تُعتبر القدس، وفي قلبها المسجد الأقصى، أحد أهم ملفات الصراع بين الفلسطينيين والمشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي. وكان إعلان دولة الاحتلال القدس عاصمة لها موحدة وأبدية، وسعيها لإحكام السيطرة التامة عليها، كما الادعاء بحق لليهود في الأقصى وحوله، عناصر تفجير دائمة للعديد من الثورات والانتفاضات والهبّات الفلسطينية على مدى تاريخ الصراع الطويل.
أخذت المعركة حول القدس والأقصى أبعاداً جديدة في الأعوام القليلة الماضية مع تصاعُد السياسات الصهيونية في تهويد البلدة القديمة، وفرض الوقائع الجديدة على الأرض، وتجاوُز الخطوط الحمراء، خطاً بعد خط، بما فيها تكثيف اقتحام الجماعات اليهودية المتطرفة للأقصى، مع زيادة ملحوظة في عدد المقتحمين، وعدد الاقتحامات، وممارسة المقتحمين الشعائر التعبدية، وقيام قوات الاحتلال بإفراغ المسجد من المصلين والمرابطين والمعتكفين بالقوة قبيل كل اقتحام، مستغلةً حالة التراجع التي أصابت الفلسطينيين بعد استهداف الاحتلال البنى السياسية والمؤسساتية والفعاليات الشبابية المدافِعة عن القدس والأقصى ابتداءً من سنة 2015، عبر الحظر والاعتقال والإبعاد، من أجل تحقيق مخطط التقسيم الزماني والمكاني للأقصى، والذي بات يلقى تأييداً متصاعداً داخل المجتمع الصهيوني وقواه السياسية.
وفي المقابل رفض الفلسطينيون هذه السياسات، وردوا عليها بتحركات ميدانية واسعة. وما أحداث النفق سنة 1996، وانتفاضة الأقصى سنة 2000، وهبّة القدس سنة 2015، وهبّة باب الأسباط سنة 2017، وهبّة أيار عام سنة 2021، إلّا أمثلة حية للاستعداد الفلسطيني للتضحية من أجل الحفاظ على هوية القدس والأقصى ومكانتهما لدى الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
الهبّة الرمضانية في الأقصى.. المعنى والجدوى
لا يمكن فصل الهبّة الرمضانية الحالية في الأقصى وما قبلها عن جولات الصراع الميداني المحتدم في فلسطين منذ عقود طويلة، وهي من دون شك إحدى تعبيرات حالة الرفض الوطني للاحتلال وسياساته، والتي أخذت بالتصاعد بشكل لافت في الضفة الغربية والقدس منذ انتهاء حرب سنة 2014، على شكل موجات متقطعة، وعلى الرغم من تقاطُع هذه الهبّة مع هبّات سابقة في أماكن المواجهة المتعددة في فلسطين في أكثر من جانب، فإن لها ما يميزها. فقد جسَّدت وحدة الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية ميدانياً، وخصوصاً أن الجموع المنتفضة يومياً في ساحات المسجد الأقصى تكونت من شبان منحدرين من مختلف المناطق الفلسطينية في فلسطين التاريخية، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، وقد تمكن هؤلاء الشباب من كسر كل الحواجز والفواصل الاحتلالية، وإلغاء كل الخصوصيات النضالية للأقاليم الفلسطينية التي صنعها الاحتلال خلال أعوام طويلة من الصراع، وبدا أن الكل الفلسطيني متوحد وراء هدف واحد، وفعاليات نضالية واحدة، وفي مواجهة أدوات قمعية واحدة.
لقد مارس الفلسطينيون في هذه الهبّة صوراً متعددة من المقاومة، وانتقلوا من حالة التنظير للمقاومة الشعبية إلى حالة الفعل الميداني الراقي والفعال، فتحول جل الفعاليات داخل ساحات الأقصى إلى فعل مقاوم، بما فيها الممارسات التعبدية من صلاة واعتكاف وتلاوة للقرآن وتسبيح، والممارسات الاجتماعية من أكل وشرب ومرح، وتحولت القدس، ومعها المسجد الأقصى، إلى فرصة ذهبية لتفعيل الطاقات الشبابية في مواجهة الاحتلال. فهناك تنتفي فاعلية اتفاقية أوسلو وتداعياتها السلبية على النضال الوطني، وخصوصاً أن احتكاك المرابطين مباشر مع الاحتلال بعكس ساحتيْ الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث نجح الاحتلال في فرض معادلة تقوم على إبقاء وجوده المادي الظاهر خلف الجدر والتحصينات والشوارع الالتفافية. كما تنعدم فعالية أجهزة أمن السلطة التي نجحت إلى حد كبير في الأعوام القليلة السابقة في ضبط إيقاع التحركات الجماهيرية في الضفة الغربية، بما يبقيها بعيدة عن لحظة المواجهة الشاملة، وعن التحول إلى حدث فارق أو مؤسّس كما جرى في الانتفاضة الثانية.
إن لحظة المواجهة الميدانية المباشرة داخل ساحات المسجد الأقصى تشكل قمة الهرم الإبداعي المقاوم، والتي تسبقها إبداعات أُخرى تبدأ منذ لحظة التفكير في الوصول إلى القدس، وشحذ الهمة، والاستعداد النفسي والمادي، ثم التخطيط لتجاوز حواجز الاحتلال، والوصول إلى البلدة القديمة، وتخطّي الحواجز الكثيفة داخلها، ثم النجاح في الدخول إلى المسجد الأقصى. وما يتبع ذلك من تنظيم لبعض الفعاليات الوطنية الهادفة إلى مواجهة الاقتحامات، مثل التظاهر وإلقاء الحجارة، ورمي الزجاج في طريق المقتحمين، وإعلاء الصوت في أثناء الصلاة أو تلاوة القرآن، وترديد الأناشيد والأهازيج الدينية والوطنية، وتفعيل الصحافة الشبابية والإعلام الاجتماعي الموجود، والهادفة إلى فضح سياسات الاحتلال وممارساته الوحشية، ونقل الصورة الموجودة في الحرم إلى الملايين حول العالم.
كما أن للهبّة الرمضانية الحالية والهبّة التي سبقتها في العام المنصرم ميزة نوعية تتعلق بوعي المنتفضين في الساحات بهدفها الوطني الكبير. فعلى الرغم من الهمة العالية التي تبثها المكانة الدينية المتميزة للأقصى لدى جموع الفلسطينيين المدافعين عنه وأهمية مفردات الخطاب الديني في تثبيت الفلسطينيين على موقفهم، فإن الفلسطينيين لم ينجرُّوا إلى صراع إسلامي-يهودي، أساسه ومنتهاه نفي الهوية الدينية للآخر، بمعنى أن الفلسطيني يواجه الجماعات اليهودية في القدس ليس لمجرد كونها يهودية، وإنما لما تعبّر عنه سياسياً. فوراء هذه الاقتحامات ومحاولات التهويد مشروع سياسي صهيوني يجتهد لتحقيق السيادة الكاملة على القدس والأقصى وإعلان انتصار المشروع الصهيوني وسرديته التاريخية، كما أن مسألة الاقتحامات ليست هامشية، أو قصة مجموعات يهودية متطرفة معزولة تحاول توتير الأجواء داخل القدس، إنما هي جماعات يهودية تشكل رأس حربة في مشروع صهيوني كبير يستهدف المدينة ومقدساتها، وينال من بُعدها الحضاري والتاريخي.
تتناغم تحركات هذه الجماعات مع الإجماع الصهيوني على أن القدس هي عاصمة "إسرائيل" الأبدية، والسيادة عليها مسألة أساسية في المشروع الصهيوني، كما ويتماشى ارتفاع وتيرة الاقتحامات والأعداد والتهديد على المسجد الأقصى مع ارتفاع مكانة الصهيونية الدينية في السياسة ولدى الجمهور الإسرائيلي، وتسخير البعد الديني بهدف الإحلال الاستعماري، ولعله من المفيد هنا الانتباه إلى تشابُه سياسة الاقتحامات وسياسات المستوطنين من جماعات "فتية التلال" وجماعة "تدفيع الثمن" وغيرها ممن يسعون، بمباركة رسمية، للسيطرة على تلال الضفة الغربية والنيْل من أهلها، وتأكيد السيادة الصهيونية عليها.
لقد كشفت الأحداث الأخيرة في القدس عن ردة فعل باهتة للمستوى الرسمي والحالة التي تعانيها منظمة التحرير، والتي لم تتجاوز حدودها إجراء الاتصالات الرسمية بدول إقليمية لحثها على وقف العدوان. وإطلاق التصريحات المندِّدة والمحذِّرة، في خطوة قرأها كثيرون على أن وراءها موقفاً غير جاد وغير معني بالمواجهة، كما أنها أكدت ضعف المؤسسات الرسمية المسؤولة عن المسجد الأقصى، الأردنية والفلسطينية، وعدم قدرتها على التفاعل بما يناسب حجم الاستهداف، وهي بكل تأكيد غير مؤهلة لقيادة الحشود الغاضبة داخل المسجد وفي ساحاته، كما كشفت عن محدودية قدرة كوادر فصائل المقاومة على استثمار قوة الجماهير ميدانياً وإدخالها إلى مراحل متقدمة من الفعل النضالي التراكمي، على الرغم من المحاولات المتكررة لتحقيق ذلك.
خاتمة
ازدادت سياسات الاحتلال تجاه الأقصى حدةً، مع إصرار الاحتلال على تكريس الاقتحامات اليومية وزيادة أعداد المقتحمين مقارنةً بالأعوام السابقة، فقد وصل عدد المقتحمين منذ بداية شهر رمضان حتى يومه العشرين إلى 4699 مقتحماً، وفقاً لإحصائيات دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس[1]، واستمرت شرطة الاحتلال في إجراءاتها القمعية بحق المرابطين والمعتكفين في الأقصى، حتى أنها اعتقلت صبيحة الخامس عشر من نيسان/أبريل ما يزيد عن 450 معتكفاً واقتادتهم إلى مراكز التوقيف، كما أصابت عدداً كبيراً من المرابطين بالرصاص الحي والمطاطي. في المقابل، حقق المنتفضون داخل أسوار البلدة القديمة وفي ساحات المسجد الأقصى إنجازاً ملحوظاً، تمثَّل في الإعلان العملي لرفض الفلسطينيين مخطط التقسيم الزماني والمكاني، وإرسال رسالة قوية إلى الاحتلال بأن مخطط التقسيم لن يمر من دون ردة فعل، وقد نجح الفلسطينيون في الإبقاء على وتيرة الأحداث من دون المواجهة المسلحة، وساهم تلويح قوى المقاومة باستخدام السلاح في إعطاء الأحداث زخماً إضافياً، وفي ردع الاحتلال عن زيادة وتيرة إجراءاته القمعية. كما أدى استخدامها قبل عام في معركة سيف القدس إلى كسر المخطط الصهيوني لتحجيم قوى المقاومة وتحويل أجنحتها العسكرية إلى مجرد أداة ضغط تُستخدم في السعي لتوفير مستلزمات الحياة اليومية للفلسطينيين في قطاع غزة، وكان لافتاً نجاح هذه القوى في تأكيد البعد الوطني التحرري لاستراتيجيتها الكفاحية وسلاحها المقاوم.
لكن ما جرى لن يوقف الاقتحامات، على الأقل في المدى المنظور، وما زال خطر التقسيم الزماني والمكاني ماثلاً، والمطلوب توحيد جهود القوى الفلسطينية جميعها في هذه المعركة، والاتفاق على رؤية واحدة، وبرنامج عمل يومي واحد، والعمل الجاد لاستثمار قوة الجماهير الفلسطينية، والتعاطف العربي والإسلامي مع القدس والأقصى من أجل تعزيز صمود الفلسطينيين في القدس ومنع الاحتلال من تطبيع اقتحامات المستوطنين للأقصى، وتحقيق حلمه في السيطرة عليه.
[1]مقابلة أسيل الجندي، صحافية مقدسية متخصصة بالشأن المقدسي، في 26 نيسان/أبريل 2022.