Conceptualizing Modern Palestine: An Escape into Life
Date: 
April 14 2022

كيف تضيء على كتاب كهذا؟ وأي إضافة يمكن أن تقدمها بعد مُستهلّه؟ سمعتُ أديبنا أحمد دحبور يقول مرة: القراءة الإبداعية لا تقل أهمية عن الكتابة الإبداعية"، ومن يومها وأنا أقرأ النص كما لو أنني أعيشه، غير أن مدرسة كهذه تقوم أساساً على وجود عمل يحرك فيك الرغبة في قراءة جوّانية، تفتحُ بابها إليك، وهناك طبعاً شرط واحد لتحقُّق ذلك، "الإبداع". من الصعب أن يشير قارئ عادي إلى منابت الإبداع في عمل كهذا، لكنني سأحاول على أية حال.

صدر كتاب "مَفهمة فلسطين الحديثة: نماذج من المعرفة التحررية" لمجموعة من الباحثين والباحثات، وأشرف عليه وحرّره د. عبد الرحيم الشيخ، وذلك ضمن برنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت في فلسطين، في آب/أغسطس 2021. وهو جهد مبارك بين مؤسستين عريقتين تُحرّكهما بوصلة وطنية واضحة الاتجاه، هما مؤسسة الدراسات الفلسطينية وجامعة بيرزيت. يقع الكتاب في سبعة فصول، يتناول كلٌّ منها، بالدراسة والتحليل، واحداً من مركّبات المَفهمة، في محاولة لوضع تصوُّر لفلسطين الحديثة، أرضاً وحكايةً وشعباً. ينطلق الكتاب من أروقة المحاكم الإسرائيلية والصراع اليومي على الأرض، فالصراع على الزمان، فالحرب الديموغرافية الوجودية بين الفلسطيني والإسرائيلي، فالحرب النفسية والمعنوية، وصولاً إلى إشكالات الهوية وما اعتراها من تقلبات كما تجلت في السيَر الذاتية لرواتها وتغيّرات ملامح الخطاب الثقافي والتعليمي في فلسطين ما بعد أوسلو.

"الطريق تصنعها الخطى"، بهذا يستهل د. عبد الرحيم الشيخ تقديمه للكتاب، وينسجم ذلك مع القيمة الأساسية التي يضيفها هذا العمل إلى الحقل المعرفي الإبداعي التحرري، إذ يعيد النظر إلى فلسطين، من خلال تقديم نماذج معرفية "من بطن الوحش"، تتناول آليات الهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية بتفاصيلها وتجلياتها في واقع حياة الناس المُعاش، وينطلق منها ليقدم الاستراتيجيات التي طوّرها الفلسطينيون كمجتمع، لمقاومة هذه الهيمنة وسعيهم للانعتاق من عبوديتها. يسير الكتاب ضمن خطين متوازيين، هما السياسات الاحتلالية التي يصممها وينفّذها الإسرائيلي من جهة، واستراتيجيات الانعتاق التي يبتكرها الفلسطيني من جهة أُخرى. ومن الممكن تقسيم الكتاب إلى فصول، بحسب عناصر المَفهمة التي يقوم بدراستها في كل مرة.

تتناول الفصول الأول والثاني والرابع (بعد التقديم) عنصر "الأرض"، وهناك تبدأ الحرب باحتلال الجزء الأكبر من الأرض وسعي المستعمر المحموم للاستيلاء على ما بقي منها. في الفصل الأول، تتناول فيروز سالم هذه المسألة: "إن هذا الواقع هو معركة يومية يخوضها الفلسطيني الذي يدخل في صراع على الزمان والمكان، فالأرض قد يفقد ملكيتها إذا قام المستعمر بتصويرها جوياً لثلاث سنوات في غير مواسم الحصاد لتغدو أرضاً مشاعاً يمكن مصادرتها." من هنا يعيش الفلسطينيون قلقاً دائماً يجعلهم يعيشون حالة من الهشاشة، بحيث تصبح حالة اللّايقين هي "اليقين الحقيقي الوحيد"، وتقوم هذه المنهجية على تجريد الفلسطيني من إنسانيته، "من خلال الاستمرار في إنهاكه وتحطيمه". كما تسعى دولة الكيان عبر الزمن لتعزيز الوجود الديموغرافي لليهود في فلسطين، سواء من خلال هجرة اليهود من أنحاء العالم إلى فلسطين، أو من خلال نزوح الفلسطينيين إلى العالم، كما تشير إلى ذلك خلود ناصر في الفصل الثاني من الكتاب. وفي الفصل الرابع، تتحدث قَسَم الحاج عن اعتقال الزمكان وتحريره، إذ تتناول سياسة المستعمر في الانتفاضة الثانية على وجه التحديد، ومحاولة الاحتلال "سلب الفلسطيني وجوده وفاعليته في وطنه وتحويله إلى ‹شيء›"، من خلال إعادة هندسة الزمان الفلسطيني، فالمكان عند الفلسطيني لا يقاس بالمسافة بين نقطتين، والزمان لا يُحسب بعدد الدقائق، بل يقاس كلاهما بالمدة التي يحددها الحاجز ونقطة التفتيش وجدار الفصل، ويتجمد الزمن لدى عائلات الشهداء، ويتعلق حصراً بلحظة استعادة جثامينهم، بما يكرس حالة الانتظار واللّايقين التي تناولتها فيروز سالم في الفصل الأول من الكتاب.

أمّا في الفصل الثالث، فيقدم الباحث أشرف عثمان بدر تفكيكاً لأساليب الهيمنة النفسية التي يمارسها الاحتلال تجاه الفلسطينيين، إذ يعرض مفهوم "الوعي المزدوج" وكيفية إعادة إنتاج خطاب الكراهية والعنصرية النازي تجاه الفلسطينيين، مستنداً إلى فرانز فانون في مقولته: "يريد الأسود أن يكون أبيض، والرجل الأبيض يستعبد من أجل الوصول إلى مستوى إنساني... الأبيض منغلق على بياضه، والأسود منحبس في سواده." يستفيض الباحث في الحديث عن هذا الجانب النفسي المشوه لدى المحتل، والذي يجعله يغرق فيما سمّاه "الخداع الذاتي"، من خلال تبنّي مجموعة من الأكاذيب بشأن الفلسطيني لإظهارها كحقائق أمام العالم. وينطلق المستعمِر هنا من مرحلة الاختلاف الديني، فلما لم يعد مجدياً، انتقل إلى العنصرية المبنية على أسس علمية تعتبر الفلسطيني في مرتبة أقل جينياً من الإسرائيلي، أو الأوروبي عموماً (بما يشبه كثيراً فكرة هتلر عن العرق الآري)، إلى نظرية العامل الثقافي، وأن الفلسطيني، فكرةً وسلوكاً وثقافةً، مخلوق متخلف ومثير للاشمئزاز وحامل للأمراض. وتعزز المدرسة الاستعمارية الصهيونية هذه النظرة من خلال تنشئتها الاجتماعية: "فالتنشئة الاجتماعية والتعليم سواء في الكيبوتسات العلمانية أو المدارس الدينية، لم تكن سبباً بقدر ما كانت وسيلة لنقل الفكر العنصري."

لكن الفلسطيني تمكن، عبر سني نضاله الطويلة، من تفكيك آليات المستعمِر في الهيمنة على أرضه وحكايته وذهنيته، وتطوير آليات لمجابهتها. إذ يستميت الفلسطينيون في فهم قانون المستعمِر وثغراته، على الرغم من تشرذُم القوانين وتناقضها وضياعها في أحيان كثيرة بين مراجع عدة، لحماية أرضهم وتعزيز صمودهم عليها. كما أن الوجود الديموغرافي الفلسطيني بحد ذاته، يُعتبر من أشكال المقاومة ضد بسط الاحتلال سيطرته على الأرض، على الرغم من كل محاولات الكيان فرض هيمنته الديموغرافية وتعزيز وجوده في هذا الجانب. لقد تمكن الفلسطيني، خلال سنوات محاولة الاحتلال اعتقال "الزمكان" الفلسطيني، من تحقيق انتصاراته الخاصة، تشير قَسَم الحاج في ورقتها البحثية إلى نموذج قلعة شقيف وحالة الزمن الصفري التي تساوت فيها الحياة والموت، كما تعرض استراتيجيات الانعتاق الفلسطيني خلال الانتفاضة الثانية في وجه المستعمر، مثل إعلان المناطق المحررة، وإعلان السيطرة على الأثير ورفع العلم الفلسطيني، والعمل الفدائي.

يُعتبر الكتاب إضافة نوعية ضمن أطر عدة، غير أنه يمكن المكوث طويلاً عند إضافة بعينها، تلك التي تربط البحث بالمبحوث، فالكتاب هنا يقدم عملاً معرفياً مبنياً بناءً عضوياً لصيقاً بالمجتمع الذي يدرسه، والأرض التي ينطلق منها. لذا، فإن قراءة هذا العمل تُعتبر تجربة تعلُّم إنسانية اجتماعية قبل أي شيء، فهي تُدخل القارىء/ة في مجاورة مع فريق البحث، وتتيح له/ا فرصة الاقتراب من الحكايا التي يوثقها العمل، وهو أمر يحفّز على القراءة التفاعلية، تلك التي تحرك الساكن فينا وتحثه على الحياة، وهو في هذا السياق، يلامس منظومة القيم الوطنية الاجتماعية إلى حد كبير.

التحرر جزء أصيل من عنوان الكتاب ورسالته، وهو ما يعزز دعوة هذا العمل إلى الانعتاق الكلّي والشامل، سعياً للوصول إلى الحرية بصيغتها القصوى؛ إذاً لا عجب أن يكسر قيد الصور المسبقة والقوالب المعرفية الصهيونية ورديفاتها الاستعمارية الغربية، ويشقّ عباءة المحددات الفلسطينية الداخلية، لبناء نموذج معرفي يستند إلى الحقيقة، تلك التي يعرفها أهل البلاد ويحفظونها.

يقدم الكتاب نموذجاً من الطريق لصناعة المعرفة الحية، وهي عملية لا تتأتى إلا بالانفتاح على الموجود وفهمه واستيعابه، والبناء عليه وردّه إلى بيئته، وتأمل تفاعُل العناصر معاً، واستكمال جزء آخر من عملية البناء، فالتجريب، فالتفاعل، فالتأمل، فاستكمال البناء، وهكذا. وبالتالي، يخلق هذا النهج مساراً تعلّمياً قائماً على كل الأطراف الشريكة في صنع المعرفة، وهو ما يجعل المعرفة هنا واقعاً معاشاً، ويُخرجها من قالب الأكاديميا كما كان يعرفها الجميع.

ويقدم هذا العمل معرفة أصيلة من خلال إعادة تفكيك المفاهيم، تلك التي شكلت جزءاً من وعينا، كفلسطينيين، مثل فعل الاختفاء والمطاردة، والتي يطرحها الكتاب من منظور تحرُّري يقوم على فكرة: الهرب إلى الحياة وليس منها، تأكيداً لسعي الفلسطيني الدائم للحفاظ على زمانه حراً من مصادرة الاستعمار الصهيوني له، كما يتحدث الكتاب عن الزمن الموازي في الأسر، وبالتالي فهو يقدم تأطيراً مفاهيمياً جديداً بأبعاد تحررية للمصطلح ذاته، الزمان، المكان، الأرض، الحكاية.

كيف يمكن البناء على هذه التجربة المنعتقة من كل القيود إذاً؟

كنت أتمنى لو كان هناك فصل يتحدث فيه الباحثون عن تأملاتهم تجاه التجربة، هل غيرت فيهم شيئاً؟ هل فتحت عيونهم على طرق جديدة؟ كيف كان مسار رحلتهم البحثية الإنسانية؟ في وقت أصبح هنا وفرة في المعلومات، أصبح البحث عن صوت الإنسان الأصلاني مهمة بحد ذاتها، وعلى الرغم من أن مسار البحث كله قائم على نزع القشور، وصولاً إلى أصالة المعلومة وأصلانيتها بما يحقق حيويتها، فإن فصلاً "في مجاورة التجربة"، كان من الممكن أن يشكل إضافة أُخرى إلى هذا العمل الإبداعي في نهجه ومضمونه. ربما يكون هذا مطلباً ثورياً في عمل أكاديمي، لكن الحرية متطلبة، وقد فتح هذا العمل طريقاً صريحاً لها.

Read more