بداية، كيف بدا العالم للأسرى في اللحظة التي أطلّوا عليه من حفرتهم تلك بعد ذلك الحفر والمثابرة والصبر والإصرار والتخيل؟ وكيف بدت إسرائيل لذلك المحقق، وعالمه، وهو يطل عليها من الحفرة التي خرج منها الأسرى، في الصورة الشهيرة؟
ينطلق تساؤلنا أعلاه من موقع مؤسسة السجن بما هي مجاز أساسي لفهم كيفية عمل الحداثة الغربية، باستدعاء تحليلي لنظريات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو[1] عن مؤسسة السجن. وكذلك، في طبقة تالية، موقع مؤسسة السجن الإسرائيلية من النظام الاستعماري الإسرائيلي ودولته الحداثية وإقليمها الدولاني والمديني، بالنسبة إلى الفلسطيني / ة وإلى فلسطين الذين "يقعون" (بمعنى الموقَعَة positionality والوقوع / السقوط، والتقاطعية intersectionality أيضاً) في مركز ذلك المخيال الحداثي. إن أي محاولة لتأمل البُنية الاحتلالية / الإحلالية الإسرائيلية، بكامل استعاراتها ومجازاتها، هي محاولة لتأمل البُنية العامة للحداثة الغربية، وبشكل معاكس فإن تحولات الحداثة الغربية لها أثر في الحالة الفلسطينية (والجسد الفلسطيني). وعليه، فإن "كل محاولة في مقاربة فلسطين هي تعرية جانب محدد من هذا النظام وآليات عمله الأساسية."[2]
تهدف هذه المقالة إلى توظيف حركة الأسرى الفلسطينيين الستة لتفكيك بُنية مؤسسة السجن الحداثية وطبقاتها الاستعمارية، ومواجهتها على مساحة الوجود الفلسطيني كاملاً، ضمن مساحة الاستعمار والمقاومة على مستوى اليومي المعيش - فلسطينياً. أمّا مادتا المعرفي والتخيلي، في هذه المساحة، فهما أساساً مادتا التفكير الرئيسيتان هنا، باعتبارهما نتاج الربط العضوي بين المعرفة والسلطة في النظام الاستعماري. فالمعرفي نعني به إنتاج المعرفة والإبستمولوجيا عن / من الوجود الفلسطيني ضمن منظومة الاحتلال، والتخيلي هو مساحة تفكيك مفهوم "الواقع" المعيش، وهو المفهوم الذي تحدده المعرفة بما هي سلطة تنتج هذا "الواقع".
الهدف هنا هو المراكمة للتساؤل: هل يمكننا إحداث عصيان معرفي والحفر في جميع تلك الطبقات الرقابية معرفياً على / عن فلسطينيتنا، واستحواذ قوة تقوم على مواجهة "الواقع"، بالنظر إلى الجسد والحركة كمصادر للمعرفة؟
الحركة وإنتاج المعرفة
نظراً إلى علاقة أجساد الأسرى الفلسطينيين الستة (ومَن سبقهم في عدة محاولات للهروب من المعتقلات الإسرائيلية، نجح منها ما نجح) في تجربة الهرب، بالمنظومة الاستعمارية ومكانيتها، نجد أن ثمة ارتحالاً / حركة من السجن وإليه، على مستوى الزمان والمكان (التاريخ والجغرافيا الفلسطينيان)، استطاعت، في رأيي، أن تنقد / تنقض أشكال المعرفة والإدراك والبحث المنهجي الحداثي، فلسطينياً، وتنقلها إلى مستوى باتت فيه قادرة على إنتاج معرفة تحررية مغايرة، على مستوى اليومي (التاريخ) وكذلك المكاني (الجغرافيا المستلبة). إن الحركة هنا، أي حركة الأسرى، لا تحدث باعتبارها الحركة المادية الفيزيائية فقط، بل هي أيضاً، حركة تحدث خارج منظومة التداول الاستعماري التي تسم الجسد الدولاني، المرغوب فيه إسرائيلياً.[3] فالأسرى كونهم أجساداً غير دولانية، وغير قابلة للتداول الحداثي في الدولة الإسرائيلية، وكذلك بحركتهم من المركز إلى الأطراف والهوامش، إنما يخلخلون علاقة القوى مع مركز الهيمنة (السجن / الدولة) باعتباره المجاز المهيمن على الحياة اليومية الفلسطينية ومخيالها، كما يفككون مفهوم التداول ذاك.
مؤسسة السجن كاستعارة حداثية
تميزت الحداثة، معرفياً، على الأقل، بهيمنة الإدراك الثنائي، فطمست أي مدرك متعدد الأقطاب والاتجاهات والتراكبات في الظواهر، وباتت تلبس لبوساً تبسيطياً للظاهرة، الأمر الذي أدى إلى فائض عنف خطابي ليس موضوعنا في هذا المتن. ولعل السجن يقع في قلب تلك المركزية التفسيرية الثنائية / القطبية: داخل - خارج، لكن الأهم أنه كمؤسسة ضبط ومراقبة، مسؤول عن ضبط أشكال تلك الثنائيات التفسيرية الحداثية، ومراقبتها، وكذلك تحويلها إلى شكل تداولي أدائي وخطابي ما، باعتبار أن أجساد الأسرى لا يمكن تداولها في المنظومة الاستعمارية الدولانية، ومن هنا وجب تقييدها زمانياً ومكانياً، وهو ما تشارك فيه مؤسسات أُخرى كالمدرسة والمصحة، وذلك بحسب مقاربة فوكو. وفي المنطق نفسه، تنسحب المقايسة على مؤسسات كالمعرفة وموضعها وأثرها الاجتماعي، وتحوّلها إلى أداة كشف وتعرية للفلسطيني / ة كمادة معرفية، وهو ما نبّه إليه كثيرون عن كون العلوم الاجتماعية أصبحت باسم المعرفة أدوات كشف للمجتمع المستعمَر.
أهم مساحات الضبط والمراقبة والمعاقبة التي تقوم عليها مؤسسة السجن في المخيال الحداثي، هي مساحة الحضور والغياب. وثنائية الحضور والغياب هنا هي ثنائية ضبطية تنتج تعادلاً صفرياً يجعل الواقعين تحت سلطتها أصفاراً منضبطة، أي لا فاعلية لهم في العلاقة مع أي شكل آخر من الوجود / التداول، أو حتى التفاوض، فالنظام يقبل تداولهم باعتبارهم أصفاراً لا حقوق / وجود / خطاب لهم. إن هذا النظام، مثلما يقول فوكو: "يعكس مبدأ الزنزانة [....] وظائفها الثلاث: الحبس والحرمان من الضوء والإخفاء – ولا يُحتفظ إلّا بالوظيفة الأولى وتُلغى الوظيفتان الأُخريان. فالضوء القوي ونظرة المراقب تأسر أكثر ممّا يأسر الظل الذي يحمي في النهاية. إن الرؤية هي شرك."[4]
بتحليل حيّزي / مكاني (territorial / spatial) لموقع مؤسسة السجن - وليس بُنيتها فقط - على أطراف المجتمعات والحيّز الدولاني الحداثي (مكانياً ورمزياً)، يتضح دورها في ترسيم مساحات الضبط والرقابة، وكذلك الهيمنة على الحيّز المكاني والجغرافي والرمزي.
فموقع مؤسسة السجن أساسي لفهم دورها في سياق منظومة الاحتلال، وسياسات إنتاج المكان، والتجربة الحيّزية والمدينية. ووقوعها على أطرف الحيّز الجغرافي المكاني يهدف إلى إرساء شكل من أشكال الهيمنة المكانية الحركية على حيّز الدولة، والأهم أشكال إدراكه. ولذا ارتبط السجن ليس فقط بالسيطرة على مساحته الداخلية، بل كذلك بالسيطرة والمراقبة لمساحة "المحيط"، والهدف هو إنتاج حدود الإقليم الدولاني (territory). وهنا نشير إلى نقطتين أساسيتين في موقع مؤسسة السجن الإسرائيلية:
1 - موقع مؤسسة السجن بالنسبة إلى ثنائية المدينة الإسرائيلية والقرية و / أو البلدة العربية، فالسجن هو ضابط المعنى في حركة الفلسطيني من قريته وبلدته العربية إلى المدينة الإسرائيلية. مثلاً سجن مجدّو (تقاطع مجدّو) يربط من ناحية بين باقة الغربية وزلفة وسالم، ومن ناحية اُخرى جنين بحيفا، أي أن الحركة إلى حيفا من تلك القرى والبلدات في المثلث (جنين تابعة للسلطة الفلسطينية) تكون من خلال المرور بمخيال الدولة المكاني في ترسيم الحيّز المديني والقروي، كأنها سردية ضابطة لتلك الثنائية.
2 - موقع مؤسسة السجن على أطراف المدينة هو شكل من أشكال الضبط الحداثي لمنظومة المدينة، ووضع حد ضابط لها، لضمان التماهي المديني مع الدولة، فتصبح المدينة نصاً دولانياً. ومن أجل فهم هذه النقطة، نشير هنا إلى تتبّع بسيط لمواقع مؤسسة السجن في بعض المدن العربية، ففي القاهرة مثلاً بَنَت السلطات المصرية 35 سجناً بعد سنة 2011.[5] وبتتبّع خرائطي لمواقع تلك السجون نجد أن تلك المواقع تتغير بنمو المساحة الحيّزية للمدينة (القاهرة، نموذجاً)، إذ إن المدينة هي مساحة ضبط رقابي للدولة وأجهزتها الأمنية، وقد جرى في سياق إعادة تنظيم السجون دمج 12 سجناً في مجمع كبير على أطراف القاهرة.[6]
موقع مؤسسة السجن في المنظومة الإسرائيلية هو جزء أساسي من ترسيم الخرائط، ومَوْضعة مؤسسات الحداثة تلك هو ما أعاد "بناء جوهر ما يعنيه مفهوم 'الحكم'، بما أفضى في النهاية إلى الدول الإقليمية الحديثة كما نعرفها."[7] من هنا، يمكننا فهم موقع مؤسسة السجن كنقطة ضبط حدّية.
بناء على ما سبق، يمكننا النظر إلى الأسرى وهروبهم، كنموذج مهم وفريد في تفكيك هذا الإنتاج الحداثي للمعرفة والمكان والحكم من خلال الحركة. فهروبهم والطرق التي سلكوها أعادا ترسيم الخريطة بما لا ترغب فيه منظومة الاحتلال الإسرائيلي، وفتّتا سياسات التقسيم المكاني الحيّزي في الإدراك الفلسطيني الواقع تحت تلك الهيمنة الطوبوغرافية الإقليمية، والمكانية، فكان إنتاج أشكال استدلال خرائطية من واقع الجماعة الفلسطينية وسردياتها المخيالية والاجتماعية الصاعدة من أسفل إلى أعلى وليست تلك النازلة من أعلى، تفكيكاً للدولة وأجهزتها وخطابها، وليس فقط مؤسساتها.
يقول وليد دقّة[8] إن "إسرائيل ومنذ العام 2004، أنجزت نظاماً علمياً شاملاً وخطيراً، يعتمد أحدث النظريات في الهندسة البشرية وعلم نفس الجماعات بغية صهر الوعي الفلسطيني عبر تفكيك قيمه الجامعة."[9]
السجن بهذا المنطق، إذا ما نظرنا إلى أدواته الممتدة إلى / في النظام الاستعماري، والمجتمع الإسرائيلي، هو النقطة صفر في المخيال الحداثي، فلا الغياب كامل ولا الحضور تام، وهنا تكمن قوته كأداة حداثية سلطوية تقوم على الضبط والرقابة والإلغاء، وهي الثلاثية المحركة لديناميات المعرفة الحداثية بحسب فوكو. وهكذا فـ "إن حالة فقدان القدرة على تفسير الواقع والإحساس بالعجز وفقدان الحيلة، لا تقتصر على السجون فقط [....] ولا هي من نصيب الأسرى وحدهم، وإنما هي حالة فلسطينية عامة، حيث تتطابق ظروف المواطن الفلسطيني، مع ظروف الأسرى، ليس في شكل القمع وحسب"،[10] بل كذلك في "إعادة صياغة البشر وفق رؤية إسرائيلية"،[11] تمنح الفلسطيني الحضور بحسب شروطها، وتُغيِّب الفلسطيني الخارج عن تلك الشروط التداولية.
ولعل الحفر (عمودياً: مثلما كانت الحال مع نفق أسرانا، ومَن سار على دربهم)، واستشكال التغييب في تغييب الحضور، واستشكال الحضور في استحضار الغياب، هي ما منح ثنائية الحضور / الغياب القدرة على أن تكون أداة نقـد / نقض لثنائيات الحداثة. لكن استدعاء ثنائية لتفسير ثنائية يعيد إنتاج الثنائيات الحداثية بشكلها المطلق، وبذلك نَعْلق في دائرة من الثنائيات الحداثية / الصفرية، مرة أُخرى، ومن هنا لزم تفكيك حدث[12] الهروب، في المخيال والواقع الفلسطينيين.
صحيح أن الأمر كذلك، لكن ما دفع به الأسرى بهروبهم، هو أنهم أخرجوا النقطة صفر عن سيطرة الثنائيات الحداثية، فهدموا سلطة الرقابة والمعاقبة والضبط (الرمزي والمكاني)، وبشكل آخر، هدموا سلطة التصنيف والتسمية، فأعادوا ترسيم حدود الجماعة الفلسطينية العابرة لحدود الهيمنة المكانية الإسرائيلية، ومؤسساتها. وكلنا يتذكر - بما لا يتسع له المتن هنا - النقاش الذي أنتجته "حركة أجساد الأسرى" على الخريطة، بشأن أين ذهبوا؟ وما هي "الجماعية" التي ستؤويهم؟ ومَن هم؟ ومَن أرشد عليهم وغير ذلك؟ وتحديد موقع الذات الفلسطينية من الدولة من خلال موقع الندّ؟ وتاريخ المناطق التي مرت بها مسالكهم؟ وعلى أي أساس خططوها؟ هذه الأشكال كلها من التفاوض مع جماعية فلسطينية خارجة عن الحداثة (قرية؛ دولة؛ سجن؛ مرج)، لم تطمسها دولة الاحتلال، الأمر الذي أعاد إنتاج مكانية سردية فلسطينية مقابلة لحداثية الدولة - الإقليم.
خروج النقطة صفر عن سيطرة الاحتلال ومؤسسته العقابية، كمجاز وآلة ضبط حداثية، هو خروج معرفي / إبستيمي في جزء كبير منه، وهو خروج عن سلطة المعرفة الحداثية متمثلة في الدولة، وتحوير في مخيال الحداثة.
بالعودة إلى الصورة الشهيرة، لعل ما رآه ضابط التحقيق وهو يتأمل الحفرة التي خرج منها الأسرى - وإن لم يتنبه إليه - هو ضآلة المؤسسة الدولانية الحداثية الإسرائيلية بكامل عدتها وعتادها، الخطابي والعسكري والمعرفي منها، أمام "أجساد صفرية".
لكن الأهم أن خروج النقطة صفر أنتج معرفة مضادة لتلك الحداثة، تجسدت في بؤرة أساسية لها تداعياتها المكانية والرمزية والتخيلية، والمعرفية، وهي ثمرة "الصبر" التي أكلها، وتغنّى بها وبلذّتها وارتباطها بالأرض أحد الأسرى، خلال رحلة هروبه.
"الصبر" كنموذج معرفي تحرري
للغة ألاعيبها أيضاً، فهي تتآمر علينا من حيث لا نحتسب ولا نتوقع، وتأتينا بحِيَلها كلها كي تتكشف لنا وتكشفنا، ولو بعد حين.
علينا أن نتوقف أمام مدح أحد الأسرى الهاربين لثمرة "صبر" أكلها من الأرض، بأنها "الأطيب" لأنها من هذه "الأرض". ليست اللعبة اللغوية بشأن "الصبر" كثمرة وزراعة، و"الصبر" كمعنى وفضيلة، و"الصبر" كممارسة اجتماعية تشاركية، هي فقط ما جعل من تلك الثمرة بؤرة إنتاج معرفة تحررية، على الرغم من مركزية اللغة في إنتاج المعرفة والمكان، بل إن رمزية "الصبر" أيضاً، تكمن في أنها علاقة عمودية زمنية مع / في المكان (الأرض) الفلسطيني (ة)، إذ تقول أدبيات التهجير والنكبة: أينما تجد صبراً، فهناك قرية مهجرة، أو أنه قد مر / ت من هنا فلسطيني / ة. فالمرور هو فعل أفقي يترك آثاره الزمنية، لكن الصبر في فلسطين كإقليم وحيّز وممارسة، هو نتاج علاقة عمودية / رأسية مع الأرض، (تماماً كالحفر) ملؤها الترميز والاستعارة، وتحدث على مستوى اليومي في العلاقة مع الأرض. وإذا كان لنا أن نأخذ من أرسطو مقولته عن الاستعارة[13] كحركة مكانية، فسنتمكن من فهم دلالة الحركة هنا، ومركزها "الصبر" والعلاقة مع الأرض.
ثمرة "الصبر" التي استطعمها الأسير ترسم حدود المكان / الحيّز والجماعة والوجود والفاعلية مادياً ورمزياً، إذ إنها ترسم مسار الحركة وفاعليتها، وتعبّر عن فلسطيني / ة، مر/ ت من هنا (أفقياً) جغرافياً / مكانياً، وتحفر (رأسياً) في معنى الذائقة والوجود، والعلاقة مع الأرض من خلال المخيال والزراعة، فهي ليست كثمار الصبر في المكسيك، ولها آنية / زمنية مواجهة مع الاحتلال رمزياً.
هذه الحركية الجسدية للأسير، والتي بدأت من الحفرة والخروج من السجن، وكذلك المار / ة الذي / التي ترك / ت أثراً، والصبر، وثمرة الصبر، والذائقة، هي أمور تحدث بين السطح والعمق في ثنائية الحضور والغياب،[14] في الحداثية التي لا تنفصل كمهيمنة عن آليات وأجهزة هيمنة أُخرى، كالحداثة الزراعية التي تروج بها إسرائيل نفسها، عربياً، منذ سبعينيات القرن الماضي.
ثمرة "الصبر" ومناهج البحث التاريخي
نستدعي هنا جهازاً حداثياً دولانياً يُنزِل بالوجود الفلسطيني في الزمان / التاريخ والمكان / الجغرافيا، عنفاً يطمس أشكال حضوره، ويُحضر غيابه، وهو المنهج البحثي التاريخي والاجتماعي، بشكله التقليدي الذي هو في صلب مقالتنا هنا، بغرض إحداث حالة من العصيان المعرفي التاريخي.
هل يمكننا استدعاء "الصبر" كمصدر للمعرفة؟ (نتذكر هنا ما فعله التربوي والمعلم الفلسطيني منير فاشة من استدعاء "الدجاجة الفلسطينية" كمصدر للمعرفة، ومرجع في بحثه لرسالة الدكتوراه في جامعة هارفارد، وكيف كان الأمر مواجهة بين معرفة مؤسساتية ومعرفة مجتمعية).
بالعودة إلى اللغة وألاعيبها، نجد أن الدمج هنا يحدث بين الصبر / الثمرة والصبر / الفضيلة، على مستوى مواجهة ومراكمة المعرفة مجتمعياً باعتبارها سرديات طرفية أو حدودية غير مركزية في مواجهة المعرفة الدولانية الحداثية ببُنيتها المركزية كلها في العلوم الاجتماعية والدراسات التاريخية.
وهنا يغدو التساؤل مشروعاً: بأي قدر من الانكشاف تعرض العلوم الاجتماعية والدراسات التاريخية الوجود الفلسطيني، وهل تُعلّي صوته، أم تخرسه وتطمسه؟
الأجدى في الحالة الفلسطينية الدفع بالمعارف إلى أن تكون صادرة عن الأطراف بعيداً عن المعرفة المؤسساتية الحداثية المركزية، ومناهجها الغربية ذات الإرث الكولونيالي، تلك التي تختزل الظواهر في إجمالية منفصلة ومنهجية. فالكتابة التاريخية والدراسات الاجتماعية، يجب أن تتأسس على مقاربات متداخلة الحقول (interdisciplinarity)، وأن تكون نابعة من الهوامش لتتمكن من رؤية المركز وبُنيته، وكذلك التقاطع (intersectionality) مع الهوامش الأُخرى لتتمكن من اتخاذ موقف أخلاقي من السلطة المستبطنة في المعرفة ومؤسساتها ودولتها، وتحميها من إنتاج سلطوية معرفية وقيمية، والأهم تفكيك الإدراك الدولاني للتاريخ. يقول المؤرخ الهندي راناجيت غُها (Ranajit Guha):[15] "الكتابة التي تجعلك تاريخياً كانت في حاجة إلى دولة يُكتب عنها، وكانت جزءاً من ضمن هذه الأخيرة."[16] طبعاً، لا تدعو هذه المقالة إلى تجاهل الأرشيفات والوثائق والمركزيات والمنهجيات الهرمية (hierarchical methodology) الصلبة، لكنها تدعو إلى النظر الخلالي للعلاقات البينية بين هؤلاء كلهم، وتفكيك سياسات الحوكمة والخطاب المنتج من خلالها، وكذلك الإجراءات الأرشيفية كمقولة ومقطع عرضي في جسد السياسات المعرفية والخطابية والدولانية،[17] وهي الأولى في نظريات نزع الكولونيالية (decoloniality).
لتوضيح الأمر نستحضر بشكل مبسط نموذجاً لمقاربة أشكال من الكتابة التاريخية[18] مضادة للمؤسسة الدولانية بمعناها المباشر والهرمي، وهو كتاب دانا السجدي "حلاق دمشق: مُحْدَثو الكتابة في بلاد الشام إبان العهد العثماني (القرن الثامن عشر)".[19]
على مستوى المنهج، يُعتبر كتاب "حلاق دمشق" دراسة تاريخية تنظر إلى التاريخ لا في أحداثه الكبرى، وإنما في الصغرى الطرفية منها، أو ما يُعرف بالمايكرو (micro-history)، أو اليومي المعيش، الأمر الذي يعطيها مرونة الوصول إلى السياق التاريخي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الأعم، وتحولاته، من خلال زمنيات وأحداث صغيرة وشخصية، تراكمية من الأسفل إلى الأعلى، بما يعرّي بُنية السلطة والنظام الاجتماعي في موقفه من الهوامش والأطراف والحدود. فالكاتبة تحلل سياق مدينة دمشق الشرقية العثمانية، وبُنى السلطة فيها من خلال عنصرين اثنين: الأول هو أوراق ابن بدير (حلاق دمشق)، والتي تعترف الكاتبة بأنها أوراق غير مكتملة، والثاني هو فعل الكتابة، بما هو فعل ثقافي يقع خارج دوائر السلطة الرسمية بقدر ما تستخدمه هي كوسيط للهيمنة، وهو ما يدل عليه عنوان الكتاب.
تتبع السجدي في مقاربتها التي تقول عنها إنها غير تاريخية بالمعنى النمطي التقليدي للتاريخ،[20] حركة "ابن بدير" الموازية والمشابهة لحركة الأسرى الفلسطينيين الستة من حيث موقعها مع السلطة والمعرفة الفكرية والثقافية والدولانية. فمؤسسة الكتابة هنا، بالنسبة إلى الحلاق، تتموقع رديفاً لمؤسسة الدولة والسجن بالنسبة إلى الأسرى، الأمر الذي جعله ينتج من خلال كتابته هو، معرفة مضادة للمعرفة الرسمية للدولة. وتتمكن الباحثة من خلال تتبّع العلاقة بين الكتابة والمدينة والحلاق من دراسة مدينة دمشق وحيّزها ومساحاتها، لا من حيث كونها مساحة حيزية للسلطة فقط، بل أيضاً من حيث علاقات السلطة تلك، وموقع حلاق دمشق منها ومن المساحات والأحياز، والأهم إنتاج معرفة مضادة للسلطة من خلال تلك العلاقة. والعنصران أعلاه: ابن بدير وفعل الكتابة، منشبكان هنا معاً على مستوى الـ micro - history بما يهدد تقاليد التأريخ التقليدية التي تتناول الأحداث السياسية والاجتماعية بطرح خطي يقوم على مركزة الحدث التاريخي الرئيسي، وحشد شواهده وعناصره ونتائجه، وأرشيفاته ووثائقه، ورسم خط مركزي بينهم.
تقول السجدي في مقدمة كتابها: "لم يكن دخول حلاق إلى عالم التأريخ أمراً من دون عواقب، فالدخول بحد ذاته إلى هذا النمط الأدبي الذي اختص به العلماء من قبل حِرفيّ من شأنه بالضرورة أن يغير طبيعة هذا الأدب. فعلى سبيل المثال، يُدخل ابن بدير على النص ملامح شكلية وأدبية لم نعهدها في التأريخ، ويقدم موضوعات جديدة وأبطالاً غير معهودين، وكانت النتيجة تقويضاً لمقصدية هذا الجنس الأدبي. أدى الابتعاد الواضح عن تقاليد التأريخ (ذلك العلم الجدير بالعلماء) تحت سلطة مؤلف حلاق إلى أن الدولة لم تعد المصلحة العليا أو القضية الأساسية لهذا الجنس الأدبي."[21]
لعل هذا التهديد نفسه يجب أن يعاد توجيهه إلى الكتابات والبحوث التاريخية العربية، والفلسطينية تحديداً، بدلاً من دولنة الأرشفة والتأريخ، وحوكمة الأرشيفات، وتحويلهما إلى معبد يقوم على طقوسية التأريخ الخطي، بحشد الوثائق والبيانات، وتقييد إبستمولوجيا التأريخ بمزيد من السرديات المنهجية الكبرى، وخصوصاً أن السياق الفلسطيني الذي لم تبتلعه منظومة الدولانية الحداثية بشكله الكامل،[22] هو، للمفارقة، في صدام مع الفكرة الدولانية بنموذجَيها الفلسطيني والإسرائيلي معاً، الأمر الذي يمنحه الأفضلية كبؤرة لمقاومة القمع الحداثي الدولاني على مستوى إنتاج المعرفة، بجميع أبوية الفكرة الحداثية القائلة بمركزية الثنائيات (دولة ولا دولة؛ مدينة وقرية؛ معرفة ولا معرفة؛ وغيرها) وقداسة الأجناس (بحث تاريخي؛ بحث غير تاريخي) والمفاهيم (حرية دولة؛ أرشفة تأريخ؛ كتابة للخاصة وكتابة للعامة؛ وغيرها).
في زمن تنهار الدولة الحديثة التي قدمت نفسها على أنها إجابة سردية كبرى، بفعل حركة الجسد عبر الحدود وتفكيك نظريات الحدود والحيز والإقليم[23] كضوابط معرفية، وفي السياق الفلسطيني، يمكننا القول إن الجسد الفلسطيني المستهدف من المنظومة الاستعمارية بإصراره على الخروج عن بُنية التداول الدولاني الحديثة، كان قادراً ولا يزال على تقديم شكل من أشكال العصيان المعرفي، النابع من الجسد والزمان والمكان.
هل يمكن للدراسات التاريخية أن تتحرر من قيود الكتابة التاريخية التقليدية ككتابة خطية تسبح في ظل المركزية الحداثية الغربية الكولونيالية، وأن تراكم على أولوية الفهم على المنهج من حيث تداخل الحقول والأجناس؟ هل نستطيع فلسطينياً أن نؤرخ لوجودنا كمجتمع وأفراد وحياة يومية، بشكل لا يكشفنا كمواد وعينات بحثية، وإنما يساهم في مقاومة القمع الحداثي الإبستيمي الواقع علينا، وأن تاريخنا ليس فقط تاريخ مؤسسات متماهية مع الدولة أحزاباً وفصائل وسياسيين و"شبه" دولة؟
"ليس للتاريخ منهج: وإلّا فاطلبوا أن يُبرَز لكم هذا المنهج. لا، إنه لا يفسر شيئاً على الإطلاق، هذا إذا كان لكلمة تفسير من معنى. أمّا بالنسبة إلى ما يُسمى النظريات التاريخية، فيجب أن يُنظر إليها من كثب."[24]
* عبارة "غطرسة النقطة صفر" هي عنوان مقتبس من إحالة إلى كتابات الفيلسوف الكولومبي سانتياغو كاسترو – غوميز، وقد ردت في مقالة منظّر الدراسات الديكولونيالية والتر ميغنولو. وللمزيد انظر:
Walter D. Mignolo, “Epistemic Disobedience, Independent Thought and De-Colonial Freedom”, Theory, Culture & Society, vol. 26, no. 7-8 (2009), pp. 1-23.
وبالعربية يمكن ترجمة العنوان على النحو التالي: "العصيان المعرفي، والفكر المستقل وحرية إزالة الاستعمار"، ويمكن الوصول إلى المقالة من خلال الرابط الإلكتروني.
المصادر:
[1] ميشيل فوكو (1924 – 1984)، فيلسوف ومنظّر فرنسي.
[2] إسماعيل الناشف، "العتبة في فتح الإبستيم" (رام الله: مواطن / المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2010)، ص 12.
[3] للمزيد انظر: إسماعيل ناشف، "صور موت الفلسطيني" (بيروت؛ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).
[4] ميشيل فوكو، "المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن"، ترجمة علي مقلد ومطاع صفدي (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990)، ص 210.
[5] يرد ذلك في تقرير لـ "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان" بعنوان "في انتظارك: 78 سجناً، بينها 35 بعد ثورة يناير 'عن الأوضاع الصعبة للسجناء والسجون في مصر' "، في موقع الشبكة، في 11 نيسان / أبريل 2021، في الرابط الإلكتروني.
[6] جدير بالذكر أن ما شهدته الأيام الـ 18 الأولى من الثورة المصرية في سنة 2011، من فتح للسجون، كان يحدث بالعلاقة مع المناطق المدينية المستهدفة، لنشر حالة من الرعب المجتمعي المديني وإفراغ الثورة وميدان التحرير وتشتيت القوى المجتمعية المهيمنة على المدينة مع انسحاب قوى الأمن والشرطة، علماً بأن السجون الأبعد عن المدينة لم تُفتح.
[7] جوردن برانش، "الدولة الخرائطية: الخرائط والإقليم وجذور السيادة"، ترجمة جلال عز الدين وعاطف معتمد (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017)، ص 14.
[8] وليد نمر دقة، (أبو ميلاد) أسير فلسطيني من باقة الغربية في فلسطين المحتلة منذ سنة 1948، وهو والد الطفلة ميلاد، المولودة من خلال "النطف المهربة". أُسر في سنة 1986، ولا يزال محتجزاً في سجون الاحتلال. هو من أبرز مفكري الحركة الأسيرة وله عدة كتب منها: "يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002"؛ "صهر الوعي: أو في إعادة تعريف التعذيب"؛ "حكاية سرّ الزيت" وهي رواية لليافعين حصدت جائزة "اتصالات" الإمارتية لأدب اليافعين. ونُشر له كثير من المقالات، ومن أهمها "الزمن الموازي" التي كُتبت في سنة 2005 في سجن جلبوع، وتحولت إلى مسرحية بعنوان "حكاية المنسيّين في الزمن الموازي" (2011) التي كُتبت في سجن جلبوع أيضاً، ومسرحية "الزمن الموازي" التي أنتجها مسرح الميدان في حيفا (2014)، وذلك بالتشاور مع وليد دقَّة (وللمزيد عن مفهوم الزمن الموازي عند وليد دقة انظر: عبد الرحيم الشيخ، "وليد دقَّة: 'دِقْ قَوِّي الدَّقّ وَعِّي كلّ البشر' "، مجلة "الآداب" الإلكترونية، في الرابط الإلكتروني.
[9] وليد دقّة، "صهر الوعي: أو في إعادة تعريف التعذيب" (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010)، ص 29.
[10] المصدر نفسه، ص21.
[11]المصدر نفسه.
[12] الإشارة إلى "الحدث" كسلسلة من التحولات الاجتماعية في مجال اجتماعي – تاريخي عيني، قد يتأتى من أسباب وسياقات علائقية متنوعة، وهو أمر يُحيل إلى كتاب الفيلسوف الفرنسي آلان باديو:
Alain Badiou, Being and Event, translated by Oliver Feltham (New York: Continuum International Publishing Group, 2006).
[13] أرسطو (384 - 322 قبل الميلاد) فيلسوف يوناني وتلميذ أفلاطون ومعلم الإسكندر الأكبر. وبشأن مسألة "الاستعارة"، انظر:
Aristotle, The Art of Rhetoric (New York: Penguin Classics, 1992).
[14] لعل من أهم المقاربات الإبستيمية عن موقع فلسطين الحداثة، كتاب الناشف، "العتبة في فتح الإبستيم"، مصدر سبق ذكره.
[15] راناجيت غُها (1922 - ) هو مؤرخ شبه القارة الهندية الذي كان له تأثير كبير في مجموعة دراسات التابع (subaltern)، وكان محرراً للعديد من مختارات المجموعة المبكرة. هاجر من الهند إلى المملكة المتحدة في سنة 1959، حيث عمل محاضراً في التاريخ في جامعة ساسكس.
[16] راناجيت غُها، "التاريخ عند نهاية التاريخ العالمي، ومقالات أُخرى"، ترجمة ثائر ديب (البحرين: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2019)، ص 54.
[17] نُحيل هنا إلى أبحاث آن لورا ستولر عن الأرشيف والأرشفة، وسياسات الحوكمة الأرشيفية باعتبارها بُنى وممارسات سلطوية، دولانية وكولونيالية.
[18] البحث الذي كُتبت على هامشه هذه المادة، والمقدم إلى جامعة أكسفورد، تناول مقارنة ثلاثة نماذج من الكتابة التاريخية: كتاب "حلاق دمشق" (2018) للباحثة دانا السجدي، وكتاب “Street Sounds” (2020) للباحث في التاريخ زياد فهمي، وكتاب "تبغ وزيتون" (2017) للباحث معين الطاهر.
[19] دانا سجدي، "حلاق دمشق: مُحْدَثو الكتابة في بلاد الشام إبان العهد العثماني (القرن الثامن عشر)"، ترجمة سري خريس (أبو ظبي: دائرة الثقافة والسياحة، مركز أبو ظبي للغة العربية، 2018). والكتاب مترجم عن اللغة الإنجليزية:
Dana Sajdi, The Barber of Damascus: Nouveau Literacy in the Eighteenth-Century Ottoman Levant (California: Stanford University Press; 1st edition, 2015).
[20] قدمت السجدي كتابها "حلاق دمشق..."، في مكتبة الأرشيف (عمّان) في كانون الثاني / يناير 2022، وفي حوارية مفتوحة، سألها كاتب هذه المقالة عمّا إذا كان من الجائز اعتبار كتابها دراسة تاريخية، فأجابت بأنها ليست معنية بالكتابة التاريخية المركزية والمنهجية التقليدية بقدر ما هي معنية بتفكيكها.
[21] السجدي، مصدر سبق ذكره، ص 23.
[22] يمكننا تتبّع فكرة الدولة ضمن ثنائية الدولة والفكرة فلسطينياً، بالرجوع إلى النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، من خلال النقاشات والوثائق الخاصة بمنظمة التحرير والفصائل الفلسطينية، وما أدى إليه ذلك من تحولات على مستوى المخيال والفعل السياسي والمقاومة. بل إن الفرادة في أشكال مقاومة سياسات السلطة الفلسطينية منذ أوسلو حتى الآن لا يمكن فهمها ضمن أدبيات الدولة: سلطة ومعارضة، على الرغم من مظاهر الخطاب الحداثي ومؤسساته ووجوهه، وإنما يمكننا رصد بؤر خطابية تتعلق بالإرث الفانوني (نسبة إلى فرانز فانون) في مقاومة وكلاء الاستعمار.
[23] لعل مقالة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عن النظريات المسافرة، في كتابه "العالم، النص والناقد" (بيروت: دار الآداب، 2018)، قدمت تمهيداً نظرياً لفكرة الحركة كمصدر للمعرفة، لكن الكتاب لم يُستغل بشكل كافٍ على مستوى البحث الإبستيمي عربياً، ولا بيداغوجياً.
[24] بول فاين، "كيف نكتب التاريخ"، ترجمة سعود المولى ويوسف عاصي (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021)، ص 9.