Place and the Human in Palestinian Narrative Biography: “Umm Al-Zeenat” as a Model for Writing Oral History
Full text: 

 مَن يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً

من قصيدة "لا أعرف الصحراء" لمحمود درويش 

مقدمة

مَن يقرأ "البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا (1919 - 1994)، أو "رحلة جبلية رحلة صعبة: سيرة ذاتية" لفدوى طوقان (1917 - 2003)، أو "خارج المكان" لإدوارد سعيد (1935 - 2003)، أو "غربة الراعي" لإحسان عباس (1920 - 2003)، أو "السيرة الطائرة: أقل من عدو أكثر من صديق" لإبراهيم نصر الله (من مواليد سنة 1954)، أو "ولدت هناك، ولدت هنا" لمريد البرغوثي (1944 - 2021)، أو "الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين: مذكرات رشيد الحاج إبراهيم، 1891 - 1953"، التي قدم لها وليد الخالدي وصدرت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في سنة 2005، وغيرها العديد من السِّيَر الذاتية والمذكرات لفلسطينيين من عدة أجيال، وعلى اختلاف أدوات الكتابة، يمكنه أن يلمس تجاوز هذه الأعمال دورها كوثيقة جمالية / تاريخية / اجتماعية / أنثروبولوجية / أدبية / نفسية لكاتبيها، إلى كونها شاهداً مهماً على فترات تاريخية تطل على المشهد الاجتماعي / الثقافي / السياسي لفسيفساء المجتمع الفلسطيني، كما يمكن من خلالها إجراء بحث لفهم وتفسير هذا المجتمع من نواحٍ متعددة، وفي فترات تاريخية ممتدة.

ومع أن المؤرخين، وخصوصاً الصهيونيين منهم،[1] قد يقللون من أهمية السِّيَر الذاتية كونها تعتمد على الذاكرة وليس على الوثائق، إلّا إن حضورها لا يمكن تجاهله، فنكبة الفلسطينيين المستمرة أدت إلى تفكك المؤسسات الثقافية والسياسية والبنية المجتمعية المدينية،[2] وأحدثت تغييراً غير مرتجع في حياة الفلسطينيين الفردية والقومية.[3] كما أن نهب أرشيف الفلسطينيين بشكل متكرر، واعتباره ملكاً لغائبين، وضعا الفلسطينيين أمام معضلتين وجوديتين: تثبيت هويتهم الحضارية الثقافية، واستعادة حقهم المادي والسياسي من خلال بناء سردية تقف في مواجهة الرواية الصهيونية التي جنّدت لها الحركة الصهيونية مواردها لتصديرها إلى الرأي العالمي والأجيال المقبلة. لذلك، وفي ظل غياب التأريخ التقليدي للنكبة، لجأ الفلسطينيون إلى طرق بديلة، كالتأريخ الشفهي، والنتاج المكتوب الذي روى نكبتهم، فبدأنا نلحظ اهتماماً مطرداً بكتابة السِّيَر الذاتية الروائية وروايات السيرة الذاتية بعد منتصف ثمانينيات القرن الماضي. وكُرّست هذه الأعمال السردية الفلسطينية من خلال الذاكرات والمرويات الشفهية، بحيث أدت تلك الذاكرات دوراً تراكمياً ضد سياسات المحو الممنهج لهوية الفلسطينيين الجمعية بعد تعرّضهم للتهجير والمذابح، وفي ظل غياب مشروع سياسي يكفل إطلاع العالم والأجيال المقبلة على سرديتهم.[4]

وعلى الرغم من تنامي الاهتمام البحثي بالسِّيَر الذاتية الخاصة بالمهجرين الفلسطينيين، والمكتوبة بعد النكبة، فإن تلك الأبحاث تركز على جانبها التوثيقي التاريخي، ولذا نرى حاجة إلى مزيد من المساهمة والحفر في التجربة الإنسانية للمهجرين من الجيل الأول ممّن كتبوا سِيَرهم أو مذكراتهم، والذين كان عددهم محدوداً حتى تسعينيات القرن الماضي لأسباب سياسية ونفسية ووجودية. فالمهجرون الباقون داخل الخط الأخضر كانوا يحاولون التعامل مع الصدمة والفقدان والانسلاخ من جهة، ومع الظروف الوجودية والحياتية من جهة أُخرى، وقسم منهم تنقّل في عدة أماكن قبل أن يستقر، فضلاً عن أن الكتابة عن النكبة تحت الحكم العسكري ورقابته لم تكن أمراً يسيراً. ويرى بعض الباحثين أن الجيل الأول من المهجرين الباقين كان غالباً من الفلاحين الذين لم يتقنوا القراءة والكتابة،[5] وما كُتب لاحقاً من سِيَر ومذكرات إنما نُشر ووُزّع بشكل محدود على نفقة المؤلفين الخاصة. أمّا المهجرون خارج الخط الأخضر فخرجوا من دون وثائق، الأمر الذي جعل عملية الكتابة عسيرة،[6] إذ كان عليهم التركيز على المعيشة اليومية بعدما زلزلت الصدمة النفسية حياتهم، وفي ظل ظروف سياسية لم تتح لهم التعبير الصريح عن موقفهم تجاه نكبة 1948.[7] هذه العوامل والظروف كلها، جعلت عملية التفرغ لمثل هذا النوع من الكتابة غير متاحة لضحايا النكبة، ولا سيما أن كتابة السيرة الذاتية الروائية أو المذكرات تتضمن نظرة بُعدية ونضجاً ووعياً؛ لهذا أتت هذه الكتابات متأخرة عن حدث النكبة، كأنها إعادة قراءة للتجربة وليس تسجيلاً لها فقط، فضلاً عن أن الأحداث السياسية في منتصف الثمانينيات وما بعدها كسرت أسوار الصمت - كالانتفاضة الأولى (1987)، واتفاق أوسلو (1993)، وتغيُّر المناخ السياسي في أواسط التسعينيات - وأبرزت الحاجة القوية إلى تسليط الضوء على قضية عودة اللاجئين.

تأسيساً على ما سبق، تأتي هذه الدراسة الثقافية كنموذج يبحث في جهود المؤلفين المهجّرين في كتابة السيرة الجماعية لقراهم المهدمة، ونقل التجربة الإنسانية من خلال كتابتهم لحكاياتهم وحكايات أهاليهم. وقد اخترنا أربعة أعمال كتبها أربعة مهجرين من القرية الفلسطينية الكرملية المهدمة "أم الزينات"،[8] وسنفحص، اعتماداً على هذه الأعمال، كيف يستعيد هؤلاء المؤلفون هوية هذه القرية إلى "الحياة" من خلال استعادة حكايتها، وكيف يروون حكاياتهم مع تسليط الضوء على أحداث الفترة 1945 – 1955، من خلال الأسئلة التالية:

1 - ما هي دوافع المهجرين إلى كتابة هذه الأعمال؟

2 - كيف تتجلى الهوية المكانية للقرية في هوية مهجرين تعددت مصائرهم؟

3 - كيف تخبر ذاكرة الأطفال من الجيل الأول صور حكايتهم تحت الصدمة؟

4 - هل يمكن لهذه الأعمال صوغ "سردية متماسكة" لحكاية قرية لم يبقَ منها سوى بعض حجارة؟

5 - كيف تشكلت هوية الطفل المهجر في الحيز المدرسي بعد التهجير؟

ولهذا الغرض اخترنا نصوصاً[9] وُلد مؤلفوها في قرية أم الزينات، وينتمون إلى الجيل الأول من الأطفال المهجرين (ولدوا بين سنتَي 1943 و1948)، لكنهم عاشوا بعد التهجير في أماكن متنوعة، وهم: أولاً، سليم فحماوي (1943؟ -2008) الذي بقي داخل الخط الأخضر في أراضي 1948، وقد استقر بعد رحلة التهجير لاجئاً مع عائلته في قرية "دالية الكرمل" المجاورة لأم الزينات حتى وفاته؛ ثانياً، محمد الأسعد (ولد في سنة 1944) ويعيش اليوم في الكويت بعد رحلة التهجير؛ ثالثاً، واصف منصور (1945 - 2013) الذي استقر بعد رحلة تهجير في المغرب وتوفي فيها؛ رابعاً، صبحي فحماوي (ولد في سنة 1948) واستقر بعد رحلة التهجير في الأردن.

تعتمد الأعمال[10] الأربعة على السرد بالضمير المتكلم، إذ إن زمن السرد يتجه نحو الماضي، جاعلاً قرية "أم الزينات" وأهاليها شخوصاً يتحركون داخل فضاء النص. وتتفاوت هذه الأعمال المختارة جمالياً وأسلوباً، وفي توجهات الكتابة. وهذه الأعمال هي:

1 - "أطفال الندى"، لمحمد الأسعد.

2 - "عذبة"، لصبحي فحماوي.[11]

3 - "ذكريات ومفارقات: أحزان الراعي"، لسليم فحماوي.

4 - "بعض مني: رحلة لجوء من حيفا إلى الرباط"، لواصف منصور.

يتداخل في العملَين الأول والثاني النوع الأدبي بين السيرة والرواية، فقد أضاف المؤلفان تحت عنوانهما كلمة "رواية" كإشارة تجنيسية،[12] من دون أن يتناولا حبكة محددة، وإنما اعتمدا على الذاكرة،[13] وعلى عرض حكايات متفرقة متعلقة برحلة التهجير من أم الزينات. فرواية "أطفال الندى" تحتوي على الأسماء الحقيقية للأماكن والأشخاص الذين عاشوا في أم الزينات، بينما يستبدل مؤلف رواية "عذبة" بعض الأسماء بأسماء مستعارة، تاركاً التواريخ وأسماء الأماكن والمعالم حقيقية، وفي المحصلة يمكن تصنيف "أطفال الندى" و"عذبة" كسيرتَين ذاتيتَين روائيتين.[14] أمّا العملان الثالث والرابع فهما أقرب إلى السيرة الذاتية، على الرغم من حيرة كاتبَيهما في وضعهما تحت مسمى نوع أدبي: فواصف منصور يضع العنوان الفرعي "محكيات" كإشارة لجنس النص ويقول في المقدمة: "إنني أضع بين يدَي القراء محكيات واجهتُ صعوبة بالغة في اختيار عنوان لمحتواها"،[15] بينما يشير سليم فحماوي في العنوان الفرعي إلى أن النص هو "ذكريات". 

هولوغرام: قراءات في سيرة المكان المهجّر

تزود الأعمال الأربعة القارىء بمواد هائلة ومتنوعة في الاتجاه التاريخي والحكايات الإنسانية المتشابكة.[16] وسنركز في المحاور الخمسة التالية على قراءة هذه الأعمال وبناء "هولوغرام" (hologram) [تصوير مجسّم] لسيرة المكان، وفي كل محور سنعنى ببحث أحد أسئلتنا الخمسة السابقة الذكر، على التوالي. 

1 - دوافع الكتابة: استعادة الصوت الفلسطيني لذاته

بين الميتا - كتابة والميتا – ذاكرة 

أ) الميتا - كتابة: يحرص مؤلفو هذه الأعمال على مناقشة دوافع الكتابة داخل العمل ذاته، فيظهر على السطح دافع الكتابة الأول كنوع من"صون" المخطوطات و"المادة" الشخصية و"التفصيلات" قبل أن يطويها النسيان. يقول واصف منصور:[17]

لطالما عبّرت مع كثير من أصدقائي الكتّاب [....] عن استغرابنا، بل واستنكارنا لعدم قيام الكتّاب [....] من أبناء اللاجئين [....] بتسجيل تفاصيل حياة [....] الذين تم تهجيرهم عام 1948 [....] وكان رد العديد من كتّابنا: هل تريدنا أن نتحدث عن التشرد والجوع والعري [....] وكنت دائماً أرفض مثل هذه الردود، وأتحين الفرصة لعلّي أسدّ بعضاً ممّا أراه فراغاً معيباً.

يظهر في هذا الاقتباس الوعي بوجود فراغ في أرشفة التجربة الإنسانية الفلسطينية، والوعي بأهمية هذا النوع من الكتابة على المستوى الجماعي، كما يظهر إدراك ما خلّفه التأخر في التدوين من "فجوات". ويقول الأسعد في هذا الشأن:[18]

لو كان لي أن أكتب هذه الرواية قبل سنوات، لاستطعت استقصاء الطرق بصورة أفضل، فلربما حفظت أسماء [....] وأماكن لا أجدها حتى في الرواية الأصلية نفسها واضحة. الدالية التي تتكرر في الرواية فقد ارتبطت بذهني بأناس غامضين تسمّيهم أمي (الدروز) وتتهمهم بالتواطؤ مع اليهود [....] نواياهم غامضة.

نستنتج من الاقتباسين أعلاه أمرين مهمين: الأول أن الوعي بكتابة هذه الأعمال كان متنامياً تراكمياً ولم يأتِ دفعة واحدة، وأن النضج الفكري والسياسي كان دافعاً إلى الكتابة، ولذا فإن التأخر جعل الكتابة تتجاوز أحياناً التسجيل والإخبار نحو التحليل والمساءلة؛ الثاني أن الاعتماد على الذاكرة فاقم من "فجوات التفصيلات" التي غابت مع غياب الجيل الأول (الأهالي).

ب) الميتا - ذاكرة: فضلاً عمّا ذُكر، فإن اعتماد هذه الأعمال على الذاكرة انعكس في أسلوب الكتابة الذي لا يخضع لخط زمني أو سردي واحد، بل نشهد تفتيتاً في الترتيب والديمومة والتواتر[19] داخل الأعمال الأربعة، بحيث تُستبدل الحبكة الأدبية التقليدية، بتداعيات ذاكرة الأطفال واستعارة ذاكرة الآخرين. وقد انعكس وعي كتّاب هذه الأعمال بوجود التفتّت في خطابهم المباشر الموجه إلى القارىء، مثلما هي الحال في مقدمة سليم فحماوي، والتي يشير فيها إلى أن الكتابة اعتمدت على الذاكرة وكانت على مراحل، ولذا ضاع بعضها.[20]

وفي السياق نفسه، يقول واصف منصور:[21]

هذا الكتاب [....] لا يحافظ على التسلسل الزمني للأحداث [....] وهو لا يمثل مذكرات، لأنه لا يتضمن توثيقاً بالأرقام والتواريخ والأمكنة. إنه أقرب ما يكون إلى ذكريات منتقاة من بين أكداس وركام الوقائع والأحداث والمواقف.

لكن المتمعن في هذا التفتّت، سيرى فيه مرآة للميتا – ذاكرة، والكلام غير المتواتر، والصمت الذي اتّبعه الأهالي كآلية دفاعية للتعامل مع صدمتهم وحماية أبنائهم. فالحكايات التي سمعها الأطفال من الأهل انطبعت في أذهانهم متقطعة، ومليئة بفجوات معتمة مصحوبة بالانفعال والعاطفة. فمثلاً يشير الأسعد إلى ميل الأب إلى الصمت في مقابل كلام الأم غير المتواتر:[22]

في الصمت نشأت أشياء كثيرة [....] عائلة من الصمت والهمس القليل حتى لا يكبر الصغار فجأة ويقفزوا من طفولتهم إلى مغامرة غير محسوبة، أو حتى يتسنى لنا حمايتهم [....] ولكن كل شيء يمكن أن يتحول إلى حدث وقصة [....] الوالد لا يتحدث كثيراً، فما زال قانون الصمت هو الساري. أمّا الأم فكثيراً ما كانت تبدأ قصصها هكذا، بلا مناسبة وحتى بلا حضور مَن يسمع.

ج) استعادة الصوت وكتابة الذات: لاحظنا أيضاً أن لدى المؤلفين حاجة واضحة إلى تبرير فعل الكتابة ذاته، من خلال استعمالهم فعل "التردد"، فيقول سليم فحماوي: "يجيء هذا الكتاب تلبية لنصيحة بعض الأصدقاء، والحقيقة أنني ترددت كثيراً قبل أن أُقدم على مثل هذا المشروع."[23] ويقول منصور: "أعترف أنني ظللت متردداً ومتوجساً [....] ولا زلت أعتبره مغامرة لا يمكن الحكم عليها."[24]

يمكن على السطح، تفسير هذا "التردد" كخوف من المساءلات السياسية،[25] لكن على ضوء قراءتنا نرى أن السبب أعمق من ذلك، فالتردد ينبع من أن الكتابة تمثل كسراً مزدوجاً لـ "نظام الأمان" المركب الذي اتُّبع كآلية دفاعية للاستمرار بعد النكبة. هذا الكسر في جانبه الأول يمثل "فعل تحرر"، لأن كتابة السيرة الذاتية، بصورة عامة، تحقَّق، عبر استحضار التجربة الشخصية، التوافق والتوازن والتطهير النفسي، وتخفف الصراع من خلال نقل التجربة إلى الآخرين. لكن في حالة ضحايا النكبة فإن سيرورة التحرر هذه تقضي بنبش المأساة من قمقمها، أي استعادة الألم النفسي المصاحب للتروما، وبهذا المعنى تصبح الكتابة درب ألغام وآلام. يقول سليم فحماوي: "انتقيت نقاطاً أو جوانب معينة من حياتي [....] لأن حياتي فجيعة متواصلة."[26] من ناحية ثانية، يُظهر إدراك هؤلاء المؤلفين أنهم يخوضون سيرورة معقدة و"مغامرة لا يمكن الحكم عليها"[27] في ترجمة صدمة أهاليهم المصحوبة بالصمت وبقع الكلام، وتحويلها بأمانة إلى سردية متماسكة، مع شعورهم الدائم بأن ذلك لن يفي التجربة حقها، ولذلك فإن هذه "الأمانة" تجعلهم يبدون "مترددين" أمام القارىء.

يمكننا القول إذاً، إن الدافع والفعل العميقَين لكتابة هذه الأعمال يتجاوزان بالنسبة إلى هؤلاء الكتّاب مسألة الحفظ والتوثيق، بل إنهما يعادلان موضوعياً استعادتهم لأصواتهم الشخصية، وتبديلهم لأدواتهم في التعامل مع تجربتهم، واجتراحهم لغة قادرة على تحويل المأساة الجماعية إلى سردية متماسكة، والصمت إلى معنى. وفي هذا الشأن يقول محمد الأسعد:[28]

أليس من حقي أن أستعيد تفاصيلي من الكتب [....]، أليس من حقي أن أعترض على قرارات الأمم المتحدة التي تجهل اسمي واسم جدي، بل وتجهل أن "أم الزينات" لا يُعرف تاريخها كما لا يُعرف تاريخ الوردة؟

2 - "أم الزينات قطعة من الجنة": استحضار المكان الغائب استعادة لهويته

إذا كانت التراجيديا الفلسطينية بدأت بفقدان المكان، فإن الصهيونية عملت، بعد تطهير المكان من ساكنه، على "تفريغه" من مركبات الهوية التي تربطه بساكنه الأصلي، وبالتالي تمكنت من إخراس اللغة، وتغييب الحكاية. ولذا فإن "الجغرافيا" هي البعد الأول الذي تسعى هذه الأعمال لاستحضاره عبر إعادة تركيب "قطع المكان" الموجودة في الذاكرة كضرورة جمالية ووجودية لسرد الحكاية المغيبة، وإعادة تركيب الهوية. مثلاً: تحديد موقع القرية الدقيق ومساحتها؛[29] مساحة الأراضي المزروعة بالزيتون؛ المسافة بينها وبين مدينة حيفا؛ القرى والخرب المجاورة؛ تفصيل الطرق المتعددة المؤدية إليها؛ ارتفاعها عن سطح البحر؛ عدد السكان في سنة 1948؛ أسماء العائلات التي قطنتها؛ مخاتير القرية؛ أسماء معلمي القرية؛ المستوى التعليمي والانتماءات الدينية والنشاط السياسي لأهالي القرية؛ معلومات ديموغرافية أُخرى عن السكان، كالمستوى الاقتصادي، وعملهم في الفلاحة، وتجارة وتربية المواشي والدواجن، وبعض المهن والصناعات الأُخرى، ومنتوجات القرية. هذا المسح الشامل والتأثيث المكاني الذي يقوم به المؤلفون هو فعل لغوي تجذيري لهوية المكان الفلسطينية (rootedness)، وهو معاكس لفعل التفريغ الهوياتي الذي أحدثه الجانب الصهيوني في الحيّز الجغرافي للقرية بتحويل جزء منه إلى "منتزه" يتملكه الصندوق القومي اليهودي، وبإقامة مستعمرة إلياكيم على جزء آخر، واستخدام أجزاء من محيط القرية للتدريبات العسكرية (قاعدة إلياكيم).

يلاحظ المتوجه اليوم إلى القرية أن جوانب الطريق الرئيسية تحولت إلى محطات لبائعي اللبنة والزعتر من أهالي قرية دالية الكرمل المجاورة، وكل واحدة من تلك المحطات ترفع أعلاماً إسرائيلية كثيرة وكبيرة الحجم، ولافتات ترحيبية بالعبرية لاستقبال اليهود العابرين في المنطقة الحرشية خلال عطلة السبت. هذا الطمس للحضور الفلسطيني في الحيّز هو تغيير لعلاقته بالفلسطيني، من خلال بثّ أيديولوجيا كاملة وفرض تفصيلات يومية، "فعملية محو الحيّز وكتابته من جديد"[30] هي محاولة هدم وإلغاء للمشهد الفلسطيني ودلالته. لذلك حرص هؤلاء المؤلفون على توثيق مفصّل للمكان في كل عمل، فنراهم يسهبون في الحديث عن الطرق المؤدية إلى القرية، مُظهرين من خلال ذلك دراية الساكن الأصلاني العميقة بشعابها، بينما تقدم الموسوعات تعريفاً عاماً. فالسكان يمتلكون المعرفة و"يعرفون مئات الطرق التي تصل إليها أو تنطلق منها."[31] ويقول الأسعد في هذا الشأن:

يمكن أن يأتيها الإنسان من عدة طرق بعكس ما تذهب إليه كتب الموسوعات [....]، أمّا وادي الملح فقد ظل معبراً يتذكره الفلاحون جيداً في طريقهم إلى شرق فلسطين، وذلك قبل أن يمتلىء بالشجر وفق نبوءة الشيخ حمزة.[32]

تكرس النصوص علاقة وجدانية بين الساكن والمكان، وهكذا تزخر النصوص الأربعة بذكر معالم وأماكن بأسمائها المحددة، كمعالم نابضة بالتجربة وبالتاريخ وبالعاطفة المرتبطة بساكنها الأصلاني: أسماء الآبار وعيون الماء، وأسماء طرقات، ومعالم، وأماكن ذات بعد "مقدس"، والخرب المحيطة بالقرية، مثلاً: الكنعانية؛ بئر الناطف؛ بئر الهرامس؛ أم الدرج؛ وادي الملح؛ سيدي المجاهد؛ الأربع شجرات؛ وادي الرندة؛ الروحة؛ خربة سُماقة؛ المضبعة؛ ظهرة عمرة؛ البطمة؛ ظهرة النحلة؛ المدبسة؛ سيح الحاج عبد الغني؛ دير المحرقة (دير الراهب أبونا ليا)، وغيرها كثير. لكن هذه التفصيلات تُستدعى في الأعمال متشابكة مع أحداث تاريخية، أو حمولة اجتماعية، لتستحضر بذلك نسيج العلاقة بالمكان. فمثلاً، بئرا الماء المركزيتان: "بئر الناطف" و"بئر الهرامس"، تُربطان بأحداث وسياقات تاريخية أو اجتماعية أو ثقافية، كحكاية غرق أم محمد في بئر الهرامس، وخطبة فرحة، أو الأساطير التي نسجها أهالي القرية عن "بئر الناطف"، وارتباطها بالسِّيَر الشعبية كزعمهم أن الزير سالم المهلهل كان يتصيد السباع في محيط بئر الناطف (بئر السباع).

يذكر الأسعد "بئر الهرامس" ارتباطاً بمعركة "أم الدرج" التي خاضها ثوار 1936 ضد القوات البريطانية، وبتداعياتها على أهل القرية الذين نسجوا علاقة حنان مع هذه البئر. فتلك العاطفة لم تأتِ من فراغ، وإنما من العلاقة اليومية بهذه البئر كمصدر للحياة، ولقصصهم الصغيرة التي حدثت حوله. أمّا الصدمة فهي عندما يُقرأ الاسم معدلاً، ذلك بأن تغييب هذه الأسماء في المصادر الصهيونية، واستبدالها بأسماء "معدلة" عنها، يسعيان لإسقاط حمولتها التاريخية الاجتماعية المرتبطة بأهالي القرية:

بئر الهرامس [....] كم سمعتُ هذا الاسم [....] وخصوصاً حين تنطقه أمي مشفوعاً بحادثة حدثت هناك! [....] والثورة والفتنة ومجيء الإنجليز وتخريب مؤونة الصيف والشتاء [....] وحين خلطوا الشيد بالزيت، والقمح بالتراب [....]. كان بئر الهرامس يُذكر بحنان لا أدرك مصدره [....] وليصدمني اسمه حين أقرأه في الكتب مكتوباً هكذا: "بئر الحرامس"، كم هو غريب هذا الاسم ومحتل.[33]

تظهر في تلك الأعمال خبرة الساكن ودرايته بكيفية استغلال الطبيعة مع المحافظة عليها، إذ تعجّ بتفصيلات لها علاقة بالبيئة الطبيعية للقرية: أسماء أشجار؛ نباتات للأكل؛ نباتات طبية وعطرية، مثل: الميرمية، والزعتر، والزعتر الفارسي، والزوفا، والفيجن، والزعرور، والشيح، والغار، والزيتون، والصبار، والسلق، واللوف، والجعدة، والخبيزة، والحويرة، والشومر، والشحت، والبسيسة، والعكوب، والسريس، والبطم، والصيافير؛ تفصيلات عن البيئة القروية والفِلاحة، مثل "البعارة وراء الحصادين".[34] إن تكثيف هذه التفصيلات هو استعادة لعلاقة أصيلة بطبيعة المكان، ذلك بأن العلاقة مع الطبيعة هي علاقة حياة متبادلة، فعلى سبيل المثال تُذكر قدرة الأهالي البارزة في استثمار البيئة من أجل تحصيل لقمة العيش عند الحاجة والضرورة القصوى، كاستخدام بعض الأشجار في إنتاج الفحم:

كان أبي يقول: "إن الحياة في أم الزينات كانت مُيسرة. اللي بتحقّ عليه بطلع لشمال عالوعر، بوخذ معاه فروعة ومنجل بقطع مشحرة عشر طناشر شوال فحم ببيعهن بقدنه بقية السنة والسنديان إمللي الكرمل."[35]

إن تكريس "أم الزينات كقطعة من الجنة" يرتبط برخاء العيش فيها، كقول هؤلاء الكتّاب: "أم الزينات كانت عايشة بمهد عيسى"،[36] و"زيتونها لا يضاهيه من حيث الجودة والنكهة أي زيتون في فلسطين لخصوبة أرضها."[37] ولذا فإن خسارتهم لقريتهم تمثل "الجنة المفقودة"،[38] لأن ارتباطهم المادي بها لم يكن منفعياً فقط، بل عاطفياً أيضاً، فهم "أحبوها حبهم لأبنائهم ولم يبيعوا شبراً واحداً منها لليهود"،[39] واعتبروها جزءاً ممتداً للجسد والعائلة، فـ "بلدي أم الزينات [....] هي أمي وأبي، والتي لا يُعلى على حبها حب"؛[40] لقد سحرتهم طبيعتها فارتبطوا بها بحب روحي إلى درجة التقديس، فهي "الربة البيضاء التي سيقيم الله عليها عرشه يوم القيامة، ليحاسب البشر."[41]

إن "الفخر والحنين" يصبحان دافعاً أساسياً إلى استحضار علاقة الكتّاب بالمكان، ويمكن أن نلمس ذلك في التركيز على القيمة الجمالية التاريخية لطبيعة القرية، كالإشارة إلى الآثار القديمة الموجودة فيها، من مغارات محفورة أو أجران منقوشة، والتي تشير إلى أن موقع القرية هو واحد من أقدم الأماكن الآهلة،[42] كما لا يفوتهم ربط موقعها الجغرافي الجبلي الوعر بتاريخ حراك وطني في القرية. يقول واصف منصور في هذا الصدد: "أهّلَها موقعُها الحصين لأن تكون مقر قيادة يوسف أبو درة سنة 1936 وكان يسميها 'البلد الأمين' وخاض في منطقتها العديد من المعارك مع القوات البريطانية أهمها معركة 'أم الدرج'."[43] أمّا أحد مجاهدي القرية، وهو عبد الرحمن الحسن الذي أُعدم خلال ثورة 1936 تحت "بلوطة الكنعانية"، فنُقل عن لسانه قوله لأمه: "أنا أحب غابات الكرمل [....] لأنها تشتغل معنا [....] وتحميني وتحمي رفاقي إذا ضاقت أمامنا السبل."[44]

ولا تكتمل هوية المكان إلّا باستعادة الأصوات الإنسانية التي كانت تملؤه، باللغة التي كان بُعدها يملأ المكان، ويتجلى في عدة أشكال. فيربط هؤلاء الكتّاب اسم قريتهم بجمال طبيعتها الكرملية ونقاء هوائها، وبـ "جمال أفعال أهلها وجمال نسائها ورجالها"،[45] ويبيّن منصور كيف يتغنى أهل القرية بفتياتها، فيورد زجلاً عامياً جاء فيه: "يا سيدي الشيخ أخطب يا خطيبي // من أم الزينات لا تقطع نصيبي."[46]

هكذا يتحول الاسم اللغوي للمكان إلى مرآة للساكن فيه، وليس هذا فحسب، بل يصبح الساكن أيضاً مرآة للمكان، فنرى الكتّاب يشبّهون "عقلية" السكان بوعورة المكان، ويشيرون إلى ما عُرف عنهم من "قساوة الرأس" (العناد).[47] ويشير منصور إلى خلو القرية من حوادث إطلاق النار أو الفساد الأخلاقي، ما عدا حادثة واحدة.[48]

إن التحام الكتّاب بالمكان عضوياً وفكرياً ولغوياً عبر التماثل الذي جسدته التسمية اللغوية للمكان، يفسر شعور الانسلاخ عن الذات وخلخلتها بعد فقدان المكان. فعند ذكرهم اسم مستعمرة "إلياكيم" المقامة على جزء من أرض القرية، يعتبرون أنه "اسم مغلق لا يعني شيئاً"، بما يعني فقدان القدرة على استحضار ذواتهم في مرآته الجديدة وفي لغته الجديدة (انظر الصورة المرفقة في النص)، ولذا نجدهم حريصين على تكريس اللغة المحكية القروية في هذه النصوص، في الحوار وفي الوصف، وقد تتسلل فتطغى على السرد ذاته كما نرى عند سليم فحماوي.[49] ويبرز اعتزازهم بالغنى اللغوي للهجة المحكية للقرية، مثلما يقول الأسعد:

كل شيء في وطني يمتلك اسماً بدءاً من الحجر ومروراً بالجرة ووصولاً إلى الفصول والثمار والإنسان [....]، بل إن مكاناً أو شيئاً واحداً قد يكتسب اسمين في وقت واحد. ويخيل إليّ [....] أن أهلي كانوا يسكنون غابة من الأسماء [....]، وطناً لا يوجد في اللغة الفصحى، ولكنه أفصح منها بكثير، كل شيء فيه يسمى ببساطة.[50]

 

لافتة مكتوب عليها بالعبرية "إلياكيم - أم الزينات"، وهي لم تعد موجودة اليوم

 

ويتجلى هذا الغنى اللغوي في أبعاد عميقة داخل النصوص: ما له علاقة بالمسميات أو الطعام أو اللباس، أو بالنمط الفكري الثقافي والعادات والتقاليد. فنجد وصفاً في أكثر من موضع في النصوص لثياب طبقات متعددة من سكان القرية، مثلاً:

وقف الحاج عبد القادر[51] [....]، يلبس على رأسه حطة مميزة بلونها الأبيض المصفر، وقمبازه ساتان سكني [رمادي] فاتح اللون، مخطط بخطوط طولية سوداء، تفوح منه رائحة مسك خاصة، تجلبها له عجوز بدوية من عشائر "المنسي" [....]، تستخلصها من أمعاء غزال لا يوجد إلّا في غابة الكرمل. فيدفع لها الحاج، حتى يرضيها.[52]

ويحضر البعد اللغوي اليومي للمصطلحات التي يستعملها الأهالي: ما يختص بالجانب المعماري للبيوت مثل "القطع" للغرفة المقتطعة غير المستعملة، و"قُصة" أو "مُصطبِة" للإشارة إلى ساحة البيت الداخلية،[53] و"العقد العلوي" للإشارة إلى الأقواس أعلى الأبواب والواجهات،[54] و"اسكُغة" للمقعد المخصص في وسط الجدار للسراج،[55] و"العلّية"[56] للإشارة إلى مكان خاص في أعلى البيوت لذوي المكانة، و"الدواشك والطراريح"[57] للإشارة إلى الفراش. وثمة أساليب لغوية خاصة، مثل أسلوب التحية الخاص الذي يلقيه أحد المارة على شخص يعمل فيقال له: "صحْ بدنُه"،[58] أو استعمال الفعل "يخْطُر" للإشارة إلى السفر خارج القرية.[59] كذلك نرى أساليب مديح طباع الطفل واستشراف مستقبله مثل: "إبنك هاظى اسم الله عليه من الرجال العُتق"،[60] أو مدح جماله وتشبيهه بغزلان المنطقة مثل "من وين لكم غزال جرماشة هذا؟"[61] كما نرى أسلوب الدعاء كفتح المرأة لصدرها والتوجه إلى القِبلة متوسلة: "دخلك هيه يا ربي يا حبيبي بجاهك إنك تحمي كل أهل البلد [....] أنا بجاهك يا مستلاهي"،[62] فضلاً عن أسماء الألعاب المتنوعة التي كان يلعبها الكبار مثل "السيجة" و"المنكلة" في "الديوان"،[63] وألعاب الأطفال مثل "الحبل"، و"الإكس"، ولعبة "طاق طاق طاقية"،[64] وأسماء أكلات مثل أكلة "البصامة".[65]

ونجد أيضاً مشاهد تشير إلى دور لغة الأدب الشعبي في نسج العلاقات الاجتماعية والإنسانية، والتي بقيت مع الأطفال حتى بعد التهجير، مثلما يرد في نص سليم فحماوي:

وأشتاق لحكايات جارتنا عايشة الحاج حينما كنا نذهب إليها لتحكي لنا حكاياتها التي لا تنضب (قرطومة) والشاطر حسن [....] وكنت أحدّث نفسي على الدوام: ألا يستطيع الشاطر حسن أن يقضي على الغول ويعيد أم الزينات؟ [66]

ينقل إلينا الكتّاب في أعمالهم القصص الشعبية مثلما تَرِد على لسان حكواتي الأطفال باللهجة المحلية، فضلاً عن جعل أم الزينات جزءاً من فضاء حدوث تلك القصص الشعبية، كأنها جزء من تاريخها الشعبي، معتبرين ذلك جزءاً من هويتهم وتمجيداً لقريتهم. فتتحول، مثلاً، حكاية مرور الزير سالم من القرية، إلى أغنية:[67]

مر الزير في غربته على أم الزينات،

ونزل عن حصان سابح فوق الغيمات،

وربطه بساق شجرة جنب بير الناطف،

وراح يشرب من ميته الحلوة وهو واقف!

نجد العنصر اللغوي أيضاً مرتبطاً بالمعتقدات الشعبية لأهالي القرية، كـ "طاسة الرعبة"، وتفصيلات قصص الغيلان والأشباح والضباع، وفي المقابل نجد ثقافة أدبية أُخرى تتحدى وترفض هذه المعتقدات، وتمثلها طبقة فكرية - اجتماعية أُخرى. وعن ذلك يقول منصور إن أهالي القرية تناقلوا حكايات كادوا يصدقونها كحكاية "القط الأسود الذي يتحول جنياً"، لكن والده وأعمامه "كانوا متعلمين، وجلّهم ذوو توجه علماني لا يؤمنون بهذه الخرافات ويرفضون أن تُروى على مسامعنا [....]. هناك قصص أدبية أُخرى كانت تعوضنا عن هذه الحكايات، يرويها والدي،[68] وحكايات حماسية يرويها جدي ورواة آخرون [....]. حكايات مختلفة يتم سردها باللغة العربية الفصحى أو بالعامية المفصحة، وتكون مصحوبة في كثير من الأحيان بأبيات شعرية."[69] لقد كان الأهالي، بصورة عامة، يولون العلم قيمة كبرى مع أن معظمهم من الفلاحين، ولهذا سعوا لتعليم أولادهم في مدرسة القرية، وإرسالهم لاحقاً إلى الثانويات والكليات في نابلس وصفد، ومنهم مَن أصبح معلماً في مدرسة القرية، ففي تفكيرهم "اللي ما بعرف يقرا ولا يكتب، لليش هي حياته."[70] وكانوا يحترمون المتعلمين من أبناء القرية والمعلمين الوافدين[71] و"القارئين" الروحانيين، وعن هذا يقول الأسعد:[72]

كان يقرأ في الكتب، بهذه العبارة التي ينطقها القرويون بتهيّب [....]. لقد ذهبت الكتب والألواح، ولكن ظل تقديس الكتابة والكتاب شيئاً غريزياً كما لو كان الأمر منطبعاً في الروح.

ويحضر في هذه الأعمال الجانب الاجتماعي للمكان قبل النكبة وبعدها، فنرى ميزة "الامتزاج والوظيفية" بارزة، إذ مع أن أغلبية السكان كانوا من المسلمين، إلّا إن علاقة احترام ومحبة نشأت بين العائلات المسلمة والعائلات المسيحية، فأبو حنا الإسكافي اعتُبر "رجلاً محترفاً ومحبوباً".[73] وحتى بعد النكبة وفي المخيمات، فإننا نجد التلاحم الاجتماعي حاضراً على الرغم من غياب المكان الذي حمله أهالي القرية في دواخلهم:

كنا نقترض ونتقايض الأشياء، فتقول لي أمي: "روح جيب إبرة بابور الكاز من دار (أبو مشهور)، أخذوها امبارح، وما رجعوها!"، "روح جيب شوية ملح من عند أم حمادة، الملح خلص من عندنا، والأكل دالع!"، "روح ارسل شوية الطبيخ هذول للختيارة إم إبراهيم، أكيد معندهاش إشي تأكله الليلة!"

علاوة على ذلك، امتزجت الناحية الدينية والروحية بالبعد الاجتماعي والوطني لسكان القرية، فنجد تسجيلاً لعاداتهم الاحتفالية التي يختلط فيها العيد الديني بزيارة مقامات المجاهدين كمقام "سيدي المجاهد".[74] وفي السياق نفسه يقول سليم فحماوي:

ومن المشاهد التي لا أنساها ذهابي مع أخواتي البنات في يوم العيد إلى مقام سيدي المجاهد. والمقام موجود في مغارة [....] ويبدو أن زيارة مقام سيدي المجاهد في يوم العيد هو خاص بالبنات. يرقصن ويدربكن ويغنين بثيابهن الجميلة المزركشة، وكانت أخواتي لصغر سني يأخذنني معهن.[75]

ينطبق الامتزاج سابق الذكر على مسألة "القيادة" داخل القرية، والتي كانت قيادة جماعية لمجموعة من الوجهاء والمتعلمين والثوار، واكتسبت مشروعيتها بفعل الأدوار التي أدتها في تطوير القرية؛ فالحاج عبد الغني البشر، على سبيل المثال، كان مهيباً ومحترماً، ولم يكن أكبر ملاكي أراضي القرية و"حافظاً للقرآن" فقط، بل كان له أدوار في تطوير مرافق القرية وحتى في منح جزء من أراضيه لمَن يفتقرون إلى الأرض،[76] وهو ممّن بقوا حتى آخر رمق في القرية وقُتل وهو ممسك بعقد باب بيته. ولهذا يمكن أن نفهم مدى تأثير هذا النوع من القيادة في حياة الأفراد اليومية وقراراتهم.

يُبين صبحي فحماوي ذلك من خلال كتابه الذي تستند إليه هذه الدراسة، فيقول:

كلام كبير البلد، ورأي المجتمع، كان مُلزِماً للفرد. "السكوت دليل الرضى" قال الحاج [....] وعند المقبرة، مسحوا دموعهم، وقرأوا الفاتحة مرتين؛ الأولى على روح المرحومة، والثانية لتثبيت خطوبة فرحة.[77]

علاوة على الحاج عبد الغني، والمختارَين، ترد مجموعة من الأسماء التي تبوأت القيادة، منها: دينياً، الشيخ حمزة المتنبىء الذي تنبّأ بحدوث احتلال القرية،[78] و"سيدي الظاهر"[79] قارىء القرآن؛ ثورياً، برز المسلح كالفارس ذي الحصان الأبيض إسماعيل "العُرُف"[80] الذي استصلح جبل العاصي بنفسه، و"أبو علي طالب"،[81] و"المسترجلة" التي كانت تبحث عن قاتل أخيها،[82] وغيرهم ممّن قُتلوا في معركة أم الدرج أو بعدها خلال ثورة 1936، ومنهم عبد الرحمن الحسن، أو أُعدموا بعد سجنهم في عكا في سنة 1939 كقاسم سلامة وسليم سمارة وأحمد غنايم (الذين دُفنوا بعد إعدامهم في فسقية واحدة في القرية) أو خلال الدفاع عن القرية في سنة 1948 أو خلال تطهيرها عرقياً مثل محمد السليم الحردان وما يقرب من عشرين آخرين، أو أُعدموا في أم الشوف بعد أسرهم.[83]

ويظهر الامتزاج والوظيفية أيضاً في عمل الرجل والمرأة، فقد كان لهما أعمال مشتركة وأحياناً وظيفية، فنجد المرأة صاحبة المهنة المستقلة كالخياطة والتفصيل بواسطة ماكينة، أو بيع البيض لتجار القرية المجاورة دالية الكرمل، ولليهود في حيفا، فضلاً عن أعمال مشتركة مع الرجل كالفلاحة، وتربية الدواجن. ويظهر دور المرأة أيضاً في تدبير مؤونة الشتاء كـ "تلقيط" البقوليات، و"البعارة" خلف الحصادين وقاطفي الزيتون. ويلفت النظر دور وظيفي جماعي للنساء هو "التطيين" السنوي لجدران البيوت وأسقفها من الداخل والخارج على أعتاب كل شتاء، إذ كانت النساء يُقمن ما يسمى "ورشة عامة" يجمعن فيها التبن الناعم من البيادر ويحملن التراب الأبيض من مسافات، كما كن يصنعن المواقد داخل البيوت من الطين بأنفسهن. ويَرِد استحضار بعض النساء أيضاً في هذه الأعمال كمرجعية يتشاور معها رجال العائلة في القضايا المصيرية.

 3 - "لقد ولدت ماشياً على قدميّ":

صور أيقونية من الألبوم المفقود من "المتفرج" إلى "المتطهر"

فقد الأطفال المهجرون ألبوماتهم الحقيقية وفقدوا معها جمالية دور "المتفرج" الذي يقتصر على تأمّل الصورة كمثير (trigger) للتذكر، فهم لا يملكون من الصور سوى قطع من تلك التي اختزنوها في ذاكرتهم قبل التهجير وخلاله وبعده؛ إنها ألبوم طفولتهم الوحيد، كأنها ومضات أو لمحات التقطوها في منام، ولذا فإن دورهم المعقد كمؤلفين يقتضي استعادة قطع الصورة من الذاكرة مصحوبة بمشاعر تلك اللحظة، ثم تحويل تلك القطع إلى صورة من لغة، والتحقق من صدقيتها. وهذا الأمر يتطلب أن يؤدوا دور "المصوَّر" و"المصوِّر" و"المتفرج"، مثلما نرى في صورة "البيت الأول"، في نص سليم فحماوي:[84]

رغم شقاء العمر أستطيع أن ألمحها [....] كأني أراها لا تُمحى من ذاكرتي [....] ما زلت أتذكر بعض أجزاء البيت العتيق الذي ولدتني فيه أمي، وما زلت أحنّ إلى اللعب في جنباته. لكم أتمنى لو أن أحدهم كان التقط صورة زنغرافية لي دون أن أدري بينما أكون ألهو في جنباته [....] يشدني إليه حنين لا يوصف [....] ومن دارنا العتيقة في حارة "المراح" أتذكر بيوت الجيران والأقارب.

تتلاحم في الاقتباس السابق صورة "أجزاء" من البيت بفعل الولادة والأم وشعور الحنين الذي يهيمن على الصورة المفقودة. فـ "البيت جسد وروح"،[85] وبفقدانه تفقد الذات جزءاً منها ومن عاداتها العضوية، كما أن الانسلاخ عن البيت هو انسلاخ عن ذلك كله، ولذلك، فإن هدم هذا البيت، والانسلاخ القسري عنه، أحدثا خلخلة في وظيفة "المتفرج". غير أن الذاكرة حفرت البيت في خيالها، وتمنّي المؤلف وجود صورة زنغرافية له يعني حاجته إلى أن يطابق بين الذاكرة والحقيقة، وأن ينتزع نفسه من الأدوار الكثيرة التي عليه أن يؤديها لاستحضار الصورة، وأن يعيش دور "المتفرج" فقط. ولذا يحاول سليم فحماوي في معظم الصور أن يشكل الصورة من زاوية نظر "المتفرج"، فصورة زيارة الطفل القروي لمدينة حيفا مع أمه، لم يبقَ منها إلّا قطعة في أعلى الصورة، وومضة في نهاية الشريط: "أذكر أني شاهدت العمارات العالية [....] لكنني أتذكر، كما في الحلم، أن أبي في طلعة البياضة في طريق عودتنا."

نلاحظ هنا استعماله "أذكر" و"أتذكر" كإشارة إلى الميتا - ذاكرة، واستعماله جملة "أن أبي في طلعة" من دون وجود الفعل، يُظهر المتفرج وهو يصف من داخل شريط حقيقي جامد. ويبدو "دور المتفرج" أكثر وضوحاً في صورة مشهدية لليوم الأول في المدرسة من خلال الجملة "أرى نفسي فيه"، حيث ترتسم في خلفية الصورة المشاهد والألوان لطبيعة المكان، وحميمية "الوسط" بين الأب والأخ الكبير، وسلاسة الدخول إلى المدرسة، مثلما يرد في الفقرة التالية من نصه:[86]

مشهد آخر أرى نفسي فيه في وسط بين أبي وبين أخي علي في الطريق في اليوم الأول لدخولي المدرسة [....] وفي الطريق إلى المدرسة رأيت القمح والشعير المُعدّ للدرس على البيادر، منظر خلاب انخرط في الذاكرة [....] ثم بدأت أتعلم مع أبناء صفي [....] في كتاب "راس روس".

لكن الألبوم يرصد صوراً مركبة قياساً على وعي الطفل؛ إنها "الصورة السؤال"، فالقرية تتحضر وتتحصن بالقليل ممّا لديها من أسلحة، كما في أحد المشاهد التي ينقلها لنا سليم فحماوي عشية النكبة، لكنها صورة مفتاحية يطغى فيها السؤال على التصوير:

كنا عائدين من المدرسة [....] رأينا رجالاً كثيرين تارة يمشون وطوراً يقفون [....] إلى جانبهم أو قبالتهم رجل واحد في لباس مختلف عنهم؛ لأنهم جميعاً كانوا في لباسهم [....] الكوفية والعقال والقمباز [....] ويبدأ أخي بالشرح لي أن ذلك الرجل [....] يعلّم الزلام على الحرب. وبقيت زمناً طويلاً في حيرة إذ كيف يتدرب الرجال على الحرب بينما هم شاكو السلاح الذي هو عبارة عن عصي وشواديح.[87]

هناك نوع آخر من الصور المركبة، وهو "الصور المقلوبة" التي يستبدل فيها الطفل المَجاز بالممارسة. فمع وصول نبأ سقوط حيفا لم يفهم معنى "السقوط"، بل تمثل له في الذاكرة بصورة حيفا وقد "وقعت" ومعها "سلة الأطايب" التي كان يحضرها الأب. هكذا أصبح المعنى المجازي للسقوط يتمثل في صورة توقف فعل الممارسة للحياة الطبيعية التي كان يحياها الطفل. ونجد أيضاً صورة "المشهد الأوكسيموروني" (oxymoron) [المشهد التناقضي] الذي يقوم على حيز واحد وفعلَين متزامنين مفارقين، مثلاً: يقوم مدير المدرسة بالوقوف على عتبة المدرسة، تلك العتبة الوحيدة التي لا تزال باقية،[88] وتوجيه الطلاب إلى المساعدة في إغلاق شوارع القرية للدفاع عنها. ففي هذه الصورة نشهد بداية قطيعة الأطفال مع دورهم كتلاميذ في مدرستهم الأولى، الأمر الذي سيرتبط في ذهنهم لاحقاً بتحطم الأمان وانهياره. لكن في حيّز آخر من الصورة نفسها، نجد مجموعة تلاميذ الصف الأول ينشغلون بشيء آخر أكثر أهمية بالنسبة إليهم، إذ يجدون ما يلهون به ويبحثون عن زهرتهم المفضلة لأكلها، وهذا بحسب سليم فحماوي الذي يقول:[89]

فجأة يتوجه جميع الطلاب والمعلمين إلى الجهة الغربية [....] (خلّة سارة) بهدف تسكير الشارع لمنع اليهود أن يصلوا أم الزينات [....] أمّا نحن أبناء الصف الأول فلم يكن باستطاعتنا فعل شيء [....] كنا تحت أشجار الزيتون نبحث بين الحشائش عن [....] عين البسة ونأكلها [....] رأيت بعيني السناسل الضخمة [....] كانت تغطي مسافة تزيد عن مئة متر [....] متتالية على شكل صفوف يزيد عن عشرين سنسلة [....] عززت الاطمئنان أن اليهود لن يستطيعوا الدخول لكن، وهذه (اللكن) فيها كل مأساتي وفجيعتي، فمن ذلك اليوم لم نعد إلى مدرستنا أبداً.

نجد في هذه الصورة أيضاً صورة "المعادل الموضوعي"، فـ "السناسل" المنهارة تصبح معادلاً موضوعياً للخذلان والهزيمة والإحباط الشخصي، لعدم القدرة على الحماية أو الاحتماء. وهكذا يجمع الأسعد مِزق هذه الصورة من هنا وهناك، وأحياناً بلا حركة،[90] ليركّب لحظة الهجوم على القرية، من ذاكرته وذاكرة الأم. تلك "السناسل" تمثل أيضاً صدمة المدافعين من الأهالي بحجم القوة العسكرية الكبيرة التي اجتاحت القرية.[91]

تقول أمي: "كنا نسمع أصواتهم تتنادى (كاديما) وتنهار السناسل [....] يدوّي صوت يشبه الهدير [....] ويهرع القرويون إلى كل الجهات يتفرقون ويتجمعون [....] وكان البيت خالياً [....] لا أحد يكمل القصة [....] في حلكة الليل صحوت على أحد يحملني [....] كان صباح باكر وضباب تسميه أمي غطيطة [....]. الكتيبة الرابعة من غولاني هي التي كُلفت بتدمير أم الزينات ليلة 15 / 5 / 1948، ولكن أمي [....] لن يضيف لإحساسها جديداً ذكر الأسماء. وتظل السناسل ذات شخصية أبقى من أسماء الأشخاص.[92]

الجهد النفسي واللغوي في تكوين هذا الصورة يبدو واضحاً من خلال تراسل الحواس (الهدير؛ الغطيطة؛ يحملني) وامتزاجه بتقطعات الذاكرة وفجواتها المعتمة. "لا أحد يكمل القصة" جعلتها مثالاً لـ "صورة ذاكرة الفجوات" وهي تعادل التروما بذاتها، ففيها تتلاحم أكثر من ذاكرة، لكنها كلها مجتمعة تعجز عن التقاط صورة كاملة.

نعثر في هذه الأعمال على ثلاث "صور أيقونية" لأطفال القرية في رحلة التهجير: الأولى يبرز فيها دور المتفرج لدى سليم فحماوي قبل أيام من الهجوم على القرية، من خلال "صورة سينمائية" كاملة الأبعاد حيث سحر المكان ما زال مهيمناً:[93]

كنا نحن الصغار إخوتي وأنا نسير مشياً [....]، تارة ببطء وتارة نتراكض، وكان أبي ينهرنا لكي (نمشي مليح) بينما هو يسوق دابة محملة ببعض المتاع لنا، وكانت أمي تسير خلفنا وتحمل صرة كبيرة على رأسها فيها بعض الملابس لنا. سرنا في الطريق [....] بين مشاهد خلابة.

أمّا الثانية فهي "صورة الصدمة والتطهير" التي تُظهر أجواء التهجير خلال الهجوم على القرية، والتباس الأسعد في التعرف إلى دوره في الصورة بين اعتقاده أنه كان "متفرجاً"، وبين حقيقة أنه "الذات المتفرَّج عليها"، إذ إنه يجسد آليته الدفاعية لاستبعاد نفسه من المشهد الصادم. كما أن استعادة الصورة مكتوبة تجعله يطابق بين الصورتين، لتصبح عملية المطابقة والتحقق من الصدقية لدى الأسعد تحريراً لها عبر الكتابة:[94]

تظهر صورة طفل صغير يسير بجوار إنسانة ما، والوقت ليل والسماء تخترقها جمرات حمراء. وتعلّق أمي "لقد مشيتَ مسافة طويلة بدون تذمر." إنه أنا [....] وأكتب: "لقد ولدتُ ماشياً على قدميّ إلى جانب إنسانة مجهولة [....] ولدتُ لأول مرة سائراً تحت ليل ما، والرصاص جمر يتتابع في السماء."

أمّا لدى صبحي فحماوي فنجد صورة أيقونية مغايرة، يصبح الطفل فيها "مخفياً"، وتتحول الأم التي كانت تمارس أمومتها في المتن العام إلى "صورة الأم الأداة"[95] التي تخبّر خلف الصورة الملتقطة سرديتها الفردية وسرديتها الجماعية الغائبة:[96]

تحت زيتونتين متقاربتين كان مربط حميرنا [....] وربطتُ ساقَي الشجرتين بحبلين [....] جعلتُ منهما أرجوحة لك [....] هززتك بين الزيتونتين [....] بينما الرعب ينوح [....] داخل فؤادي، لأُبعد عنك الخوف والصدمة.

علاوة على ما سبق ذكره، فإن أيقونية هذه الصور الثلاث تأتي من كونها تعادل موضوعياً "مفترق المصائر" لأطفال وأهالي القرية،[97] وبداية تشكل "فراغ السردية" الجمعية؛ هذا الفراغ الذي يترجَم بحاجة نفسية ملحّة إلى معرفة ماذا حدث للآخرين من أهالي القرية،[98] أو بكلمات الأسعد:

"أين كنت تلك الليلة؟" كان هذا السؤال هو المحور الذي يدور حوله حديث الذين أجلوا كل شيء [....]. وتكشف رواية كل منهم أن سنوات طويلة مرت دون أن يعرف أي منهم ماذا كان الآخر يفعل في تلك اللحظة وكيف تصرف [....] لقد تفرقوا فجأة، فكل منهم صار مسؤولاً عن نفسه بطريقة أو بأُخرى.[99]

4 - "من هالمراح ما في رواح": سردية الحاضرين في غيابهم

في هذا الجزء من الدراسة، سنفحص قدرة هذه الأعمال على تقديم سردية متماسكة عن سقوط القرية من خلال تراكم وترابط الحكايات فيها. فهذه الأعمال الأربعة تشير إلى أن أخبار المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، وخصوصاً في دير ياسين وحوّاسة، كانت تصل بشكل مقصود إلى أهالي القرية لدبّ الذعر في قلوبهم، ولا سيما الروايات عن اغتصاب النساء وبقر بطون الحوامل ومقتل بعض أبناء القرية في مذبحة حوّاسة. ولذا فإن قسماً من الأهالي خرج إلى الأحراش القريبة من القرية قبل أيام قليلة من الاقتحام، أو أخرج النساء والأطفال، وعاد إليها مدافعاً. وجميع ما استطاعت القرية توفيره كان بعض المسدسات والبنادق العتيقة التي كان معظمها تالفاً، وذخيرتها "مبردة"، وهي من بقايا الحرب العالمية الأولى، وخطة دفاعية[100] بسيطة تقوم على الخنادق والسناسل وطبيعة المكان، فهؤلاء الفلاحون لم يكونوا مدربين على القتال بواسطة السلاح الحقيقي.[101] أمّا القسم الأكبر من الأهالي فظلوا في القرية، مثلما نرى من خلال سيرة سليم فحماوي الذي خرج مع عائلته قبل أيام إلى "وادي الرندة"، حيث تقع حظيرة العائلة الصيفية، وكيف التقوا في الطريق رجلاً يدعى أبا عقاب يحرث أرضه، فيسلم الأب عليه ويسأله الرجل عن وجهته، فيردّ الوالد:

والله يا أبو عقاب على باب الله ناويين إنصَيِّف مع هالعنزات [....] هاي الحصيدة إجت منرَعي العنزات هالقفار. هيانا هون جنب سماقة والبُطمة [....] ما إنت عارف [....]، فيقول أبو عقاب: "والله يا أبو علي أنا لا رايح ولا جاي، ومن هالمراح ما في رواح."[102]

يشير هذا الحوار إلى أن كثيرين من أبناء القرية ظلوا يمارسون أعمالهم متمسكين بالبقاء فيها، على الرغم من الوضع غير المستقر. وبعد يومين أو ثلاثة من هذه الحادثة يصحو سليم فحماوي على صوت أبيه يحوقل:

"راحت البلد، راحت البلد" [....] علمتُ أن الذي يحدث هو شيء مخيف رهيب مهول وفاجع [....] ولقد رأيت أمي توجّه وجهها باتجاه القِبلة وتفتح صدرها متوسلة [....] كان صوت إطلاق النار يُسمع بوضوح [....] بدأت طلائع الهاربين من الموت تصل إلينا [....] وكان هؤلاء من خلال لهاثهم ورعبهم بالكاد يقولون "اليهود هجموا عَ البلد." [....] وصل عندنا [....] جرحى أصيبوا من شظايا القنابل.[103]

بحسب هذه الأعمال، فإنه قبل ساعة من انبلاج فجر 15 / 5 / 1948، وبينما كان أهل القرية نائمين، شنّت الكتيبة الرابعة من لواء غولاني[104] هجوماً واسعاً ومطوِّقاً على القرية، "وكانت القوة المهاجمة قد أوقفت سياراتها إلى جانب تل الزعتر في وادي الملح واتجهت في صعود وادي البلاط فإلى أبو المراشح، وكان اثنان أو ثلاثة من الجواسيس العرب يرافقون تلك القوة كجواسيس، وفي نفس الوقت كان عدد من المصفحات يتمركز في موقع العليقة كقوة إسناد مدفعية."[105] وتم فتح النار على القرية من ثلاثة مواقع:

من جرن البارود من الشمال، من الظهرة الرشاشات سريعة الطلقات، نيران المدفعية من العليقة قرب بئر الهرامس، وتُركت الجهة الغربية مفتوحة عمداً لكي يفتحوا للسكان طريقاً للهرب فبدأوا يتلمسون أية طريقة للنجاة [....] وكانت مذبحة دير ياسين في عقولهم وأبصارهم [....] وكانت أم الزينات قرية معزولة بكل معنى الكلمة.[106]

يمكن أن نلمس أن سليم فحماوي لا ينسب الحكاية إلى ذاكرته الشخصية فقط، بل إلى تراكم حكايات سمعها في طفولته أيضاً، ثم استُكملت لاحقاً وتم تأكيدها. ونجد أحياناً أن الوقت يكون طويلاً حتى تلتئم أجزاء الذاكرة، فعلى سبيل المثال، فإن إحدى نساء العائلة التي يلتقيها بعد 50 عاماً آتية من بلجيكا تكمل له قطعاً من حكاية كان يعرفها في طفولته، لكنه لم يكن متأكداً من تفصيلاتها، وهي تتعلق بأحد الجواسيس العرب الذين ساهموا في الإيقاع بأهالي القرية وقتل بعضهم:[107]

بقينا صربة نسوان وولاد وبنات هازمين على طريق بير الناطف، ما شفنا إلّا إحنا بين اليهود، الشو أنا بقيت عمري عشرة حداشر سنة. والله يا ابن عمي شفته إمدد على طوله، عمي إسماعين العرف[108] طاخينه اليهود [....] عزا وأنا أتلفت شفته مع اليهود اعرفته [....] بقى دايماً يجي على بير الناطف ويسقي البقر [....] من العرب اللي بقوا كل سنة يعزبوا بطرشهم [....] ما قتلوا عمي إسماعين إلّا لأنه تعرّف على الجاسوس.

في المقابل نجد عدة قصص لأهالي ممّن قتلتهم القوات الصهيونية لإصرارهم على البقاء في القرية كقصة الحاج عبد الغني الذي لم يبارح بيته الموجود في محيط الجامع:[109]

الحاج وهو الرجل العنيد رفض أن يخرج بكل إباء [....] وإذا بثلة من القوات المهاجمة قد كسرت باب الدكان القريب [....] وبدأ أفرادها بنهب محتوياته فصرخ بهم حاملاً عكازه: "ولك إنتي وياه حرامية؟" فسأله أحدهم: "إنت ليش بعدك هون؟" فرد الحاج غاضباً: "ولك إنت بتسألني؟ ولك هاي داري [....] ولك إنتو الشو بتسووا هون يا حرامية يا سرسرية"، فصوب أحدهم بندقية إلى صدر الحاج [....] وأرداه قتيلاً [....] واستمر أفراد العصابة بنهب محتويات الدكان.

إن استشهاد الحاج عبد الغني، على الرغم من كبر سنّه، عنى لهؤلاء الفلاحين فقدان المرجعية، وكانت الحادثة مرعبة أمام الهاربين من بيوتهم، والمحتمين عند أطراف القرية. فقد منعت قوات غولاني الأهالي من البقاء في القرية، بل طردتهم بقوة السلاح،[110] حتى الذين فكروا في محاولة رفع "شدوح" (راية بيضاء): فالمختار يوسف العيسى اتخذ قراراً ارتجالياً ووقف على مفرق الحارة الغربي بين البلد والبيادر، وبدأ يحاول أن يوقف الناس، لأنه استشعر بأنهم إن هربوا فلن يستطيعوا العودة، واستطاع إقناع المئات منهم. وعلى الرغم من خوفهم، فإنهم تماسكوا محملين المختار مسؤولية قراره: "تَرى يا مختار إحنا هون، أرواحنا كلها برقبتك." وهنا يستعير سليم فحماوي ذاكرة الآخرين، فيروي هذه الحكاية عن لسان إحدى النساء، مثلما روتها لوالده:

قالت إحدى النساء فيما بعد لأبي: "والله يا عمي نشفت رياقنا"، كان مَن بقي وسمع للمختار في داخله يؤنب نفسه [....] فمنهم مَن بدأ يقرأ بعض الآيات القرآنية [....] ومنهم مَن تَشاهَد على روحه. وكانت البنادق مصوبة إلى وجوههم من جميع الجهات.[111]

لكن الضابط تفاجأ بوجودهم، فرد عليه المختار: "إنتو إشو بتساووا هون وليش بتطخوا عالبلد أرعبتوا الناس!!" لكن القائد "المتغطرس" يستهزىء بالمختار الذي كان يعرفه ويسأله: "من أنت؟" فيردّ المختار: "أنا المختار يوسف العيسى وهذول أهل بلدي [....] ومنطلب من حضرتك تبعد قواتك، الناس بدهم يفوتوا على بيوتهم وبدهم يشوفوا أشغالهم وبدهم يطعموا أولادهم"،[112] لكن القائد يسأله عن مكان المسلحين، وعندما يقول له المختار إنه لا يوجد مسلحون، وإنهم عزل، وإن القانون يحمي المسالمين، يغضب القائد ويُكذّب المختار ويهددهم بالقتل ويطردهم[113] في اتجاه الغرب تسوقهم عصابته بقوة السلاح. لكن بعض المدافعين لم يسلّموا بالهزيمة، فقد عاد عدد منهم إلى أم الزينات في الصباح التالي:

تروي أمي أن أحدهم عاد إلى بيته بكل بساطة كأن اليهود غير موجودين، أو كأن أحداث الليلة السابقة لم تكن إلّا حلماً، فاصطدم باليهود وطاردوه بين أحراش الزيتون، فظل يشاغلهم ببندقيته الوحيدة بدون أن يدرك أنه يواجه كتيبة [....] وأخيراً اضطر إلى الهبوط في بئر، وظل هناك طيلة النهار.[114]

انتشرت العصابات في حارات القرية تفتش البيوت عن الناس وعن نقود وحلي في الخزائن، وبقيت الدوريات في القرية تطلق النار عشوائياً، وقد عاثت نهباً وتخريباً في الأملاك،[115] حتى الأشياء التي لم يأخذوها كسروها ودمروها، وتعمدوا تخريب المؤن مثل الحبوب والزيت والملح. وعلى الرغم من حرص الأهالي على البقاء قريباً من القرية، فإن التسلل للاطمئنان على البيت، كان غالباً يعني الموت، إذ قامت العصابات الصهيونية بزرع الألغام لكي تقتل كل مَن تسوّل له نفسه محاولة العودة. أمّا الأهالي الذي بقوا أشهراً مختبئين في الأحراش، فحُرموا من جني محصول وحصاد الغلال، والذين حاولوا لاحقاً العودة، مثلاً، إلى خلّة "أم البنادق" المزروعة بالتبغ،[116] فكان نصيبهم القتل من مسافة قريبة بدم بارد كقصة صالح الحردان ابن الستة عشر ربيعاً، وقصة المسنّ الثمانيني علي الكمّ الذي ملأ صفيحتين من ثمار الصبر إلى جانب "سيح الحاج"، فلحقته المصفحة وأردته قتيلاً أمام زوجته المختبئة بين الشجيرات، وكان قاتله "عربياً قحّاً"، مثلما قالت الزوجة لاحقاً.[117]

هكذا كرست القوات الصهيونية لدى الأهالي فكرة العودة المرتبطة بالموت،[118] وفي الوقت نفسه بدأ جهد القوات الصهيونية ينصبّ على تغيير الحيّز المكاني عبر "الهدم والبناء"؛[119] هدم العصابات لمعظم بيوت القرية ومسجدها ومدرستها، واستكمال "الشوباصية"[120] لاحقاً المهمة[121] لبناء مستعمرة أقيمت على جزء من أراضيها[122] واستعمال الحجارة لهذا الغرض، فسُرقت "جسور الحديد المستعملة في سقوف البيوت والأحجار المنقوشة."[123] ويتجاوز هذا النوع من السرقة جميع السرقات المادية، فهو سرقة "جسد المكان" بعد قتله وهدمه، إذ إن البيت هو جسد وروح،[124] وفي هذا السياق ينقل لنا سليم حواراً دار بين والدَيه عن هدم بيتهم الإسمنتي الجديد الذي لم يحظوا بالانتقال إليه:[125]

البلد راحت خلص! [....] اليهود هدّوها، ورداخ عليكي أم الزينات!!! فتقول أمي بذعر: عزا كيف هدّوها [....] شحار يشحّرنا [....] إتروح العرب إطُّم حالها. فيقول أبي: ولك المسألة خلصت لا عرب ولا صرامي [....]، هدّوا الكل والقليلة، المدرسة هدّوها والجامع هدّوه [....] بجيبوا ماسورة غليظة، بفوّتوا راس الماسورة في النقرة، كلهم بشدوا [....] ما بتشوفي المالية إلّا انهدت.

علاوة على ذلك، نجد إشارة إلى رمي العصابات الصهيونية جثث الشهداء داخل آبار الماء في القرية، وقد اكتشفها الأهالي خلال تسللهم، إذ رأوا الجثث حول آبار الماء، مثلما يروي الأسعد عن لسان أمه: "كنا نشاهد جثثاً على جوانب الآبار وفي الطرق"، فقد ضل كثيرون طريقهم واصطدموا بكمائن صهيونية متربصة عند الآبار ومنعطفات الطرق المعروفة، ولذا اختار الأهالي الطرق الوعرية والطرق التي لا ماء فيها سوى الندى، كما ينقل عنهم الأسعد، إذ "حين كان الأطفال يعطشون، كنا نجمع الندى بأكفنا من أوراق الشجر ونسقيهم."[126]

تشير هذه السِّيَر أيضاً إلى معضلة الترحيل التي حاول بعض أبناء القرية الهروب منها بالاستمرار في الاختباء في الأحراش بين أم الزينات ودالية الكرمل[127] التي طلبت القوات الصهيونية من سكانها أن يطردوا اللاجئين الذين ملأوا بالآلاف "مارس البير" عند المدخل الجنوبي للقرية، أو الرحيل الموقت انصياعاً إلى ما كانت تبثّه "الإذاعة العربية". وقد ولّد هذا الأمر نقاشات حادة بين أفراد العائلات أنفسهم:[128]

لأول مرة أرى نقاشاً حاداً بين أبي وعمي [....] يردّ أبي عليه: "والله أنا مآيس وبديش أطلع من هون وللي كاتبه الله بصير!" [....]. "طيب، عقلك براسك بتعرف خلاصك. [....] إنت يا محمد بدك نظل هون عشان اليهود يذبحونا، وإن ما ذبحونا اليهود، إمبكرة لما بيجوا العرب بدهم يقولوا عنا خون، وهم بإديهم بدهم يذبحونا."

وتشير هذه الأعمال إلى كيف تم الغدر بالذين استقلوا الباصات المنظمة، فقد توقفت هذه الباصات في "معسكر المنصورة"، فصعد الجنود شاهرين بنادقهم ونهبوا متاع الأهالي الثمين من مصاغ ومال ووثائق، ثم جمعوا الرجال فوق السادسة عشرة إلى الستين، وكان بينهم أكثر من عشرين رجلاً من أم الزينات، فكبّلوهم وساقوهم كالخراف وأطلقوا النار فوق رؤوسهم لدبّ الذعر فيهم، وقتلوا بعضهم. وظل هؤلاء أسرى ثمانية أشهر ونصف شهر، أمّا مَن هم دون السادسة عشرة والنساء فقطعت بهم الباصات مجدّو إلى مشارف قرية "تْعِنّك" حيث "كبّوهم" بلا رحمة،[129] مثلما قالت جدة سليم له فيما بعد:

فاجعة ستي سعاد كانت أشد قسوة ومرارة، فقد فقدت جدي في انفجار اللغم [....] والآن أخذوا أبناءها [....] للأسر [....] كانت ليلة أمس قد خبأت كل تحويشة العمر داخل (دوشكة) طراحة لم تستطع أخذها [....] وهناك قرب تعنك حل عليهم الليل وليس معهم زاد أو ماء ولا فرشة ولا غطاء [....] صاحت النساء وانتحبن [....] وبالقرب منهن [....] كانت ترابط ثلة من أفراد الجيش العربي.[130]

5 - "فلسطين حملها الغول على ظهره وأخذها":

تلاميذ "لامرئيون" و"تشييء" التلميذ اللاجىء

بدأ الأطفال في العامَين التاليَين للنكبة يواجهون مسألة العودة إلى مقاعد الدراسة. ففضلاً عن الفقد والعوز وانعدام الأمان وشعورهم بتهديد حياتهم المستمر نراهم يحاولون التكيف والدراسة ضمن سياق مجتمعي مختلف عنهم، في مكان جديد،[131] الأمر الذي عرّض كثيرين منهم للنبذ والذل والعنف. إن التجارب المدرسية تحتل مكاناً مميزاً في السِّيَر الذاتية، "فهي صور مصغرة عن المدن أو البلدات"،[132] ومن خلالها يمكن قراءة تشكل هوية الطفل في المكان الجديد. وفي هذه الأعمال يمكننا التمييز بين تجربتين مدرسيتين: تجربة سليم فحماوي المهجر الذي استقرت عائلته في قرية دالية الكرمل المجاورة لقرية أم الزينات، والتجارب الثلاث الأُخرى في مخيمات اللاجئين.

يسرد سليم فحماوي أنه قبيل استقرارهم في قرية دالية الكرمل عاشت العائلة فترات طويلة في الأحراش، ومنها في جبل "بحيبش" حيث كان يرى البحر ويمارس هوايته "الحزينة" مقلداً والده بشكل سينمائي وهو يشير إلى الاتجاهات ويعرّفه إلى أسماء الأماكن المحيطة[133] حتى حفظها عن ظهر قلب. كان ابن الأعوام الستة يشعر بالحنين إلى مدرسته ويحاول أن يراها من موقعه، وتكبر في ذهنه الأسئلة فيحاول الإجابة عنها بنفسه: الاختباء بين الأحراش والهمس خوفاً من أي هجوم؛ بلور شعوره بأنه حين يكون "لامرئياً" وصامتاً يكون محمياً ولو موقتاً. لكن هذا الشعور بدأ يتصارع مع مشاعر الوحدة، على الرغم من استمرار مرور أفواج هائلة من المهجرين في الأحراش. ويتضح صراعه مع "اللامرئية" عندما يسمع بعض أولاد قرية دالية الكرمل من الدروز يلعبون في منطقة قريبة، فيراهم لكنهم لا يروه، ويفهم أنه لا يستطيع المشاركة في اللعب، فهم لم يمروا مثله بتجربة التهجير. لقد كان اختلاف التجربة في وعي الطفل سبباً كافياً لأن يكون مختلفاً في كل شيء آخر:[134]

أتمنى أن أكون معهم، ولكنني لا أعرفهم ولا يعرفونني [....] كنت أستأنس بهم [....] يبدون منسجمين مع بعضهم البعض [....] اليهود لم يحتلوا بلدهم الدالية أمّا أنا فقد احتل اليهود بلدنا وطردونا [....] أنا هنا ولا يوجد ولد واحد ألعب معه [....]، وهم يلهون وأحياناً يتصيدون العصافير بالنقاقيف.

هذه المشاعر، فضلاً عن الشعور بالاغتراب والذنب، بدآ يظهران عقب الاستقرار في دالية الكرمل. فبعد شتاءين من النكبة انتسب سليم إلى المدرسة في الصف الأول لأنه لم يجتز قراءة مقطع "را"، ذلك بأن خليط المشاعر التي يطلَق عليها وصف "الخجل" سيطر عليه، فقرر المدير: "بدنا إنحطك في الصف الأول [....] لكن إنتي صرت زلمة":[135]

دخلت الصف الأول وأنا أشعر بالذنب والخجل [....] وإذا بجميع الأولاد يوجهون إليّ نظرات كلها استغراب واستهجان [....] وتبيّن لي أنني أعرف هذا الدرس، فقد تعلمته في مدرسة بلدنا أم الزينات، على يد الأستاذ (أبو الصادق) الذي كان أحياناً يضحكنا [....] خلال أيام قليلة تقدمت في دروسي بشكل جيد [....] وبعد ذلك ظللت إلى زمن طويل أشعر بالخجل والندم، لأنني في اللحظة الحاسمة لم أستطع أن أقرأها حسب الأصول.[136]

وعلى الرغم من حماية أهل قرية دالية الكرمل للمهجرين، فإن أم سليم كانت توصيه كل يوم بقولها: "ها يما إحنا هون (غُرب) مش تتقاتل مع لولاد." فهم سليم من طلب أمه هذا أن عليه أن يصبح "مسيحاً" يدير خده الأيسر، وليس من حقه أن يدافع عن نفسه، وأن يتقبل الذل للاستمرار في البقاء تحت الحماية:

كبرت حيرتي وكبر العذاب في نفسي [....] حنين حزين يعصرني عصراً [....] يشدني إلى بلدي أم الزينات إلى مدرستي ورفاقي، وكنت أحس بالقهر والذل يسحقانني سحقاً، فأخذت قراراً مع نفسي لن أعود إلى المدرسة.[137]

فقد تناوبت مجموعة من الأولاد الأكبر سناً منه على إذلاله ومهاجمته وشتمه كونه "لاجئاً"، وكان يتذكر كلام أمه فلا يرد، ويتعمد أن يخرج من المدرسة ما إن يدق الجرس اتقاء لشرور الأولاد، إلى أن هجم عليه أحد الأولاد هجوماً بالغاً، فقرر ترك المدرسة. ويدور نقاش بين والدَيه، فالأم تقول بحيرة: "هسا الولد بدو يطلع بدون علم"، فيردّ الأب بحزن: "ولكْ إحنا لو ظلينا ببلدنا كان بخلي ولد بدون علم." فترجو الأم بإصرار، لكن الأب يعيدها إلى الواقع الجديد: "ولك إنتي وين محسبي حالك؟ بم الزينات!!! ولك إنت عارفة البلد شو قاعد بصير فيها!! ولك الناس قاعدي إبتتقتل عالدروب."[138] لكن سليم بقي "مْتَنّح" ورفض العودة إلى المدرسة على الرغم من محاولات أمه، وبدأ يربط بوعي ابن السابعة أو الثامنة بين معنى "أن تذهب فلسطين" وأن يفقد الدراسة:

فكوني لم أتعلم هو غصة [....] مهما حييت [....] لو أني تعلمت أكان من الممكن أن أُرجِع فلسطين؟ [....] اليهود أخذوا أم الزينات [....] أمّا فلسطين؟! [....] كنت أحياناً أعتقد أن فلسطين حملها الغول على ظهره وأخذها [....] كما في الحكاية [....] ووضعها في قصره في الغابات البعيدة.[139]

ويتراكم لديه شعور بالذنب الدائم يجعله يربط بين الفقدانَين. ويتعاظم الشعور بالذنب بعد غضب أمه من قراره ترك المدرسة هذا وقولها له: "أنجق باقي بدك ترجّع فلسطين":[140]

لو تعلمين ما الذي فعلته تلك الجملة في نفسي، إنها لم تزل تعذبني، إنها أكبر مني، أكان من العدل يا أمي أن تضعي على كاهلي حمل أم الزينات الثقيل؟ [....]، حملت فلسطين صليباً على كتفي [....] أهي مشيئة القدر أن تضيع فلسطين وتضيع مني الدراسة في آنٍ واحد!

في منتصف الخمسينيات يتعرّف سليم إلى صحيفة "الاتحاد"، إذ كان أخوه الأكبر علي، يقرأ له هذه الصحيفة خلال رعيهما قطيع الماعز في مراعٍ قريبة من القرية المهجرة. لقد كان أخوه مرجعيته الثقافية والسياسية، وكان يحدّثه عن الشعر الجاهلي، وأخبار الصحابة والسيرة النبوية، والأساطير. ومن خلال الجريدة وخلال الرعي تعلّم وحده القراءة وتعرّف إلى المقالات السياسية. أمّا الكتابة فتعلمها ذاتياً خلال الرعي خلسة عن والده:

في البداية كنت أستعمل الحجارة [....] فأرسم على البراميل [....] طيوراً وماعزاً وأشجاراً وجنوداً وبنادق ورشاشات [....] وأكتب أسماءها تحتها [....] ثم اشتريت بعض الدفاتر والأقلام [....] وخلسة أقطع من وسط الدفاتر ما نسميه "طلحية" [....] وعندما يهدأ القطيع [....] أبدأ أكتب [....] أسماء الوديان، الآبار، الخرب [....] كنت في المساء أفتح الكتب وأقارن [....] لأتأكد من صحة إملاء كلمة.[141]

يمكننا القول إن سبب عدم تأقلمه المدرسي ليس شعوره بعدم الأمان فقط، بل لأن ما كان يتعلمه في تلك المدرسة لم يكن يلبي حاجته، وغير مرتبط بما يشغله وما كان مسكوناً به، فتجربة النكبة كانت غائبة تماماً في مدرسته الجديدة، ولا ذكر لها بتاتاً، كأنها لم تكن. لكنها لم تكن غائبة في داخله، فضلاً عن شعوره بأنه مهاجَم بشكل دائم، وشعوره بالمسؤولية عن ضمان أمان عائلته بعدم الرد؛ فيقول: "كنت أتألم من تلك الإهانات، وأنا القادر على ردها، ولا أردها لأنني لاجىء ولأني غريب، والغريب يجب أن يكون أديباً."[142] فكان اعتزال المدرسة هو تمسّك بلامرئيته، لاستيعاب الصدمة واستعادة ذاته وتشكيلها، وبذلك أصبح تلميذاً وراعياً "لامرئياً" يتعلم في مدرسة ذاتية مكانها الأحراش / مراعي أم الزينات،[143] صمم مناهجها بنفسه واختار ما يحاكي تجربته. وربما تجربة الرعي - تلك التي مارسها جميع الأنبياء قبل النبوة - كانت الأفضل لمثل هذه الغاية التي تتمثل في التعلم الذاتي، كأنه يعادل في ذلك فلسطين نفسها التي هُدمت بنيتها الثقافية وكان عليها أن تشكلها من جديد على أنقاض نكبتها.

أمّا اللجوء خارج الوطن فتجارب المؤلفين تكرس شعورهم ضمن ثلاثة روافد: "تشييئهم" من طرف المنظمات والمؤسسات؛ فوقية وشفقة من جانب المجتمعات التي لجأوا إليها؛ تحفيزهم على التعلم من طرف أهلهم، وتقوية السردية الفلسطينية لديهم من جانب معلميهم.

الشعور الأول للأطفال الذي تنقله لنا هذه الأعمال منبثق من التعامل معهم كمجموعة مع تغييب فردانيتهم وشعورهم بأنهم "أشياء"، فنجد وصف الأسعد لتجربته في المدرسة في مخيم قرب جنين:

كأنما قرر الجميع اكتشافنا ومعرفة ما نخبّئه. ومع ذلك فلا أتذكر أنهم كانوا يخاطبوننا أو يسألون عن أسمائنا. وحتى عندما اختاروا بعضنا لنقله إلى الصفوف التالية وضعونا في ثلاثة صفوف كنت في الوسط منها [....] فتتجاهلني المدرّسة وتنظر خلفي وتشير إلى أحدهم [....] وبقيت في الصف الأول. يدهشني حتى اليوم لماذا لم يقع الاختيار عليّ.[144]

يظهر "التشييء" أيضاً في التركيز على إعادة تأهيل جسدهم من طرف وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى ("الأونروا") وتجاهل مشاعرهم، فقد حرصت "الأونروا" مثلاً على إجبار التلاميذ كل صباح على أن يشرب كل واحد منهم ربع لتر من الحليب المجفف المخلوط بالماء، فكرهوا ذلك الحليب وأصبحوا لا يطيقون مجرد رؤيته، مع أن فطورهم كان كسرة خبز وكأس شاي لا غير.[145] وكي يصبحوا "صالحين" للاندماج في الحياة، فإنه كان مفروضاً على مدير المدرسة أن يرشّهم بمبيد حشري سام،[146] وأن تُحْلق شعورهم إلى درجة الصفر (على نفقة أهاليهم)، الأمر الذي يصوره صبحي فحماوي في هذا المشهد:

كنت أقف في صف المدرسة [....] طلب الدكتور من [....] مدير المدرسة أن يرش الطلاب بمبيد دي. دي. تي، كانت تأتيه تعليمات برشّه على أجساد الطلاب، داخل ملابسنا، وعلى رؤوسنا، [وفقاً] لتعليمات الوكالة، التي تنص على أن يحلق الطلاب شعورهم على درجة الصفر.[147]

ويصف واصف منصور وصولهم إلى مخيم الفارعة والجوع في الخيمة التي حوت سبعة أفراد من العائلة، واجتهاد الأمهات في العثور على البقول لسلقها مع الملح لسدّ رمقهم. ويصف تفصيلات حاجتهم وفقرهم ونومهم متلاصقين في خيمة صغيرة، وتحويل الأمهات البطانيات إلى ملابس. لكن إصرار أهاليهم على إتمامهم للدراسة كان أمراً مفروغاً منه على الرغم من الظروف شبه المستحيلة، ويظهر هنا فكر بدأ يتبلور لدى الأهالي له ركيزتان: أن تحسين الظروف الاقتصادية لا يمكن أن يحققه اللاجىء إلّا بالتفوق العلمي، وأن طريق العودة غير ممكن من دون بناء جيل متعلم، مثلما يصور واصف منصور:[148]

ليس من حق أحد أن يسألنا كيف كنا نراجع دروسنا التي حرص جميع أولياء الأمور على وجوب متابعتها، انطلاقاً من أمرين: قناعتهم يأن اليهود انتصروا علينا بالعلم [....] وقناعتهم بأن العلم [....] أهم وسيلة لكسب الرزق والخروج من هذه الوضعية القاسية والمهينة [....] تتم مراجعة الدروس في النهار تحت ضوء الشمس [....] القيام بالواجبات الأُخرى كان بصعوبة بالغة [....] بأوقات وأوضاع غير طبيعية.

أمّا المدرسة فيمكن أن نرى وصفاً لها من خلال ما يرويه واصف منصور:[149]

كان التلاميذ متفاوتي الأعمار [....] كان عمري أقل من ست سنوات وكان عمر بعض التلاميذ يفوق العشر سنوات [....] كل مَن وصل سن التمدرس فيما بين سنتَي 48 - 51 لم يكن بإمكانهم الدراسة [....] المدرسة عبارة عن خيمة كبيرة عالية، تفيض عليها مياه المطر وتتجمع تحت أرجل التلاميذ [....] الحافية.

نظرة الشفقة الغربية إلى اللاجئين كانت في المجمل، ومثلما تصورها هذه الأعمال، تتسم بالفوقية وعدم التفهم الحقيقي لظروفهم. فمثلاً المساعدات السنوية التي كان يتلقاها الأطفال اللاجئون في المخيمات كانت بعيدة عن حاجات الأطفال الملحّة، بل قُدّمت لهم مجموعة من الأشياء المستعملة، كأن يتبرع بعض الغربيين بملابس ذويهم، بعد موتهم،[150] وكان عليهم التكيف مع ما يُقدّم إليهم، وليس العكس:

وفي كل سنة كانت الأونروا توزع صرّة يسميها الناس (البقجة) [....] ومن طرائف البقجة أنها كانت أحياناً تحتوي على عدد كبير من ربطات العنق [....] الأحذية النسائية ذات الكعب العالي، وملابس من مقاسات كبيرة جداً [....] ومع ذلك كان اللاجئون مضطرين للاستفادة من محتويات البقجة وتكييفها.[151]

وكانت الأحذية أكثر ما يحتاج إليه الأطفال، وكانوا يعودون حفاة بعد تجربة الاحتذاء التراجيدية لأحذية البقجة التي لا تناسب مقاساتهم، مثلما يشير صبحي فحماوي:[152]

عاد أخي [....] في نهاية الدوام، وقد فجرت رجلُه الحذاءَ تفجيراً، فأطلت أصابع قدمَيه من بين النعل والجلد [....] خلعه، فكانت كلتا رجليه تنزفان دماً! [....] وعاد أخي إلى المدرسة مثلنا، حافياً بلا حذاء.

هذه التجارب انطبعت عميقاً في نفس هؤلاء الأطفال، وبقيت تلاحقهم في كبرهم، وفي أحلامهم وكوابيسهم:

خجلي من كوني قضيت عمري السابق حافياً، ما زال يطاردني في أحلامي حتى اليوم، إذ كثيراً ما حلمت أنني ذاهب إلى امتحان البكالوريا، وأنا حافي القدمين.[153]

على الرغم من الحكايات التي تسرد تعاطف سكان الأماكن مع اللاجئين عامة،[154] فإن نظرة طبقية فوقية أُخرى كانت تمارَس تجاههم من طرف بعض سكان الأماكن التي لجأوا إليها،[155] فحواها أن طموحهم يجب أن يقف عند سدّ حاجاتهم الأساسية، لا أكثر. ومن ذلك قصة محاولة واصف منصور أن يقطف من أحد البساتين في جوار المخيم وردة، فيمسك به صاحب البستان ويضربه "قتلة طبقية" مثلما يسميها واصف منصور:[156]

لم أكن أتألم من الضرب يل من الكلام الذي كان يردده وهو يضربني: "يا جوعان يا ابن الجوعان، بدلاً من أن تسرق لك حبة باذنجان تأكلها جئت تسرق وردة؟ هل حصلت على كل شيء ولم يبقَ لك إلّا الورد؟" [....] اعتبرته اضطهاداً طبقياً يحرم اللاجئين من حق التمتع بالجمال.

في مقابل حرص المعلمين في المدرسة على تثبيت السردية الفلسطينية وتكريسها، وعلى الرغم من مركزية حضور الأم والأب في هذه الأعمال، فإننا نلحظ انتباه الأطفال لتحول الآباء إلى آباء أكثر تطلباً وشدة مع أبنائهم، فقد كان على هؤلاء المؤلفين - الأطفال العمل إلى جوار الدراسة، أو مساعدة الآباء في الفلاحة لساعات طويلة، أو الحراسة الليلية للمزروعات، كما أن الآباء توقّعوا منهم أن يحققوا نجاحات علمية مفهومة ضمناً. فهؤلاء الآباء انعكست ظروفهم الجديدة على شخصياتهم ونظرتهم إلى الأشياء، إذ أرادوا تربية جيل عصامي متعلم وقوي يصف واصف منصور أفراده بأنهم متمردون أحياناً، فهم على الرغم من شجاعتهم عاطفيون تدفعهم عاطفتهم إلى البكاء، ويحبون الأبطال ويعشقون الماضي ويتذكرونه، ويشعرون بعدم الأمان وبالشك الدائم. لقد كان الأطفال يستشعرون ما طرأ على آبائهم، ويظهر ذلك في تساؤلات الصغار لأمهاتهم:[157]

قالت أمي: "لم يكن أبوكم يلبس في أم الزينات، غير أحسن الأحذية الجلدية الأصلية [....] وكانت جراباته حرير حلبي، وقمبازه من الساتان الروزا المقصب الشامي [....] كان لنا [....] بيت من حجر، وبقر هولندي [....] ومزرعة الظهرة مئتي دونم مشَجّرة [....] كان يدللنا ويلاعبنا [....] ولكن الصدمة التي أكلناها في عيشتنا، غيرت مفاهيمه، فتغضّن وجهه [....] وصار من شدة الحزن والخوف، يحسبها بالتعريفة."

فضلاً عن ذلك يكتشف هؤلاء الأطفال شعور أمهاتهم الدفين بالعجز عن العودة، مختلطاً بالندم والحنين، وخصوصاً أن العائلات تمزقت، فبعض أفرادها بقي داخل الخط الأخضر، والبعض خارجه:[158]

يؤثث ذاكرتي في ليل مخيم الفارعة [....] بكاء أمي الصامت [....] حيث كانت تبكي من جهة حزناً على تبدل الأحوال [....] وكانت تبكي حزناً على فراق سيدي موسى [....] الذي بقي وأسرته في حيفا [....] كانت تبكي لأننا لم نسمع كلام سيدي موسى ونصيحته بالبقاء على أرضنا مهما كلف الأمر [....] جدتي ظلت [....] منزعجة لأنها تركت دجاجاتها في الحوش دون علف.

الشعور بالندم والعجز لدى الأمهات ازداد مع الزمن، فالحنين لم ينقطع، مثلما يروي محمد الأسعد عن أمه: "سيكون عليّ بعد سنوات أن أسمعها تردد بحسرة: 'ليتنا متنا هناك ولم نأتِ إلى هذه البلاد'."[159]

خلاصة: خارج المكان، داخل المكان، وما بينهما

أ) من الكتابة عن النكبة إلى كتابة النكبة

يمكننا القول إن هذه الأعمال عكست قدرة السيرة الذاتية الروائية على تجسيد ما هو غائب واستحضاره، فاستطاعت اللغة أن تستعيد نسيج هوية نابضة بالحياة لقرية أم الزينات المهدمة باستحضارها للمكان ببعده الجغرافي واللغوي والثقافي متشابكاً بهوية الساكن الفلسطيني الأصلاني. وعلى الرغم من تعدد مصائر أهالي القرية، ومرور عقود بين حدث النكبة وزمن تدوين هذه الأعمال، فإن ذاكرة المؤلفين لم تنسَ ما مروا به أو سمعوه[160] كأطفال؛ الصدمة لم تمحُ الحنين، واللجوء لم يطغَ على الانتماء الهوياتي إلى القرية، فحفرت هذا الأعمال بواسطة اللغة المكتوبة "ديوان" نكبتها وسرديتها المتماسكة. لقد باتت هذه الأعمال تعكس التحول في الكتابة الفلسطينية من الكتابة عن النكبة إلى كتابة النكبة، خلافاً للتجربة الشعرية التي سيطرت على المركز الأدبي الفلسطيني حتى ثمانينيات القرن الماضي. ففي هذه الأعمال يقارب الفلسطيني بطريقة مباشرة نكبته، ويمتحن قدرة أدوات السرد اللغوية على سرد تجربته غير اللغوية.

 ب) من الكتابة عن الذات إلى كتابة الذات

أهمية هذه الأعمال مقارنة بالشهادات الشفهية تكمن في أن المؤلف هو مَن يقوم عليها بنفسه واعياً بدوافعها وصعوبتها، مقارنة بالمرويات الشفهية التي كان في الغالب جامعُها أو القائم عليها هما الباحث والمؤرخ أو المهتم. إن كتابة الحكاية الذاتية في سياق النكبة هو عملية مضادة للتأريخ التقليدي الذي يسبق عادة الأدب، فالرواية التاريخية التي غُيبت تتم استعادتها بالحكاية الذاتية، وهكذا يصبح النص المكتوب فوق التاريخ وسابقاً له، وتصبح السيرة الذاتية الروائية قادرة على الحضور في الحيز العام ومتاحة لكل قارىء، وهذا بخلاف النص الشفهي أو التاريخي، كما يمكنها أن تحضر في برامج التدريس تحت مظلة الأدب في غياب قدرة النصوص التاريخية أو الشفهية على ولوج تلك البرامج.

 ج) من غياب الحضور إلى حضور الغياب

كتابة هذه الأعمال مؤشر إلى استبدال أدوات الصراع والمقاربة بعد الانتفاضة الأولى وأوسلو، فإذا كان الاختفاء و"اللامرئية" آلية المهجرين في الخط الأخضر للتعامل مع الفقدان بعد النكبة، فإن هذه الأعمال تشير إلى ازدياد حاجتهم في العقود الثلاثة الأخيرة إلى استحضار سرديتهم مكتوبة، منشورة وعلنية في حيزهم، وهي أيضاً مؤشر إلى حاجة المهجرين خارج الخط الأخضر إلى إبراز فردانيتهم وتسليط الضوء على اختلاف قصصهم الشخصية، وتعدد مصائرهم، وحاجتهم إلى الخروج من دائرة "التشييء"، إذ يُنظر إليهم كقضية كبرى فقط.

 د) شاهد حي على هامش التاريخ

تاريخياً، هذه الأعمال هي شاهد حي على الوجود الفلسطيني الإنساني والاجتماعي والثقافي والمؤسساتي، وهي تشكل في تراكمها شاهداً على ما تعرّض له الأهالي - وبتخطيط نفسي وعسكري مسبق - من التهجير القسري والقتل والترويع والترحيل، ومنع العودة إلى قراهم بعدة استراتيجيات، كزراعة الألغام والقتل والنهب والتخريب وهدم البيوت. وهي أيضاً شاهد على الترحيل (ترانسفير) تحت وطأة الصدمة والترهيب الصهيوني والترغيب العربي، وعلى الثقة الفائضة بالجيوش العربية المرابطة في قرية اللجون القريبة منها، والمجازفة وركوب "باص" الترحيل، ظناً منهم أن العرب بعد الانتصار القريب سيتهمونهم بالخيانة والتواطؤ إذا ما بقوا. هذه الأعمال تشير إلى أن القرية دافعت بقواها الذاتية عن نفسها وبأساليب حماية بسيطة، كحفر بعض الخنادق وبناء "السناسل" وشراء بعض السلاح الذي اتضح لاحقاً فساده، كما أنه لم يتم إمدادها بأي سلاح وكانت معزولة جغرافياً، غير أن موقعها الجغرافي كان سبباً أيضاً في الإصرار الصهيوني على الدفع بقوات هائلة ومدججة لاحتلالها، لأن الاستيلاء عليها يعني الاستيلاء المطلق على الطريق بين الشمال والمركز.

 ه) تلك الذاكرة المدهشة

لا يمكن إلّا أن نسجل أننا خلال هذا البحث قمنا بالاطلاع على عدة روايات شفهية، وقارناها بالنصوص المكتوبة لمطابقتها. إن ذاكرة هؤلاء، على الرغم ممّا مروا به -وربما بسبب ما مروا به - تمثل القدرة الإنسانية على حفر التجربة والاحتفاظ بها عميقاً، كما تدل على عمق المأساة وعمق الفقدان وعمق الحنين الذي لا يمكن لأحد محوه.

 

المراجع

 

بالعربية

إبراهيم، رشيد. "الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين: مذكرات رشيد الحاج إبراهيم، 1891 - 1953". تقديم وليد الخالدي. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2005.

الأسعد، محمد. "أطفال الندى". لندن: رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، 1990.

إغبارية، أيمن وعماد جرايسي. "النيوليبرالية في جهاز التعليم العربي في إسرائيل: الدولة الصلبة والدولة الرخوة وبسط السيطرة". حيفا: مدى الكرمل، 2021.

 بابِهْ، إيلان. "التطهير العرقي في فلسطين". ترجمة أحمد خليفة. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2007.

باشلار، غاستون. "جماليات المكان". ترجمة غالب هلسا. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط 2، 1984.

برقاد، أحمد. "تعالق السيرة الذاتية بتخوم الأجناس السردية". "مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية"، العدد 38 (2018)، ص 33 - 44.

بشارة، عزمي. "العربي الإسرائيلي: قراءة في الخطاب السياسي المبتور". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 24 (خريف 1995)، ص 26 - 54.

بيدس، رياض. مراجعة لكتاب "ذاكرة لا تموت" لوديع عواودة. "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 48، (خريف 2001)، ص 165 - 167.

تقرير الرصد السياسي لمدى الكرمل (رقم 7)، 12 حزيران / يونيو 2010، ص 8 - 11، في الرابط الإلكتروني

تماري، سليم. "تأريخ النكبة: اتجاهات بحثية جديدة". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 121 (شتاء 2020)، ص 124 - 130.

جمّال، أمل وسماح بصول. "النكبة الفلسطينية في الحيز العام الإسرائيلي: جذور الإنكار وذرائع المسؤولية". ترجمة علاء حليحل. بيروت مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 2017. 

جنيت، جيرار. "خطاب الحكاية: بحث في المنهج". ترجمة محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي. القاهرة: المشروع القومي للترجمة، ط 2، 1997. 

الجيوسي، سلمى الخضراء (تحرير). "موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر". الجزء الأول. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1997. 

حافظ، صبري. "إميل حبيبي وسرد إحياء الذاكرة الفلسطينية". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 27 (صيف 1996)، ص 110 - 133. 

الحوت، شفيق. "عشرون عاماً في منظمة التحرير الفلسطينية: أحاديث الذكريات (1964 - 1984)". بيروت: دار الاستقلال للدراسات والنشر، 1986. 

الخالدي، وليد. "كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948، وأسماءُ شهدائها". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 1997. 

خوري، إلياس. "أولاد الغيتو – اسمي آدم". بيروت: دار الآداب، 2016. 

الدباغ، مصطفى. "بلادنا فلسطين". كفر قرع: دار الهدى للطباعة والنشر، 1991، المجلد 7. 

سعيد، إدوارد. "خارج المكان (مذكرات)". ترجمة فواز طرابلسي. بيروت: دار الآداب، ط 1، 2000. 

شرف، عبد العزيز. "أدب السيرة الذاتية". بيروت: مكتبة لبنان والشركة المصرية العالمية للنشر، 1992. 

الشيب، ندى. "فن السيرة الذاتية في الأدب الفلسطيني بين 1992 - 2002" (أطروحة ماجستير). نابلس: جامعة النجاح الوطنية، 2006. 

عاشور، ياسر. "الأرشيف الفلسطيني... مَن ينقذ ما تبقّى". "جدلية"، 15 أيار / مايو 2019، في الرابط الإلكتروني. 

عباس، إحسان. "فن السيرة". عمّان: دار الشروق؛ بيروت: دار صادر، 1996. 

عرفات، جميل. "من ذاكرة الوطن: القرى الفلسطينية المهجّرة في قضاء حيفا". الناصرة: المؤلف، د. ت. 

العسل، عصام. "فن كتابة السيرة الذاتية: مقاربات في المنهج". بيروت: دار الكتب العلمية، 2010. 

غانم، هنيدة (2013). "المحو والإنشاء في المشروع الاستعماري الصهيوني". "مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 96 (خريف 2013)، ص 118 - 135. 

غنايم، محمود. "بين الشهادة التاريخية وأسطرة الواقع: القصة القصيرة الفلسطينية في ظل الحكم العسكري في إسرائيل". في "الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل في ظل الحكم العسكري وإرثه". تحرير مصطفى كبها. حيفا: مدى الكرمل، 2014، ص 115 - 131. 

عميت، غيش. "بطاقة ملكية: تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية". ترجمة علاء حليحل. عمّان: الأهلية للنشر والتوزيع؛ رام الله: مدار، ط 1، 2016. 

فحماوي، سليم. "ذكريات ومفارقات: أحزان الراعي". كفر قرع: دار الهدى للطباعة والنشر، 2009. 

فحماوي، صبحي. "عذبة". بيروت: دار الفارابي، 2005. 

فحماوي – وتد، عايدة. "في حضرة غيابه: تحولات (قصيدة الهوية) في شعر محمود درويش". باقة الغربية: مجمع القاسمي للغة العربية، 2013. 

فرو، قيس. "كيف يخدم التاريخ الشفوي التاريخ الفلسطيني". "جدل - مدى الكرمل العدد 20 (2014)، في الرابط الإلكتروني. 

القادري عيسى، نهوند. "الذاكرة الفلسطينية في ضوء التكنولوجيا الحديثة". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 107 (صيف 2016)، ص 60 - 81. 

قاسمية، خيرية. "المذكرات والسِّيَر الذاتية كمصدر لتاريخ فلسطين في القرن العشرين". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 64 (خريف 2005)، 64 – 78. 

لوجون، فيليب. "السيرة الذاتية: الميثاق والتاريخ الأدبي". ترجمة عمر حلي. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1994. 

ماي، جورج. "السيرة الذاتية". ترجمة محمد القاضي وعبد الله صولة. قرطاج: منشورات بيت الحكمة، 1992. 

مرسال، إيمان. "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها". بروكسل: مبادرة "كيف تـ" للنشر، 2017. 

مصالحة، نور. "أرض أكثر وعرب أقل: سياسة الترانسفير الإسرائيلية في التطبيق، 1949 - 1996". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1997. 

معلوف، أمين. "الهويات القاتلة". ترجمة نهلة بيضون. بيروت: دار الفارابي، 2004. 

مناع، عادل. "نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل (1948-1956)". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 2016. 

منصور، واصف. "بعض مني: رحلة لجوء من حيفا إلى الرباط – محكيات". الدار البيضاء: دار النشر المغربية، 2012. 

موريس، بيني. "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين". ترجمة عماد عواد. الكويت: المركز الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2013. 

ناطور، سلمان. "وما نسينا". عكا: دار أبو سلمى، 1982. 

هواري، عبد العاطي إبراهيم. "لغة التهميش: سيرة الذات المهمشة". الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، ط 1، 2008. 

يزبك، هبة. "المهجرون الفلسطينيون في الداخل: الاقتلاع من المكان والبقاء في الوطن". حيفا: مدى الكرمل؛ برنامج دراسات إسرائيل: قراءات في مسألة المهجرين، 2016، في الرابط الإلكتروني.

 

بالأجنبية

Aderet, Ofer. "Why Are Countless Palestinian Photos and Films Buried in Israeli Archives?". Haaretz, 1/7/2017,

Amit, Gish. "Salvage or Plunder? Israel's 'Collection' of Private Palestinian Libraries in West Jerusalem". Journal of Palestine Studies, vol. XL, no. 4 (Summer 2011), pp. 6–23. 

Anzaldúa, Gloria. "From the 'Hebrew Bedouin' to 'Israeli Arabic': Arabic, Hebrew, and the Creation of Israeli Culture". In: Lital Levy. Poetic Trespass: Writing between Hebrew and Arabic in Israel and Palestine. Princeton: Princeton University Press, 2014, pp. 21-59. 

Fahmawi-Watad, Aida. "Elias Khoury as the Moral Intellectual in the Children of the Ghetto Trilogy". Banipal, issue 67 (Spring 2020), pp. 111-117. 

Genette, Gérard and Bernard Crampé. "Structure and Functions of the Title in Literature". Critical Inquiry, vol. 14, no. 4 (Summer 1988), pp. 692-720. 

Khalidi, Rashid. "The Palestinian and 1948: The Underlying Causes of Failure". In: The War for Palestine: Rewriting the History of 1948. Edited by Eugene Rogan and Avi Shlaim. Cambridge: Cambridge University Press, pp. 12- 36. 

Masalha, Nur. "Remembering The Palestinian Nakba: Commemoration, Oral History and Narratives Of Memory". Journal of Holy Land and Palestine Studies, vol. 7, issue 2 (2008), pp. 123-156. 

Parmenter, Barbara McKean. Giving Voice to Stones: Place and Identity in Palestine Literature. Austin: University of Texas Press, 1994. 

Peled, Kobi. "Palestinian Oral History as a Source for Understanding the Past: Insights and Lessons from an Oral History Project among Palestinians in Israel". Middle Eastern Studies, vol. 50, issue 3 (2014), pp. 412-425. 

Portelli, Alessandro. "What Makes Oral History Different". In: The Oral History Reader. Edited by Robert Perks and Alistair Thomson. London and New York: Routledge, 2nd ed., 2006. 

Sa'di, Ahmad. "Remembering Al-Nakba in a Time of Amnesia: On Silence, Dislocation and Time". Interventions: International Journal of Postcolonial Studies, vol. 10, issue 3 (November 2008), pp. 381-399. 

Sa’di, Ahmad and Lila Abu-Lughod (eds.). Nakba: Palestine, 1948, and the Claims of Memory. New York: Columbia University Press, 2007. 

Sela, Rona. "Looted and Hidden". Documentary Film, Vimeo.com/257286457

 

بالعبرية

أزوف، عميرام. "السيطرة على حيز وادي عارة من نيسان / أبريل 1948 حتى نيسان / أبريل 1949". "يسرائيل"، العدد 25 (2018)، ص 31 - 58. 

أورن، يائير. "المحرقة، البعث والنكبة". تل أبيب: ريسلينغ، 2013. 

بشير، بشير وعاموس غولدبيرغ. "الكارثة والنكبة: ذاكرة، هوية وطنية وشراكة يهودية – عربية". القدس: فان لير، 2013. 

"ذاكرات". موقع إلكتروني

سعدي، أحمد. "الخاتمة: حيز الذاكرة وذاكرة الحيز - المحو والكتابة من جديد". في يعقوبي حاييم وتوبي فينستر. "الذاكرة، النسيان وتشكيل الحيز". القدس: فان لير، 2011، ص 247 – 256. 

سيغف، توم. "رواية عربية مترجمة إلى العبرية - كاتب لبناني ينسب إلى الجيش الإسرائيلي جرائم حرب، أين الإثبات؟ الحقيقة الأدبية في مقابل الحقيقة التاريخية". "هآرتس"، 27 / 2 / 2002، في الرابط الإلكتروني.

 

المصادر:

[1] على سبيل المثال انظر مراجعة المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف (2002) لرواية "باب الشمس" لإلياس خوري تحت عنوان: "رواية عربية مترجمة إلى العبرية - كاتب لبناني ينسب إلى الجيش الإسرائيلي جرائم حرب، أين الإثبات؟ الحقيقة الأدبية في مقابل الحقيقة التاريخية"، "هآرتس"، 27 / 2 / 2002 (بالعبرية)، في الرابط الإلكتروني.

[2] انظر: عزمي بشارة، "العربي الإسرائيلي: قراءة في الخطاب السياسي المبتور"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 24 (خريف 1995)، ص 26 - 54.

[3] Nur Masalha, "Remembering The Palestinian Nakba: Commemoration, Oral History And Narratives Of Memory", Journal of Holy Land and Palestine Studies, vol. 7, issue 2 (2008),

  1. 123-156.

[4] هنيدة غانم، "المحو والإنشاء في المشروع الاستعماري الصهيوني"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 96 (خريف 2013)، ص 118 - 139.

[5] انظر: عادل مناع، "نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل (1948 – 1956)" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 2016)، ص 42؛ بشارة، مصدر سبق ذكره.

[6] انظر: رشيد إبراهيم، "الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين: مذكرات رشيد الحاج إبراهيم، 1891 - 1953"، تقديم وليد الخالدي (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2005)، المقدمة، ص 1.

[7] شفيق الحوت، "عشرون عاماً في منظمة التحرير الفلسطينية: أحاديث الذكريات (1964 - 1984)" (بيروت: دار الاستقلال للدراسات والنشر، 1986)، ص 15.

[8] "كانت القرية تنتصب على جرف صخري في الجزء الجنوبي الشرقي من جبل الكرمل، وتشرف على بلاد الروحاء [....]. وكانت طريق فرعية تصلها بالطريق العام الساحلي، كما بطريق حيفا - جنين العام. في أواخر القرن التاسع عشر [....]، كانت أم الزينات واحدة من القرى العشر الكبرى في القضاء [قضاء حيفا] من حيث عدد السكان (1450 مسلماً، و20 مسيحياً) [....]، وفي سنة 1888، أيام العثمانيين، أُنشئت فيها مدرسة ابتدائية للبنين. كان سكان القرية يتزودون المياه للاستخدام المنزلي من آبار عدة، ويعتمدون في معيشتهم على تربية الدواجن وعلى الزراعة [....]. في سنة 1943، خصصوا من الأرض ما مساحته 1834 دونماً للزيتون، وكانت هذه أوسع مساحة لشجر الزيتون في القضاء. وكان في أم الزينات أربع معاصر زيتون يدوية. في 1944 / 1945، كان ما مجموعه 9879 دونماً مخصصاً للحبوب، و1742 دونماً [....] للبساتين. وكان في القرية نفسها آثار باقية من موقع كان آهلاً قديماً، بينها أُسس أبنية دارسة وقبور منقورة في الصخر [....]. في إثر سقوط حيفا [....]، احتلت الكتيبة الرابعة في لواء غولاني أم الزينات [....]. في سنة 1949 أنشأ الصهيونيون مستعمرة إليكيم في الطرف الجنوبي لموقع القرية." وليد الخالدي، "كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948، وأسماءُ شهدائها" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 1997)، ص 71-72. لمزيد من المعلومات عن أم الزينات، انظر أيضاً: مصطفى الدباغ، "بلادنا فلسطين" (كفر قرع: دار الهدى للطباعة والنشر، 1991)، المجلد 7، ص 659 - 660. ويمكن الاطلاع على موسوعة الدبّاغ كاملة، وعلى هذا الجزء تحديداً، في موقع "فلسطين في الذاكرة"، في الرابط الإلكتروني.

[9] تجدر الإشارة إلى أننا واجهنا صعوبة في الحصول على نسخ لهذه النصوص.

[10] سنشير في هذه الدراسة إلى النصوص المذكورة أعلاه بصفتها "أعمالاً" أو "نصوصاً" لتسهُل الإشارة إليها.

[11] صدرت النسخة الأولى في سنة 2002 في عمّان وقد نشرها الكاتب صبحي فحماوي نفسه، لكنها غير متوفرة مثلما أخبرنا المؤلف، علماً بأن الرواية أُعيد نشرها لاحقاً في بيروت، وصدرت عن دار الفارابي في سنة 2005.

[12] يجعل تجنيسُ السيرة الذاتية بالرواية الكاتبَ أكثر جرأة في الكشف في ظل السياق السياسي والاجتماعي الذي يعيشه. انظر في هذا السياق: ندى الشيب، "فن السيرة الذاتية في الأدب الفلسطيني بين 1992 - 2002" (أطروحة ماجستير)، (نابلس: جامعة النجاح الوطنية، 2006)، ص 162.

[13] انظر شهادة محمد الأسعد عن روايته "أطفال الندى" في موقع "قدس"، 7 آذار / مارس 2013، في الرابط الإلكتروني.

[14] فيليب لوجون، "السيرة الذاتية: الميثاق والتاريخ الأدبي"، ترجمة عمر حلي (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1994)، ص 52.

[15] واصف منصور، "بعض مني: رحلة لجوء من حيفا إلى الرباط – محكيات" (الدار البيضاء: دار النشر المغربية، 2012)، ص 3.

[16] على سبيل المثال، تقدم الأعمال الأربعة صورة عن علاقة اليهود بأهالي القرية قبل النكبة، وعن حياة المهجرين في مخيمات اللجوء بعد خمسينيات القرن الماضي، ومرحلة الحكم العسكري، وتتحدث عن مسيرة المؤلفين وكفاحهم ونشاطهم الأدبي أو السياسي أو المجتمعي، كما نعثر على شهادات تخص شخصيات سياسية.

[17] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 3.

[18] محمد الأسعد، "أطفال الندى" (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، 1990)، ص 106.

[19] جيرار جنيت، "خطاب الحكاية: بحث في المنهج"، ترجمة: محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، ط 2، 1997)، ص 45، 101، 129.

[20] سليم فحماوي، "ذكريات ومفارقات: أحزان الراعي" (كفر قرع: دار الهدى للطباعة والنشر، 2009)، المقدمة ص 8.

[21] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 5.

[22] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 72.

[23] يشير سليم فحماوي إلى ضياع قصيدة عن قرية أم الزينات، وإلى أن إصدار الكتاب تأخر عامَين لأنه كان يأمل بأن يجد تلك القصيدة. انظر مقدمة كتاب سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره.

[24] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 6.

[25] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 304 - 320.

[26] المصدر نفسه.

[27] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 6.

[28] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 10.

[29] المصدر نفسه، ص 4 - 5.

[30] أحمد سعدي، "الخاتمة: حيز الذاكرة وذاكرة الحيز - المحو والكتابة من جديد"، في يعقوبي حاييم وتوبي فينستر، "الذاكرة، النسيان وتشكيل الحيز" (القدس: فان لير، 2011)، ص 254 (بالعبرية).

[31] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 9.

[32] المصدر نفسه، ص 5؛ سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 10 - 11.

[33] انظر: الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 7؛ سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 10.

[34] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 12.

[35] المصدر نفسه.

[36] المصدر نفسه، ص 12، 111.

[37] يذكر إيلان بابِهْ أن الجاسوس الصهيوني الذي دخل إلى القرية في سنة 1944 ضمن مهمة استطلاعية ونزل في ضيافة الأهالي مستغلاً طيبتهم وعاداتهم في إكرام الضيف، أدهشته نوعية الأراضي الزراعية في القرية. انظر: إيلان بابِهْ، "التطهير العرقي في فلسطين"، ترجمة أحمد خليفة (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2007)، ص 30؛ الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 50.

[38] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 6.

[39] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 7.

[40] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 9.

[41] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 8.

[42] عن تنقيبات عالمة الآثار دوروثي غارود1892)  - 1968)، انظر الرابط الإلكتروني.

وراجع أيضاً الشهادة الشفهية لرفيق فحماوي، الدقيقة 1:05:30، في الرابط الإلكتروني.

[43] المصدر نفسه، ص 9. وانظر شهادة حسين حمدان الشفهية التي يذكر فيها قول عز الدين القسام: "الثورة أمينة على نفسها في أم الزينات"، والمنشورة في موقع "فلسطين في الذاكرة"، 20 كانون الثاني / يناير 2007، في الرابط الإلكتروني.

[44] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 44 - 45. وعن شهداء سنة 1936 من أبناء القرية، انظر شهادة حسين حمدان في موقع "فلسطين في الذاكرة"، مصدر سبق ذكره.

[45] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 9؛ سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 13.

[46] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 9.

[47] يربط الأسعد ذلك بصمود "المثلث الخطر". انظر: الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 17.

[48] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 9؛ الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 16.

[49] سليم فحماوي مصدر سبق ذكره، ص 108، 204.

[50] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 6.

[51] هو الاسم المستعار للحاج عبد الغني البشر المذكور في سائر الأعمال.

[52] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 12؛ سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 17.

[53] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 16.

[54] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 39.

[55] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 14.

[56] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 53.

[57] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 17.

[58] المصدر نفسه، ص 20.

[59] المصدر نفسه، ص 15.

[60] المصدر نفسه، ص 19.

[61] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 20.

[62] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 22.

[63] المصدر نفسه، ص 12.

[64] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 16.

[65] "البصامة" هي أرغفة الخبز بالدجاج والبصل.

[66] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 91.

[67] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 51 - 52.

[68] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 21.

[69] المصدر نفسه، ص 20.

[70] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 91.

[71] يظهر ذلك في بعض المراسلات بشأن تعيين معلمين للمدرسة في موقع الأرشيف الإسرائيلي، الملف ISA-MandatoryOrganizations-MandateEdu-000730d، أو إنشاء المدرسة في الملف ISA-MandatoryOrganizations-SecretaryLand؛ انظر كذلك شهادة الأستاذ إبراهيم محمد فحماوي (من مواليد سنة 1928) ابن القرية، والمتوفرة في موقع "الوديان"، 28 حزيران / يونيو 2021، في الرابط الإلكتروني.

[72] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 6.

[73] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 11. فقد نظم أهالي القرية أنفسهم كزبائن بين الإسكافي أبو حنا والإسكافي المسلم اللبناني الوافد، للمحافظة على مصدر رزق الرجلين، من دون تفرقة، وهذا بحسب الشهادة الشفهية لرفيق فحماوي (من مواليد سنة 1937)، في موقع "فلسطين في الذاكرة"، 7 كانون الأول / ديسمبر 2004، في الرابط الإلكتروني.

[74] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 85.

[75] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 15.

[76] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 12 – 13، 40.

[77] المصدر نفسه، ص 12 - 13.

[78] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 13، 30، 35، 56، 57.

[79] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 28.

[80] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 28.

[81] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 74، 93.

[82] المصدر نفسه، ص 48.

[83] يتحدث حسين حمدان عن هذا الأمر في الشهادة الشفهية في موقع "فلسطين في الذاكرة"، مصدر سبق ذكره.

[84] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 13، 15.

[85] انظر: غاستون باشلار، "جماليات المكان"، ترجمة غالب هلسا (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط 2، 1984)، ص 38.

[86] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 15.

[87] المصدر نفسه، ص 17.

[88] المصدر نفسه، ص 18 (وهذا الأمر ما زال سارياً منذ زمن السرد حتى يومنا هذا).

[89] المصدر نفسه، ص 19.

[90] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 8.

[91] لم تكن هذه هي المحاولة الأولى للقوات الصهيونية في اقتحام القرية، فـ "في أوائل أيام الحرب نفذت وحدة صهيونية قوامها عشرة من رجال الميليشيا، يرتدون بزّات الجيش البريطاني، هجوماً على أم الزينات [....]. وكانت صحيفة 'فلسطين' نشرت تقريراً يفيد بأن الغارة وقعت ليل 19 - 20 كانون الثاني / يناير 1948، وأنها صُدّت." انظر: الخالدي، مصدر سبق ذكره، ص 72. وانظر أيضاً: الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 659 - 660؛ شهادة حسين حمدان الشفهية، مصدر سبق ذكره.

[92] انظر شهادة محمد الأسعد عن روايته "أطفال الندى" في موقع "قدس"، مصدر سبق ذكره. ويرد ذلك أيضاً في سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 25، إذ يقول: "كان الناس يطلقون على القوات اليهودية المعتدية [....] اسم الهاغاناه، ولم يكونوا يهتمون بتفاصيل أسمائها، ماذا كان يهم أو يغير إن كانت من عصابات [....] الإتسل أو الإرغون أو البلماح أو غيرها." وهذا الأمر يتقاطع مع شهادة رفيق فحماوي المنشورة في موقع "فلسطين في الذاكرة"، مصدر سبق ذكره.

[93] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 19 - 20.

[94] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 26 - 27.

[95] إيمان مرسال، "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها" (بروكسل: مبادرة "كيف تـ" للنشر، 2017)، ص 52.

[96] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 64.

[97] يحاول أبناء القرية إعادة اللحمة بينهم عبر تنظيم زيارة سنوية لها، فضلاً عن إنشاء مدونات وصفحات تواصل لعائلات القرية. وعن دور شبكات التواصل في المحافظة على الذاكرة الفلسطينية انظر: نهوند القادري عيسى، "الذاكرة الفلسطينية في ضوء التكنولوجيا الحديثة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 107 (صيف 2016)، ص 65 - 69.

[98] قام بعض من أبناء القرية برسم عدة خرائط للقرية متاحة في الشبكة الإلكترونية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، انظر موقع "فلسطين في الذاكرة"، في الرابط الإلكتروني.

وانظر أيضاً خريطة القرية في الأرشيف الرقمي للمتحف الفلسطيني، في الرابط الإلكتروني.

[99] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 26. والسردية نفسها ترد عند صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 44.

[100] بشأن الأسلحة التي كانت في القرية وعن الخطة، انظر: سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 19، 27.

[101] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 66.

[102] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 20.

[103] المصدر نفسه، ص 22 – 23.

[104] الكتيبة الرابعة هي بالعبرية كتيبة "درور"، وبشأنها انظر: عميرام أزوف، "السيطرة على حيز وادي عارة من نيسان / أبريل 1948 حتى نيسان / أبريل 1949"، "يسرائيل"، العدد 25 (2018)، ص 37 (بالعبرية).

[105] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 25.

[106] المصدر نفسه، ص 26 - 27.

[107] المصدر نفسه، ص 29.

[108] انظر أيضاً: سلمان ناطور، "وما نسينا" (عكا: دار أبو سلمى، 1982)، ص 57.

[109] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 30؛ وانظر أيضاً: ناطور، مصدر سبق ذكره، ص 58. وترد القصة بتفصيلات مختلفة قليلاً عند صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 39 – 40، 53.

[110] يقول بابِهْ، مصدر سبق ذكره، ص 30 – 31: "وقد دُمّرت أم الزينات في سنة 1948، وطُرد جميع سكانها مع أنه لم يصدر عنهم قط أي استفزاز"، ويضيف أن العصابات الصهيونية كانت قد حددت من خلال الجواسيس أن في القرية 30 مشتبهاً فيه ممّن كانوا ينخرطون في الحركة الوطنية، ومثل هؤلاء كان يتم إعدامهم بعد أن يتعرف الواشون إليهم.

[111] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 32.

[112] المصدر نفسه، ص 33.

[113] تؤكد عدة مصادر أن السكان طُردوا بقوة السلاح بينما هرب البعض خوفاً. انظر موقع "نكبة أونلاين" (بالعبرية) في الرابط الإلكتروني.

[114] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 38 - 39.

[115] انظر الشكوى التي تقدّم بها الأهالي الذين بقوا داخل أراضي 48 إلى وزير الأقليات في 1 أيلول / سبتمبر 1948، والتي يشكون فيها من تدمير القرية وسلبها وتخريبها، مطالبين بالعودة إليها. والشكوى محملة في موقع الأرشيف الإسرائيلي، في الملف ISA-MinoritiesMinistry-MinoritiesMinistry-000ev7g

[116] يُعدّ التبغ من أشهر منتوجات القرية، والتي كانت تشتريها شركة قرمان في حيفا.

[117] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 54 - 55.

[118] كان هناك أوامر صريحة بالاستيلاء على القرية لأن وجودها كان عائقاً أمام تقدم القوات الصهيونية، لأنها (القرية) تسيطر على طريق وادي الملح الذي يصل الشمال بالمركز، والذي هو في موازاة وادي عارة. وفي هذا السياق يذكر عميرام أزوف (مصدر سبق ذكره، ص 37) الأمر باحتلال أم الزينات (بالعبرية): "عليك احتلال أم الزينات والبقاء فيها بتاريخ 13 / 5، لإتاحة حركة مواصلات يهودية في شارع وادي الملح." والأمر موجّه إلى لواء غولاني: رقم 1، 5.12، أرشيف تبنكين، "ملف الشمال". وانظر أيضاً: "أرشيف الجيش الإسرائيلي"، ملف احتلال أم الزينات، 9 / 2384 / 1950.

[119] سعدي، مصدر سبق ذكره، ص 250.

[120] بشأن العمال الذين كانوا يبنون مستعمرة إليكيم، انظر: سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 98.

[121] بحسب سليم فحماوي (مصدر سبق ذكره، ص101، 207 – 208)، يبدو أن ذلك حدث في مرحلة لاحقة من السنة نفسها، إذ إن البيت الوحيد الذي بقي موجوداً في خمسينيات القرن الماضي هو بيت المختار المكون من طبقتين. وقد احتفل حارس "أملاك الغائبين" المعين من طرف الدوائر الحكومية الإسرائيلية، وبعض أعضاء الكنيست العرب من حزب مباي في نهاية خمسينيات القرن الماضي، في هذا البيت بالنصر الذي حققوه، علماً بأنه هُدم مباشرة بعد حرب الأيام الستة في سنة 1967.

[122] المقصود مستعمرة إلياكيم التي بُنيت في سنة 1949 على أراضٍ تابعة للقرية يسميها الأهالي "المصرارة". انظر: سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 101؛ موقع "ذاكرات"، في الرابط الإلكتروني.

وانظر أيضاً صورة تثبيت لوحة تشير إلى المستعمرة، في موقع ويكيبيديا، في الرابط الإلكتروني.

[123] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 239.

[124] انظر: باشلار، مصدر سبق ذكره، ص 38.

[125] يتوقع سليم فحماوي (مصدر سبق ذكره، ص 98) أن تكون القرية قد هُدمت في السنة التالية للنكبة. وهذا الأمر يتقابل مع سردية أُخرى أوردها صبحي فحماوي (مصدر سبق ذكره، ص 28)، ولم نجد ما يدعمها، تشير إلى إجبار بعض الأهالي الذين أُسروا خلال الهجوم على القرية على هدم بيوتهم بأنفسهم تحت تهديد السلاح.

[126] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 92. ويرد ذلك أيضاً في رواية سهام الشيخ يوسف (من مواليد سنة 1932) عن والدها محمد الشيخ يوسف أحد ثوار 1936 الذي كان مطلوباً، وقد أسرته القوات الصهيونية في أثناء تسلله إلى القرية (التي أقسم ألّا يغادرها إلّا "على سُلّم"، أي ميتاً)، وكانت تجبره على حفر القبور ودفن مَن تقوم بقتلهم من أبناء القرية من المتسللين وحمل غنائمها، وعندما تعرّف إلى الجواسيس جرى قتله. ووجد الأهالي جثته بعد فترة وكانت رأسه مفصولة عن جسده، وقد تعرفت أمه إلى جثمانه من أزرار "الصواري" (ثياب عمال الميناء) التي كانت لا تزال تلمع. وفي الشهادات الشفهية تمت الإشارة إلى "الندى" كموتيف (موضوعة دالّة) متكر رة.

[127] يستخدم أبناء القرية مفردات مثل "خبّونا" و"تخبّينا" عند الحديث عن عمليات التطهير العرقي. وبهذا الشأن انظر شهادة غازي محمد فحماوي (من مواليد سنة 1938)، في موقع فايسبوك، 19 آب / أغسطس 2021، في الرابط الإلكتروني.

[128] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره ص 71 - 72. انظر صورة "غيتو أم الزينات" في: جميل عرفات، "من ذاكرة الوطن: القرى الفلسطينية المهجّرة في قضاء حيفا" (الناصرة: المؤلف، د. ت)، ص 71. ويذكر عرفات أيضاً في ص 72 أن إحدى النساء جرى اغتصابها، لكن شيئاً من هذا لم يرد من خلال الروايات.

[129] انظر: سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 76، والذي تتقاطع روايته مع رواية خليل سعيد فحماوي (1932 - 2019) الذي فقد أباه بلغم حين عاد إلى القرية خلال الأيام الأولى متسللاً، والذي ظل يحتفظ بحقيبته المدرسية التي صنعها له الشهيد محمد السليم الحردان نجار القرية طوال التهجير حين "كبّوهم"، وبعد أن عاد متسللاً مع المهربين إلى دالية الكرمل.

[130] انظر: سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 77؛ صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 41. واستمع إلى التسجيل الشفوي لرفيق فحماوي في موقع "فلسطين في الذاكرة"، مصدر سبق ذكره.

[131] انظر: سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 47، وما كتبه عن المراسلات داخل وزارة الأقليات الإسرائيلية بشأن الذين بقوا من أهالي القرية داخل أراضي 48، مشيراً إلى أوضاعهم المزرية، حتى إن مدير المنطقة في وزارة الأقليات وصفهم بأنهم فقدوا كل شيء، وأنهم في طريقهم إلى حالة من "الجوع الفعلي"، وذلك استناداً إلى الملف MinoritiesMinistry-MinoritiesMinistry-000fl8z ISA- في الأرشيف الإسرائيلي.

[132] انظر: إدوارد سعيد، "خارج المكان"، ترجمة فواز طرابلسي (بيروت: دار الآداب، ط 1، 2000)، ص 22.

[133] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 36.

[134] المصدر نفسه، ص 40.

[135] المصدر نفسه، ص 84. ويشار في هذا السياق، إلى أن الأهالي الذين بقوا تقدّموا في 1 أيلول / سبتمبر 1948 برسالة إلى وزير الأقليات يطلبون فيها العودة إلى قريتهم، وتحرير أسراهم. كما بعثوا في شباط / فبراير 1949 طلب استغاثة كي يعودوا إلى قريتهم، ووصفوا في رسالة حالتهم الصعبة في مكان اللجوء. وتلك الرسائل الأصلية بالعربية، والمترجمة إلى العبرية، موجودة في الأرشيف الإسرائيليّ ضمن الملف ISA-MinoritiesMinistry-MinoritiesMinistry-000fl8z. وكذلك تقدموا بطلب رسمي في هذا الشأن، إلى المحكمة العليا، مرفقاً بقوائم تُبرز أملاكهم في القرية، غير أن المحكمة رفضت طلبهم أيضاً. وفي مطلع خمسينيات القرن الماضي تقدموا إلى المحكمة العليا بطلب عودة رسمي من خلال تقديم قوائم بأملاكهم في القرية، لكن طلبهم رُفض، وبقيت الوثائق محفوظة.

[136] سليم فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 84.

[137] المصدر نفسه، ص 88.

[138] المصدر نفسه، ص 89 - 90.

[139] المصدر نفسه، ص 90 - 91.

[140] المصدر نفسه، ص 91 - 92.

[141] المصدر نفسه، ص 213 - 214.

[142] المصدر نفسه، ص 85.

[143] للمفارقة التراجيدية، فإن اثنَين من أبناء سليم قُتلا في ثمانينيات القرن الماضي في حادثتين منفصلتين بانفجار ألغام، وذلك خلال رعيهم قطيع العائلة في أحراش قريبة من أم الزينات.

[144] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 69.

[145] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 14.

[146] مُنع استخدام المبيد الحشري السام في المدارس اعتباراً من سنة 1973 في كثير من دول العالم، ومنها الولايات المتحدة.

[147] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 119. وانظر أيضاً: منصور، مصدر سبق ذكره، ص 25.

[148] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 16.

[149] المصدر نفسه، ص 33.

[150] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 156.

[151] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 15. وانظر أيضاً: صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 156.

[152] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 157.

[153] المصدر نفسه، ص 172.

[154] انظر في: منصور، مصدر سبق ذكره، ص 12، قصة "أبو حنا" الذي قطع زيتونته لتدفئة النساء اللاجئات في مخيم الجلزون قرب قرية جفنا، وأخذ الأطفال إلى بيته حتى ذاب الثلج.

[155] حتى في قضية الزواج نراهم يقولون: "البنت جميلة ومؤدبة، لكن يا خسارة! إنها لاجئة." انظر: الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 34.

[156] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 44. انظر أيضاً: الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 34.

[157] صبحي فحماوي، مصدر سبق ذكره، ص 173.

[158] منصور، مصدر سبق ذكره، ص 26 - 27.

[159] الأسعد، مصدر سبق ذكره، ص 39.

[160] مناع، مصدر سبق ذكره، ص 43. وخلال كتابة هذه الدراسة اطّلعت على روايات شفهية عن القرية تفصيلاتها متقاربة جداً.

Author biography: 

عايدة فحماوي – وتد: محاضِرة في الأدب الحديث، أكاديمية القاسمي - باقة الغربية.