على القتل.  

التباسات الموت والحياة شكّلت صراعي اليومي مع ذاتي/كياني، ومع مهنتي/ضميري، ومع وجودي كرقم في تعداد، ووجودي كإنسان فرد، وفرد بين جماعة؟!.   

أحسست بالموت كأنه زائر افتراضي، ورافقني في تنقلاتي اليومية بين قصف وقصف، وقذائف وقذائف، ودمار. لم أدعْ لمعنى الموت والخوف منه أن يحتل روحي، وقد طردته من ذاتي مذ رأيته، مذ حاول اجتياح كياني، كما لو أنه كالقتلة، أولئك الذين اجتاحوا، واحتلوا، وقتلوا.. ثم استفاقوا على شر طردة، واقتلاع، وهروب تحت جنح ظلام.

لمعنى الموت معنى الحياة، عندما تراه ولا يراك، عندما تجعل من خلود الحياة درساً في تحدي الموت.  

اضغط هنا

Read more