Al-Wehdat Refugee Camp: The Production of Space between Legislation and Practices
Full text: 

اعتمدت هذه المقالة على عمل ميداني في مخيم الوحدات، خلال صيف سنوات 2018 و2019 و2020، وما تخلله من مقابلات ميدانية مع أصحاب التكتيكات اليومية، وهم سكان المخيم أنفسهم، علاوة على موظفي المؤسسات التشريعية وأصحاب الاستراتيجيات التخطيطية، وهم موظفو وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، وموظفو دائرة الشؤون الفلسطينية. 

علاقات القوى وعمليات إنتاج الفراغ الحضري

يعتبر هنري لوفيفر (Lefebvre 2016)، أن الفراغات التي يشغلها الإنسان هي منتج اجتماعي يتشكل بواسطة الممارسات الفراغية التي تحدث فيه وتشكل تضاريسه. ومن هذا المنظور، فإن الفراغات الاجتماعية لا تُعتبر ثابتة بل متغيرة، بحيث يعاد تشكيلها بواسطة مستخدميها، وتتغير عبر الزمن بتغير النشاطات التي تُمارَس فيها.

من خلال هذا التعريف، يتجلى دور الإنسان في تشكيل محيطه وتغييره في حال استدعت الحاجة أو الرغبة في ذلك.

على المستوى التخطيطي، يؤدي المشرّع دوراً في إنتاج الفراغ من خلال المعالجات الفراغية والتدخلات التصميمية في المحيط الحضري، بتوظيفه التشريعات وقوانين البناء. أمّا على مستوى المستخدم، فإن الممارسات الفراغية اليومية يصبح لها دور في تشكيل الفراغ وإنتاجه، وبالتالي فإنه يتغير بتغير مستخدميه واستخداماته.

من هذا المنطلق، نلاحظ في مخيم الوحدات الذي هو محور هذه المقالة، أن فراغات المخيم بشكلها الحالي، هي حصيلة سلسلة من عمليات الإنتاج الفراغي المستمر، الناتجة بدورها من المساحة التي تتفاعل فيها التدخلات الحضرية عبر العقود مع الممارسات الفراغية اليومية لسكانه.

وفي هذا الشأن، كتب ميشال دو سارتو (De Certeau, 2011) عن ممارسات الحياة اليومية وانقسامها بين الاستراتيجيا والتكتيك. فقد عرّف دو سارتو الاستراتيجيا بأنها الأداة التي يوظفها صاحب القرار ليخطط ويصمم وينظم المدينة، بطريقة تضمن له السيطرة على فراغاتها والتحكم فيها. وبالتالي، فإن الاستراتيجيات تصدر من جهات مؤسساتية ترغب في المحافظة على النظام وفرض القوانين التي تضمن لها بقاءها في قمة الهرم كصاحب السلطة المسيطر على الفراغ وعلى المستخدم على حد سواء.

تصدر الاستراتيجيات من جهات عليا، وتُفرض على المحيط بطريقة تجعلها في كثير من الأحيان منفصلة عن البيئة المبنية وغير متماشية معها ولا مع متغيراتها المتعددة.

على الصعيد الآخر، يُعتبر التكتيك الأداة التي يوظفها المستخدم كوسيلة لتطويع الفراغ وتغييره لجعله أكثر ملاءمة مع حاجاته اليومية وتطلعاته ومتغيراته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كردة فعل على استراتيجيات صاحب القرار ومؤسساته التشريعية.

وعلى عكس الاستراتيجيات التي تُفرض بطريقة منفصلة عن المحيط ومتغيراته، تأتي تكتيكات المستخدم أكثر إبداعاً وتحاوراً مع الفراغ، متجاوزة هرمية السلطة ومحدداتها التشريعية وحدودها التنظيمية، ومقتنصة الفرص والإمكانات المتوفرة لتلبية الحاجات اليومية في الفراغات التي يشغلها المستخدم.

إذا افترضنا أن ثمة تقاطعاً بين كتابات لوفيفر ودو سارتو، وإذا أسقطنا ذلك على المخيم، فإنه يمكن القول إن عملية إنتاج فراغات المخيم جاءت نتيجة تفاعل استراتيجيات مؤسسات الدولة التشريعية مع تكتيكات السكان التي مورست في ظلها، أو جاءت متحدية لها ولضوابطها.

من ناحية تشريعية وتنظيمية، تقع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن تحت إدارة دائرة الشؤون الفلسطينية، وهي الجهة الممثلة للحكومة الأردنية، وذلك بالتنسيق مع الأونروا التي هي الهيئة المفوَّضة من الأمم المتحدة.

في الأردن، تصدر الاستراتيجيات الخاصة بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين، ومخيم الوحدات تحديداً، بالتنسيق بين الجهتين، وتتقاطع في حالات أُخرى مع الاستراتيجيات الصادرة عن وزارات الدولة الأُخرى ومؤسساتها، مثل وزارة الأشغال وأمانة عمّان، وذلك عند التخطيط لمشاريع في المناطق المحيطة بالمخيم، أو عند العمل على شبكات البنية التحتية التي تشبك المخيم ببقية عمّان خدماتياً.

بالنسبة إلى التكتيك، فإنه أداة سكان مخيم الوحدات الذين هم من عدة أجيال من اللاجئين الفلسطينيين الذين يسكنون المخيم ويوظفون ممارساتهم الفراغية اليومية لتطويع البيئة المبنية وجعلها أكثر تلبية لحاجاتهم اليومية وتطلعاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. 

"الوحدات" بين الممارسة الفراغية اليومية والتشريع

كجزء من استراتيجيا الدولة الأردنية في استضافة اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة 1948، أُسست 4 مخيمات رسمية لاستضافة اللاجئين الفلسطينيين بالتعاون مع الأونروا التي أُوكلت إليها مهمة بناء المخيمات ومرافقها، فضلاً عن تقديم خدمات الإغاثة والتعليم والصحة للاجئين.

تأسس مخيم الوحدات كرابع هذه المخيمات في سنة 1955 في العاصمة الأردنية عمّان، بعد مخيم الزرقاء الذي تأسس في سنة 1949، ومخيم إربد في سنة 1950، ومخيم الحسين في عمّان في سنة 1952.

الدفعة الثانية من المخيمات جاءت استجابة لهزيمة 1967، إذ جرى بناء 6 مخيمات جديدة لاستضافة اللاجئين الفلسطينيين، الأمر الذي جعل مجموع مخيمات اللاجئين الفلسطينية الرسمية 10 مخيمات.

عُرف مخيم الوحدات رسمياً باسم مخيم عمّان الجديد، لتمييزه من مخيم الحسين الذي سبقه بالتأسيس في عمّان، بينما عُرف المخيم شعبياً باسم مخيم الوحدات بسبب الوحدات السكنية الدائمة التي تأسس المخيم حولها، على غرار المخيمات السابقة التي بدأت بخيم موقتة ثم تطورت مع الزمن لتصبح وحدات مسقوفة (UNRWA 2019). وبحسب مدير المخيم، فإن مخيم الوحدات تأسس على أراضٍ مستأجرة لمدة 99 عاماً من عائلة الحديد التي كانت تملك أراضي كثيرة في تلك المنطقة في جنوبي شرقي عمّان.

يمكن اعتبار عملية تسمية المخيم أحد أمثلة اشتباك الاستراتيجيا مع التكتيك، فقد اختلف الاسم الرسمي عن الاسم الشعبي الذي يتداوله السكان، فجاء الاسم الأول (مخيم عمّان الجديد) من جهات مؤسساتية رسمية عليا ومن طرف الأونروا، بينما جاء الاسم الثاني (مخيم الوحدات) من واقع المحيط الذي يعيشه السكان وواقع الحياة اليومية، مستمداً من تيبولوجيا مساكنه التي اعتبرها السكان سابقة ميّزت المخيم من غيره.

وقد تطور المخيم بعد ما يزيد على ستة عقود، وتعقدت عملية إنتاج فراغاته، بحيث صار بناؤه ونشاطاته يعكسان وضعاً حضرياً دائماً، بينما كانت بدايات البناء والنشاطات فيه أكثر ميلاً إلى عمارة المخيمات الموقتة.

وكجزء من تغيير استراتيجيا دائرة الشؤون الفلسطينية، تغيرت القوانين والتشريعات في مخيم الوحدات بشكل واسع، فصار يحقّ لصاحب الوحدة السكنية أن يمتد عمرانياً حتى 4 طبقات، بعد أن كان المسموح به طبقة واحدة فقط، وصار يحق له أن يحوّل الطبقات الأرضية إلى محلات تجارية بعد أن كانت الوحدات تُستخدم لأغراض سكنية فقط. وجاء هذا التغيير في التشريعات بالتوازي مع ازدياد عدد سكان المخيم، وازدياد الاكتظاظ في أحيائه السكنية.

 

مشهد عام لمخيم الوحدات

 

عند التأسيس، أُعطيت كل عائلة وحدة سكنية بلغت مساحتها نحو 100 متر مربع، تحت بند ما سمّته الأونروا حق الانتفاع وليس حق التملك، تماشياً مع الوضع الموقت للحالة السكنية في المخيم. ومع مرور الوقت، بدأت العائلات تتوسع بشكل أفقي متجاوزة حدود وحدتها السكنية ذات المئة متر مربع، فصارت تزيد غرفاً بشكل عشوائي لتلبي حاجاتها الفراغية مع ازدياد عدد أفراد العائلة. وتُعتبر هذه الممارسة الفراغية مثالاً للتكتيكات التي استجاب من خلالها السكان لحاجاتهم اليومية، متجاوزين بذلك تشريعات البناء التي وُضعت لتتحكم في فراغ المخيم وتنظم بناءه. وبعد مرحلة معينة، بلغ التوسع الأفقي ذروته في المخيم، ولم يعد في إمكان أي عائلة أن تزيد أي غرف جديدة بسبب الاكتظاظ الشديد في البناء وتلاصق المباني بعضها ببعض. وهكذا، لم يعد ممكناً التوسع إلّا عامودياً من خلال زيادة طبقات جديدة على ظهر الوحدات الأصلية التي بنتها الأونروا عند التأسيس.

 

نموذج عن عملية توسع أُفقي

 

من هنا تتضح العلاقة التفاعلية بين الاستراتيجيا والتكتيك، فيمكن القول إن تكتيكات السكان ومحاولتهم تلبية حاجاتهم اليومية ومخالفتهم قوانين البناء من خلال بناء غرف جديدة، هي ما دفع المؤسسة التشريعية إلى أن تغير قوانينها فتسمح بالامتداد العامودي بشكل متدرج، عن طريق بناء طبقة إضافية فوق الوحدة الأصلية في سنة 1997، ثم طبقتَين إضافيتين في سنة 2012.

ولا يمكن عزل التغيير في استراتيجيا الدولة الأردنية في مخيم الوحدات عمّا يحدث إقليمياً ودولياً، وهو ما توسع فيه الباحث علاء حمارنة (Hamarneh 2002) في دراسته عن تحولات مخيم الوحدات، فقد ذكر أنه يمكن ربط التغيير في التشريع الذي جرى في منتصف التسعينيات بمعاهدات السلام التي وقّعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع العدو الصهيوني في بداية التسعينيات متمثلة في اتفاق أوسلو الذي بدّد أحلام العودة لكثير من اللاجئين الفلسطينيين في جميع مخيمات الشتات، ومن ضمنها مخيم الوحدات. وبالتوازي مع ذلك، شهدت بداية التسعينيات عودة كثيرين من أبناء مخيم الوحدات من دولة الكويت بعد حرب الخليج، الأمر الذي ساهم في ازدياد كبير في عدد السكان الذين عادوا مصحوبين بالأموال التي نشطت بواسطتها حركة البناء في المخيم، وفي تشكيل ضغط على المؤسسة التشريعية التي قامت في ظل هذه الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتنوعة بتغيير قوانين البناء في نهاية التسعينيات.

 

نموذج عن التوسع العامودي

 

سنتطرق فيما يلي إلى مثالين اشتبكت من خلالهما الاستراتيجيا مع التكتيك، من خلال تناول حكاية اثنتين من ساكنات مخيم الوحدات ودورهما في تشكيل فراغات حياتهما اليومية وتشكيل محيطهما في المخيم. 

دار الحاجة أم حسن في شارع سُمَيَّة

يُعتبر شارع سُمَيَّة الذي سُمي تيمناً بالصحابية سُمَيَّة بنت الخطاب من أكثر شوارع المخيم حيوية وازدحاماً، وهو يمتد في محاذاة المخيم من الجهة الشرقية على طول مدارس الأونروا ومسجد المدارس والمسجد الجنوبي.

في سنة 2002، جاء قرار توسيع شارع سُمَيَّة لحل مشكلة الازدحام المروري في محيط مخيم الوحدات، ولا سيما بسبب الاكتظاظ الشديد في شارع مادبا الذي يحدّ الشارع من الجهة الغربية. وجاء القرار كجزء من الحل المروري الذي تبنّته أمانة عمّان ضمن استراتيجيتها في تخطيط المدينة وتحسين بنيتها التحتية.

في الصور الجوية أدناه، ومصدرها المركز الجغرافي الملكي، يظهر مخيم الوحدات في سنتَي 1978 و2020 مع توضيح الاختلاف في نسيج المخيم قبل توسعة شارع سُمَيَّة وبعد توسعته.

 

صورة جوية لمخيم الوحدات قبل توسعة شارع سُمَيَّة وبعد توسعته

 

تبع هذا القرار عملية مفاوضات معقدة مع سكان المخيم، إذ اقتضى الأمر هدم عدد واسع من الوحدات السكنية لتوسعة الشارع، على أن يتم تعويض السكان مالياً ليتسنى لهم الانتقال والعيش في موقع آخر، أكان ذلك داخل المخيم أم خارجه.

ونتيجة المفاوضات، تمت الموافقة على إخلاء 100 وحدة سكنية بعد أن وافق أصحابها على المغادرة، ليتم بعد ذلك توسعة الشارع الذي تحول من شارع فرعي يخدم المخيم وسكانه فقط، إلى شارع رئيسي ذي مسربين واسعين في الاتجاهين، يخدم المنطقة بأكملها ويزيد في قدرة السيارات على الوصول إلى الأماكن التي تريدها.

وصف كثير من السكان عند الحديث معهم عن هذا الأمر، عملية توسعة الشارع بأنها شقت نسيج المخيم وبعثرته، إذ قسّم هذا التوسيع المخيم إلى نصفين، الأمر الذي أحدث انقطاعاً فراغياً بين جهتَيه الشرقية والغربية، كما ساهم سيل السيارات الذي صار يحتل الشارع في خلق حاجز ضوضائي وحركي صعّب الانتقال والحركة بين الأحياء السكنية على الجهتين.

لم تكن المفاوضات سهلة، فقد رفضت نسبة من السكان الرضوخ لهذا القرار ووصفته بأنه ذو دوافع سياسية يهدف إلى تشتيت وحدة المخيم السكانية، و"تذويب القضية" من خلال إرغام السكان على الرحيل.

وللحديث أكثر عن شارع سُمَيَّة، جلست مع إحدى ساكناته التي رفضت الرحيل وهي الحاجة أم حسن وابنتها سميرة اللتان تسكنان في الجهة الشرقية من الشارع. استدللت على بيت أم حسن من خلال إحدى المتطوعات في مركز البرامج النسائية في مخيم الوحدات التي وصفت أم حسن بالأرشيف البشري الذي يوثق فصولاً مهمة من حياة المخيم والحياة فيه.

استهلت سميرة الحديث عن شارع سُمَيَّة، وهي معلمة في مدارس الأونروا في مخيم النصر الذي يقع على مقربة من مخيم الوحدات، فقالت:

أتذكر أول شخص قَبِل أن يبيع منزله، فقد استهجن سكان الشارع ذلك القرار ووصل الأمر ببعضهم إلى وصفه بالخيانة! كيف وافق على أن يبيع منزله ويغادر المخيم؟ بفعله هذا يكون قد باع القضية. المخيم ليس مجرد مكان نسكنه. رمزيته بالنسبة إليّ تتعدى ذلك كثيراً، نحن هنا موقتاً، هذا صحيح، لكننا لن نغادر إلّا عودة إلى البلاد. سنتمسك بمكاننا هنا، وبالنسيج المجتمعي الذي نتشاركه في المخيم، لأن في ذلك تمسّكاً بالقضية في رأيي. سكنت عائلتي هذا المنزل عقوداً طويلة شهدنا خلالها أحداثاً كثيرة، من ضمنها توسيع شارع سمية. انظري إلى المنزل الذي يجاورنا، فقد قَبِل أصحابه ببيعه وها قد هُدم نصفه لتوسعة الشارع، بينما تُرك النصف الثاني على حاله، ولم يفعل أحد شيئاً حيال ذلك. منظره الحالي فيه شيء من الرمزية، تذكار لما جرى، لجميع الذين وافقوا على الرحيل وجميع مَن وقفوا ضد ذلك. منزل مهدم بجوار منزل صامد على حاله تزدهر فيه الأزهار مذكرة باستمرار الحياة. هذا التباين في حالة البناء يعكس التباين في مواقف السكان حيال قرار الرحيل. لم نقبل أنا ووالدتي أن نرحل. هذا منزلنا ولا نريد غيره.

في الصورة أدناه يتضح التباين الذي تحدثت عنه سميرة بين الدارين، إذ تظهر دار أم حسن مزينة بالنباتات وباقية في مكانها، بينما تقع الدار المجاورة نصف مهدمة بعد أن باعها أصحابها.

 

منزل الحاجة أم حسن، وإلى جانبه منزل مهدم جرّاء توسعة شارع سُمَيَّة

 

أمّا أم حسن، فقررت أن تبدأ الحديث بسرد سيرة حياتها والأحداث التي تسببت بأن وصل الأمر بها إلى أن تستقر مع عائلتها في مخيم الوحدات في سنة 1968:

وُلدت في سنة 1940 في إحدى القرى في قضاء غزة. تهجرت مع عائلتي في إثر أحداث النكبة وهجوم عصابات الهاغاناه على قريتنا. خسرت بعض أفراد عائلتي خلال الاشتباكات المسلحة، وما زلت أذكر منظر الجثث المرمية في طرقات القرية وساحاتها. أتذكر أنني غادرت مشياً على الأقدام بصحبة الجمل الذي كنا نملكه، فأخذت لجامه ومشيت معه أميالاً طويلة، إذ لم أكن أريد أن يضيع. تهت عن عائلتي لفترة قصيرة ثم عدت لأجدهم من جديد. انتقلت بعد ذلك بين عدد كبير من القرى المجاورة حيث كنا نمكث عند بعض معارفنا لبعض الوقت قبل أن نغادر من جديد عقب تجدد القصف أو ازدحام المكان. اختتمت تلك الرحلة باستقرار عائلتي في مدينة غزة حيث تزوجت وأسست عائلتي، وبعد عدد من الأبناء، أنجبت سميرة.

بعد الانتقال إلى العيش في المخيم، كان لأحداث أيلول الأسود تأثير كبير في عائلة أم حسن التي أُبعد في إثرها أبو حسن عن المخيم، والذي عاش بعيداً عن أهله عشرة أعوام قبل استشهاده في سنة 1980. تصدرت صورة أبو حسن واجهة الغرفة التي كنا نجلس فيها، وظلت أم حسن تنظر إليها وهي تسرد تفصيلات حكايتها التي بدأتها بالنكبة، ثم بوصف الأحداث بدقة عالية، متطرقة إلى تفصيلات وأسماء لم تغب عن ذاكرتها بعد أكثر من سبعين عاماً.

 

صورة الشهيد أبو حسن معلقة على أحد جدران المنزل

 

انتشرت في الدار كذلك مجموعة واسعة من الأعمال الفنية التي تستذكر فلسطين من أعلام وخرائط ولوحات مرسومة، فصارت كل زاوية تمثل نصباً تذكارياً يستذكر "البلاد"، مثلما تصفها سميرة، وهذه الأعمال موزعة بين مجموعة كثيفة من النباتات المنزلية التي حولت المنزل إلى ما يشبه الحديقة السرّية.

 

الحديقة السرّية

 

وعند السؤال، تبيّن أن الأعمال الفنية هي من إعداد سميرة التي وصفتها بأنها تؤكد قيمة المخيم الرمزية وتصوره على أنه امتداد اجتماعي وسياسي لأرض فلسطين، وأن أواصر ذلك النسيج لم تنقطع على الرغم من العقود الطويلة التي تلت النكبة.

 

جانب من الأعمال الفنية

 

بالعودة إلى الاستراتيجيا والتكتيك، فإن منزل أم حسن يُعدّ مثالاً قوياً للتفاعل بين الممارسات اليومية والتشريع. فقد جاء قرار توسيع شارع سُمَيَّة كجزء من استراتيجيا الدولة لحل مشكلة المرور، لكن عائلة أم حسن قررت عدم الاستجابة لذلك القرار، على الرغم من الضغوط المتعددة التي تعرضت لها، فجاء فعلها جزءاً من التكتيك الذي ضمن لها البقاء في المخيم الذي رأت فيه مسكناً ارتبطت به لقيمته الشخصية والوطنية. ولا شك في أن لتاريخ عائلة أم حسن دوراً في تأطير المخيم بذلك المنظور، وهو منظور يتشاركه كثير من سكان المخيم، وخصوصاً الأجيال الأولى التي عاشت النكبة وانتقلت إلى العيش في المخيمات في إثر ذلك، وأمضت عقوداً طويلة في انتظار العودة.

من ناحية أُخرى، يمكن اعتبار منزل أم حسن مبنى تذكارياً يحتفي بفلسطين ورموزها على مستوى وطني، من خلال الممارسات الفراغية اليومية التي أنتجته على هذا الشكل، ومن خلال قرار سميرة توظيف الأعمال الفنية التي زينت كل زاوية من المنزل بأعلام وخرائط ومطرزات، كوسيلة لإبقاء فلسطين حاضرة في الذاكرة وفي المكان.

علاوة على ذلك، جعلت الممارسات الفراغية المنزل مبنى تذكارياً على المستوى الشخصي، إذ تساهم الصور المنتشرة لأبو حسن في تأبين رب الأسرة واستذكار سيرته، فيظل حاضراً بين أفراد أسرته وإن غاب.

بالعودة إلى الاستراتيجيا، فإن المؤسسات التشريعية تحظر تعليق أعلام فلسطين في المخيم، وتمنع الاحتفاء برموزه الوطنية في الفراغات العامة لأسباب سياسية لا تتسع هذه المقالة للخوض فيها. ولهذا، وظف كثيرون من سكان المخيم فراغاتهم الخاصة لذلك الغرض، فلا نكاد نجد داراً من دور المخيم خالية من خريطة فلسطين وعَلَمها، كتكتيك استطاعوا من خلاله المناورة مع سلطة المشرّع في الفراغ العام، فانتقلوا إلى فراغهم الخاص حيث لديهم سلطة أوسع تمكّنهم من تطويعه لجعله أكثر تمثيلاً لتطلعاتهم الوطنية والسياسية والاجتماعية. 

دار الحاجة أم فخري في شارع الحاجة أم فخري

يتعامد مع شارع سُمَيَّة شارع فرعي يُعرف باسم شارع الحاجة أم فخري كأحد الشوارع الفرعية التي يستعملها المشاة للدخول والخروج من المخيم. وقد سُمي الشارع بهذا الاسم تكريماً للحاجة أم فخري التي سكنت الشارع، فأُعطي اسمها وعُبّد بعد وفاتها بعد أن وقّع مجموعة من السكان عريضة قدّموها إلى أمانة عمّان، وتمت الموافقة عليها والعمل بها في سنة 2018، وهي السنة نفسها التي توفيت فيها.

في هذه الحالة، فإن تحركات السكان وتكتيكاتهم في الاحتفاء برموز المخيم دفعت المؤسسة التشريعية إلى التجاوب معها، فتغير اسم الشارع رسمياً، وعُلّقت يافطة رسمية على مدخل الشارع بعد أن جرى تعبيده وتنظيفه.

استكمالاً لذلك الاحتفاء الاجتماعي، عمل فنان الغرافيتي حسين الأسمر، وهو من سكان المخيم، على رسم جدارية على حائط مدرسة الأونروا المقابل لمنزل أم فخري للتركيز على قيمة الشارع الرمزية، تخللتها مجموعة من الرسومات والرموز التي تستذكر فلسطين كقبة الصخرة وحنظلة والكوفية الفلسطينية، فضلاً عن خريطة فلسطين والعَلَم ورسومات لنساء بالثوب الفلسطيني التقليدي.

 

لوحة "شارع الحاجة أم فخري" على أحد الجدران

 

وفي مقابلة مع أم محمد، ابنة الحاجة أم فخري، والتي ما زالت تسكن الدار نفسها، تعرفتُ إلى قصة الحاجة كاملة محمد أبو شحادة المعروفة باسم الحاجة أم فخري، وإلى حياتها التي غمرها العطاء والخير والعطف. ولدت كاملة في سنة 1936، وتهجرت مع عائلتها من قريتها في قضاء اللد عقب أحداث النكبة، واستمرت في التنقل بين عدد من القرى والمخيمات إلى أن استقرت في مخيم الوحدات.

عرفت أجيالُ المخيم المتعددة أم فخري على أنها السيدة السمراء اللطيفة التي سكنت في محاذاة مدرسة الأونروا للبنات، والتي حَمَت طالبات المدرسة من مضايقات الصِّبية في الشارع، ونصبت زير الماء الفخاري أمام منزلها لتسقي المارة وكل مَن يحتاج إلى شربة ماء، علاوة على فرن الطابون الذي كانت تستخدمه للخبز وإطعام المحتاجين. ومن خلال دكانتها الصغيرة التي فتحتها في دارها، تعرفت إلى أطفال الحي، وقدمت لهم ما لذّ وطاب من الحلوى بعد ساعات الدوام.

تُعتبر نشاطات الحاجة أم فخري التي شغلت عتبة الدار تكتيكاً تجاوزت من خلاله الحد القانوني المسموح لها به من طرف المشرّع، إذ إنها وظفت المساحة العامة لاستخداماتها الشخصية التي استطاعت من خلالها التواصل مع أهالي المخيم ومساعدتهم.

في المساحة الصغيرة أمام منزل الحاجة أم فخري، اختلط الفراغ الخاص بالفراغ العام، وتوسعت عتبة المنزل لتشمل الشارع والمارة من أهل المخيم كجزء من العائلة وسكان الدار.

عندما زرت المخيم في أواخر صيف سنة 2018، لاحظت المقعدَين الخضراوين أمام منزل أم فخري، وشعرت لوهلة بأنها ما زالت هناك جالسة على أحدهما. كان الجلوس أمام منزلها أحد الأنشطة التي تفضلها عندما لا تكون منشغلة بالخبز أو سقاية المارة، وكانت تستضيف ضيوفاً من المخيم على المقعد الآخر فتتشارك معهم المساحة الصغيرة أمام منزلها مثلما تتشارك معهم أشياء أُخرى كثيرة.

 

مقعدا أم فخري

 

في صيف سنة 2019، لاحظت عند زيارتي الثانية أن الجدارية في شارع أم فخري دُهنت باللون الأبيض، وأن رسومات حسين الأسمر اختفت مثلما اختفت الخريطة والعَلَم والتطريز الفلسطيني، وأن جدار المدرسة توشح باللون الأبيض من دون أي ذكر لفلسطين أو شيء يرمز إلى المخيم. وعندما سألت موظف دائرة الشؤون الفلسطينية عن السبب، لم ألقَ جواباً واضحاً، وإنما أُخبرت أن هذا الطلاء جاء من باب الصيانة الدورية للمحافظة على النظافة والتخلص من خربشات الفتية المسيئة.

نددت ابنة أم فخري بالذي حدث عندما سألتها عن دهن الحائط، فقالت لي: "كنا نستفيق صباحاً ونُصبّح على حنظلة الذي كان يقف على الجدار المقابل.. راح حنظلة وراحت الرسومات. لم يبقَ سوى اللون الأبيض."

بالعودة إلى ما سبق ذكره عن سلطة الدولة في الفراغ العام، تأتي تغطية رسومات الغرافيتي كجزء من الاستراتيجيا التي تحدّت التكتيك وطمست رسوماته، وفضّلت عدم التطرق إلى رمزية فلسطين ضمن محيط المخيم، مستبدلة تلك الرسومات بعبارات تدعو إلى الفضيلة والأخلاق الحميدة، فتوسعت في نفوذها وفرضت رؤيتها على عملية إنتاج المخيم الفراغية.

 

تظهر رسومات حسين الأسمر على الجهة اليسرى من صورة تعود إلى سنة 2018، وعلى اليمين الحالة الحالية للحائط مثلما تم تصويرها في سنة 2019 

خلاصة

أوجدت هذه المقالة تقاطعاً بين كتابات كل من لوفيفر ودو سارتو لخلق مساحة يمكن من خلالها توظيف فهم أعمق لبيئة المخيم المبنية وتطورها عبر العقود الستة التي تلت تأسيسه من خلال دراسة جانب من علاقات القوى التي تتفاعل في المخيم وتنتج فراغاته. ومن خلال النظر إلى فراغات المخيم على أنها ناتجة من عمليات اجتماعية مستمرة، وناجمة عن تفاعل استراتيجيات المؤسسات التشريعية مع تكتيكات السكان واشتباكها معها تارة واستجابة لها تارة أُخرى، تتجلى الطبيعة التحولية لبيئة المخيم وتغيرها بتغير مستخدميها وتغير استخداماتها. ومن هذا المنظور يتم أيضاً تأكيد دور سكان المخيم في تغيير بيئتهم المبنية وتطويعها لجعلها أكثر تلبية لحاجاتهم وتطلعاتهم، وعدم تجريد اللاجئين من دورهم الفاعل في تشكيل حياتهم اليومية وإدارتها. إن هذا الدور، متجلياً في سياق هذه المقالة في الإمكان والقدرة الفراغية، جدير بالدراسة والتعمق، وخصوصاً في مساحات مثل مخيمات اللجوء التي تُفرض فيها درجات عالية من السلطة والسيطرة من طرف المؤسسات التشريعية بحيث تضيق فيها المساحات التي يمكن للسكان أن يعبّروا فيها عن أنفسهم، وعن تطلعاتهم الاجتماعية والسياسية.

 

 * هذه المقالة جزء من أطروحة الدكتوراه التي تُعدّها الكاتبة عن مخيم الوحدات في العاصمة الأردنية عمّان، وعلاقات القوى المتعددة فيه وتأثيرها في العمارة والبناء والحياة اليومية.

 

المراجع: 

Azoulay, Ariella Aisha (2019). Potential History: Unlearning Imperialism. London: Verso Books.

Barghouti, Mourid (2011). I was Born There, I was Born Here. United Kingdom: Bloomsbury Publishing.

Daniel, Errol Valentine (1996). Charred Lullabies: Chapters in an Anthropography of Violence. Princeton, New Jersey: Princeton University Press.

De Certeau, Michel (2011). The Practice of Everyday Life. Translated by Steven Rendall. Berkeley, California: University of California Press.

Hamarneh, Ala (2002). "Transformation of Al-Wihdat Refugee Camp". ISIM Newsletter, vol. 10, issue 1, p. 15. 

Khalidi, Rashid (2010). Palestinian Identity: The Construction of Modern National Consciousness. New York: Columbia University Press. 

---------- (2020). The Hundred Years' War on Palestine: A History of Settler Colonialism and Resistance, 1917–2017. United States: Metropolitan Books. 

Lefebvre, Henri (2016).The Production of Space. Oxford, UK: Blackwell Publishing. 

Pappe, Ilan (2007). The Ethnic Cleansing of Palestine. Oxford, UK: Oneworld Publications. 

Peteet, Julie (2011). Landscape of Hope and Despair: Palestinian Refugee Camps. Pennsylvania: University of Pennsylvania Press. 

Sa'di, Ahmad H. and Lila Abu-Lughod, eds. (2007). Nakba: Palestine, 1948, and the Claims of Memory. New York: Columbia University Press. 

Said, Edward (1999). After the Last Sky: Palestinian Lives. New York: Columbia University Press. 

---------- (2000). "Reflections on Exile". In: Edward Said. Reections on Exile and Other Essays. Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, p. 174. 

---------- (Winter 2000). "Invention, Memory, and Place". Critical Inquiry, vol. 26, no. 2, pp. 175-192. 

Sayigh, Rosemary (2007). "Women's Nakba Stories: Between Being and Knowing". In: Nakba: Palestine, 1948, and the Claims of Memory. Edited by Ahmad H. Sa'adi and Lila Abu-Lughod. New York: Columbia University Press, pp. 135-158.

Tuan, Yi Fu (January 1980). "Rootedness versus Sense of Place". Landscape, vol. 24, no. 1, pp. 3-8. 

UNRWA (2019). "Amman New Camp". UNRWA, https://www.unrwa.org/where-we-work/jordan/amman-new-camp

Author biography: 

نماء عبد الله قضاة: باحثة أكاديمية في مجال المخيمات الفلسطينية وعمارة اللاجئين، تحمل درجة البكالوريوس والماجستير في هندسة العمارة.