تحفل تجربة محمود درويش (1941 - 2008) الشعرية منذ يفاعته حتى رحيله عن عالمنا، بعوالم شعرية غاية في الجمال والفتنة والدهشة، وبتنوّع رموز شعره بمختلف دلالاتها وأشكالها ومعانيها.
ومنذ بدأ كتابة مشروعه الشعري الفريد الذي كرّس حياته له، حضرت رموز بعينها إلى هذا النص ورافقته حتى آخر مجموعة شعرية له.
طوّر درويش بعض الرموز تطويراً عبقرياً واستثنائياً، ونقلها من معانيها البسيطة والتقليدية إلى معانٍ شعرية كونية المعنى متعددة التأويلات والدلالات، فانفرد بجماليات استخدام بعضها انفراداً خالصاً وخاصاً به.
وكان لبعض هذه الرموز دلالات أكثر عمقاً عمّا هي موجودة عند غيره من الشعراء، وهذا راجع إلى ثقافته الرفيعة وتجربة حياته العريضة.
بين تلك الرموز التي طوّرها درويش وحلّق بها وأضحت من رموز شعره الأثيرة والمركزية: "رمز القمح"، هذا النبات الكوني البسيط الجميل الذي نَبَت منذ القِدَم بجانب الزمن والإنسان.
ولا يكاد يوجد شاعر عربي معاصر وقف عند القمح واستخدمه في شعره مثلما فعل محمود درويش الذي قال عنه: "أنا العاشقُ السيىءُ الحظِّ. قلتُ كلاماً كثيراً وسهلاً عن القمح."[1]
إن حضور "القمح" بكثافة في النص الشعري الدرويشي دفعني إلى تأمله ومحاولة تأويله تأويلاً غير معتاد، وإلى استكناه ما يُخفي خلف حجابه من الأشخاص والصور والإشارات والمعاني.
وهأنذا أدعو القارىء إلى رحلة قمحية في حقل محمود درويش الشعري، نستكشف فيها أغوار بعض معاني القمح في ذاك الحقل.
لم يغب "رمز القمح" - ما يتولد عنه وما يرتبط به ارتباطاً معنوياً: الحنطة / السنابل / السنبلة / الطحين / الخبز / الرغيف - عن أي ديوان من دواوين محمود درويش. وقد أحصيتُ وروده في "134" قصيدة، ووجدت أنه استُخدم بوجوهه وأطواره المتعددة "313" مرة في هذه الأعمال الشعرية. وأعتبر هذه القصائد الـ "134" من أهم وأعذب القصائد في الشعر العربي والعالمي.
لقد كانت فاتحة "القمح" في شعر محمود درويش قصيدته الشهيرة "عن إنسان" في ديوانه الأول "أوراق الزيتون" (1964) الذي يقول فيها:
يا داميَ العينينِ، والكفّينِ!
إنَّ الليلَ زائلْ
لا غرفةُ التوقيفِ باقيةٌ
ولا زَرَدُ السلاسلْ!
نيرونُ ماتَ، ولم تَمُتْ روما...
بعينيها تقاتلْ!
وحبوبُ سُنبلةٍ تموت
ستملأُ الوادي سنابلْ..![2]
هذه القصيدة، إلى جانب قصائد: "عن الصمود" و"بطاقة هوية" و"إلى أمي" التي تعود إلى ديوانَيه الأوّلين "أوراق الزيتون" (1964) و"عاشق من فلسطين" (1966)، هي التي عرّفت الناس بشعر درويش داخل فلسطين المحتلة وخارجها، ووضعته منذ وقت مبكر على سكة الشهرة الأدبية المستحَقة.
ويرد رمز القمح في قصيدة "عن إنسان" بمعناه البسيط والمعروف: فهو الانبعاث إلى الحياة بعد الموت وقيامة الإنسان والبلاد من العدم والخراب، فالإنسان - كقمحه - يموت ويحمل أسباب ولادته الجديدة في أجيال وأزمنة وأوطان جديدة تنتظر الولادة والنهوض والخلاص من طُغاتها ومحتليها. فللشاعر "حياةٌ في حياة الآخرين، وله في وطنه قمحٌ وزيت"، وقد ينتصر "الغرباء على قِشْرَة القمحِ فينا" حيناً من الدهر، لكن هذا لا يدوم طويلاً.
ولا يخرج محمود درويش في قصائده الثلاثة الأُخرى المذكورة عن معانٍ معروفة للقمح فهو: سرّ الأرض ورمز التشبث بها، كما في قصيدة "عن الصمود"، ورمز للتحدي مثلما هو في إحدى مقطوعات قصيدة "بطاقة هوية" التي يقول فيها: "أسلُّ لهم رغيفَ الخبزِ / والأثوابَ والدفترْ / من الصخرِ.. / ولا أتوسَّلُ الصَّدَقاتِ من بابِكْ / ولا أصغرْ / أمام بلاطِ أعتابكْ."
وكذلك يحضر القمح بوجهه الأليف والبهيج، ورائحته المرتبطة بالحنين إلى الأم والأسرة وألفتها، فلا أطيب ولا أشهى من خبز أعدّته أم لولدها بعد خروجه من الأَسر أو المعتقل:
أحنُّ إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي..
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ
يوماً على صدر يومِ
وأعشَقُ عمري لأنّي
إذا مُتُّ،
أخجلُ من دَمعِ أمي ![3]
والخبز اسم للأم التي تتسلل إلى رغيفها المخبوز بيدَيها والمعجون بها، فهي شيفرته وخميرته، وهذا ما لا يخطئه كل عارف بخبز أمه. يقول درويش في قصيدة "تلك صُورتها وهذا انتحار العاشق":
والياسمينُ اسمٌ لأُمّي: قهوةُ الصبحِ.
الرغيفُ الساخنُ. النهرُ الجنوبيُّ، الأغاني
حينَ تتَّكىء البيوتُ على المساء
أسماء أُمي[4]
وفي معرض تعليقه على استخدام الرمز في شعره يقول درويش: "الرمز عندي، كما أراه، ليس مبهماً. إن من الممكن اكتشافه بسرعة، هو أولاً وأخيراً بديل للتعبير المباشر."[5]
كان هذا التصريح الصحافي في شبابه المبكر في أثناء وجوده في فلسطين المحتلة، لكن الأمر اختلف بعد خروجه منها ووصوله إلى القاهرة في شباط / فبراير 1971، فبعد هذا التاريخ بدأ العديد من رموز درويش الشعرية بالنضوج والارتقاء إلى مستويات عليا في المعنى والدلالة والاستخدام الشعري.
ويبرز في هذه المرحلة من مراحل درويش الشعرية ديوان "أعراس" (1977)، الذي حاز النصيب الأول في استخدام رمز القمح بين جميع أعماله الشعرية.
يصادفنا في ديوان "أعراس"، قصيدة "أحمد الزعتر" إحدى أهم قصائد درويش التي يمكن وصفها بأنها القصيدة / الملحمية الأولى في إنتاجه الشعري، وقد كتبها في إثر مجزرة مخيم تل الزعتر المرتكَبَة في حقّ الفلسطينيين في لبنان.*
في هذه القصيدة استخدم درويش رمز "القمح" في بعض مقطوعاتها الشعرية، استخداماً يشوبه بعض الغموض والإبهام، وسأحاول إلقاء الضوء على بعض المقطوعات المرتبطة برمز "القمح" فيها.
يقول درويش في هذه المقطوعات: "وتموت قرب دمي وتحيا في الطحين." وفي مقطوعة أُخرى: "فاذهب بعيداً في دمي! واذهب بعيداً في الطحين." وفي أُخرى: "اذهب عميقاً في دمي، اذهب عميقاً في الطحين."
إن هذه المقطوعات / التعاويذ التي ألقاها الشاعر ثلاث مرات على بطل ملحمته "أحمد" تضعنا أمام هذا السؤال: ماذا يقصد محمود درويش برمز "الطحين" في القصيدة؟
فمن المعروف أن "الطحين" هو الغلّة المحصلة من القمح، أو التي تستهلك تعباً في جنيها منه، وهذا بلا شك هو المعنى الظاهري العام لهذه الكلمة.
ولا يُعقل أن تتكرر هذه الكلمة في القصيدة جزافاً وذلك على سبيل تزيين وتأثيث النص، أو لإنشاء غنائية مفتعلة، أو ليستقيم للشاعر الوزن الشعري.
ففي الحقيقة، إن فضاء قصيدة "أحمد الزعتر" يخفي طيف شخصية تتشابه في بعض سيرتها ومصيرها المأسوي المحزن مع سيرة بطل هذه الملحمة الشعرية من عدة جوانب.
إن الشخصية الباطنية والمستترة التي يحضر بصيص طيفها في قصيدة "أحمد الزعتر" هي للإله الأسطوري "أوزيريس" الخفي هنا، الحاضر باسمه الصريح في نص شعري آخر لدرويش هو "الجدارية".
لكن مَن هو "أوزيريس"، ومَن هو "أحمد الزعتر"؟ وما العلاقة بين "أوزيريس" و"أحمد الزعتر"؟ وما المقصود بهذا "الطحين"؟
بداية لا بدّ من نبذة وافية عن أوزيريس الإله / الشهيد المغدور والمقتول على يد شقيقه الإله "ست": إنه إله مصري قديم، وُلد لإلهَين هما أمه "نوت" (إلهة السماء) وأبوه "جب" (إله الأرض)، وكان لأوزيريس أشقاء هم الآلهة: "ست" و"نفتيس" و"إيزيس"، وهذه الأخيرة هي زوجة "أوزيريس".
إن "أوزيريس" هو إله الزرع والنبات الذي يموت ليحيا ثانية بفيضان النيل، وهو الرمز الحيوي للقمح والكامن طبيعياً فيه، فقد علّم الناس كيف يزرعونه ويصنعون الدقيق ويُعدّون الخبز منه. إنه رمز القيامة لكل حيّ. وقد لُقّب هذا الإله بـ "الطيب الخيّر إلى أبد الدهر"، و"الرائع البديع".
وحين لاحظ ولَمَس أبوه الإله "جب" ما يتصف به ابنه "أوزيريس" من سجايا وصفات نبيلة ونقاء سريرة، تنازل له عن العرش في حكم مصر كإله، ومَنَحه أملاكه كافة. لكن هذا التنازل أثار حسد وغيرة وحقد شقيقه الإله "ست" الطامع بالحكم والمفتون بـ "إيزيس" زوجة "أوزيريس"، فقرر التخلص منه وتغييبه عن الحياة ليخلو له وجهَي مصر وإيزيس. قتل "ست" "أوزيريس" أمام شجرة الجُمّيز التي جعلها تابوتاً، فقد فرّغ جوفها ووضع فيها جثة شقيقه، ثم ألقى بهما في نهر النيل، فحملهما التيار حتى مدينة بيبلوس / جبيل في لبنان.
لم تستسلم "إيزيس" لحزنها، وبعد بحث مضنٍ عن زوجها "أوزيريس" عثرت على جثته، وأحضرتها إلى أرض مصر، ثم أعادته إلى الحياة بقراءة بعض التعاويذ السحرية على جثمانه.
عَلِم "ست" بذلك فخطف "أوزيريس" مرة ثانية في غفلة من "إيزيس"، لكنه هذه المرة قطّع جثة أخيه ووزّع أشلاءها في أرجاء مصر الأربعة.
لم تستسلم "إيزيس" هذه المرة أيضاً، وبحثت عن أشلاء جثة زوجها المتناثرة بمساعدة شقيقتها الإلهة "نفتيس" إلى أن عثرت عليها وجمّعتها.
وبفضل تعاويذها السحرية عاد "أوزيريس" إلى الحياة لفترة قصيرة، فأخذت "إيزيس" نُطْفته وحَمَلَت منه وولَدت له وارثاً هو ابنه الإله "حورس" الذي ربّته في مكان خفي في مناقع الدلتا كي يكبر ويفلت من اضطهاد "ست" الذي طعن في شرعية ولادته. وحين كبر "حورس" حارب "ست" وانتصر عليه انتصاراً مظفراً، كما أن الآلهة حكموا لمصلحته وأقرّوا له بمُلْك والده وحُكم مصر. ومنذ ذلك الحين حَكَم "أوزيريس" في العالم السفلي بصفته إلهاً للأموات ومعيناً لهم في رحلتهم في العالم الآخر حين يُبعثون للحساب.
إن الإشارات المعروفة عن أوزيريس إنّما تقرنه بحياة النبات أو توحده معها فهو يمثل دورة الحياة، كما تربطه نصوص متون الأهرام بالحياة النباتية. وقد صوّر كثير من المشاهد الجنازية مومياء هذا الإله مغطاة بحبّات القمح، أو ببعض سنابله النضرة المتفرعة من جسده المسجّى أرضاً.[6]
وهكذا، فإن القمح، الرمز الحيوي لأوزيريس، بوضعه داخل الأرض في اللحظة نفسها التي يُدفن المتوفى، يُعتبر بالنسبة إليه (أي إلى المتوفى) تشديداً على بعثه من جديد، وإثباتاً لاستمرارية حياته، ثم في النهاية، انبعاثه الضوئي المتألق. وبذا، فمن خلال بردية "نو" (Nu)، نجد "أوزيريس" يصرّح قائلاً: إنني ملك البشر الذي يُحيي الموتى ويبعثونهم.[7] وفي نص آخر: كُلوا خبزكم (سمو) Semu كُلوا أوزيريس!.. ها هو الإله النبتة ينمو، ها هو أوزيريس يولد من جديد.[8] والنص السابق نجد مثيلاً له في إنجيل متّى (الإصحاح 26، الآية 26)، وذلك حين قدّم السيد المسيح الخبز لتلاميذه قائلاً لهم: خذوا كلوا. هذا هو جسدي.
لقد وُجد "أوزيريس" في أقدم نسخة من "كتاب الموتى" الفرعوني مع الحنطة، إذ يقول المتوفى معبِّراً عن نفسه في العالم الآخر ومقتدياً ومتشبّهاً بـ "أوزيريس": إني أوزيريس، وإني أعيشُ كحبة حِنطة وأنمو كحبة حِنطة... وإني طحين.[9]
لقد استلهم درويش من "أسطورة أوزيريس" المادة والأساس الفكري في إبداع قصيدته / الملحمية "أحمد الزعتر"، والتي روى فيها سيرة "أحمد" الشاب العشريني الشهيد والمغدور من جانب "أشقاء العروبة" الذين حاصروا مخيمه (مخيم تل الزعتر) ودمّروه وقتلوا الآلاف من سكانه الفلسطينيين.
وجاء بعض المقطوعات الشعرية التي تصف سيرة حياة الشهيد "أحمد الزعتر" مشابهاً لسيرة حياة الإله "أوزيريس"، فصفات أحمد الكونية والمجهولة والغامضة والسرّية والشعبية، والذي "تركته ضفاف النيل مبتعداً"،[10] هي الصفات ذاتها التي اتصف بها أوزيريس.
يقول محمود درويش مخاطباً أحمد:
يا أحمدُ المجهولُ!
كيف سَكَنْتَنا عشرين عاماً واختفيتَ
وظلَّ وجهُكَ غامضاً مثل الظهيرةْ
يا أحمد السريّ مثل النار والغابات
أَشْهِرْ وجهكَ الشعبيّ فينا
واقرأ وصيَّتكَ الأخيرةْ.[11]
كذلك هو "أوزيريس" الإله المجهول والغامض والسرّي والشعبي، بل الأكثر شعبية وعبادة في مصر القديمة، فتعاطُف المصري القديم مع آلام هذا الإله ومأساته الحزينة زاد في حبّهم له، حتى إن عبادته كادت تصبح عالمية الطابع في العالم القديم.[12]
وقد تعمّد كهنة مصر القديمة أن تظل مأساة هذا الإله مخفية عن عامة الشعب. يقول العلّامة الدكتور سليم حسن: "إن الذي وصل إلينا فعلاً مدوّناً كان في نظر الكهنة ما يجب أن يعرفه عامة الشعب عن مأساة هذا الإله الغامض. أما ما خَفِي فكان سراً موقوفاً على الكهنة. فإذا صحّ ذلك كان كتّاب اليونان صادقين في قولهم إن المصريين كانوا يحتفظون بأسرارهم الدينية، وبخاصة مأساة الإله 'أوزيريس'."[13]
ومثلما فعلت "إيزيس" في تعاويذها الملقاة على "أوزيريس" لإحيائه، كذلك درويش ألقى مقاطعه الشعرية السحرية على "أحمد الزعتر" أمام مرأى ومسمع الأحياء كي "يجدوه حِنطةً" ومثالاً وانبعاثاً جديداً فيهم. ويسأل درويش "أحمد الزعتر" قبل أن يمضي وبعد أن صار بطلاً أسطورياً وصل إلى مرتبة الآلهة الأسطورية، فهو "العبد والمعبود والمعبد": متى يشهد على قيامة الأحياء - إن قاموا - ضد الطغيان والظلم، أملاً بوطن بسيط يظفرون به كجميع الأوطان على هذه الأرض؟ يقول درويش:
فاذهب بعيداً في دمي! واذهب بعيداً في الطحين
لنُصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين
لا وقت للمنفى وأغنيتي..
سنذهب في الحصار
حتى نهايات العواصم
فاذهبْ عميقاً في دمي
اذهبْ براعمْ
واذهب عميقاً في دمي
اذهب خواتم
واذهب عميقاً في دمي
اذهبْ سلالم.[14]
ويتابع:
يا أحمد السرّي مثل النار والغابات
أَشْهِرْ وجهكَ الشعبيّ فينا
واقرأ وصيَّتكَ الأخيرةْ
يا أيُّها المتفرّجون! تناثروا في الصمت
وابتعدوا قليلاً عنه كي تجدوهُ فيكم
حنطةً ويدَين عاريتين
وابتعدوا قليلاً عنه كي يتلو وصيَّتَهُ
على الموتى إذا ماتوا
وكي يرمي ملامحَهُ
على الأحياء إنْ عاشوا!
أخي أحمد!
وأنتَ العبدُ والمعبود والمعبد
متى تشهدْ
متى تشهدْ
متى تشهدْ؟[15]
إن رمز الطحين، الرمز الأوزيري بامتياز، المنحوت بعناية فائقة والمكتنز بمعانٍ شتى في هذه القصيدة، أخفى وأشار في الوقت ذاته إلى طيف شخص مسكوت عنه وتضرب سيرته بعيداً في التاريخ الأسطوري البشري، وهنا تكمن الدقة والموفقية والعبقرية في حُسْن استخدام هذا الرمز الشعري، فدلالته تذهب عميقاً في المعنى والتكوين الجمالي لهذا النص.
فالطحين / وهو سرّ من أسرار الأرض والرمز المجسّد في رسالة أحمد وحياته وروحه، هو كالحقيقة المخفية في حبّات القمح، ويرمز إلى الانتقال من طور في الحياة إلى طور آخر، ومن عهد إلى عهد آخر. إنه دعوة الخلائق إلى القيامة والانبعاث والكفاح من أجل تحرير أمكنتهم الفردوسية المسلوبة، والعيش في أزمنتهم المشتهاة.
القمح في الجدارية
نازَلَ محمود درويش الموت في نصه الشعري البديع (جدارية، "نشيد للحياة"، 1999) منازلة لغوية جمالية قلّ نظيرها في شعرنا العربي قديمه وحديثه، فالعمل الجراحي في القلب الذي أُجري للشاعر في باريس في سنة 1998، كاد يودي بحياته. وقد كتب درويش هذا الديوان متأثراً باقترابه من لحظة موت اختبرها حقيقة لا خيالاً (توقف قلبه عن النبض بضع دقائق).
وفي نص كالجدارية نعثر على أسلحة ورموز جمالية كثيرة نازَلَ بها درويش الموت حيناً، وحاوره في بعضها الآخر في أحيان أُخرى. وكان القمح بين تلك الرموز الحوارية التي استخدمها الشاعر في مواجهة الموت.
لقد واجه درويش الموت باللغة والكتابة العالية، واستطاع بعد موت موقت أن يعود ليبدع نصاً تأملياً لذات تفرّست طويلاً في وجه الموت. فهو أراد لمتنه الكتابي أن يكون حاضراً بهياً ونِدّاً للموت، فالكتابة عند درويش هي: "جروٌ صغير يَعضُّ العَدم" و"تجرحه من دون دَم". ولا شيء يهزم ويعضّ الموت - معنوياً - كالكتابة والفنون والأغاني، فهو يقول: "اُكتبْ تكنْ"، أي تعشْ وإن فَنِي الجسد، فالنص هوية وحياة أُخرى لصاحبه، وتذكرة للموت اليائس أمام قوة الكلام وخلوده: أنا لغتي / شاهدة أيُّها الموت وإنْ غبت. وهذا تعلّمه الشاعر من دروس كثيرة، بينها سرّ درس أخته السنبلة في مختلف أطوارها. يقول:
وكُلَّما صادَقتُ أو
آخَيْتُ سُنبُلةً تَعَلَّمتُ البقاءَ من
الفنَاء وضدَّه: "أنا حبَّةُ القمح
التي ماتت لكي تَخضَرَّ ثانيةً. وفي
موتي حياةٌ ما..."[16]
يقول محمود درويش:
ويُؤْنِسُني تذكُّرُ ما نَسِيتُ مِنَ
البلاغة: "لم أَلِدْ وَلَداً ليحمل مَوْتَ
والِدِهِ"...
وآثَرْتُ الزواجَ الحُرَّ بين المُفْرَدات...
سوف تشُّبُّ أعضائي على جُمَّيزَةٍ،
ويصُبُّ قلبي ماءَهُ الأرضيَّ في
أَحَدِ الكواكب... مَنْ أَنا في الموت
بعدي؟ مَنْ أنا في الموت قبلي
قال طيفٌ هامشيٌّ: "كان أوزيريسُ
مثْلَكَ، كان مثلي. وابنُ مَرْيَمَ
كان مثلَكَ، كان مثلي. بَيْدَ أَنَّ
الجُرْحَ في الوقت المناسب يُوجِعُ
العَدَمَ المريضَ، ويَرْفَعُ الموتَ المؤقَّتَ
فكرةً...."[17]
لقد آثر الشاعر أن يسكن اللغة والكتابة والعيش لمتنه الشعري بدلاً من أن يكون له ولد يحمل عبء موت أبيه، في إشارة إلى "حورس" الذي حمل عبء الثأر لوالده "أوزيريس" واسترجاع مملكته.
وفي النص السابق يعود درويش في حلمه إلى "جُمَّيزَة أوزيريس" حيث ستشبّ أعضائه عليها. فتلك الشجرة التي كانت شاهدة ومسرحاً على ولادة ومقتل "أوزيريس" وتقطيع أوصاله وانتزاع قلبه، هي ذاتها ستكون مكاناً جديداً لولادة الشاعر، ورمزاً للحياة بعد أن كانت مكاناً للموت، ومنطلقاً لحياة قلبه الجديد في عوالم أُخرى من هذا الكون، في إشارة إلى تحدي العدم من المكان الأسطوري ذاته الذي تكثّف فيه حضور الشرّ والفناء.
تقول ترنيمة مصرية قديمة: "سلامٌ عليكِ، أيّتُها الجُمَّيزة، رفيقة الإله، التي اقتُطِعَت أغصانها، وأُحرِقَ قلبها!!.. وما زالتْ رأسُكِ فوق كتِفَيْكِ، تذرُفينَ دُموعكِ على أوزيريس!!."[18] وجاء في ترنيمة مصرية قديمة أُخرى: "سلامٌ عليكِ، أَيَا 'جميزة'، أيّتُها المشنقة العظمى، رفيقة الإله، لقد لامسَ صدركِ كتف أوزيريس."[19]
ولأول مرة في شعر محمود درويش تظهر شخصية "أوزيريس" باسمها الصريح الذي كان مستتراً في العديد من نصوصه الشعرية، وهو يجمعه في المقطوعة السابقة على صعيد واحد مع شخصية "ابن مريم" في دلالة عميقة المعنى.
إن استدعاء درويش لـ "أوزيريس" و"ابن مريم" جنباً إلى جنب هنا هو استدعاء لآلامهما ومكابدتهما قبيل الموت. فالطيف الهامشي في الحلم ما فتىء يذكّر الشاعر بتلك الآلام التي قد يمرّ هو بها، لكن الشاعر يحاول أن يتحرر من الجرح / جراح الذات والذاكرة ليُعلّي من شأن النَّفْس الكونية الوثّابة التي تواجه موتاً ناقصاً هو مجرد فكرة عابرة أمام ذاكرة الشاعر.
إن رمز القمح في شعر محمود درويش ثري المعنى عميق الدلالة، ولا يمكن الاكتفاء برحلة قمحية واحدة فيه، بل لا بدّ من رحلات نستكشف فيها جماليات أُخرى لهذا الرمز فهو: رمز لأوزيريس، للأرض وسرّها، للانبعاث، للقيامة من بين الأموات، محاوِرٌ للموت، رمز للحب، للخير والبركة، للتعدد، للرحلة الأخيرة، للأُخوّة، للعطاء، للصداقة، للتضحية، للاستقرار، للسلطة، للبساطة، للجمال، للغَزَل، للإغواء. إنه هذا كله وأكثر، ولكل معنى من المعاني السالفة الذكر نصيبها في شعر درويش.
إنه القمح الذي أوصى درويش - في جداريته - أن توضع سبع سنابل خضراء منه على تابوته، هو الذي لم يَعُد من عملية القلب الأخيرة في هيوستن في سنة 2008، وهي العملية الجراحية التي توقفت في أثنائها أجهزة جسمه كلها إلّا القلب! فتلك السنبلة الوفية على الرغم من آلامها، ظلت تدّق وتنبض حتى استأذنت بالرحيل إلى قمحها السماوي.. عندها نهضت روح الشاعر الملأى عروقها بالقمح ونثرت سنابلها على العالم ورحلت...
المصادر:
[1] محمود درويش، "قصيدة 'أنا العاشق السيىء الحظ' "، ديوان "هي أغنية هي أغنية" (1986)، "الديوان، الأعمال الأولى" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، 2005)، ج 3، ص 51.
[2] محمود درويش، "قصيدة 'عن إنسان' "، ديوان "أوراق الزيتون" (1964)، "الديوان، الأعمال الأولى" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، 2005)، ج 1، ص 21.
[3] محمود درويش، "قصيدة 'إلى أمي' "، ديوان "عاشق من فلسطين" (1966)، "الديوان، الأعمال الأولى" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، 2005)، ج 1، ص 106.
[4] محمود درويش، "قصيدة 'تلك صُورتها وهذا انتحار العاشق' "، ديوان "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق" (1975)، "الديوان، الأعمال الأولى" (بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، 2005)، ج 2، ص 222.
[5] رجاء النقاش، "محمود درويش شاعر الأرض المحتلة" (القاهرة، دار الهلال، ط 2، 1971)، ص 13.
* ارتكبت الكتائب اللبنانية وميليشيا اليمين اللبناني بمساندة جيش النظام السوري، مجزرة مخيم تل الزعتر في حق الفلسطينيين في 12 آب/ أغسطس 1976، وقد حوصر هذا المخيم 52 يوماً قُطعت فيها المياه والكهرباء والطعام عنه، وسقط ما يزيد على 3000 شهيد فلسطيني.
[6] اعتمدتُ في تلخيص أسطورة الإله "أوزيريس" على المراجع الأساسية التالية:
أ) جيمس هنري برستد، "فجر الضمير"، ترجمة سليم حسن (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014).
ب) سليم حسن، "الأدب المصري القديم أو أدب الفراعنة"، "الجزء الثاني: في الدراما والشعر وفنونه" (القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط 1، 1945).
ج) روبير جاك تيبو، "موسوعة الأساطير والرموز الفرعونية"، ترجمة فاطمة عبد الله محمود، مراجعة محمود ماهر طه (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط 1، 2004).
[7] تيبو، مصدر سبق ذكره، ص 261.
[8] المصدر نفسه، ص 137.
[9] برستد، مصدر سبق ذكره، ص 108.
[10] محمود درويش، "قصيدة 'أحمد الزعتر' "، ديوان "أعراس" (1977)، "الديوان، الأعمال الأولى" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، 2005)، ج 2، ص 263.
[11] المصدر نفسه، ص 273.
[12] حسن نعمة، "موسوعة الأديان السماوية والوضعية، 1- موسوعة ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة ومعجم أهم المعبودات القديمة" (بيروت: دار الفكر اللبناني، ط 1، 1994)، ص 166.
[13] حسن، مصدر سبق ذكره، ص 88.
[14] درويش، "قصيدة 'أحمد الزعتر' "، مصدر سبق ذكره، ص 270 - 271.
[15] المصدر نفسه، ص 273.
[16] محمود درويش، "جدارية"، "الديوان، الأعمال الجديدة الكاملة" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، 2009)، ج 1، ص 500.
[17] المصدر نفسه، ص 501 – 502.
[18] تيبو، مصدر سبق ذكره، ص 115.
[19] المصدر نفسه، ص 60.