قبل الحديث عن السينما الفلسطينية في العقدين الأخيرين، لنعد، ولو سريعاً، إلى المرحلة الأولى التي يمكن فيها توصيف السينما الفلسطينية كهوية (أواخر الستينيات حتى أوائل الثمانينيات)، وهي مرحلة الثورة الفلسطينية المعاصرة التي كانت السينما فيها صورة لصيقة بهوية الفلسطيني. كان فدائياً، وكانت مفرداته آنذاك "الكفاح المسلح" و"التحرير" و"العودة"، وكذلك كانت أفلامه، لكن في سنوات الألفين، تغيرت الهوية وتغيرت المفردات، وذلك بتغير واقع الفلسطينيين الذي نشهد حتى اليوم تبعاته على الهوية.
بين السبعينيات والألفين، مرّت هذه السينما بانقطاعات وانتقالات وإعادة تشكيل للهوية، فاختفى الفدائي وحلّ محله البائس. اللاجىء الفلسطيني عاد إلى الصورة التي كان عليها قبل إطلاق ثورته وتحوّله إلى فدائي، ومذّاك بدأت تتغير هوية الفلسطيني الموصوفة سينمائياً، بفعل عاملَين: اتفاق أوسلو والانتفاضة الثانية.
ما الذي حدث قبل الوصول إلى سنة 2000 وامتداد ذلك إلى يومنا هذا؟ اقتحمت النيوليبرالية المجال الفلسطيني في التسعينيات، وصارت المنظمة سلطة ببُنية بيروقراطية وطبيعة ريعية ووظيفة أمنية. هذا هو السياق الذي وجدت فيه السينما الفلسطينية نفسها، مع بداية الألفية.
وكي لا أستغرق في تعداد العناوين والأسماء، فإن حديثي لن يتناول السينما الوثائقية، وإنما السينما الروائية مختاراً نماذج منها، لأشير إلى تفكك في هوية الفلسطيني مثلما يصورها عموم السينما الفلسطينية.
ما أريد الوصول إليه هنا، هو أن تفكك الهوية الفلسطينية كان لحساب بروز وطنية مجزوءة، وهو ما مثلته السينما بوضوح.
ما نشاهده في عموم السينما الفلسطينية في العقدين الأخيرين، هو وطنية فلسطينية لا هوية فلسطينية، فالهوية هذه هي فوق - وطنية، تماماً مثلما كانت حالها أيام صعود الزمن الفلسطيني في السبعينيات. ففي أفلام السبعينيات كانت الوطنية الفلسطينية مكوّناً أساسياً، لكن ليس وحيداً، للهوية الفلسطينية، إذ إن عرباً وأجانب شاركوا في تأسيس السينما الفلسطينية وصناعتها، منها "المخدوعون" لتوفيق صالح، و"كفر قاسم" لبرهان علوية، و"عائد إلى حيفا" لقاسم حَوَل. هذه أمثلة للأفلام الروائية، أمّا الأفلام التسجيلية فعديدة ومتنوعة، وقسم لا يستهان به منها هو لمخرجين أجانب.
ما بعد التسعينيات، انحسرت الهوية إلى وطنية، والوطنية إلى محليات متفرقة ومعزولة مال معظمها إلى التلاؤم مع شكل الوطنية الجديد، المفتَّت والمختصَر. وتركزت السينما الفلسطينية في سياقات تحوم حول هذه الوطنية المستجَدة، وإن وُجدت أفلام قاومت هذا التفكك في العقد الأول من الألفية، وأعادت تقديم محليات تشكل الهوية الجامعة للفلسطينيين، في مقابل هيمنة الوطنية التي رسّمتها أوسلو.
ما أسمّيه تفككاً في الهوية هنا، يعني، على المقلب الآخر، ترسخاً للوطنية. فالهوية كما شاهدناها في أفلام ما قبل أوسلو، والوطنية، مثلما شاهدناها في أفلام ما بعد أوسلو حتى اليوم، هي بدرجات ومقاربات ومستويات. وأنا هنا أوصّف ولا أقيّم.
في بداية العقد الأول من الألفية (2002) بدأ هذا التفكك في الهوية مع فيلمَين هما "يد إلهية" لإيليا سليمان، و"القدس في يوم آخر" (أو "عرس رنا") لهاني أبو أسعد، فكلا المخرجَين من الناصرة، غير أن قصة الفيلمين تركزت في الضفة الغربية (القدس ورام الله)، وفي كليهما مشاهد لا يمكن عزلها عن مشاهد الانتفاضة الثانية التي ثبّتت بزخمها، هذا التمركز في الهوية الفلسطينية ضمن مناطق محددة. تبع هذان الفيلمان فيلم "الجنة الآن" لأبو أسعد، في سنة 2005، وأفلام "عيد ميلاد ليلى" لرشيد مشهراوي، و"ملح هذا البحر" لآن ماري جاسر، و"المر والرمان" لنجوى نجار، في سنة 2008. ففي هذه الأفلام تتمركز الحكاية، وكذلك شخصياتها، في الضفة والقدس، بحيث انحسرت الهوية إلى حدود اتفاق أوسلو، وحدود الانتفاضة الفلسطينية (بعلاقتها العضوية والمناقضة للاتفاق)، فتكرس هذا الانحسار وسيطر على عموم المشهد السينمائي الفلسطيني اللاحق.
شهدت أواخر العقد الأول من الألفية تغيراً سينمائياً، الأمر الذي يمكن أن يبدو استدراكاً لمعنى الهوية الفلسطينية التي انحصرت وانحسرت، سينمائياً. ففي سنة 2009 خرج فيلما "الزمن الباقي" لإيليا سليمان، و"زنديق" لميشيل خليفي، عن حصرية السياق الأوسلوي مكاناً وزماناً، فاستُحضرت النكبة، وصُوّرت الناصرة، كأن الخيبة التي لحقت بالانتفاضة الثانية (فهذه الأخيرة كانت مرحلة تخللت المسار التفاوضي ولم تقطعه) ذكّرت بالأصول؛ وكأن اقتتال "فتح / حماس" الدامي في سنة 2008، وما تخلل تلك الأعوام من هزائم متراكمة لمسار مشروع سياسي في مناطق 67، ذكّرا السينما بامتدادات زمانية ومكانية للهوية الفلسطينية، تتخطى حدود السياسية الافتراضية إلى المساحة الثقافية التاريخية للشعب الفلسطيني.
لنحكِ قليلاً في موضوع الهوية. فهذا الحديث، فلسطينياً، سينمائي بامتياز.
في الكتاب الجماعي "اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي: الهوية والفضاء والمكان"، تقدم روز ماري صايغ في بحثها المعنون: "تجسيد الهوية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين"، نظرة إلى المحلي والوطني، مشيرة إلى أن الحيز المحلي بات قادراً على التعبير عن الوطني بشكل أقوى ممّا تستطيعه القيادة السياسية، وأن مفهوم "الفلسطنة" صار أجدى للتعبير عنه في المجتمعات المحلية.
بالعودة إلى المفهوم الوطني الذي تحدد سينمائياً في منطقة الضفة الغربية، بفعل انتقال القيادة السياسية إليها، وبفعل تقليص فلسطين إلى مناطق 67 في اتفاق أوسلو وما ارتبط به من اتفاقات وتفاهمات، ثم بفعل انتفاضة أهلها، وهو المفهوم الذي سيطر، سينمائياً، في العقد الأول من الألفية، فمع أنه (المفهوم الوطني) شهد تخلخلاً مع نهايات العقد الأول، إلّا إنه بقي حاضراً، لكن بشكل موازٍ لسياقات أُخرى شرعت أفلام فلسطينية تصوّرها.
وستبرز المحليات في العقد الثاني، لا كنقيض للوطنية المختصرة التي تحددت بعد أوسلو، والتي عبّرت عن تفكك في الهوية الفلسطينية، وإنما كإعادة تهديم وبناء لها. فهذه المحليات، بتنويعاتها وتكاملاتها وتراكماتها، ستبرز كعناصر مكوِّنة للهوية الفلسطينية بمعناها الوطني العام، ولن تكون تفككاً للهوية الوطنية الجامعة، وليست بديلاً من فلسطنة الفلسطينيين، وإنما تثبيت لها، واستعادة لهذه الهوية بعدما تمركزت الحكايات في سياقات أوسلو، كما أنها لن تكون رداً على مشروع وطني موحِّد، بل على وطنية ضيقة ومركزية هيمنت على الصورة. هي أفلام فلسطينية لا تجري حكاياتها في سياقات أوسلو (زماناً ومكاناً)، وهي، بمحلياتها التي تسحب الاحتكار من سياقات أوسلو، تكمّل هوياتياً تلك الأفلام الجارية حكاياتها في الضفة تحديداً، وتعطيها سياقاً تاريخياً يجعل لوطنيتها معنى.
خرجت آن ماري جاسر في فيلمَيها "لمّا شفتك" في سنة 2012، و"واجب" في سنة 2017، عن السياق الوطني بمعناه المختصر. ففي الأول خرجت زمانياً وعادت إلى الهوية بشكلها الأول الذي هو الفدائي الفلسطيني، وفي الثاني خرجت مكانياً، وذهبت إلى الناصرة التي ستصير، بالتدريج، موقعاً أساسياً لحكايات الأفلام الفلسطينية إلى جانب القدس ومدن الضفة. فهناك، في الناصرة، جرت الأحداث في فيلم "بين الجنة والأرض" لنجوى نجّار، في سنة 2019، وكذلك في فيلم مها حاج "أمور شخصية"، في سنة 2016، والذي (مع غيره) حمل الهوية الفلسطينية بتفصيلات محلياتها، إلى الفرد والعائلة والبيت، بعيداً عن خطابية سياسية لزمت الفيلم الفلسطيني، وعن سياقات محت المحلية لحساب وطنية عامة تتشابه فيها الشخصيات وحكاياتها وصورها ومبررات تطورها.
في كتابه "الجماعات المتخيَّلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها"، يعرّف بندكت أندرسن الأمّة بأنها: جماعة سياسية متخيَّلة، يشمل التخيل فيها أنها محددة وسيّدة أصلاً. وأندرسن يوضح معنى "المتخيَّلة" بأنه مع أن أي فرد من هذه "الأمة" لن يعرف جميع الآخرين، إلّا إن هنالك صورة مشتركة للعيش في ذهن كل واحد منهم. وهذا الأمر لا يمكن إسقاطه على المجتمعات المحلية الفلسطينية لأنها مجتمعات منفصلة، بل إن انفصالها بعضها عن بعض تطور مذ تهجّر نصف المجتمع الواحد في أثناء النكبة، ليشكل كلُّ نصفٍ، وبالتراكم، مجتمعاته المنفصلة بدورها بعضها عن بعض، وهو ما ينفي صفة الوطنية والقومية، حتى بصيغتها المتخيَّلة. وهذا يعيدنا أيضاً إلى الأصل الذي تشكلت منه الهوية الفلسطينية المعاصرة، في الستينيات، حين حوّل اللاجىء الفلسطيني إدراكه لواقعه إلى استجابة ثورية، وتحولت خيام اللاجئين إلى معسكرات الفدائيين، مثلما كتبها غسان كنفاني في روايته "أم سعد" تحديداً.
هذا يعيدنا إلى مفهوم الهوية الفلسطينية في مقابل الوطنية، الأولى (الهوية) كجسم حيوي متشكل من تكامل وتفاعل مختلف المحليات الفلسطينية، في جميع أماكن تشتت الشعب داخل أرضه وخارجها، والثانية (الوطنية) كشعار شمولي وضيق في الوقت ذاته، ومتخيَّل أساساً، وقامع للمحليات، ويفرض سياقاً واحداً يكون ملحوقاً بالقيادة السياسية التي ساهمت في محاولات تفكيك الهوية الفلسطينية بحصر الصفة الفلسطينية بسكان الضفة والقطاع، مسقطة الفلسطينيين في المخيمات والشتات خارج الوطن، والفلسطينيين الذين بقوا في أراضي 48، ولاحقاً، الفلسطينيين في قطاع غزة.
انغمست السينما الفلسطينية في التيار الذي رُسم للقيادة السياسية (ولا أقول رسمته)، لأعوام قبل أن تستدرك هذه السينما (نسبياً في جميع الأحوال) هويتها الفلسطينية الجامعة، فتلتفت إلى الهوية الثقافية المتعززة بالمحليات، في مقابل الوطنية السياسية العازلة للمحليات. وبالتالي، بات حضور المحليات هنا مكوِّناً في الهوية لا تفككاً في الوطنية.
لم تخرج السينما الفلسطينية عن حكايات تجري في الضفة والقدس، ويجب ألّا تخرج عن ذلك قط، لكن، لا ينبغي لفلسطين أن تكون محصورة في تلك السينما في هذين الموقعَين ومعهما القطاع فقط. فخلال العقد الثاني من الألفية، شاهدنا أفلاماً منها: "عمر" لهاني أبو أسعد، و"3000 ليلة" لمي المصري، و"التقارير حول سارة وسليم" لمؤيد عليان، و"تل أبيب على نار" لسامح زعبي، و"عيون الحرامية" لنجوى نجار، و"200 متر" لأمين نايفة، و"غزة مونامور" للأخوين ناصر، وغيرها من الأفلام. وبالمناسبة، فإن ذِكْر فيلم هنا، أو عدم ذكره، لا يقول شيئاً في جودته، ففي بعض هذه الأفلام، وتلك أعلاه، وفي غيرها التي لم أذكرها، تتداخل خفيفاً المواقع بين أراضي 48 و67.
اقترب مفهوم الوطنية، في عدة أفلام عديدة مؤخراً، إلى مفهوم الهوية، فتخطى حدوداً رسمها اتفاق أوسلو ثم الانتفاضة الثانية. لكن إيليا سليمان، في نهاية العقد الثاني، خرج بالهوية الفلسطينية إلى ما بعد الحدود الثقافية للفلسطينيين، معيداً البعد العالمي إلى الهوية الفلسطينية مثلما كانت عليه في الستينيات، في أفلام الثورة الفلسطينية.
ختم فيلم إيليا سليمان "إن شئت كما في السماء" العقد الثاني من الألفية، في سنة 2019، بإحالة الوطنية السياسية الفلسطينية إلى الهوية الثقافية الفلسطينية، مانحاً الهوية الفلسطينية مساحتها الإنسانية المتخطية لوطنية فلسطينية هشّة حتى في تخيّلها. وفي باريس ونيويورك، تناول المحليات الفلسطينية في الناصرة، ثم أُخرى أكثر فردية، مانحاً الفرد حقاً في انتماء هوياتي من دون "جماعة متخيَّلة"، مقدّماً مفهوماً عالمياً لهذه الهوية مآله، مثلما سمّاه، هو: "فلسطنة العالم".
بذلك استعاد سليمان إنسانية السبعينيات التي تشكلت من خلالها الهوية الفلسطينية في سينما الثورة، وإن كانت الأشكال والدلالات هي التي تغيرت فقط: من "أممية" في حينه إلى "إنسانية" اليوم، ومن فلسطين بصفتها قضية عالمية إلى العالم بصفته قضية فلسطينية. وقد فصل نصف قرن بين الحالتَين: الأولى هي وطنيات العالم مساهِمةً في واحدة من المحليات الفلسطينية وبالتالي الهوية الفلسطينية، وهي معسكرات الفدائيين التي كتب عنها جان جينيه وصوّرها جان لوك غودار؛ والثانية هي هوية بمحليات مشتتة توجد فيها فلسطين، بمعانيها الأخلاقية والإنسانية والكفاحية، في العالم كله، أو يكون العالم فلسطيناً كبيرة.
أقترح، ختاماً، وفي حديث الهوية، أن نستعيد سؤال رشيد الخالدي في كتابه "الهوية الفلسطينية"، والذي يقول فيه: "ما هي حدود فلسطين؟"، ولمفردة "حدود" كتب Limits، ولم يكتب Borders. فلا يكون الحديث عن حدود مادية، بل عن تلك المعنوية؛ تلك التي تحيل إلى فلسطين / الفكرة، بحسب إدوارد سعيد؛ تلك المتنوعة المحليات والإنسانية التناول؛ تلك التي، لحسن حظّ هذه الهوية، التقطتْها، بحساسية، أفلام فلسطينية.
* ورقة ألقاها كاتبها في المؤتمر السنوي لمؤسسة الدراسات الفلسطينية، والمعنون الثقافة الفلسطينية اليوم: تعبيرات وتحديات وآفاق"، وذلك في جلسة "مقاربات في التعبيرات الثقافية والبصرية"، في 23 تشرين الثاني / نوفمبر 2021، على تطبيق زوم، وفي جامعة بيرزيت.
المراجع:
بالعربية
- البيك، سليم. "المقابلة: إيليا سليمان". مجلة "رمّان" الثقافية، 2 / 10 / 2019.
- سعيد، إدوارد. "نهاية عملية السلام: أوسلو وما بعدها". بيروت: دار الآداب، 2015.
- الشريف، ماهر وعصام نصّار. "تاريخ الفلسطينيين وحركتهم الوطنية". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018.
- صايغ، روزماري. "تجسيد الهوية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين: نظرة جديدة إلى المحلي والوطني". في "اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي: الهوية والفضاء والمكان". تحرير آري كنودسن وساري حنفي. ترجمة ديما الشريف. مراجعة جابر سليمان. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015.
- كنفاني، غسان. "الآثار الكاملة: الروايات". بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1993.
بالأجنبية
- Anderson, Benedict. Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism. London; New York: Verso Books, 2016.
- Bitton, Simone. Mahmoud Darwish: As the Land is the Language. Documentary Film, 1997.
- Genet, Jean. Un captif amoureux. Paris: Gallimard, 1995.
- Godard, Jean-Luc. Ici et ailleurs. Documentary Film, 1976.
- Khalidi, Rashid. Palestinian Identity: The Construction of Modern National Consciousness. New York: Columbia University Press, 2010.
- Suleiman, Elia. It Must Be Heaven. Film, 2019.