في يوم واحد هو الخامس من أيار/مايو، تكثّفت فلسطين في ثلاثة أحداث ومواقع: مسيرة العودة إلى قرية ميعار المهجّرة؛ التصدي للاقتحامات الاحتلالية للمسجد الأقصى؛ فقدان الحاجة صبحية يونس، والدة الأسير كريم يونس. في الأولى، اجتمع الأمل الفلسطيني الفردي والجمعي نحو إحقاق العودة، عودة اللاجئين والمهجّرين، وعودة البلدة كما الوطن، وفي الحشد الهائل اجتمعت كل أجيال الشعب، وبكل أطيافه. وفي الأقصى، تكثّف نضال شعبنا في الدفاع عن وجوده وعن الوطن، مشحوناً بالزخم الشعبي الذي لا ينضب، بل يزداد قوة. أمّا في عرعرة المثلث، فتكثّف القهر فوق الألم الفلسطيني، وضاق الأمل ذرعاً بحالة العجز الفلسطيني والعربي.
شكلت جنازة الحاجة صبحية يونس (أُم كريم)، مساحة حزن خانق جمعت جموع الشعب، والأسرى المحرَّرين بالذات، أو الذين أنهوا محكوميتهم بالكامل، وذلك نيابة عن كريم يونس الذي لم تحرره ثورة ولا فصيل ولا صفقة ولا مفاوضات. إنها أربعة عقود مرّت خلالها، ومن أمام ناظريه، ومن أمام حلمه، كلُّ الإفراجات الممكنة، في ذات لحظة حدوثها وليالي ترقُّبها، من أمام أُم كريم، لتفتح جرح آلامها المفتوح، ودام سؤالها، بل رسالتها: لماذا؟ لماذا بقي ابنها في السجن الاحتلالي أربعين عاماً؟ إنها لسان حال الشعب، ولا جواب من أحد.
كان لقاء الأسرى القادمين من مناطق الوطن المُتاحة في الداخل والقدس هو التئام شمل، بالنيابة عن كل مَن هو خارج المتاح، في ظل توازن القوى الحالي، ونيابةً عن أسرى الحرية في سجون الاحتلال. لكن أولاً، كان نيابةً عن كريم وتكريماً له ولحزنه ووجعه وقهره، ولصبره على محنته. كان تكريماً لوالدته في رحيلها، بعد نفاد مخزون انتظارها فرحة لقاء ابنها في بيتها، أو بيته الأول الذي عاش فيه نصف ما عاشه من وقت في السجن الاحتلالي. إنه الزمن ذاته الذي سارت خلاله الحاجة صبحية كامل طريق العذابات والإرهاق والتعب والقلق، تشحن طاقتها ببعض الأمل عساه يطير فوق السراب الزمني الذي يغطي المكان. وكما كانت مقولة شاعرنا "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، قد تكثفت بأهم وأعظم معنى عند الأم، ألا وهو ابنها الأسير، إنها أُم الأسير، إنها أسيرة الأسر الطويل. ويزيد الإيلام إيلاما أنها وكريم قد بلغا الخطوات النهائية حتى اللقاء، ليكتمل مشهد الأسى والقهر العابِثَيْن بلحظة العناق الموعود. سارت المسافات الطويلة الشاقة أكثر من أي طريق موحش، بقيت خطوة وتوقفت.
رسم الأسرى، بحضورهم، خريطة السجون التي تحتل مساحات الوطن كما تحتله دولة السجن، وهي خريطة عاشوا الكثير من أعمارهم في كل تضاريسها. سارت أم كريم في كلّ مناحيها، ساعيةً للحظة فرح مبتور. اعتبرها الأسرى أُماً لكلّ واحد منهم، فهي والدة كريم وأُم الأسرى؛ ولكريم مكانة خاصة بين زملاء الأسر، وبالأساس في قصة شعبه، وفي قصة ذاك الجزء من شعب فلسطين، والذي بقي في الوطن المنكوب في سنة 1948، وحمل المواطَنة الإسرائيلية القسرية كي يبقى في بيته، أو من دون بيته، في وطنه، ليتمسّك به ويبني غده وغد هذا الوطن وأهله أينما كانوا. ولتنتقم دولة المستعمِر من هذا البقاء، في كلّ موقف وفي كلّ لحظة يزداد هذا الانتقام، خوفاً من خدش سيادتها القهرية، فقانون المستعمر يعتبر بقاء الفلسطيني في مناطق الـ 48 عداءً واستعداءً لدولته، وأمام محكمتهم يصبح، للحظة، مواطناً إسرائيلياً "ناكراً لجميل" دولة اليهود. فترفض إطلاق سراحه في أية صفقة وفي أية مفاوضات، باعتباره مسألة إسرائيلية داخلية، مستخدمةً المواطنة أداة للعقاب وسوطاً مسلطاً على هؤلاء الفلسطينيين. وكم مرة لمس كريم الفرج، واستحال إلى سراب.
في هذا السياق، أتفهّم تماماً مشاعر الغضب والإحباط من الثورة الفلسطينية وحركة التحرر الوطني والفصائل، فالشعور صادق إلى أقصى حدّ، وبصورة خاصة حين يعبّر عنه الأسرى المحكومون مدى الحياة، والذين يرون في أي إفراج، أو حتى انتهاء حكم أي أسير، بمثابة دفعة أمل لهم. لم تنسَ الثورة أسراها والمسألة ليست تقصيراً، بل عجزت تحولاتها عن التحرير لحد الآن، سواء تحرير الوطن، أو عودة اللاجئ، أو تحرير الأسير، والأساس هو أن الشعب لم ينسَ أسراه، ولم يحدث أن خيّب شعبنا الظن.
ساهم البث المباشر لتلفزيون فلسطين والعديد من الفضائيات الفلسطينية والعربية والأجنبية في تغطية الحدث الأليم، بتخصيص المساحات الكبيرة للّحظة المكثفة من الحزن والفقدان والقهر، في التئام شمل الشعب، وفي تكريم الفاضلة صبحية يونس، كما كان من الأهمية بمكان تواصُل الرئيس محمود عباس مع العائلة لتقديم التعازي، وفيما بعد دعوته الأخ نديم يونس وأفراد العائلة إلى استلام وسام تكريم الوالدة الفقيدة، وفي ذلك تكريم لها ولكريم وللحركة الأسيرة، ولعائلات الأسرى.
كُتِب الكثير عن فقدان أُم كريم، وعبّر الناس في كل مكان عن تراكُم الأسى والحزن والقهر والغضب. ولو تسنّى جمع كل ما كُتِبَ، لوجدناها قصة شعب فلسطين بكل تجلياتها.
سوف أستعيض عن الصياغة باستعارة من اثنين ممّن كتبوا أجزاء مختلفة من القصة ذاتها، والتي تعود أحداثها إلى فترات متباعدة؛ ففي التاسع والعشرين من أيار/مايو 2020، كتب نديم يونس تحت عنوان "أَرجِعولي كريم"!
"كسرتني أمي وآلمتني وكأنها غرست خنجراً بقلبي ولم أقوَ على الكلام بعدها حين حاولتُ يائساً أن أُخفِّفَ من لَوْعتها وآلامها وحزنها على افتقاد ابنها البكر ما يقارب الأربعين عاماً أمضاها في غياهب السجون. فبادرتُ بالقول:
ابنك الأسير كريم يونس قائد وبطل صامد ولا يُضيره السجن ولا السجّان، فهو مَن كسر وحطَّم عنجهية السجّان بثباته وصموده، وهو مَن.." لتقاطعني أمي وتقول: "لا أريد أن أسمع عن السجن ولا عن السجّان، ولا أريد أبطالاً ولا عمالقة ولا غيرهم، كلّ ما أريده هو أن أحضن ابني كريم، ابني الصغير الحنون، أريد أن اقبّله وأفطر معه لبنة وزيتاً وزعتراً، ولا أريد غير هذا. أَرجِعولي كريم، أريد ابني معي في بيتي وكفى"...
وغداة وفاة أم كريم، وتحت عنوان "عندما تركنا كريم وراءنا"، كتب منير منصور، الأسير السابق المحرَّر في "صفقة جبريل" سنة 1983، عن إحدى أكثر اللحظات قساوة:
"في مثل هذه الليله، قبل 37 عاماً، كنت وإياه هناك، تم حشرنا في غرفة صغيرة في سجن عسقلان، وذلك لليلة كاملة، حتى أن بعض الأسرى ناموا وقوفاً.
كنا نستعد لصعود الحافلات التي ستقلّنا إلى خارج السجن، وإلى الحرية، في إطار عملية تبادُل الأسرى في ذاك اليوم. كنت قبلها بعامين قد استقبلتُ كريم يونس حين أتوا به إلى سجن عسقلان، وكنّا الأسيرين الوحيدين من الداخل الفلسطيني. مع الوقت، ارتبطنا بعلاقة وثيقة جداً، وكنا نمضي معظم أوقاتنا سوياً، كان لطيف المعشر، ودمث الأخلاق، ومثقفاً إلى حد بعيد، وكنت أتشوّق إلى سماع أخبار الخارج منه، إذ شعرتُ باطّلاعه الواسع، وخصوصاً أنني قد انقطعت عن الأخبار أعواماً طويلة في السجن، قبل أن يتم اعتقاله.
كان الازدحام في الغرفة رهيباً، وكان الجوّ متوتراً للغاية، فلا شيء يصف لحظات انتظار الحرية الآتية بعد أعوام طويلة جداً في السجن. تحدثتُ وكريم عن أحلامنا اللاحقة وطموحاتنا، وذهبنا بعيداً في نسج مستقبل زاهر لنا بعد مغادرة القبو. وبينما نحن على هذا النحو، أتى الضباط والعسكر وأمرونا جميعاً بالخروج من الغرفة أزواجاً. تلقائياً، خرجت وكريم، وقام الضابط بتقييدنا سوياً. خرجنا من الغرفة باتجاه الحافلة المركونة في باحة المعتقل الخلفية، والتي ستنقلنا إلى خارجه. كانت مشاعرنا ممزوجة بالفرح والفرج، ومن ناحية أُخرى، بالقلق والترقب، خوفاً من حدوث أيّ طارئ يعيق كل عملية التبادل. في هذه الأثناء، وصلنا إلى درج الحافلة، وضعت رجلي اليسرى على الدرجة، والتفتُّ إلى كريم المربوط معي بيدي اليمنى وهو بيده اليسرى، فلم يتحرك كريم، بل كان ذاك الضابط قد وصل إلينا وأوقفه. لم أفهم ما الذي يدور، وفجأة، أمسك الضابط يُمنايَ وحلَّ وثاقي من وثاق كريم، ودفعني إلى داخل الحافلة. بينما أمسك بقيود كريم واستدار به إلى الخلف، إلى جهة السجن. عندها فقط استوعبت أنهم خطفوه منا. وما زال هناك".
لم تنتهِ القصة، بل ستتواصل فصولها عن كريم وأُم كريم، وعن كل أسير، وكل أُم وزوجة وأب وابنة وابن. أربعون عاماً أُسِر ابنها كريم يونس. انتظرَتْهُ وقد قَطَعَت كلَّ شِعاب الوطن الحبيب التي حوّلوها الى شِعاب قهر، وكي تحظى بلقاء ابنها بضع دقائق تشحنها بحب الحياة. استعدّت لاستقباله بعد أشهر لتكون أمّ العريس العائد المكرَّم. بدأ كريم يكتب عن الأشهر المتبقية للقاء أمّه دونما أية فواصل وحواجز قهرية. كما بدأ يحتسب مسافات الزمن المتبقي، بعدد الزيارات ويُعدّ نفسه للحظة العمر، والتي صادرتها منظومة القهر بلحظة، ليجد نفسه وأحمال حزنه أمام جدران باردة. إنها حالة فلسطين.