A Reading of the Failed Arab State
Full text: 

تسعى هذه الدراسة لإجراء قراءة سريعة في البعد النظري للفشل العربي في إنشاء دول ناجحة ومزدهرة بمداها الواسع اقتصادياً وسياسياً، ووضع تطبيقات عملية لهذا البعد، استناداً إلى "الربيع العربي" ومآلاته، مع القناعة بأن الأمر لم ينتهِ وقد لا ينتهي عند استعادة الدولة العميقة السلطة في معظم الدول التي اختبرت انتفاضات شعبية، إذ حتى كتابة هذه السطور، كان السودان لا يزال يعيش في برزخ ما بين نجاح الانتفاضة الشعبية المطالبة بالديمقراطية والمدنية، وبين إصرار العسكر، بالتكافل مع القوى الإقليمية والدولية الرئيسية، مباشرة أو بشكل غير مباشر، على كسر الإرادة الشعبية. وبينما اختبرت دول عربية انتفاضات الربيع العربي: تونس، ومصر، وسورية (ولن تتناول الدراسة اليمن وليبيا اختصاراً وليس تقليلاً من أهمية ما جرى ويجري هناك)، فإن دولاً أُخرى شهدت مسارات انتفاضية أُخرى، مثل العراق ولبنان وفلسطين والسودان، والمشترك بين الفئتين الفشل الكلي أو الجزئي في تحقيق الأهداف المفترضة لتلك الانتفاضات.

وفي الوقت الذي تركز الدراسة على البعد الذاتي للدول العربية في كونها دولاً فاشلة، فإن من أسباب الفشل أيضاً كونها دولاً استُعمرت على مدى عشرات السنين عمل الاستعمار فيها على تقويض أسس بناء دولة المؤسسات، واستخدم، بصورة عامة، أدوات السيطرة العثمانية نفسها، لكن بصورة أكثر حداثة. وهكذا جاءت الأنظمة التي تلت حقبة الاستعمار الأوروبي صورة مشوهة عن الأنظمة الحداثية، كما أن السلطات التي تسلمت الحكم بعد ذلك كانت أكثر استحواذاً على المستويين السياسي والاقتصادي.

انطلاقاً من هذا البعد النظري، ستستند هذه الدراسة إلى نظرية الدولة الفاشلة التي يُعزى انتشارها إلى مقالة[1] كتبها جيرالد هيلمان (Gerald B. Helman) وستيفن راتنر (Steven R. Ratner) في مجلة "السياسة الخارجية الأميركية" (1992 - 1993) بعنوان "إنقاذ الدول الفاشلة"،[2] وكتاب "الدول المنهارة: تفكك واستعادة السلطة الشرعية"[3] الذي حرره وليام زارتمان (William I. Zartman) وصدر في سنة 1995. كما أن الكاتب السويدي والحائز جائزة نوبل غونار ميردال (Gunnar Myrdal)[4] حدد في سنة 1968 سمات ما أطلق عليه "الدولة الرخوة" (soft state)، وهي سمات الدولة الفاشلة نفسها، وإن كان البعض يرى فرقاً بين مفهوم "الدولة الفاشلة" ومفهوم "الدولة الرخوة". على أن الركيزة النظرية الرئيسية بشأن الدول الفاشلة ستكون اعتماداً على كتاب "لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والازدهار والفقر" لمؤلفَيه دارن أسيموجلو (Daron Acemoglu) وجيمس روبنسون (James A. Robinson)، بترجمته العربية،[5] كما ستعتمد على نظريتين أُخريين تدعيماً لفكرة فشل الدول وازدهارها، هما نظرية "الموجة الثالثة" لصاحبها ألفن توفلر في كتابه "حضارة الموجة الثالثة"، ونظرية "متلازمة اللامبالاة" التي أطلقها كتاب "الثقافة المدنية" (Civic Culture) لمؤلفَيه غابرييل ألموند (Gabriel Almond) وسدني فيربا (Sidney Verba) في سنة 1963،[6] فضلاً عن تقارير ومقالات تُظهر الحالة التي عاشتها وتعيشها الدول التي ستستخدمها الدراسة نموذجاً. 

"الدولة الرخوة" و"الدولة الفاشلة"

حدد غونار ميردال عدداً من العناصر التي يعتبرها من سمات الدولة الرخوة على النحو التالي: "1 - تراجع مكانة الدولة وهيبتها داخلياً وخارجياً؛ 2 - عدم احترام القانون، وضعف ثقة المواطنين بالقوانين، فعلى الرغم من وجود منظومة قانونية متقدمة، إلّا إنها تبقى بلا تطبيق، سوى في حالات محدودة، حيث يمكن استخدامها لمعاقبة مناهضي الفساد، أو المطالبين بحقوقهم، أو المجرمين واللصوص من الطبقات المسحوقة؛ 3 - وجود مؤسسات حكومية أكثر من اللازم ومن دون دور واضح إلى درجة تتداخل وتتشابه معها صلاحيات المؤسسات، وهدفها خلق مناصب المحسوبين؛ 4 - وجود نخبة فاسدة تسعى لتحقيق مصالحها الشخصية أولاً؛ 5 - تفشي الفقر والتخلف لغياب العدالة الاجتماعية، وضعف التنمية أو غيابها؛ 6 - نسيج اجتماعي منقسم؛ 7 - استشراء الفساد بكافة أشكاله، ونهب المال العام، والتهرب الضريبي الجمركي؛ 8 - التبعية للخارج وفقدان الدولة سيطرتها على جزء كبير من قرارها الداخلي (دولة تعيش عالة على الخارج)؛ 9 - ارتباط مصالح النخب السياسية بالمؤسسات الدولية؛ 10 - انهيار البنية التعليمية المدرسية والجامعية؛ 11 - الاستبداد السياسي؛ 12 - الاعتماد على الخارج وعدم الاعتماد على القدرات الذاتية؛ 13 - الانحياز إلى الأغنياء وإفقار الفقراء وتحميلهم فواتير الفساد والقرارات الخاطئة؛ 14 - عدم احترام حقوق الإنسان وكرامات الناس؛ 15 - غياب الشفافية، وعدم الفصل بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وخاصة بين المال العام والمال الخاص."[7]

هذه العناصر كلها، إلى جانب عناصر أُخرى، موجودة في كتاب "لماذا تفشل الأمم..." الذي يحدد سبب فشل الدول على النحو التالي: "إن سبب فشل الأمم في هذا العصر يرجع إلى أن المؤسسات الاقتصادية الاستحواذية المستخلصة للثروات لا تخلق الحوافز والفرص اللازمة للأشخاص من أجل الادخار، والاستثمار، والابتكار. وتُدعِّم المؤسسات السياسية الاستحواذية تلك المؤسسات الاقتصادية عن طريق تدعيم قوة أولئك المستفيدين من الاستحواذ." فالسياسيون الاستحواذيون يقمعون "أي نوع من النشاط الاقتصادي المستقل الذي يشكل تهديداً لهم وللنخب الاقتصادية"، وقد "تمهد المؤسسات الاستحواذية الطريق لفشل الدولة بالكامل وتدمير ليس فقط القانون والنظام، ولكن أيضاً الحوافز الاقتصادية الأساسية، ممّا يسفر عن حدوث ركود اقتصادي وحروب أهلية ونزوح جماعي ومجاعات وأوبئة."[8]

ويرفض أسيموجلو وروبنسون فرضيات شائعة تعزو فشل الدول إلى الموقع الجغرافي، والاختلاف في الثقافة، وجهل القادة والمتحكمين في البلد الفاشل، ويعتبرانها "نظريات عقيمة"، ويقدمان كثيراً من الأمثلة التاريخية والحاضرة، التي تفيد نظريتهما التي تركز على العلاقة بين الاقتصاد والسياسة. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، استطاعت دولة بتسوانا في أفريقيا منذ استقلالها عن الاستعمار البريطاني أن تحقق عنصرَي السياسة الشاملة والاقتصاد الشامل، وهما عنصران أساسيان لازدهار الدول، وأن تنجح في إنشاء مؤسسات سياسية ديمقراطية تتجدد عبر انتخابات شفافة ونزيهة، ومؤسسات اقتصادية بعيدة عن الاحتكار، بحيث يعمّ السلام البلد من دون أي حروب ومواجهات، بينما دول أفريقية مجاورة تعمّها الفوضى السياسية والأمنية والاقتصادية.[9]

إن ازدهار الدول تحدده العلاقة بين المؤسسات السياسية والاقتصادية، فكلما كانت الديمقراطية شاملة، تكون المؤسسات السياسية والاقتصادية مرنة في تجاوز أي أزمات قد تطرأ، فـ "المؤسسات الاقتصادية الشاملة تدعم وتشجع النشاط الاقتصادي، والنمو الإنتاجي، والازدهار الاقتصادي. كما أن حقوق الملكية الخاصة الآمنة تُعدّ أساسية وجوهرية [....] الأشخاص فقط الذين لديهم هذه الحقوق سوف تكون لديهم الرغبة والاستعداد للاستثمار وزيادة معدلات الإنتاجية."[10]

وبخلاف المؤسسات السياسية والاقتصادية الشاملة التي ترتبط عضوياً في النشأة والتطور، وتعيش وتزدهر في النظام الديمقراطي، فإن "المؤسسات السياسية الاستحواذية" تركز "السلطة بأيدي نخبة محدودة"، وتعمد إلى "تكوين وتنظيم المؤسسات الاقتصادية بواسطة هذه النخبة من أجل استحواذ واستخلاص الموارد المتاحة من بقية المجتمع."[11]

ولا تعني السياسة والاقتصاد الشاملان غياب المركزية السياسية التي هي ضرورية للتطور والنمو والازدهار، ذلك بأن "عدم وجود المركزية السياسية يعني ليس فقط عدم وجود القانون والنظام [....]، وإنما أيضاً سيكون هناك الكثيرون الذين يملكون سلطات كافية لعرقلة أو تعطيل الأمور."[12]

لكن يمكن للمؤسسات الاستحواذية أن "تحقق بعض النمو، إلّا إنها لن تحقق عادة نمواً اقتصادياً مستداماً [....]. وفي فترة من الوقت، يمكن أن تكون الدولة قادرة على خلق نمو اقتصادي سريع عن طريق تخصيص الموارد اللازمة والأشخاص من خلال قرار رسمي، غير أن هذه العملية تُعدّ محدودة بطبيعتها، وعندما تصل إلى سقف الحدود، يتوقف النمو، كما حدث في [....] الاتحاد السوفياتي السابق في السبعينيات من القرن الماضي." علاوة على ذلك، فإن "المؤسسات السياسية والاقتصادية الاستحواذية تخلق توجهاً عاماً نحو الاقتتال، وذلك لأنها تؤدي إلى تركيز الثروة والسلطة في أيدي قطاع ضيق من النخبة. وإذا كان باستطاعة مجموعة أُخرى أن تتغلب [....] على هذه النخبة وتسيطر على الدولة، فإنها ستصبح الفئة التي تتمتع بهذه الثروة والسلطة [....]. إن القتال من أجل السيطرة على الدولة [....] يكون دائماً خفياً ودفيناً، وسوف يشتد وطيسه بصورة دورية حتى يصل إلى تفكيك ومحق هذه الأنظمة الحاكمة [و] يتحول إلى حرب أهلية وفي بعض الأحيان إلى دمار وانهيار تام للدولة [....]. إن الاقتتال من أجل السيطرة على المؤسسات الاستحواذية غالباً ما يؤدي إلى نشوب حروب أهلية وغياب واسع النطاق للقانون، والاحتفاظ بحالة من الغياب المتواصل لمركزية الدولة."[13] 

أساسات رخوة وفشل منظّم

إن ما يميز الكيانات السياسية العربية، حداثة عهدها، فهي كانت في أغلبيتها مقسمة بين ولايات في إبان الحكم العثماني الذي كان يسيطر على جميع الأراضي العربية الواقعة في الإمبراطورية، لكن بينما كان الحكم شديد المركزية في الأناضول، فإنه لم يستطع أن يدير دول الشرق الأوسط بالطريقة نفسها، "ولهذا، قامت الدولة العثمانية بتأجير الأراضي لأفراد وباعت لأفراد آخرين الحق في جمع الضرائب بأي طريقة [....] فأصبح محصلو الضريبة يتمتعون بسلطة ذاتية وقوة كبيرة؛ وكانت معدلات الضرائب في مناطق الشرق الأوسط مرتفعة جداً [....] وكان هناك قدر كبير من غياب القانون [....]. في فلسطين على سبيل المثال، كان الموقف مزرياً ومأسوياً للغاية، حتى إنه في أواخر القرن السادس عشر، بدأ المزارعون يتركون أكثر الأراضي خصوبة"،[14] متجهين نحو المدن، أو قمم الجبال، وجرى توزيع أراضٍ تركها سكانها، أو لم تكن آهلة أصلاً، على شخصيات مقربة من السلطة العثمانية، الأمر الذي أوجد فئة من الملّاكين الكبار، وأنتج عائلات سياسية بقيت حاضرة خلال فترة الاستعمار البريطاني، وهو أمر شهدته الدول العربية الأُخرى التي رزحت تحت سلطة الاستعمارين البريطاني والفرنسي.

ولم يتغير الأمر كثيراً بعد الحصول على الاستقلال، فقد "اتبعت هذه الدول [العربية] الكثير من الأنظمة التي كانت سائدة إبان الحقبة الاستعمارية السابقة عن طريق وضع وتبنّي أنظمة حكم سياسية سلطوية ذات تدرج هرمي، مع وجود القليل من المؤسسات الاقتصادية والسياسية التي [....] تُعدّ هامّة وأساسية بالنسبة لتحقيق التطور والنجاح الاقتصادي."[15] ومثلما ذُكر في المقدمة، فإن هذه الدراسة ستسوق بعض نماذج عن دول عربية اختبرت احتجاجات ما سُميّ "الربيع العربي"، وتحديداً تونس ومصر وسورية، لما تحتويه تجربتها من سمات الدولة الفاشلة، والسلطة الاستحواذية، فضلاً عن المرور بالعراق ولبنان وفلسطين التي شهدت حراكات شعبية بعد مرحلة "الربيع"، والسودان حيث كانت انتفاضة الشعب ضد سلطة "العسكر" متواصلة حتى كتابة هذا النص، بعدما تمكنت من إسقاط نظام البشير.

ففي تونس، أولى الدول التي شهدت "ربيعاً" قطع شوطاً كبيراً نحو الأفول، كانت الشرارة بإحراق محمد البوعزيزي نفسه، صباح يوم 17 كانون الأول / ديسمبر 2010، احتجاجاً على منعه من البيع على بسطة، وإهانته من طرف الشرطة. و"في اليوم الثاني لاحتراق البوعزيزي، خرجت احتجاجات لأهالي سيدي بوزيد للتضامن معه، وطالبت أيضاً بحل إشكالات البطالة والتهميش والفقر. اصطدمت الاحتجاجات مع قوات الأمن، وتوسعت رقعتها الجغرافية، ولم تنفع بعض القرارات الحكومية وزيارة الرئيس زين العابدين بن علي لمحمد البوعزيزي في المستشفى في تراجعها، بل ازدادت وتحولت لانتفاضة شعبية اجتاحت معظم مناطق تونس، وصولاً لقصر قرطاج، وأجبرت ساكنه الرئيس بن علي – بعد 23 سنة من الحكم – على ترك السلطة والهروب للخارج (للسعودية) في 14 يناير / كانون الثاني 2011."[16]

لم تختبر تونس انقلابات عسكرية دموية، خلافاً لكثير من الدول العربية، فقد حكمها منذ الاستقلال (25 تموز / يوليو 1957) الحبيب بورقيبة كديكتاتور علماني، حتى سنة 1987، حين تم خلعه في انقلاب أبيض، بذريعة أنه "لم يعد في كامل قواه العقلية"، وجرى تعيين العسكري المحترف، والمسؤول الأمني الكبير، زين العابدين بن علي، خلفاً له، وذلك في سنة 1987.

تميز حكم بن علي بأنه كان "استبدادياً يتستر تحت طلاء من التعددية، كما قيّد حريّة التعبير، وزجّ بالمعارضين في السجون [....] واجه بن علي خلال سنوات حكمه الـ 23 انتقادات واسعة في الداخل والخارج بسبب نسبة الـ 99,9 بالمئة التي كان يزعم أنه يحصل عليها من أصوات الناخبين"، وعمد إلى "تمديد فترة بقائه في المنصب لولايتين إضافيتين."[17]

اقتصادياً، تميز حكم بن علي بالاستحواذ، وقد كشف تقرير للبنك الدولي في سنة 2014 "أن 220 شركة تونسية تملك نحو 21% من القطاع الخاص في تونس، يملكها أقرباء" له، وأنها "استفادت من التسهيلات والمعاملة الخاصة بالنسبة للحصول على الرخص وكسب العقود من خلال علاقاتها" مع بن علي، وكانت "تسيطر على حصة تفوق 6,3% من السوق التونسية."[18]

شهدت المرحلة ما بعد هروب بن علي اضطراباً سياسياً، وعمد النظام إلى محاولة السيطرة على السلطة عبر موظفين جرى تعيينهم، كفترة انتقالية، وكان آخر مَن تم تعيينه لرئاسة الحكومة في الفترة الانتقالية الباجي قايد السبسي، القادم من زمن حكم بورقيبة، فقد أشرفت حكومته على انتخابات مجلس تأسيسي في تشرين الأول / أكتوبر 2011. وبسبب غياب القيادة السياسية المستقلة والديمقراطية تبعاً للمضايقة السياسية التي كان يتعرض لها السياسيون المستقلون خلال حكمَي بورقيبه وخلفه بن علي، تمكنت الجهة الأكثر تنظيماً، وهي حزب "النهضة" الإسلامي، من الفوز "بالنصيب الأوفر حظاً في المجلس" الذي انتخب المنصف المروزقي رئيساً، بينما احتفظ "النهضة" برئاسة الحكومة. وتميزت تلك الفترة بسلسلة اغتيالات سياسية استهدفت معارضين يساريين.

وعلى الرغم من خسارته كثيراً من مقاعده البرلمانية في الانتخابات الرئاسية الثانية التي جرت عبر الاقتراع الشعبي المباشر، والتي فاز فيها قائد السبسي، فإن "النهضة" واصل حضوره القوي في السلطة، من دون أن يتمكن مجدداً من إيصال حليف له إلى منصب الرئيس الذي فاز به، في الانتخابات الرئاسية الثالثة، الرئيس الحالي قيس سعيّد الذي بات يحكم بنظام رئاسي، خلافاً للدستور، تحت شعار محاربة الفساد الذي أُلصق بـ "النهضة"، وبدعم من الجيش والقوى الأمنية، الأمر الذي بدأ يجد معارضة حتى من القوى العلمانية المتخاصمة مع الإسلام السياسي، مثل الاتحاد التونسي للشغل.

تبدو تونس اليوم في ظل رئاسة سعيّد وسط فوضى مؤسساتية، تزامناً مع أزمة اقتصادية حادة. فوفق بيانات للبنك الدولي "تعرضت قدرات البلاد الاقتصادية على الصمود في وجه التحديات بالفعل للاستنزاف بسبب سنوات من التردد على صعيد السياسات العمومية، وتنامي إجراءات الحماية، وذلك حتى قبل تفشي أزمة فيروس كورونا. وكان هناك بالفعل تدهور ملحوظ في مستوى الخدمات العمومية." وسُجل تراجع حاد في معدل النمو الاقتصادي "بالمقارنة مع معظم البلدان المماثلة في المنطقة في وقت شهد فيه الاقتصاد [....] تباطؤ معدل النمو وتصاعد مستويات المديونية. وانكمش معدل نمو إجمالي الناتج المحلي بنسبة 8,8% في عام 2020، وارتفعت البطالة من 15% قبل الجائحة [كورونا] إلى 17,8% بنهاية الربع الأول من 2021، ومازالت تؤثر بوجه خاص على النساء (24,9%)، والشباب في الفئة العمرية 15 - 24 عاماً (40,8%)."[19]

إن المؤشرات السياسية والاقتصادية تدل على مأزق تعيشه تونس، وهو مأزق ربما يُقوض منجزات الثورة، ويعيدها إلى زمن الاستحواذ السياسي والاقتصادي.

أمّا في مصر، ثاني دول "الربيع" الذي أفل فعلاً، فإن الضباط الأحرار كانوا قد انقلبوا على النظام الملكي (1954) واختاروا جمال عبد الناصر لقيادة الدولة، وساد اقتصاد اشتراكي أدت فيه الحكومة دوراً محورياً، إذ "سيطرت الدولة على العديد من قطاعات الاقتصاد من خلال الشركات المملوكة لها." وبينما "فُتحت الأسواق" بعد تسلم الرئيس أنور السادات الحكم، ثم بعد تولّي الرئيس حسني مبارك الرئاسة المصرية، "وتطور القطاع الخاص"، فإن "هذه الأسواق لم تكن شاملة للجميع، حيث كانت الدولة تسيطر على الأسواق إلى جانب حفنة من رجال الأعمال المتحالفين من الحزب الوطني الديمقراطي (الحاكم) [....] تم تعيين كبار رجال الأعمال في الوظائف الاقتصادية"، وجرى "تقييد الدخول في كثير من القطاعات الاقتصادية من خلال القوانين." وفي تسعينيات القرن الماضي حين أُطلقت عملية "تحرير الأسواق وتقليص دور الدولة في الاقتصاد" وخصخصة أصول الدولة، فإن "رجال الأعمال المتصلين بالنظام [كانوا] قادرين على التأثير بقوة في تنفيذ برنامج الخصخصة في مصر، ليكون لصالح نخبة رجال الأعمال الأثرياء أو )الحيتان( كما هو متعارف عليه محلياً. وفي الوقت الذي بدأ فيه برنامج الخصخصة، كان اثنان وثلاثون رجل أعمال من هؤلاء الحيتان يسيطرون على الاقتصاد."[20]

أفقر هذا النسق من الاستحواذ السياسي والاقتصادي، الشعب المصري، ورفع من المكانة السياسية والاقتصادية لفئة محدودة ومختارة بعناية، همّها الوحيد استحواذ الثروات، وتسبب باضطرابات شعبية لم يكن "الربيع" أولها. ففي 18 كانون الثاني / يناير 1977، انتفض الشارع المصري احتجاجاً على رفع غير مسبوق في أسعار السلع الاستهلاكية، وعُرف هذا اليوم بـ ")انتفاضة الخبز(، فيما أطلق عليها الرئيس السادات )انتفاضة الحرامية(." وقد "قُمعت الانتفاضة بعنف، وجُرّدت حملة اعتقالات واسعة."[21]

وشهدت فترة حكم الرئيس حسني مبارك عدة انتفاضات قبل "الربيع العربي". ففي 25 – 26 شباط / فبراير 1986، نظم مجندو الشرطة احتجاجات بسبب "أوضاعهم الاجتماعية وللمطالبة بتحسين أجورهم"، سقط خلالها "107 قتلى وأكثر من 700 جريح." وفي 6 و7 نيسان / أبريل 2008، خرجت "تظاهرات ضد الغلاء ونقص الخبز المدعوم" أسفرت عن سقوط 3 قتلى. كما شهدت تلك المرحلة أحداثاً أمنية دموية، ومزيداً من الاستحواذ السياسي للحزب الحاكم الذي عزز "هيمنته على البرلمان بحصوله على نحو 83 بالمائة من مقاعد مجلس الشعب بعد انسحاب الإخوان المسلمين من الدورة الثانية للانتخابات التشريعية، تنديداً بالتزوير."[22] وفضلاً عن ذلك، أحدثت الترتيبات التي كانت تجري لتوريث جمال نجل الرئيس مبارك السلطة، بدعم من الأوليغارشية المستحوذة على المؤسسات السياسية والاقتصادية، رفضاً شعبياً واسعاً.

ضمن هذا المناخ، انتفض المصريون، تشجعهم التظاهرات في تونس، في كانون الثاني / يناير 2011، وبينما نجحوا في تقويض نظام مبارك، إلّا إن غايتهم النهائية، وهي مصر بلا فساد وبلد ديمقراطي يسوده العدل، لم تتحقق، ذلك بأن المشكلة كمنت في عدم وجود قوى منظمة تمثل حاضنة للمنتفضين الذين ينتمي معظمهم إلى فئة الشباب، وحاملة لمطالبهم المحقة. فالحياة الحزبية كانت قد تضررت بشدة خلال سنوات حكم الرئيس عبد الناصر (1956 – حتى وفاته سنة 1970)، مع ذوبان أحزاب قومية وحتى الحزب الشيوعي، في بوتقة الناصرية ذات الثقل الشعبي الساحق في مصر، وامتداداتها في مختلف الأصقاع العربية، ما عدا حركة الإخوان المسلمين التي حُظرت، لكنها عادت إلى العلن خلال حكم السادات، وبقيت حاضرة في المعارضة الرسمية خلال حكم مبارك.

لقد مثّل الإخوان المسلمون القوة المنظمة الوحيدة تقريباً، بعد سقوط مبارك، والتي تمكنت من الوصول إلى السلطة في انتخابات عامة، بدعم وإسناد غربيين، وتواطؤ من جانب "الدولة العميقة"، علماً بأنهم لم يشاركوا أساساً في بدايات انتفاضة كانون الثاني / يناير 2011، وإنما انقلبوا على المنتفضين، وباشروا "أخونة" الدولة، الأمر الذي أثار غضب الشارع المصري، فانتفض مجدداً عليهم بين سنتَي 2012 و2013. وقد استفاد "العسكر" من هذا الوضع المستجد الذي أدوا دوراً في نشوئه، فأقالوا الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي، وعينوا السيسي رئيساً لمصر، في سيناريو متطابق مع ما يُطلق عليه أسيموجلو وروبنسون "الحلقة المفرغة".

في حياة الدول حلقتان أساسيتان: "حلقة حميدة" تتداعى فيها التطورات الإيجابية نحو توالد مؤسسات سياسية واقتصادية شاملة، مع حكم مركزي قوي يتيح استمراية الازدهار، مثلما حدث في "الثورة الحميدة" في بريطانيا (1688) و"الثورة الفرنسية" (1789)، اللتين قادتا البلدين إلى ازدهار لا يزال متواصلاً حتى اليوم؛ "حلقة مفرغة" يتقاطر فيها على الحكم قلة تسيطر على المؤسسات كلها في البلد، بحيث تدور تلك الدول في حلقة مفرغة من التخلف السياسي والاقتصادي تؤدي إلى انهيار دول، بل حتى تلاشيها عن الخريطة.[23]

أمّا سورية، النموذج الدموي للدولة الفاشلة، فالعنف فيها كان لصيقاً بتاريخها ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، إذ شهدت 9 انقلابات كان آخرها في سنة 1970. واللافت أنه بعد الاستقلال مباشرة، وفي سنة 1949، شهد البلد 3 انقلابات: الأول في آذار / مارس، وقاده حسني الزعيم الذي أسقط حكم الرئيس شكري القوتلي الذي استمر من سنة 1943 حتى الانقلاب عليه، والذي حصلت سورية في عهده [القوتلي] على الاستقلال. والأسباب التي كانت ذريعة انقلاب الزعيم، هي الهزيمة العربية في فلسطين سنة 1948، والأوضاع الاقتصادية السيئة؛ الثاني جرى في 13 آب / أغسطس، وقاده كل من سامي الحناوي ومحمد أسعد طلس، وكانت الذريعة هي الأزمات السياسية التي وقع بها البلد جرّاء سياسة الزعيم الخارجية، وتجميد الحياة السياسية الداخلية، بينما كمنت الحقيقة في قيامه بتسريح ونقل أعداد كبيرة من الضباط، الأمر الذي أغضب المؤسسة العسكرية. وأُعدم الزعيم بعد يومين من انقلاب الحناوي، وذلك بعد 4 أشهر فقط من جلوسه على كرسي الرئاسة؛ الثالث في 9 كانون الأول / ديسمبر، وقاده أديب الشيشكلي بذريعة "الحفاظ على أمن البلد"، ولأن الحناوي أراد إبعاد الجيش عن السياسة. وتم تعيين هاشم الأتاسي رئيساً.

كرت سلسلة انقلابات بعد ذلك: في سنة 1951، نفذ الشيشكلي، الرجل القوي في البلد، انقلاباً ثانياً على رئيس الحكومة ناظم القدسي الذي عينه الأتاسي رئيساً للحكومة مخالفاً رأي الجيش، الأمر الذي دفع الأتاسي إلى الاستقالة، وإلى أن يتولى الشيشكلي منصب الرئيس؛ ودامت رئاسة الشيشكلي حتى سنة 1954، حين أطاح به انقلاب عسكري، بذريعة أنه حوّل الدولة إلى نظام الحزب الواحد. واللافت في هذا الانقلاب أنه نُظّم وانطلق من حلب، ولم يُسفك خلاله الدم، وإنما اختار الشيشكلي الاستقالة طوعاً، واختار منفى له في بيروت أولاً، ثم الرياض، فالبرازيل ختاماً. وعمل الانقلابيون على إعادة هاشم الأتاسي إلى كرسي الرئاسة حتى نهاية ولايته في سنة 1955، كما عاد القوتلي الذي اختار منفاه في مصر بعد تقديم استقالته في إثر انقلاب الزعيم عليه، إلى دمشق في سنة 1954، وترشح للرئاسة وفاز بها.

كان نجم الرئيس ناصر في مصر قد صعد وعمّ الأصقاع العربية، ومنها سورية التي وقّع رئيسها القوتلي اتفاق إنشاء الجمهورية العربية المتحدة مع مصر في سنة 1958، لكن تلك الوحدة وما اعتراها من ملاحظات في سورية، لم تصمد إلّا 3 أعوام قبل أن ينقلب الجيش مجدداً عليها، وتنفصل دمشق عن الجمهورية العربية المتحدة، ويتخذ البلد اسم الجمهورية العربية السورية بدلاً من ذلك.

توقفت الانقلابات لعامَين قبل أن ينقلب ضباط الجيش المنضوون في حزب البعث على السلطة القائمة، أو ما يُطلق عليه "ثورة الثامن من آذار" (الانقلاب البعثي)، لكن من دون أن تهدأ حركة الانقلابات التي توالت. فبعد 3 أعوام انقلب الرفاق بعضهم على بعض، غير أن البعث بقي حاكماً، مع أن الفترة 1963 - 1970 تخللتها سلسلةُ محاولات انقلابية أُخرى فاشلة، وكان في كل انقلاب ناجح يُزج بالقادة السابقين في السجون، وفاشل يزج بقادته أيضاً في السجون أو يعدمون،[24] إلى أن نجح حافظ الأسد في إحداث انقلاب طبع مرحلة تاريخية في سورية بدأت في سنة 1970، ولا تزال قائمة، بعدما تمكن من إزاحة كل ضابط ربما يكون منافساً له في المستقبل، وزجّ برفاقه في السجون، وحكم بنظام ديكتاتوري أمني ذي طابع طائفي، متحالفاً مع بورجوازية المدن السنيّة، لكن مع تهميش سنّة حلب وإبعادهم عن المشاركة في الحكم، لمناهضتهم انقلاب الأسد الأب الذي لم يكتِف بإبعاد منافسيه، بل ابتدع أيضاً نظام توريث رئاسي، فهيأ ابنه باسل لوراثته، لكن وفاته في حادث سير خلطت أوراقه مجدداً، ليعيد تهيئة ابنه طبيب العيون بشار للوراثة التي تمت في سنة 2000 بوفاة الأب. وبينما بدأ بشار رئاسته بمحاولة "لبرلة" البلد قليلاً، وإبعاد الطاقم الذي كان يعتمد عليه والده في الحكم، فإن المنتديات التي نشأت خلال المرحلة الأولى من حكم بشار، والتي كانت تناقش الأوضاع العامة في سورية بعين ناقدة، قُمعت وأرسي نظام قمع أمني أكثر تشدداً، وصولاً إلى انتفاضة 2011 الشعبية التي بدأت بمطالب بسيطة تدعو إلى قليل من الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي. وكان قد أعقب الاستحواذ السياسي في المرحلة الثانية من حكم بشار، استحواذ اقتصادي فجّ، واستشراء هائل للفساد، فقد تسلّم أقرباء بشار ومحيطه القريب، مفاتيح الاقتصاد الأساسية كافة. علاوة على ذلك، عوملت مطالب الناس بعنف دموي، ودُفع البلد نحو صراع مسلح استجلب دخول دول إقليمية ودولية وميليشيات من مختلف الألوان، وبات البلد مقسماً واقعياً وواقعاً تحت تأثير خارجي لا فكاك منه، وسقط مئات الآلاف بين قتيل ومعوق ومفقود، وملايين بين لاجىء ونازح.

إن واقع سورية يمثل بشكل جلي "الحلقة المفرغة" لكن بدموية سافرة، ومثلما ورد سابقاً أعلاه، فإن "القتال من أجل السيطرة على الدولة [....] سوف يشتد وطيسه بصورة دورية حتى يصل إلى تفكيك ومحق هذه الأنظمة الحاكمة [إذ إنه] يتحول إلى حرب أهلية، وفي بعض الأحيان إلى دمار وانهيار تام للدولة."[25] 

خارج "الربيع" وداخل النص.. حيث يولد الأمل

خارج زمن "الربيع العربي"، لكن بتماثل مع مطالب دول "الربيع"، شهد العراق ولبنان وفلسطين حراكات شعبية واسعة لم تحقق أهدافها كلها، وذلك لأسباب تتشابه مع أسباب فشل انتفاضات "الربيع"، وهذا باستثناء السودان التي ما زالت الحراكات الشعبية تتواصل فيه، حتى كتابة هذا النص، في وجه "العسكر" الذي يسعى لتفريغ الثورة من محتواها، وفي وجه الدعم الإقليمي والدولي لانقلابيي الجيش كافة. إن هذه القدرة على الاستمرار هي أمر يُبنى عليه، حتى لو تمكنت تلك الضغوط كلها من ليّ يد الثورة السودانية.

ففي العراق حيث كان النظام ملكياً تحت سلطة الاستعمار البريطاني، ساد اضطراب سياسي بعد الاستقلال، إذ تشكلت خلال حكم الملك فيصل الأول "5 حكومات في عامَين"،[26] وذلك في مرحلة كان العراق "دولة رخوة"، وهو نموذج استمر مع اعتلاء الملك غازي الأول العرش ثم فيصل الثاني، في وقت برزت "التيارات القومية"، وحدثت سلسلة انقلابات بدأت بـ "انقلاب بكر صدقي في 1936، وحركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941"،[27] والتي قُمعت بتدخل بريطاني مباشر وتم إعدام "الضباط الأحرار المشاركين في ثورة [...] 1941"،[28] ثم "تنامى دور العسكر في الحياة السياسية بشكل كبير."[29] وتوالت الانقلابات الدموية التي بدأت بانقلاب عبد الكريم قاسم في سنة 1958 وإعدام الملك فيصل الثاني وولي العهد الأمير عبد الإله ورئيس الحكومة نوري سعيد، ثم انقلاب عبد السلام عارف، بعد أشهر، على صديقه وزميله في الانقلاب قاسم، وهو انقلاب فشل، وأُعدم فيه عدد من الضباط، لكن الإعدام لم ينفّذ بعارف الذي عاد وانقلب على قاسم مجدداً في سنة 1963، وأمر بإعدامه، قبل أن يُطاح به في تموز / يوليو 1968 ويتولى حزب البعث الحكم بقيادة أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، بانقلاب سُمّي الأبيض، لكنه كان ملوناً بالدم، فقد نُفذت حملة اعتقالات واسعة واغتيالات لشخصيات عسكرية وسياسية، وسيطر "البعث" على جميع مؤسسات الدولة. لاحقاً، وفي 22 تموز / يوليو 1979، وقع انقلاب أبيض أيضاً، تفرد فيه صدام حسين بالحكم، بعدما ادعى وجود خيانات لمصلحة حزب البعث في سورية، فأُدين 68 شخصاً أُعدم 22 منهم.[30]

إن ما كان يحدث في تلك المرحلة في العراق، يمثل أفضل تمثيل "الحلقة المفرغة" التي تتوالد فيها الانقلابات ويتكرر الواقع نفسه في كل مرة. غير أن فترة حكم صدام حسين (1979 – 2003)، التي تشبه كثيراً ما حدث في سورية مع حافظ الأسد، تميزت بأحداث داخلية وخارجية غيرت وجه العراق نحو الأسوأ. "فخلال أكثر من ثلاثين عاماً في سدة الحكم، بينها عشرون عاماً كرئيس، اعتمد صدام حسين نهجاً قاسياً في الحكم، ممّا وضع العراق بأسره في مهب الريح. فقد دخلت بلاده في حرب مدمرة مع جارته إيران عام 1980 [....] وبعد عقد من الزمن غزا دولة الكويت ونشبت إثر ذلك حرب الخليج الثانية. ورغم معاناة العراقيين من عواقب الحصار الذي فرضته الأمم المتحدة، فإن قبضة صدام على الحكم لم تضعف حتى غزو العراق عام 2003"،[31] علماً بأن تلك المرحلة شهدت اضطرابات داخلية تمكن صدام من السيطرة عليها بالقوة الدموية.

وعلى الرغم من القبضة الدموية التي حكم فيها صدام حسين، وقتله معارضيه في الداخل وملاحقتهم حتى خارج العراق، فإن الوضعَين السياسي والاقتصادي بعد سقوطه باتا أكثر سوءاً؛ إذ بينما كان كثيرون يأملون بعراق ديمقراطي وتعددي ومزدهر، فإن تعمّد الولايات المتحدة هدم مؤسسات الدولة كلها، وخصوصاً المؤسستين العسكرية والأمنية، دفع العراق نحو نفق مظلم زاد من قتامته تفشي الفساد على نطاق واسع، وازدياد الحالة الطائفية التي أنتجت دخولاً لحركات متطرفة، مثل القاعدة ومجموعة الزرقاوي ولاحقاً "داعش"، وتأسيس "الحشد الشعبي" الشيعي بدعم إيراني، والذي لا يزال يعمل على عدم السماح ببناء دولة المؤسسات. فقد "قدرت لجنة النزاهة النيابية الأموال العراقية المهربة من قبل بعض الفاسدين في عهد النظام السياسي القائم منذ عام 2003 [حتى نهاية سنة 2020] بنحو 350 مليار دولار، أي ما يعادل 32% من إيرادات العراق خلال 17 عاماً."[32]

ويمثل الهدر في قطاع الكهرباء علامة فارقة في ملف الفساد، فالبلد يعاني جرّاء "انقطاع الكهرباء منذ أكثر من ثلاثة عقود على الرغم من المبالغ الضخمة التي تم صرفها على قطاع توليد الطاقة منذ عام 2003 ولغاية اليوم، تُقدّر، بحسب خبراء، بأكثر من 80 مليار دولار [....]. ووفقاً للمعايير العالمية، فإن صرف مليار دولار يمنحك القدرة على إنتاج ألف ميغاواط، لكن العراق صرف نحو 90 مليار دولار على ملف الكهرباء منذ عام 2003 ولم يتجاوز حجم الإنتاج 19 ألف ميغاوات"،[33] أي أن أكثر من 71 مليار دولار هُدرت في قطاع الكهرباء وحده.

لقد كانت "مواقف الكثيرين [بشأن] مستقبل المجتمع العراقي والديمقراطية، في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، متفائلة [....] بسبب نظرية التحديث" التي تقول بإمكان تحويل الدولة اللاديمقراطية إلى أُخرى ديمقراطية. لكن "هذه الآمال سرعان ما تلاشت عندما حلت الفوضى والحرب الأهلية"، إذ "إن نظرية التحديث غير صحيحة وغير مفيدة في التفكير [في] كيفية مواجهة المشكلات الجسام المتعلقة بالمؤسسات الاستحواذية في إفشالها للأمم."[34]

إن امتلاك أدوات العصر (حالياً التكنولوجيا الفائقة التطور ووسائل التواصل الاجتماعي)، لا يعني بالضرورة أن المجتمع الذي يستخدمها هو مجتمع متطور سياسياً واقتصادياً، ذلك بأن استخدام تلك الأدوات في الدول الاستحواذية يتم بذهنية تعود إلى موجة سابقة من التطور، ففي الحيّز الزمني نفسه يختلف وعي كيفية استخدام منتج العصر، بين دولة متقدمة وديمقراطية، وأُخرى استحواذية بذهنية الماضي.[35]

على الرغم من ذلك كله، فإن الأمل لا يزال معقوداً على تجاوز العراق أزمته، والتخلص من تبعات الاحتلال الأميركي والهيمنة الإيرانية التي فرّخت ميليشيات باتت تقارع الدولة. فقد قادت الاحتجاجات التي بدأت في سنة 2019 إلى تغيير جزئي ظهر خلال الانتخابات العامة الأخيرة التي فشلت فيها الميليشيات والأحزاب التابعة لإيران في نيل مقاعد تمكّنها من الهيمنة على مؤسسات الحكم، في مقابل نجاح بارز لمقتدى الصدر الذي أظهر ميلاً نحو الوطنية العراقية وإرادة بناء الدولة المركزية ذات المؤسسات السياسية والاقتصادية الشاملة، من دون إفراط في الأمل، إذ إن التحديات لا تزال كثيرة وكبيرة جداً، داخلياً وإقليمياً ودولياً.

وعلى غرار العراق، فقد شهد لبنان في تشرين الأول / أكتوبر 2019، انتفاضة شعبية مميزة بسلميتها وشموليتها، لكن السلطة السياسية الاستحواذية القائمة والمهيمنة على اقتصاد بُني على شكل اقتصاد حر مشوّه، والمؤلفة من تحالف المال وميليشيات الحرب الأهلية والسلاح المنتمي إلى إرادة خارجية، تمكنت، بالقمع العنيف، من السيطرة على الوضع، ووضع الشعب في دائرة "متلازمة اللامبالاة"، فاختار آلاف الشباب الهجرة، أو التزموا منازلهم بعدما خابت آمالهم بالتغيير.

يمثل لبنان نموذجاً حيّاً لـ "الدولة الرخوة"، فقد تم تركيبه فرنسياً من خلال اقتطاع أجزاء من ولايات عثمانية، ومن طوائف ومذاهب متعددة (مسيحية وإسلامية) لدعم فكرة توسيع حيّز متصرفية جبل لبنان (العثمانية) كي يكون مساحة يمكن إقامة دولة فوقها، وهكذا أعلن الجنرال غورو "دولة لبنان الكبير" في سنة 1920. غير أن مكونات هذا الـ "لبنان الكبير" لم تكن متوافقة على إنشاء دولة جديدة، وإنما كان المسلمون، وخصوصاً السُّنّة، ميّالين إلى البقاء ضمن سورية. وحتى حين أُعلنت "الجمهورية اللبنانية" في سنة 1943، فإن الخلاف بشأن إنشاء هذا الوطن لم يكن قد تلاشى، كما أن تلاقي زعماء الطوائف اللبنانية على فكرة الجمهورية اللبنانية عند إعلان الاستقلال في سنة 1946، لم يضف كثيراً على عدم قناعة المكون السنّي بصورة خاصة بالدولة الوليدة التي ركزت دعائمها بعد الاستقلال، لكن كدولة استحواذية يحكمها تحالف طائفي / مذهبي - مالي، اعتمد تعزيز ازدهار مركز الدولة في العاصمة بيروت وجوارها الشمالي القريب والجبال المحيطة، في الوقت الذي همّش الأطراف الشمالية والجنوبية والشرقية التي افتقرت إلى بُنى تحتية ملائمة للحاق بركب ازدهار المركز.

وكغيره من دول الشرق الأوسط، تأثر لبنان بالتطورات المتلاحقة في الإقليم، لكن بسبب طبيعة بُنيته المتعددة (لكن الرخوة)، استفاد إيجابياً من تلك التطورات، ولا سيما إنشاء إسرائيل على أنقاض فلسطين، ومقاطعتها عربياً؛ فقد تحول المركز الذي كانت تشغله فلسطين كحلقة مواصلات بحرية وبرية وجوية، إلى لبنان الذي ازدهر ميناؤه البيروتي ومطار العاصمة فيه، كما أن أنابيب النفط القادمة من السعودية والعراق تحولت من ميناء حيفا إلى مصبَّي الزهراني وطرابلس، وجلب متموّلو فلسطين أموالاً استثمارية قُدّرت بملايين الجنيهات، ويداً عاملة رخيصة. كذلك استفاد لبنان، باقتصاده الليبرالي ونظامه المصرفي الذي يعتمد السريّة المصرفية، من تدفق الرساميل العربية الهاربة من الانقلابات في مصر وسورية والعراق، ومن مركزه السياحي المميز: جبلاً وبحراً.

على الرغم من هذا الازدهار الذي شهده المركز، فإن الدولة بقيت عرضة للاهتزاز مع كل أزمة، وهو ما ظهر في سنة 1958، عندما اندلعت حرب أهلية مصغرة تطورت إلى حرب أهلية كبرى في سنة 1975، بسبب التأثيرات السلبية للهزيمة العربية أمام إسرائيل في حزيران / يونيو 1967، والخلافات الداخلية بشأن العمل الفدائي الفلسطيني عبر لبنان، ودخول العامل الفلسطيني الفصائلي على تفصيلات السياسة اللبنانية، وأولاً وأخيراً الخلافات الطائفية والحزبية على أي لبنان يريده اللبنانيون.

انتهت حرب السلاح بعد فرض تطبيق اتفاق الطائف (1989) في إثر هزيمة قائد الجيش ورئيس الحكومة العسكرية في حينه، الجنرال ميشال عون، أمام هجوم سوري مغطى عربياً ودولياً، غير أن مفاعيل تلك الحرب بقيت قائمة من خلال ابتداع مسارَين لمرحلة تطبيق "الطائف": اقتصادي حملت لواءه السعودية والدول العربية عبر رجل الأعمال اللبناني / السعودي رفيق الحريري، وأمني / سياسي عبر هيمنة سورية. لكن في آخر عهد حافظ الأسد بدأ انفصال مسارَي الاستحواذين الأمني / السياسي (السوري) والاقتصادي (السعودي / العربي)، وتفاقم الأمر مع بداية عهد بشار الأسد، منتهياً باغتيال الحريري في شباط / فبراير 2005، وهو الاغتيال الذي دخل لبنان بعده في "حلقة مفرغة" جديدة وضعت الكيان كله أمام خطر الزوال. أمّا انتفاضة تشرين الأول / أكتوبر 2019، ومثلما ذُكر سابقاً، فهزمتها السلطة السياسية / الأمنية / المالية / الميليشياوية الاستحواذية، والمسيطرة على تفصيلات الاقتصاد كله، وهي توليفة شيطانية لم يفككها انفجار مرفأ بيروت في آب / أغسطس 2020، والذي صُنّف على أنه أكبر انفجار غير نووي في التاريخ الحديث.

لقد استحوذت التوليفة الأوليغارشية على الاقتصاد فنهبت الدولة، وعلى غرار العراق، برز ملف الكهرباء كبؤرة فساد كلفت اللبنانيين أكثر من 40 مليار دولار، إذ بدلاً من أن تؤمَّن الكهرباء 24 / 24 مثلما صرّح رئيس التيار الوطني الحر وصهر رئيس الجمهورية، جبران باسيل، في سنة 2015، فإنها في سنة 2022 باتت تغيب عن بيوت اللبنانيين 22 ساعة في اليوم. ويقدّر الخبير الاقتصادي اللبناني مروان إسكندر تكلفة ما دُفع على قطاع الكهرباء بـ "65% من الدين العام اللبناني"[36] الذي بلغ "98,73 مليار دولار حتى نهاية آب / أغسطس 2021."[37]

إن الظروف التي مكّنت الفصائل الفلسطينية من السيطرة على جزء كبير من لبنان بين مطلع سبعينيات القرن الماضي حتى الاجتياح الإسرائيلي في سنة 1982، وسيطرة سورية بعد اتفاق الطائف، هي الظروف ذاتها التي مكّنت حزب الله، كقوة ميليشياوية محلية بامتدادات خارجية، من السيطرة على السياسة اللبنانية بعد اغتيال الحريري، وقيامه بأدوار إقليمية أكبر من حجمه وأكبر من قدرة لبنان على التحمل، الأمر الذي ربما يحوّل البلد من "دولة رخوة" إلى "دولة بائدة".

أمّا الوضع في فلسطين فيختلف عنه في سائر الدول العربية، فقد قطعت نكبة 1948 المسار الطبيعي للتطور في فلسطين، وهُجّر أكثر من نصف الفلسطينيين (750,000 من أصل 1,415,000)، ورزح تحت الاحتلال الإسرائيلي وفي ظل حكم عسكري نحو 175,000 فلسطيني.

لم يبقَ من فلسطين بعد النكبة سوى ضفتها الغربية وشريط ضيق من غزة، فضُّمت الأولى إلى شرق الأردن وباتت جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وأدارت مصر شريط غزة، وانتشر المهجّرون الفلسطينيون بين دول الجوار (سورية ولبنان والأردن) والضفة وغزة، وباتوا لاجئين تحت إدارة إغاثة دولية ممثلة في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (أونروا).

الملاحظ أن العائلات السياسية الفلسطينية التي عملت في الشأن العام في إبان الاستعمار البريطاني، بقيت حاضرة في المشهد في الضفة تحت الحكم الأردني، وفي غزة تحت الإدارة المصرية، ولم يتغير الوضع إلّا بعد انطلاق الكفاح المسلح الفلسطيني، ودخول "فتح" والفصائل الأُخرى إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي كان النظام الرسمي العربي أنشأها وعيّن عليها قيادات تنتمي إلى عائلات فلسطينية سياسية أيضاً.

يرى أسيموجلو وروبنسون أن انحرافات تاريخية تغير مجرى مسار الدول، فبريطانيا ما كانت لتصبح ديمقرطية بمؤسسات سياسية واقتصادية شاملة لولا "الثورة المجيدة"، وفرنسا لولا ثورة "1789 – 1799"، لكن أيضاً ليس كل دولة يمكن أن يمثل الانحراف التاريخي فيها تحولاً نحو السياسة والاقتصاد الشاملين. ففلسطين التي أنهاها جغرافياً كل من الاحتلال الإسرائيلي والأطماع العربية، أعادت إحياءها الثورةُ المسلحة، وباتت كياناً سياسياً بعد تولّي "فتح" والفصائل أمور منظمة التحرير التي اعتُبرت جغرافيا بديلة، وتمكنت من حجز حيّز لها في السياسة الدولية وفي الهيئات الدولية، فباتت المنظمة باعتراف عربي ودولي الكيان السياسي الوحيد الممثل للشعب الفلسطيني. لكن المسار الذي سار فيه هذا الكيان البديل من الجغرافيا الملموسة، وبسبب اختلال موازين القوى مع إسرائيل وحلفائها الظاهرين الدوليين والإقليميين الطامعين بالسيطرة على فكرة فلسطين، وكذلك بسبب البُنى الذهنية القادمة من الزمن والمحيط الاستحواذيَّين، أوصل إلى نهايات باتت فيها الفصائل هياكل استحواذية بيد الزعيم والمقربين منه، ولا سيما أن هذا الزعيم هو صاحب سلطة القرار، الأمر الذي قاد، وبذريعة الواقع والواقعية السياسية، إلى اتفاق أوسلو تحت شعار إنشاء جغرافيا ترابية مستقلة لحماية استقلالية القرار الفلسطيني. غير أنه لم يبقَ من سلطة أوسلو سوى تنسيق أمني مع إسرائيل، وهياكل سياسية استحواذية، سواء في الضفة أو غزة، فالقيادات السياسية أو عائلات وأقارب تلك القيادات، باتوا يستحوذون على الحيّز الاقتصادي أيضاً، وبالتعاون والتآزر مع البورجوازية التقليدية الفلسطينية.

وسط هذا المشهد السوداوي كله، كان هناك دائماً فسحة ضوء: الكفاح المسلح وبروز منظمة التحرير ككيان فلسطيني مستقل بعد هزيمة حزيران / يونيو 1967 العربية؛ انتفاضة الحجارة (1987) بعد خروج منظمة التحرير من بيروت في سنة 1982؛ الانتفاضة الثانية في سنة 2000 مع بداية تعثر أوسلو؛ انتفاضة الشيخ جرّاح التي تحولت إلى انتفاضة شملت الجغرافيا الفلسطينية كلها في سنة 2021 في ظل انهيار رسمي فلسطيني.

صحيح أن هناك تفاوتاً هائلاً بين الوضع في الضفة وغزة وبين إسرائيل "المزدهرة" اقتصادياً، لكن "الازدهار المتعلق بإسرائيل تم استيراده بدرجة كبيرة من خلال استيطان اليهود هناك، بعد الحرب العالمية الثانية، بمستوياتهم المرتفعة من التعليم وسهولة حصولهم على وسائل التكنولوجيا المتقدمة"،[38] وبسبب استمرار الدعم الأميركي والأوروبي راهناً. غير أن إسرائيل نفسها تشهد تحولاً عن أسباب ازدهارها، وتصبح يوماً بعد يوم أكثر انحرافاً نحو اليمين الاستعماري المتطرف، وهو مسار طبيعي على الرغم من الغلاف الحداثي الذي جلبه يهود أوروبا معهم. لقد باتت إسرائيل أكثر شبهاً بنظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا الذي ضيّق بالتدريج ملكية الأفارقة للأرض، وخصوصاً بعد إصدار قانون 1913 الذي "مهد الطريق لتشكيل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، حيث تمتلك الأقلية البيضاء كلاً من الحقوق السياسية والاقتصادية، في حين يتم استبعاد الأغلبية السوداء منها"، وعزلهم في "البانتوستانات".[39]

فإسرائيل تعمل على إزاحات سكانية للفلسطينيين في القدس وغلافها، وتجميعهم في "بانتوستانات"، كما أنها ترحّل البدو المستقرين في الأغوار وتسيطر على أراضيهم، وتزرع البؤر الاستيطانية في أراضي الفلسطينيين الزراعية وقمم التلال في الضفة الغربية، الأمر الذي يقوض اقتصاد الضفة الريفي، ويدفع السكان نحو المدن التي باتت بمثابة "بانتوستانات" كبرى، ويحول الفلاحين إلى أيدٍ عاملة رخيصة داخل إسرائيل. والأمر نفسه يجري في النقب حيث يلاحَق مَن تبقّى من بدو النقب ويطردون من أراضيهم، أمّا فيما يطلَق عليه المدن المختلطة داخل إسرائيل، فإن الحكومات الإسرائيلية تعمل على طرد مَن تبقّى من الفلسطينيين فيها.

لكن، وعلى الرغم ممّا سبق كله، ومع تلاحق الخسائر الفلسطينية محلياً، فإن الرأي العام الدولي يشهد تحولاً في اتجاه القضية الفلسطينية، متمثلاً في النجاحات الملموسة للمقاطعة الأكاديمية والاقتصادية للمؤسسات الاستيطانية أو المتصلة بها، بعد حركة دؤوبة قادتها "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (BDS)، وازدياد عدد المناهضين لسياسة إسرائيل ضد الفلسطينيين. إن ما يحدث حالياً لدى الرأي العام العالمي، أشبه ببدايات انكشاف النظام العنصري في جنوب أفريقيا عالمياً، والذي سار تصاعدياً إلى نقطة انتهى فيها هذا النظام. لكن ما يحتاج إليه الفلسطينيون للاقتداء بتجربة جنوب أفريقيا، هو قادة مثل نلسون منديلا الذي فاوض سجّانيه طوال 25 عاماً من داخل سجنه، ولم يتخلّ عن أي من أهداف شعبه، بل إنه عندما تولى الرئاسة بعد انهيار نظام الفصل العنصري، رفض تقويض مؤسسات النظام البائد، واستخدمها ودعا إلى تطويرها، كي لا يقع النظام الوليد في دائرة "الدولة الرخوة".

مثل آخر وأخير تقتدي به هذه الدراسة، هو السودان الذي يعيش حتى لحظة الانتهاء من كتابة هذا النص حراكاً مميزاً. فالسودان، وعلى غرار كيانات مرحلة الاستعمار البريطاني – الفرنسي كلها، جرى تركيبه بما يفيد الاستعمار البريطاني الذي استمر 30 عاماً.

لقد شهد السودان منذ استقلاله في سنة 1956 عدداً كبيراً من الانقلابات العسكرية في سنوات 1957، و1958، و1964، والتي نجح بعضها وباء بعضها الآخر بالفشل؛ كما شهد في سنة 1969 انقلاباً نفذته مجموعة "الضباط الأحرار" بقيادة جعفر النميري، وذلك بعد فترة من الأزمات السياسية والمؤامرات والتحالفات المتهافتة على السلطة. أمّا في سنة 1971 فقاد الضابط هاشم العطا ومجموعة من الضباط المحسوبين على الحزب الشيوعي في الجيش السوداني انقلاباً استولوا فيه جزئياً على السلطة لمدة يومين، لكن النميري استعاد سلطته وحاكم الانقلابيين وعدداً من المدنيين. وشهد عهد النميري أيضاً تمرداً عسكرياً في سنة 1973 تم إحباطه، وانقلاباً في سنة 1975 أُحبط وأُعدم منفذوه، وكذلك في سنة 1976، إلى أن أنهى الجيش السوداني عهد النميري في انقلاب 1985، ولأول مرة، وآخر مرة، سلم العسكر السلطة طواعية إلى سلطة مدنية منتخبة وقاد المرحلة الانتقالية الفريق عبد الرحمن سوار الذهب. وقد جرت انتخابات أظهرت نتائجها صعوداً غير مسبوق للإسلاميين، إذ نالوا 51 مقعداً، محتلين المرتبة الثالثة بعد كل من الحزب الاتحادي (63 مقعداً)، وحزب الأمة (100 مقعد) الذي كان الصادق المهدي يرأسه حينها، لكن العسكر عاد إلى عاداته، فانقلب العميد عمر حسن البشير، في سنة 1989، على الحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي، وحاكم وسجن العديد من السياسيين. وتمكن البشير من إفشال انقلابَين في سنتَي 1990 و1992، وشهد حكمه انفصال جنوب السودان الذي ثار لفترة طويلة ضد الحكم المركزي في الخرطوم، وسلسلة من الحروب والمجازر الدموية دفعت إلى اتهام البشير بجرائم حرب وبات مطلوباً لمحكمة الجنايات الدولية.[40]

وبسبب الوضع الاقتصادي السيىء، شهد السودان تظاهرات في كانون الأول / ديسمبر 2018، على الرغم من تنفيذ الجيش انقلاباً على البشير في 24 نيسان / أبريل 2019، وعزله وسجنه. فالمجلس العسكري الحاكم، أخلّ بتعهداته عند تأسيس المجلس السيادي المشترك مع المدنيين، فقد حلّه وحلّ الحكومة المدنية قبل فترة وجيزة من التاريخ المقرر لانتقال الرئاسة إلى مدني. ولم يفتّ تغوّل العسكريين هذا من عضد الشارع الذي واصل انتفاضته، فهو لا يزال مستمراً فيها حتى لحظة كتابة آخر كلمات في هذا النص، رافضاً أي دور للعسكر في السياسة، على الرغم من القمع.

لقد استفاد السودانيون ممّا جرى خلال ثورات "الربيع العربي" وبعدها، فتمسكوا بهدف الدولة المدنية الكاملة، وبإبعاد العسكر عن السياسة، وبسلمية التظاهرات على الرغم من العنف الذي تمارسه سلطة العسكر، ولم يرضخوا لجميع الضغوط والإغراءات الفارغة، الإقليمية والدولية. إن ما يحدث في الشارع السوداني يعطي أملاً بقدرة الشعوب العربية على قطع "الدائرة المفرغة"، وإنشاء "دائرة حميدة" تقود إلى دولة مؤسسات سياسية واقتصادية شاملة. 

خاتمة

السؤال المطروح بعد 12 عاماً على بداية انتفاضات "الربيع العربي، هو: هل تغير الوضع بعد انهيار الأنظمة السابقة، وتفشيل ثورات الربيع العربي؟ وجواب الوقائع عن هذا السؤال هو: الزعماء الجدد يطيحون بالحكام السابقين وهم يحملون الوعود بإجراء تغيير جذري، لكنهم لا يحققون أي شيء سوى مزيد من الأنظمة نفسها. وحتى لو شهدت هذه الأنظمة ازدهاراً اقتصادياً فإنه سيكون ازدهاراً موقتاً ما لم يوازِه إقامة مؤسسات سياسية شاملة وديمقراطية حقّة؛ أليس هذا ما يحدث في مصر، وفي تونس أيضاً؟ أمّا الأنظمة التي تمكنت من قمع شعوبها ولم يتغير أشخاصها، مثل سورية، فوضعها أسوأ من تلك التي تغيّر الأشخاص فيها، والأكثر سوءاً هو تلك الحرب المدمرة الدائرة في اليمن، والانفلات الشامل في ليبيا.

إن جُل ما تغير في تلك الدول، هو إحلال شخصيات مكان أُخرى، وادعاء مفضوح بالسماح بالتعددية التي يجب أن "تمثل حجر الأساس بالنسبة للمؤسسات السياسية الشاملة" و"تتطلب سلطة سياسية يتم تداولها على نطاق واسع في المجتمع"،[41] وهذا ما يفتقده معظم الدول العربية، وخصوصاً تلك التي شهدت انقلابات عسكرية بعد النكبة الفلسطينية في سنة 1948؛ بل بخلاف ذلك، فإن الانقلابات أسست لمرحلة استحواذية أكثر مركزية وظلماً، تحت شعار "كل الموارد لتحرير فلسطين"، ففلسطين اليوم تغيب عن هذه الأنظمة، ولا يوجد إلّا سلطة استبداد تصادر أدوات ازدهار شعوبها، من المؤسسة الاقتصادية، إلى القضائية، والأمنية والعسكرية، وليس انتهاء بالإعلام.

الأمل يبقى قائماً، ولولاه لما ظهر "ربيع عربي" تم تفشيله، ومع ذلك زرع بذور التمرد على السلطة الاستحواذية. ولولا الأمل لما عادت فلسطين من رماد النكبة وفرضت نفسها على العالم. ولولا الأمل لما خرجت شابات وشبان عرب إلى الشوارع مطالبين بالكرامة والحرية؛ صحيح أن السلطة المهيمنة غرست أنيابها بشعوبها، لكن مَن تمرد مرة سيكرر تمرده مرات حتى تحقيق هدف الدولة العصرية الديمقراطية التعددية الشاملة والعادلة.

 

المصادر:

[1] انظر "الدولة الفاشلة"، "الموسوعة السياسية"، في الرابط الإلكتروني.

[2] Gerald B. Helman and Steven R. Ratner, "Saving Failed States", Foreign Policy, no. 89 (Winter 1992-1993) pp. 3-20.

[3] William Zartman (editor), Collapsed States: The Disintegration and Restoration of Legitimate Authority (Boulder, Colorado: Lynne Rienner Publishers, 1995).

[4] Gunnar Myrdal, Asian Drama: An Inquiry into the Poverty of Nations, 3 volumes (New York: Pantheon Books, Twentieth Century Fund, 1968). See also, Gunnar Myrdal, " 'Asian Drama': The Pursuit of Modernization in India and Indonesia", Asian Affairs, vol. XXXV, no. III (November 2004), pp. 291–304.

[5] دارن أسيموجلو وجيمس أ. روبنسون، "لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والازدهار والفقر"، ترجمة بدران حامد (القاهرة: الدار الدولية للاستثمارات الثقافية، 2015).

[6] لمزيد عن فكرة متلازمة اللامبالاة، انظر: أنيس محسن، "صفقة ترامب ومتلازمة اللامبالاة الشعبية الفلسطينية"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 122 (ربيع 2020)، ص 67 – 74.

[7] ورد تلخيص العناصر المكونة للدولة الرخوة وفق غونار ميردال، في موقع "عالم الثقافة"، 30 / 11 / 2020، بعنوان "الدولة الرخوة"، في الرابط الإلكتروني.

[8] أسيموجلو وروبنسون، مصدر سبق ذكره، ص 489.

[9] لمزيد عن نقض "النظريات العقيمة"، انظر: المصدر نفسه، ص 75 – 107. وبشأن نجاح بوتسوانا في بناء دولة مؤسسات سياسية واقتصادية شاملة، انظر: المصدر نفسه، ص 527 – 538.

[10] المصدر نفسه، ص 116.

[11] المصدر نفسه، ص 124.

[12] المصدر نفسه، ص 132.

[13] المصدر نفسه، ص 142 – 143.

[14] المصدر نفسه، ص 176 – 177.

[15] المصدر نفسه، ص 96.

[16] "محمد البوعزيزي.. شرارة أطلقت الربيع العربي"، موقع قناة "الجزيرة"، 7 / 12 / 2015، في الرابط الإلكتروني.

[17] "ملف تونس: حقائق تاريخية وسياسية واقتصادية وإعلامية"، موقع "بي. بي. سي."، 14 كانون الثاني / يناير 2011، في الرابط الإلكتروني.

[18] "البنك الدولي يكشف فساد بن علي"، "العربي الجديد"، 25 / 3 / 2014، في الرابط الإلكتروني.

 [19] انظر البيانات في موقع "البنك الدولي في تونس"، في الرابط الإلكتروني.

[20] أسيموجلو وروبنسون، مصدر سبق ذكره، ص 517. ولمزيد من التفصيلات عن هذه المرحلة، انظر: المصدر نفسه، ص 506 – 525.

[21] محمد غنيم، "أسرار تُروى لأول مرة بعد 39 عاماً على (انتفاضة الحرامية) "، "الوفد"، 14 / 1 / 2016، في الرابط الإلكتروني.

[22] "أهم الأحداث منذ تولّي حسني مبارك السلطة في 1981"، "فرانس 24"، 11 / 2 / 2011، في الرابط الإلكتروني.

[23] بشأن مفهومَي "الحلقة الحميدة" و"الحلقة المفرغة"، انظر: أسيموجلو وروبنسون، مصدر سبق ذكره، ص 466 – 481.

[24] التواريخ والمعلومات الواردة عن الانقلابات في سورية مستقاة من: محمد معروف، "أيام عشتها، 1949 - 1969: الانقلابات العسكرية وأسرارها في سورية" (بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، 2003).

[25] أسيموجلو وروبنسون، مصدر سبق ذكره، ص 142 – 143.

[26] طه العاني، "88 عاماً على انتهاء الانتداب البريطاني.. يوم استقلال العراق"، موقع قناة "الجزيرة" الإلكتروني، 3 / 10 / 2020، في الرابط الإلكتروني.

[27] المصدر نفسه.

[28] مهند فارس، "لهذا اكتسب يوليو صفة شهر الانقلابات في العراق"، موقع قناة "الجزيرة" الإلكتروني، 26 / 7 / 2021، في الرابط الإلكتروني.

[29] العاني، مصدر سبق ذكره.

[30] لمزيد من التفصيلات، انظر: تمام أبو الخير، "تعرّف على أبرز الانقلابات في تاريخ العراق"، موقع "نون بوست" الإلكتروني، 5 / 10 / 2019، في الرابط الإلكتروني. 

[31] "صدام حسين الذي لم يفارق ظله ضحاياه ومحبّيه"، موقع "بي. بي. سي." الإلكتروني، 13 كانون الأول / ديسمبر 2018، في الرابط الإلكتروني.

[32] سلام زيدان، "350 مليار دولار هُرّبت من العراق خلال 17 عالماً"، موقع قناة "الجزيرة" الإلكتروني، 28 / 3 / 2021، في الرابط الإلكتروني. 

[33] "بعد 80 مليار دولار.. أرقام صادمة عن قطاع الكهرباء في العراق"، موقع "الحرّة" الإلكتروني، 3 تموز / يوليو 2021، في الرابط الإلكتروني.

[34] أسيموجلو وروبنسون، مصدر سبق ذكره، ص 576.

[35] لمزيد عن هذا المفهوم، انظر: ألفن توفلر، "حضارة الموجة الثالثة"، ترجمة عصام الشيخ قاسم (بنغازي: الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، 1990).

[36] مروان إسكندر، "هل يمكن إنقاذ لبنان باستعادة النمو والاستثمار؟" "النهار"، 10 / 12 / 2021، في الرابط الإلكتروني.

[37] "99 مليار دولار حجم الدين العام اللبناني"، "النهار"، 23 / 12 / 2021، في الرابط الإلكتروني.

[38] أسيموجلو وروبنسون، مصدر سبق ذكره، ص 206.

[39] المصدر نفسه، ص 357.

[40] لمزيد من التفصيلات عن الانقلابات في السودان، انظر: "الانقلاب العسكري في السودان: تاريخ حافل بالمحاولات الناجحة والفاشلة منذ الاستقلال"، موقع "بي. بي. سي." الإلكتروني، 25 / تشرين الأول / أكتوبر 2021، في الرابط الإلكتروني.

[41] أسيموجلو وروبنسون، مصدر سبق ذكره، ص 595.