Unlearning Our Settler Colonial Tongues: On Language and Belonging
Full text: 

عندما عشتُ في المستعمرة الصهيونية في فلسطين، إسرائيل، وجدت نفسي في كثير من الأحيان أجيب عن أسئلة مثل: "لماذا تتظاهرين بأنك من (المزراحيم) (يهودية شرقية)؟" أو "لماذا لا تكتبين عن هويتك 'المزراحية'؟" وقد وُجهت إليّ هذه الأسئلة لأن تعليمي الأكاديمي، ومهنتي بصفتي قيِّمة مستقلة للثقافة والفنون، حادا عمّا كان يُفترض أن تكون عليه المواصفات المعيارية لامرأة يهودية شرقية في تل أبيب في أوائل التسعينيات.

السؤال الأول الذي طرحه الأشكيناز (يهود وسط أوروبا أو شرقها) افترض أنني كنتُ أتظاهر بما لم أكن عليه. فقد عرفوني على أنني "واحدة منهم" ولم يكن في إمكانهم أن يفهموا لماذا – حتى إنهم شعروا أحياناً بنوع من الخيانة في ذلك - زعمتُ أنني أنتمي إلى جماعة أدنى مرتبة هي: "المزراحيم". إن تشكيكهم في الأمر بدا كما لو أنهم سألوا: "ما المغزى من ذلك؟ أمّا "المزراحيم" فاتهموني بالمثل بإخفاء هويتي، لكن بطريقة مختلفة – لقد لمّحوا إلى أنني لم أتبنَّ هويتي "المزراحية" وفق الطريقة التي رأوا أنها الملائمة، إن لم تكن المتميزة، للتعبير عنها. لكن من وجهة نظري، لا يكاد يكون هنا فرق بين السؤالين، فكلاهما ربط هذه الفئة، "اليهود المزراحيم"، بهوية معينة، واستخدم ذلك لمراقبتي - كما لو أن فكرة "امتلاك هوية" ليس في حد ذاته نتاج المستعمرة ونظامها. لقد افترض الاثنان [الأشكيناز والمزراحيم] أنهما يعرفان أفضل مني مَن أكون، وكيف عليّ أن أفكر وأتصرف.

ألاحظ في استعادة للماضي أنني، وعلى الرغم من دحضي لهذه الاتهامات، لم أكن أشعر بالارتياح إزاء عبارة "مزراحي"، غير أن عدم ارتياحي لم يكن قائماً على الافتراضات نفسها لأولئك الذين طرحوا عليّ تلك الأسئلة. لقد رفضت أن أتبنّى أياً من الهويات الملفقة المطروحة سواء من جانب العلمانية أو الصهيونية أو الاستعمار الاستيطاني أو السوق الليبرالية. وبنظرة استعادية، أقرأ في إجاباتي فهماً فحواه أن هذه الدعوة إلى "الاختيار" كانت مبنية على أساس تحريض الإمبريالية للأطفال على إدارة ظهورهم لأسلافهم وانتقاء "خيارات أفضل"، أو لتشجيعهم على تأييد "خيارات" أسلافهم وتبريرها بغضّ النظر عن الأذى الذي تتسبب به. وهذا لا ينفصل عن المنطق الذي يحكم مبادرات الرأسمالية العنصرية لتحسين النسل.

لكن في ذلك الوقت لم أستطع بالتأكيد رؤية أوجه التشابه بين إسباغ الهوية الإسرائيلية على يهود فلسطين (والتي امتدت لتشمل أولئك اليهود من الدول العربية أو المسلمة)، والعملية التي فُرضت من خلالها الهوية الفرنسية على يهود الجزائر. ففئة "المزراحيم" أوجدتها الصهيونية الأوروبية، وخدمت خطاباً استراتيجياً وُظف لتجميل رواية الدولة للتدمير (المستمر) لفلسطين واستعمارها. وبشكل أكثر تحديداً، فإن إنتاج مصطلح "مزراحيم" روّج للقب "اليهودية المسيحية" باعتبارها حقيقة تاريخية لا جدال فيها، وبالتالي أوحى ضمنياً بأنه يجب إزالة أي أثر للعالمَين العربي - اليهودي أو المسلم - اليهودي بموازاة التضحية بفلسطين. وكان لهذا آثار بعيدة المدى في مختلف اليهود خارج حدود الدولة المقامة حديثة.

قبل عقد من الزمن فقط، عندما غادرتُ الدولة الاستعمارية الاستيطانية التي بُنيت لتدمير فلسطين، استطعت الانسحاب التام من الهوية التي أُعطيتها يوم مولدي – أن أكون "إسرائيلية" - والهويات الفرعية التي أنشأتها هذه الهوية (مثل "مزراحيم"). عندها فقط أدركت تماماً الدور الذي قام به تصنيف هذه الفئة في إنهاء العالم اليهودي - الإسلامي المتنوع الذي كانوا جزءاً منه في شمال أفريقيا، وتنسيق هجرتهم الجماعية التي وُظفت سياسياً، وإقصاء مختلف مكونات ارتباطاتهم بثقافاتهم - اللغات والحِرف والتقاليد والملابس والتشكيل المجتمعي والأُسري وما إلى ذلك - إلى "الماضي". إن فئتَي الهوية – إسرائيلي ومزراحي – عنتا أن حياة عائلة أبي في الجزائر هي "حياتهم هم" وليست حياتي أنا، وأنني لا أمتّ إليها.

حددت الهوية الإسرائيلية طريقة انتماء الناس في مجتمع صنعه المستعمرون، وزودت رعاياها بنسخة من الماضي، وكونتهم اجتماعياً ليسلمّوا في قرارة أنفسهم بأن هذا الماضي هو ماضيهم. وبينما فشل أي عنصر في الثقافة الصهيونية في أن يصير ملكي، فإن الثقافة الغربية التي تمنحها الصهيونية امتيازاً نجحت في ذلك. ولهذا عندما كنت صغيرة، عملت بجد لجعل تلك الثقافة ثقافتي، فدرست الفن والأدب والفلسفة، لكني لم أشعر قط - ولم يُسمح لي بأن أشعر – بأنها متأصلة فيّ. كان لا بد من اختراع فئة "المزراحيم" لاستقطاب أولئك اليهود الذين هاجروا من المغرب العربي - من العالم العربي - الأمازيغي - اليهودي - المسلم – وتكوينهم اجتماعياً كي يتماهوا مع الكيان الأكبر المصطنع: "الشعب اليهودي". فهذا المفهوم اختُرع في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر ورسخته أجهزة الدولة النابليونية، ثم صُدِّر في ذلك الحين إلى المغرب العربي مع الاستعمار الفرنسي للجزائر، والذي تضمّن حملة ممنهجة لاستبدال التكوينات والتقاليد اليهودية المحلية بتلك المعتمدة فعلاً كمعيار في فرنسا من خلال مؤسسة المجلس المركزي الإسرائيلي (Israelite Central Consistory establishment). لكن يهود الجزائر كانوا قد تلقوا درسهم الأول في التفوق المفترض لليهود الأوروبيين في الدول المسلمة التي عاشوا فيها لعدة قرون.

عندما تولد في دولة استعمارية استيطانية تُعتبر فيها الأكاذيب أنها حقائق، يمكن للمرء إمّا أن يتجاهل التناقضات ويتبنّى الواقع الملفّق، وإمّا يختار إلغاء تعلمها، وفي حالتي، لم أتمكن من التعبير عن ممارسة غريزية لإلغاء المتعلَّم إلّا بعد عدة أعوام. فكل يوم، من الصف الأول إلى نهاية المدرسة الابتدائية، كانت المعلمة تدخل الصف وتفتح سجل الحضور وتقرأ أسماء الطلاب. كان اسم أزولاي بين الأسماء الأولى يتبعه أبرجيل، أبو قسيس، وأبو طبول – وجميعهم يُعرَّف عنهم على أنهم أطفال "مزراحيم" يتحدرون من عائلات شمال أفريقيا، ويُعدّون أقل شأناً في المستعمرة.

لكن في المنزل، كان اسمنا يُفصل عن هذه الأسماء التي كانت تُذكر في أكثر الأحيان باستخفاف. ومعرفتي كطفلة أننا لسنا "مثلهم"، تضمنت أيضاً أن أعرف أننا في الواقع كنا مثلهم، أو أنه قد يُنظر إلينا على أننا مثلهم؛ لهذا، وعلى نحو متكرر، كانت توضع مسافة للحفاظ على هذا النفي. لم يشرح لي أحد سبب اختلافنا عن سائر "المزراحيم"، أو لماذا ذلك أمر مهم، وإنما كان عليّ أن أكتشفه بنفسي. ففي المدرسة الابتدائية كان اعتقادي أن أبي كان فرنسياً يشير بوضوح إلى الجهد الذي بذله أبواي لضمان اعتبار أن عائلتنا على هذا النحو هي شيء مختلف عمّا يشير إليه اسمنا - أزولاي، وهو اسم مغاربي واضح. والآن أفترض أننا كأطفال فهمنا أنه لا ينبغي لنا أن نكشف خدعة الهوية هذه، مع أن ذلك لم يُطلب منا صراحة.

إدراك أن اسم أزولاي لا يختلف عن الأسماء الأُخرى الموجودة في قائمة صفي حفزت لديّ عملية نسيان أكاذيب معينة بشأن أصول أبي، وكذلك أصول أمي وأصول العديد ممّن كانوا داخل هذا الشَّرَك. وكانت والدتي تفخر بكونها تنتمي إلى الجيل الثالث ممّن ينتمون إلى موطنها الأصلي، مكان ولادتها، لكن منذ سنة 1948 (عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها)، لم يعد في إمكانها تسمية ذلك المكان، وإنما كان عليها استيعاب الأمر الصهيوني والإشارة إلى فلسطين بصفتها تسمية مجازية لأعداء اليهود. لقد أعادت تأكيد نفسها بأثر رجعي بصفتها إسرائيلية، مع أن اختراع إسرائيل لم يحدث سوى عام 1948.

عندما كنت في الثانية عشرة من عمري تقريباً، اقترحت أختي الكبرى تغيير اسم العائلة إلى اسم عبري، فقد كانت هذه ممارسة شائعة وإلزامية بين مَن يتولون مناصب رسمية، وطوعية بين مَن أراد أن ينأى بنفسه عن نسبه وينصهر في الأسرلة. فالاسم العبري في إسرائيل يعني اسماً إسرائيلياً، أي اسماً يختلف عن تلك الأسماء التي تحمل علامة ما تسميه إسرائيل "شتاتها". وأثّر نظام تغيير الاسم هذا في "الأشكيناز" و"المزراحيم" على حد سواء؛ وإذ فرضت الدولة نفسها على أنها مركز "الحياة اليهودية"، فإنها أسبغت على رعيتها اليهودية الملفقة، أو "الإسرائيلية"، تاريخاً ومستقبلاً منقوشَين (epigraphic). وكنت غير قادرة على تمييز هذا الخلط بين العبري والإسرائيلي، لكن، من خلال طلب أختي، لم يعد في إمكاني حماية نفسي من الحقيقة التي كانت معلمتي ترددها كل يوم وهي تقرأ اسم عائلتنا بصوت عالٍ: كان هناك خطب ما في اسمنا وفينا.

كنا مثل "هم"، هؤلاء الشمال أفريقيون الذين كان من المفترض أن نميّز أنفسنا منهم، وبحدس طفلة، فهمت أنه كان عليّ أن أؤيد خطة أختي، لكن والدَيّ رفضا اقتراحها مؤكدَين: "لا أحد يغير اسمه." كان هذا درساً بالنسبة إليّ حوّل اختلافنا إلى مصدر قوة وتحرر. فمَن تكون عائلتنا يتجاوز ما يوحي به اسمنا؛ واسمنا لا يذكّر بأوقات غابرة. في ذلك الوقت، لم أكن أفهم ما تعنيه الهوية، لكنني فهمت أنني كنت وريثة رفض أسلافي للتسميات الاستعمارية، مثلما يتضح من تصميم والدَيّ على الاحتفاظ باسمنا من دون أي تغيير.

رداً على اقتراحنا، واصلت أمي مواساتنا بقولها إنه من ناحيتها كنا الجيل الرابع من أبناء فلسطين، ومن ناحية أبينا كنا فرنسيين. وكان من شأن هذه "الحقائق" أن تبدد غربة أبينا التي لا يمكن إنكارها، أبينا الجزائري المولد والمعرَّف عنه على أنه فرنسي، وهي غربة تتجاوز دلالة الاسم الذي حملناه.

لم يناقَش اسم عائلتنا مرة أُخرى في المنزل، وحاولتُ بعد أن كبرتُ استعادة ما حدث، لكن والدتي أنكرت أن أختي اقترحت تغيير اسمنا.

عندما كنت في السابعة عشرة من عمري وأستعد للدراسة في فرنسا، تقدمت بطلب للحصول على جواز سفر فرنسي، ذلك بأن أهليتي للحصول على الجنسية الفرنسية أكدتْ فرنسيةَ أبي. لكن على الرغم من أن قصص حصول جزائريين على الجنسية الفرنسية بدت عبثية، فإنني سعدت بجني الفائدة الممتدة من هذا الظرف التاريخي من دون طرح كثير من الأسئلة، فجواز السفر الفرنسي بالنسبة إليّ لم يكن يمثل هوية، وإنما منفعة يمكنني الاستفادة منها. بدأتُ مراسلات مكثفة مع مكاتب الحكومة الفرنسية لإكمال العملية، ولم يكن لديّ اهتمام بمحتوى هذه المستندات، وإنما بجواز السفر الذي تؤمنه لي. من ناحية أُخرى، لاحظت آنذاك أن اسم جدتي لأبي – عائشة، وهو اسم شائع لدى اليهود والمسلمين في العالم العربي – كان قد أُخفي عنا.

لم أكن على علم بالضرر الذي لحق بوالدي وعائلته ليصبحوا فرنسيين في الجزائر في القرن التاسع عشر، فتعليمي لم يرشدني قط إلى طرح أسئلة عن فرنسيتهم، أو للتساؤل عن الدور الذي أدته دولة إسرائيل في تحديد مكان ولادته – الجزائر - البعيد عن متناول أيدينا. وقد عثرت مؤخراً على خريطة لأفريقيا طُلب مني أن أرسمها عندما كنت في المرحلة الابتدائية، وكم تُدهشني اليوم غرابة القارة التي طُلب منا رسمها باستخدام أقلام التلوين عندما كنا – نحن الأبرجيل وأبو قسيس وأبو طبول والأزولاي – نرسم الأماكن التي جاء منها آباؤنا.علاوة على ذلك، لم تلاحظ معلمتي أنني نزعت منها ثلث المغرب العربي (تونس ليست على خريطتي) وأعطتني العلامة الكاملة.

 

خريطة لأفريقيا رسمتها المؤلفة عندما كانت طالبة في إسرائيل

 

إن جزءاً من أن تكون إسرائيلياً يعني النظر إلى الأماكن التي جاء منها والداك بصفتها مجرد تفصيل بيوغرافي تحتاج إليه فقط عند ملء مربعات معينة في النماذج الرسمية. ففي ذلك الوقت، لم أفهم عملية تحول اليهود الجزائريين إلى الجنسية الفرنسية، ولا دور هذا التحول في تدمير آلاف السنين من الحياة اليهودية في شمال أفريقيا. لم يقدم أحد أي تفصيلات أو خيط للمتابعة، وإنما جرى تكميم أفواه كثيرين بسبب الجهل المغروس في الذهن، والبعض الآخر بسبب الانسلاخ الذي أحدثته أجهزة الاستعمار الاستيطاني. أنا لا أتحدث فقط عن عائلتي والمحيط الاجتماعي في تل أبيب، بل عن الأشخاص الذين قابلتهم في الجامعة في باريس أيضاً. وإنه لأمر غريب أنني درست مع بيير بورديو مدة عامَين، لكننا لم نتحدث قط عن الجزائر.

في حياتنا الأُسرية في إسرائيل، كانت "الجزائر" معلومة تحدد مكان ولادة والدي، والسبب الذي جعلنا "مزراحيم" في عيون الآخرين. وقد فضّلت والدتي تجنّب ذكرها، بينما تصرّف والدي كأن مسقط رأسه لا علاقة له به. ومع أن رفضي للهوية الإسرائيلية ربما يبدو كأنه يعكس انفصال والدي عن هويته الجزائرية، إلّا إنني سأذكر بإيجاز نقطتَي اختلاف هنا: أولاً، صودرت الهوية الجزائرية من يهود الجزائر من خلال مشروع استعماري، بينما مُنحت لي هويتي الإسرائيلية من طرف مشروع استعماري؛ ثانياً، على عكس أبي، أنا لا أتصرف كما لو أن مسقط رأسي ليس له صلة بي، بل إنني ملتزمة بالكفاح من أجل إلغاء نظام المستعمرين الذي يواصل تدمير الوجود الفلسطيني وأسباب معيشته.

على عكس محاولات والدَيّ النأي بنفسيهما عن فئة "المزراحيم"، فإنني أعلنت انتمائي إليها في سن مبكرة، وذلك جزئياً لمقاومة إنكارهما لها، وأيضاً لأنها حررتني من محاولة تصديق الأشياء التي لا معنى لها في المستعمرة. فحتى عندما كنت أتحدث عن نفسي بصفتي "مزراحية"، لم أكن أشعر بأنني جزء من هوية جماعية.

لم يتحدث أبي قط عن الجزائر كمكان، ومع أنه سرد بعض ذكريات الطفولة من هناك، إلّا إن الجزائر لم تكن قط جزءاً من القصة. ما زلت لا أفهم تماماً السبب في أنني وإخوتي لم نسأله عن مكان مولده. وقبل أن يبلغ الخامسة والستين من عمره، طلبت منه أن يخبرني بعض القصص التي ضمّنتها في ألبوم صور عن حياته، وعندما عدت مؤخراً إليه لقراءته، أدركت عدد الأشياء التي سمعته يقولها من دون أن أسمعها فعلاً. فلو أنني لم أُحرم من السياق الملائم لسماع وفهم ما كان يقوله لي، لكنت طرحت عليه عدة أسئلة. ومع أن أبي لم يحاول أن يجعل من الجزائر مكاناً يمكن أن نعتز به كثيراً، أو نختبره بشعور من الارتباط والانتماء من الدرجة الثانية، إلّا إن السبب في ذلك ربما يكون فشلنا في توفير الفضاء اللازم ليحدث ذلك، أو ربما لأننا رُبينا كي نفشل في ذلك.

بعد وفاة أبي، صممت على العثور على أي شيء ربما يكون قد جلبه معه من الجزائر، مع أنه تصرف كما لو لم يكن هناك شيء من هذا القبيل، أو أنني افترضت ذلك. شرعت أكتب رسائل إليه وإلى أجدادي وآخرين كثيرين، ووجدت عدة كنوز؛ خرز عبأته في خيط وما زلت أحتفظ به. ربما لم يكن مقدّراً لهذه الخرزات التي وجدتها أن تلمع إلّا بعد وفاته، إذ حجبها خلال حياته إعجابُه بفرنسا، بالمستعمرين، هذا الإعجاب الذي عرف بالتأكيد كيف ينقله إليّ لأنه ألهم حلمي – أم إنه حلمه؟ - بالدراسة في باريس.

كان أبي مقلّاً في الكلام، لكنه كان يروي كثيراً من القصص، وإذا كان لديّ أي أسئلة، فإنني كنت أسأل والدتي. وعندما تقدمت بطلب للحصول على جواز السفر الفرنسي، كررَتْ على مسامعنا قصة كيف تمكّن أبي من أن يُدرج "فرنسا" كمكان مولده في أوراقه الإسرائيلية. فقد وصل إلى إسرائيل في سنة 1949 بصفته متطوعاً، وكان معه تذكرة عودة صالحة إلى نهاية تلك السنة. وعندما قرر البقاء، كان عليه أن يملأ بعض الأوراق ليستفيد من قانون العودة الصهيوني الجديد لسنة 1950، والذي امتد ليشمل "اليهود" في جميع أنحاء العالم لتشجيعهم على أن يأخذوا حرفياً مكان الفلسطينيين الذين ما زالوا مطرودين ومحرومين من العودة. وعندما سأله الكاتب عن مكان ولادته، أجاب بثقة كبيرة: "أوران (وهران)، فرنسا". لعدة أعوام تصورت هذا المشهد في وزارة الداخلية بوضوح في ذهني كما لو كنت هناك بنفسي: أبي يميل نحو نافذة الاستقبال وقبالته وجه متعب لموظف يشعر بالملل. أبي المفعم بالنشاط والحيوية ينطق بكلمة واحدة: "بونجور"، على أمل بأن تفتح له تحيته بالفرنسية الأبواب، مثلما فعلَتْ في كثير من الأحيان، لكن الكاتب لا يشعر بأن الأمر مسلٍّ ويسأله بجدية عن مكان ولادته.

وعندما يسمع الجواب "أوران" (وهران) يتوقف للحظة ويسأل بلا مبالاة واضحة: "أين هذا؟" يكرر والدي اسم المدينة، بل يقوله مرتين: "أوران، أوران"، كأنما يقول للكاتب، "ألا تعرف أوران؟!" – مشدداً على فرنسيته العالمية بصفته قادراً على تعليم موظف الدولة درساً.

أستطيع أن أتخيل الابتسامة الخفيفة التي ارتسمت على وجهه عندما نظر في عينَي الكاتب، والآن أسمع ما كنت غير قادرة على سماعه من قبل - نبرة اعتزاز بمدينته ميزت صوت أبي. وهران اسم مألوف، ويعرفه أي فرنسي يمتلك احتراماً لمدينته أكبر كثيراً ممّا يمتلكه الكاتب. ينظر أبي إلى اليسار وإلى اليمين، مُطَمْئِناً نفسه أن لا أحد شاهداً على تزويره للجغرافيا، ثم، وبارتياح كبير، ينهي كلامه بقوله: "في فرنسا، بالطبع".

عندما كنت ما زلت أعيش في مستعمرة المستوطنين وأُسأل عن أصول عائلتي، كنت أروي كثيراً هذه القصة. لقد ملأتني بالفخر - ليس لأن والدي كان فرنسياً أو من فرنسا، لكن لأنه تمكّن من خداع أجهزة الدولة الإسرائيلية، تلك التي تعلمتُ أن أكرهها منه. كان أبي محظوظاً لمقابلة كاتب جاهل. واستغرقني الأمر عدة أعوام أُخرى لأفهم أن أبي لم يكن يغش، وإنما كان يعاني متلازمة الاستعمار مثلما أوضح فرانز فانون – بأن جعل الاحتيالَ الجغرافي - الذهني للمستعمر حقيقتَه هو.

خلال الفترة التي كنت لا أزال أعيش فيها في منزل أهلي، سألتُ والدتي عن ذلك، لكن أمي التي شعرت بالاستياء واتخذت موقف الدفاع عن إرث عائلتنا أجابت قائلة: "لماذا تحفرين دائماً؟! أبوك فرنسي. كانت الجزائر جزءاً من فرنسا، واليهود هم أول مَن حصلوا على الجنسية الفرنسية." كان دورها الآن لتفخر بأن اليهود كانوا "الأوائل"، فتركيز أمي كان منصبّاً على القيمة الحقيقية لهوية والدي. أمّا العنف الذي خلق تلك الحقائق فلم يؤثر في مفهومها للحقيقة، وإذا كانت هذه هي الحقيقة، فلا يمكن أن يعني ذلك أنها تكذب، وحتى عندما قالت أنها إسرائيلية، فهذه حقيقة لا تُقاس باعتزازها لكونها تنتمي إلى الجيل الثالث من مواطني فلسطين. الحقيقة بالنسبة إليها كانت تكمن في عدم قول أكاذيب، وفي عالم بَنَتْه القوة الإمبريالية، فإن الحقيقة مطلوبة لتبرير هويات المستوطنين من أجل ترسيخها في الواقع.

على النقيض من ذلك، لم يُظهر والدي أي اهتمام بالحقيقة، فهو لم يشعر بأنه مضطر إلى إثبات أنه فرنسي، وإنما كان يكتفي بوصل سماعة أذنه الفردية لدى حلول وقت النوم والإبحار على موجات قصيرة إلى عوالم ناطقة بالفرنسية ولم نكن جزءاً منها. فكونه فرنسياً كان بالنسبة إليه مجرد متعة غير مؤذية: النبيذ الجيد والخبز الفرنسي وجبن الكامَمْبير واللحم البارد. حتى الفطائر الجزائرية التي كان يعشقها كان لها طعم فرنسي في فمه، واعتاد أن يقول: "بعد أن تدفنوني، اعزفوا موسيقى الجاز وكُلوا الطعام الفرنسي على قبري." ولو كان ذلك ممكناً، فإنني أعتقد أنه كان سيستمتع بالقدر نفسه لو صار أميركياً - فقد هبطوا على سطح القمر واخترعوا موسيقى الجاز وخلقوا حياة فضفاضة. كان يشعر على الدوام بأنه عالق في المكان الخطأ، فلا شي في إسرائيل ألهمه بما يكفي ليحتضنه كجزء من هويته، وحتى الحقيقة لم يكن لها علاقة بهويته التي تشكلت بفضل ما يعتقد أنه يجعل الحياة تستحق العيش: الموسيقى الجيدة والطعام الجيد. لم تقلقه قط مسألة إن كانت هويته فرنسية حقاً، لكنه في لقاءاته مع الموظفين العموميين، أولئك الذين كانوا يسألونه عن هويته أو أوراقه أو ضرائبه، فإنه كان يتصرف على نحو مبدع بشكل لا يصدق، معيداً ابتكار نفسه مراراً وتكراراً، في استفادة من جهلهم وضيق أفقهم ودوافعهم الكامنة التي لم يحترمها. وبغضّ النظر عمّا إذا كان قد سعى عن قصد لولوج منطقة الشفق هذه، أو دخلها عن طريق المصادفة، فإنه استمد متعة من وجوده "هناك" في أرض غير معرَّفة على نحو كافٍ لتتغلب عليها قصصه.

عندما كنت في مرحلة المراهقة المبكرة، أحضرت لي أختي الكبرى كتيّباً من حزب يساري سياسي صغير، وهو كتيّب ما زلت أتذكر صغره وغلافه الناعم والكبسات التي جعلت صفحاته تتماسك معاً وطباعته البسيطة بالخط الأسود وفقرات نصوصه الخالية من الصور. من خلال هذا الكتيب، تعرفت لأول مرة إلى عبارتَي "احتلال" و"مصادرة الأراضي"، وقد بدت هاتان العبارتان في البداية من دون صلة بالقليل الذي أعرفه عن المكان الذي نشأت فيه، أو بأفعال الناس هناك. كما أتذكر عدة كلمات أُخرى كشفت عن العنف المباشر الذي لم أكن أتخيل أنه يحيط بي: الطرد؛ المصادرة؛ السلب؛ الحرمان من حق التصويت؛ مخيمات اللاجئين.

بدت هذه الكلمات غريبة بلغتي الأم ولها نغمة ما سعيت للحفاظ على نشازها كي لا أجعلها تبدو طبيعية في فمي، ورفضت أن أتركها تموّه نفسها بين سائر الكلمات. فعندما واجهت هذه الكلمات لأول مرة، شعرت بأنها كبيرة جداً، أكبر من أن أتمكن من استخدامها، لكنني شعرت أيضاً بواجب التلفظ بها، وخصوصاً في المنزل. وسرعان ما فهمت أن والدتي تغتاظ منها، لأنها تهدد شرعية الدولة التي طُلب منها أن تبررها تلقائياً، وتفتّت التزامها الثابت برسالتها. إن قول هذه الكلمات في المنزل كان وسيلتي لتصحيح الأكاذيب التي أصرّت أمي عليها بشأن هذا المكان.

كان هناك شيء فاسد في ذلك الحديث كله عن أن تكون ابن الأرض الأصيل، أو "أن تكون من "الصابرة" (sabra)، أو من الجيل الثالث أو الرابع. إن كون أبي مهاجراً لم يقوّض امتياز أننا ممّن "اختيروا" ليكونوا من "الصابرة"، فهو امتياز انتقل إلينا عبر والدتي. لكن والدي لم يهتم قط بفكرة الانتماء إلى "الصابرة" – وكانت تلك حجة جيدة لتقويض مهمة والدتي لجعلنا مواطنين صالحين في الدولة، فكونه غريباً، والمسافة التي أوجدها بينه وبين الإسرائيليين - تلك المسافة نفسها التي أحرجتني عندما كنت طفلة – تحوّلا إلى ذريعة لي من أجل دقّ إسفين بيني وبين صناعة الأكاذيب الصهيونية التي قُدمت على أنها حقائق.

لفترة طويلة، اعتبرت هوية أبي الفرنسية كذبة لأنه وُلد في الجزائر، ويُدهشني عدد الأعوام التي احتجت إليها لأدرك النقاط العمياء في منطقي. فقد وجدت في تطلّعه إلى أن يكون فرنسياً تعبيراً عن رغبته الطبيعية في التحرك "صعوداً" في السلّم الاجتماعي وفي الاحتواء الغربي، لكني تجاهلت تاريخ العنف الاستعماري الذي تعرضت له أسرة أبي في الجزائر وانعكاساتها عليه. كان فعلاً فرنسياً، منذ أن أُجبر أسلافه في سنة 1870 على أن يصيروا فرنسيين، ووُلد ليصدق أنه فرنسي لأنه وُلد في خضم فقدان الذاكرة الاستعماري. ومن خلال الإصرار على أنه لم يكن فرنسياً حقاً، استسلمتُ للنظرة الاستعمارية التي حددت مَن يستحق بين المستعمَرين (أو المهاجرين لاحقاً) أن يُعترف به على أنه فرنسي. فوالدي لم يطمح إلى هذه الجنسية، وإنما فُرضت عليه، وهذا هو جوهر المأساة. فما تجاهلتُه لم يتعلق به فحسب، بل بي أيضاً. لقد تأثرتُ بمشروعين استعماريين: كنتُ سليلة مَن خضعوا للاستعمار في الجزائر، وابنة مستعمرين في فلسطين.

إدراكي أننا مثل "أولئك المزراحيم" في صفي عنى اكتساب استعداد جديد لتوصيل النقاط وملء الفراغات، إذ بدأت أفهم بأثر رجعي معنى بعض الأقوال في حقّي، والمواقف تجاهي التي تنكرت لها لفترة طويلة. أدركت هذا في الوقت نفسه تقريباً الذي بدأت أفهم أن فلسطين لم تكن في مكان آخر، وإنما في مكان إسرائيل نفسه – فمسعى الصهيونيين للقضاء على هذه الحقيقة لا يغير هذا الوضع الوجودي. في تلك اللحظة، بدت "حقيقة" والدتي عارية أمامي، وصرتُ مولعة على نحو متزايد بعلاقة والدي بهويته.

وعلى الرغم من الطبيعة المتمايزة لهذين "الاكتشافين"، فإنني حمّلتُ والدتي المسؤولية عن كليهما، وربما كان هذا لأنها أنكرَتْ اكتشافاتي واستمرَّتْ في تكرار "حقيقتها" – حقيقة الدولة. كان والدي يفضّل نادي نتانيا الفرنسي، وحفلات السفارة الفرنسية في 14 تموز / يوليو (يوم الباستيل)، والعَلَم الفرنسي بألوانه الثلاثة على العَلَم الإسرائيلي باللونين الأزرق والأبيض، ولم يحاول التخلص من لهجته الفرنسية الثقيلة، ولم يكن يحب الموسيقى الشعبية الإسرائيلية، وإنما اعتز بمعرفته الغنية بالموسيقى العالمية التي كان يُسمعها للزبائن في متجره الصغير الإلكتروني والموسيقي. كان يكره طقوس تناول الطعام الإسرائيلية مثل تكسير بذور عباد الشمس أو شوي اللحم في الخارج، وكان يوبخ العملاء الذين يجرّون أقدامهم عند دخول متجره (الذي كان يعتبره قلعته)، كما لم يخطر في باله قط أن يقوم بغسل سيارته إلّا وهو يرتدي قميصاً بياقة، وسروالاً من قماش الغابردين (gabardine).

لم يبدُ أن ميل أبي نحو حمل هوية المستعمرين الفرنسيين يؤذي أحداً؛ فهو لم يحاول السيطرة على ذوات الآخرين أو يستقطبهم، وإنما كانت فرنسيته مجرد مسألة تفضيل شخصي. وقد استغرقني الأمر أعواماً لأفهم أن شؤونه الشخصية كانت شؤوني أيضاً، فهو مزّق تعلقي بأجدادي، وجاء بي إلى العالم مادة طيّعة في فك المستوطنين في فلسطين.

هل كنت سأتمكن من إبعاد نفسي عن الهوية التي أُعطيتها عند ولادتي لو لم أرث من أبي تلك المسافة التي أبعدَتْه عنها؟ هل كنت سأكون قادرة على سماع الخواء في لغتي الأم؟ هل كنت سأغضب من تركيبها المبني لانتزاع تواطئي وإجباري كطفلة على تأكيد صفقات النهب التي حُولت إلى حقيقة؟ لغتي الأم هي لغة المستعمرين، وهي تشجع على بعض الجدل ما دام يُتداول بين اليهود الإسرائيليين ويدعم الزمانية الإمبريالية (imperial temporality) للأمر الواقع - لا يمكن التشكيك في وجود الدولة، أو العودة بالعجلة إلى الوراء. لحسن الحظ، كان الخطاب الذي استخدمته والدتي مصنوعاً من شعارات مفككة تقال في الشارع ولم تنبثق مباشرة من الينابيع الأيديولوجية للصهيونية، ولو كان الأمر كذلك، لكان الابتعاد عن الأيديولوجيات الصهيونية أكثر صعوبة. فأمي بالكاد أكملت ثمانية أعوام في المدرسة، ولم تتعرّف لا هي ولا والداها إلى تنظير الأيديولوجيين الصهيونيين، فوالدتها، جدتي سيلينا، لم تولد في فلسطين، وإنما انتقلت إليها بالمصادفة المحضة، وتحدثت العبرية بشكل سيىء وظلت تُعدّ "أجنبية"، لكن هذا لم يؤثر في طاعة والدتي للدولة، ولا في إرادتها للحفاظ على صورتها على أنها من "الصابرة" الحقيقيين، فبعد قيام الدولة، كان ذلك رأسمالها.

إن عدم معرفتي كيفية التخلص ممّا تعلمته من لغتي الأم، جعلني أشعر بالانزعاج كلما كنت أواجه وكلاء الحقيقة المتعددين للدولة: المعلمون، والمشرفون على حركة الشباب، والسياسيون، والجيران. لقد كذبوا جميعاً - ليس دائماً فيما قالوه، لكن في قواعد اللغة الصهيونية، وفي تزامن الأحداث الذي استخدموه لوصف ما حدث لليهود في أوروبا كوسيلة لتبرير ما كانوا يفعلون في فلسطين: "الوطن القومي"؛ "لنا"؛ "تعرضنا للاضطهاد"؛ "جميع العرب قتلة"؛ "كل ما يريدون هو إغراقنا في البحر"؛ "الخطأ خطأهم"؛ "لقد فروا"؛ "ليس لديهم مشكلة في أن يقتل أحدهم الآخر"؛ "نحن نقاتل من أجل حياة كل جندي من جنودنا." وحتى محاولة المجادلة بشأن هذه الأكاذيب أو دحضها، فضلاً عن رفض تكرارها بلغتي الأم، كان يُشعرني بألم في فمي. كنت لا أزال أعرف القليل جداً عن تدمير فلسطين، ولا شيء عن تدمير العالم الإسلامي - اليهودي، وعن التصوير المجافي للتاريخ للعرب والمسلمين على أنهم أعداء للشعب اليهودي. امتزج غضبي بشعور بالإهانة، فقد ضللتني لغتي الأم، وتمرد فمي.

خلال ذلك الوقت، كان عليّ أن أرتدي على ظهري مقوّماً للعظام لجعله مستقيماً، لكن هذا الحزام الغريب الشكل الذي كان يُفترض فيه أن يُصلح ويصحح تشوهاً ورثته عن أجدادي، حكم عليّ بالصمت: صمت الفم وصمت الجسد. وفي ظل هذا الصمت، صارت الـ "نحن" التي وُلدت لأكون جزءاً منها "هم". مرت أعوام قبل أن أدرك أن غيرية والدي – الموجودة والحاضرة دائماً – انطبعت فيّ أيضاً، الأمر الذي أعطاني القدرة على اختيار عدم التعرف إلى نفسي في الـ "نحن" - يهود إسرائيل - ورؤيتها على أنها "هم". وهكذا، ظللت أتساءل عن طبيعة الـ "نحن" التي يمكن أن أكون جزءاً منها.

الرحلة التي شرعت فيها خارج عالم الـ "نحن" جردتني من اللغة، فمقوّم العظام أحكم قبضته عليّ، واكتشفت أنني أعرف كيف أصمت. الصمت قد يجعلك واسع الحيلة، فالقضبان المعدنية والأحزمة الجلدية وقالب الحوض البلاستيكي كانت تطقطق باعتزاز محدِثة مقاطع صوتية جديدة ونظيفة وتقنية كانت هي اللبنات الأساسية التي كان في استطاعتي استخدامها للخروج من لغة المستوطنين التي اختُلقت لتكون لغتي الأم.

أمّا والدتي فكان عليها كي تتحدث مثلما فعلت، أن تقمع لغتها الأم؛ اللادينو [لغة يهود إسبانيا والبرتغال قبل تهجيرهم]، وهي لغة أحببتُ نغمتها عندما كانت تتحدث بها مع والدتها، مع أنني كنت مستبعدة من حديثهما. بعد وفاة جدتي، فهمت أن والدتي حافظت على تلك اللغة بحرص معتبرة إياها احتياطها الخاص، وخبّأتها تحت ما يبدو أنه حياة إسرائيلية في الجوهر، ولم تشاركها مع أحد. ومرت أعوام قبل أن أدرك أن ما عرّفتُه على أنه شعور والدتي بالانتماء إنما كان طريقتها في الاستجابة للأوامر، وكان حاجة إلى التعبير عن الولاء للعَلَم الوطني.

وكما لو أن والدتي كانت في مهمة، فإنها سعت لتلقيننا عقيدة "الصابرة" - وهو ميثاق يتطلب التخلي عن متعلقات الشتات كلها، لكنها لم تتخلّ عن آثار حياة الشتات كلها التي ورثَتْها عن والدتها. عندما كنتُ في التاسعة من عمري توفيت والدتها، فاختفت موسيقى لغة اللادينو من حياتنا، باستثناء القليل من عبارات الحب التي كانت أمي تقولها لنا (ككلمتَي“bendices manos” ومعناها "الأيدي المباركة"، وكانت تستخدمهما كلما كنت أُشغل نفسي بعمل يدوي؛ أو “alma buena” وتعني "الروح الطيبة" التي استخدمتها بسخرية عندما كنا نسيء لبعضنا البعض). لكننا لم نكن قادرين على الاستجابة لتوقها الصريح إلى تلك اللغة، ولا وضع سياق لخسارتها ضمن تاريخ من الاضطراب بدأ في القرن الخامس عشر بطرد اليهود والمسلمين من أسبانيا.

مع إقامة دولة إسرائيل جاءت التضحية اللغوية متمثلة في صنع نسخة المستعمرين من العبرية التي فُرضت علينا على أنها لغتنا الأم. كان لا بد من قتل لغات أسلافنا كي يتحدث آباؤنا معنا بلغة أجنبية بالنسبة إليهم، لغة يمكنهم استخدامها بطريقة آلية. وعندما تمكنت من فهم زوال اللادينو، فهمت أن اللغة الفرنسية لم تكن هي التي حرمنا منها والدي، وإنما اللغة العربية - اللغة التي تحدث بها أجدادي في الجزائر. وقد فاتتني فرصة سؤاله عن متى كفّ عن الردّ على والدَيه باللغة العربية، متخذاً من الفرنسية لغته الأم.

مع أنني وأبي كنا نتحدث باللغة العبرية فقط، إلّا إن هناك لغة أُخرى تعلمتها منه هي لغة القصص. فقد امتلك والدي موهبة تخيّل العالم من دون أن تعوقه جمله المركبة وقلة مفرداته العبرية نسبياً. وكلما كان ينهض عن كرسيه ويغادر المنزل، حتى إن كان ذلك لأمتار قليلة، كان يقع على حدث مذهل جرى، إن لم يكن في العالم الحقيقي، فعلى الأقل في قصصه، كأنه لم يكن يسمح للواقع بأن يخيّب أمله. ومع أن قصصه كانت غير حقيقية في بعض الأحيان، إلّا إنه كان لها دائماً أساس ما واقعي.

عندما كنت طفلة، حاولت أن أتشبه بوالدي، ليس الراوي، وإنما الرجل الذي صمت بين القصص. وكان عليّ أن أتغلب على رغبتي الهائلة في الكلام، فصمته أذهلني، ورأيت فيه علامة على النبل والكبرياء. إن مشاعر الضيق والألم والحزن والشوق تكون أكثر ليونة عندما تُعاش في صمت، وأنا أثق بالصمت.

لديّ ذكرى غامضة عن شخص ما علّق ذات مرة على لغة أبي العبرية الضعيفة، وبالعودة إلى الماضي، أدرك أن هذه كانت اللحظة التي بدأت عندها أتصرف كما لو كان هناك عد تنازلي، وكان لزاماً عليّ ألّا أتخلف عن الركب. لقد أردت قراءة جميع الكتب التي يمكن أن تساعدني على التغلب على هذا العيب، غير أن منزلنا لم يكن يحوي سوى عدد قليل فقط من الكتب، ومعظمها روايات بوليسية فرنسية (série noire). كنت ما زلت مراهقة صغيرة ولديّ بطاقتي للمكتبة، لكن لم يكن يُسمح لي إلّا باستعارة ثلاثة كتب في الأسبوع، وكنت أحرص على استعارة الكتب التي تبدأ بجملة افتتاحية لم أستطع فهمها. قرأت هذه الكتب من دون أن أقرأ حقاً، فقد أردت أن أمتلك الكلمات التي لم أكن أعرفها، وفرحت لأن أخواتي كنّ فخورات بأني أقرأ.

استمتعت بالطريقة التي رافقتني بها تلك الكتب وكيف اقتربَتْ مني بالتدريج، أو قرّبتني منها، وأحببت ملمسها ووجودها على وسادتي والشعور بالأمان الذي قدمته لي. وبعد ذلك بوقت طويل، أدركت أنه كان أسهل بالنسبة إليّ قراءة كتاب بعد أن يكون قد بقي في صحبتي بعض الوقت، وصار هذا منذ ذلك الحين عادة، فأنا ما زلت أشتري الكتب، لكني أعلم أن الأمر سيستغرق بعض الوقت قبل قراءتها.

كانت لغتي الأم ملوثة، وجعلت فمي المتألم يغلق، لكنها قللت من حجم الألم - بما في ذلك ألم والدتي – بالكلمات. فبدلاً من الاستماع إلى الألم والتحدث معه، كانت لغتي الأم تفاقمه عندما تتحدث نيابة عنه. العبرية ملوثة، واللغة العبرية الأم ملوثة، فقد أسيء استخدامها لتزويد إسرائيل بلغة أم، وهكذا حُولت العبرية إلى لغة المستوطنين.

لا يتحدث الأفراد لغتهم الأم، بل عوضاً عن ذلك، نراهم يتواصلون مع الآخرين الذين يتشاركونها ويستخدمونها ويسيئون استخدامها. فطوال الوقت الذي عشته في مستعمرة المستوطنين، فشلت محاولاتي في تخليص نفسي من لغتي الأم. كنت أرغب في أن أقضمها وأن أراها تُهزم بعد كل ما حرّضَتْ عليه، ومع ذلك، فأنا أحب مكوناتها العبرية، وأحب اللغة، وأحب الأم. لقد توقفت منذ عدة أعوام عن الكتابة بالعبرية كي أتمكن من استخدامها مرة أُخرى في يوم من الأيام مع القواعد اليهودية - العربية؛ كي أتمكن من سرد ما حدث انطلاقاً من الماضي وبالعودة إليه؛ كي أستطيع إعادة إيقاظ ما أُهمل ليصير القلبَ والعمود الفقري والمركبة التي لا يمكن معها فصل التاريخ عن الحدود والدوريات، بحيث يمكن أن يكون هناك تاريخ يُسرد بالعبرية بعيداً عن الجغرافيا الإمبريالية وزمانيات الترميم.

كانت لغة أبي إيماءة - إيماءة تقليد واختلاف وغربة وتعدد وتلبية لمتطلبات عملية، كما كانت إيماءة شخص مستعمَر، طُرد من عالم أجداده، وغير قادر على إيجاد طريق بعيداً عن العوالم البديلة التي شكلها المستعمرون. وتكررت إيماءة الغربة هذه في كل لغة كان والدي يتحدث بها: اللغات المتنوعة التي كان العملاء الذين تفاعل معهم في متجره يتحدثون بها، فقد كان يستمتع بقدرته على تسجيل كلمات بلغات أجنبية، ويتصرف كأنه يتكلم بها: الأمهرية والروسية والإسبانية وحتى الييديشية. لكن، هل تحدث بالعربية في متجره من دون أن يتسنى لنا معرفة ذلك؟ لم يكن هناك في البداية لغة أب أستطيع تبنّيها باستثناء هذه الإيماءة، ومع ذلك، حوّلتُ بالتدريج تعابيره العميقة إلى لغة مكتوبة، قبل أن أستخدمها كلغة منطوقة. كانت حكايات والدي قوية جداً إلى درجة أنه حتى عندما كان من الواضح أن حياته لم تكن ملأى بالألوان مثل صوره، فإنه ظل لها على نحو ما وقع السحر. لقد كان سحراً منحني القدرة على أن أفكّ نفسي من أسر لغتي الأم عندما أعلنت ذات يوم: "أنا يهودية فلسطينية".

عندما مات والدي، بدأت أطلق على نفسي اسم والدته - عائشة - الذي أخفاه عني. فعلى الرغم من معرفته بسيامة تقاليدنا، فإنه لم يطلق عليّ اسمها عند ولادتي، واقترح لاحقاً أن أسمّي ابنتي على اسم والدته الفرنسي، وهو اسم غير مسجل في أي من أوراقها. وما إن تبنّيت اسم عائشة، حتى قلت أيضاً بلغة أجدادي: "أنا يهودية جزائرية". إن مجرد حرماني من هذين العنصرين جعل أجهزة دولة المستوطنين قادرة على أن تعطيني الهوية التي اختلقَتْها، وعلى أن تستخدمها لإعادة إنتاج نظامها.

منذ وفاة أبي، عملت على جمع شظايا عالمٍ لغةُ الأجداد فيه هي أكثر من مجرد إيماءة، الأمر الذي يتطلب تحديث تاريخٍ ممكنٍ يرفض المشروع الاستعماري الذي شكله - استعمار الجزائر من جانب الفرنسيين، وتدمير عالم العرب – البربر – اليهود - المسلمين – كما يرفض العالم الذي شكلني - الاستعمار وتدمير فلسطين. وعندما يعامَل هذان الأمران على أنهما تاريخان متمايزان، تصير النتيجة من الاستعمار الأول لا رجعة فيها بفعل الثاني والعكس صحيح. وهذا المنطق المنفصل يعني أنني يجب أن أقبل كأمر واقع ما لم يتمكن هو [والدي] - أو أسلافه - من مقاومته بنجاح، أو من عكس مساره، وأنا لا أقبله.

تتضمن لغة أبي إيماءة الصمت الحاضر بهدوء مثل ندبة، وقد استغرقني الأمر وقتاً طويلاً لأفهم أن مغادرة والدي الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن مسألة اختيارية – وكذلك قراره إخفاء أنه عربي - يهودي عندما التقى والدتي وقرر البقاء في المستعمرة الصهيونية. ففي عالم إمبريالي، فإن مفهوم الاختيار يحجب في أكثر الأحيان ما يكون جدولة محددة مسبقاً للبدائل المُعدّة إمبريالياً لإخفاء الجرائم الإمبريالية. لماذا سيرغب أبي في العودة إلى الجزائر حيث أرسله مستعمروه الفرنسيون الأعزاء (الذين حارب من أجلهم لاحقاً) إلى معسكر اعتقال، فقط ليجد أنه لم يكن فرنسياً ولا جزائرياً؟ ولماذا سيرغب في أواخر أربعينيات القرن الماضي في أن يكون مهاجراً من شمال أفريقيا إلى إسرائيل حيث كانت تجري شيطنة العرب على أنهم العدو؟ أي امرأة من "الصابرة" قد ترغب، بعد فترة وجيزة من تهجير العرب من فلسطين، في الزواج من مهاجر من شمال أفريقيا، ولا سيما إذا كانت هي نفسها تستطيع بنجاح أن تموّه أصلها وانتماءها إلى اليهود السفارديم [الذين تعود أصولهم الأولى إلى يهود إسبانيا و‌البرتغال] وراء شعرها الأشقر وعينيها الخضراوين؟ ولهذا، عندما كان يُشار إليه على أنه جزائري كان أبي يشعر بأنه محط سخرية؛ وعندما كان يشار إليه على أنه فرنسي كان يشعر بالإطراء. لقد تجنّب رفقة مهاجرين آخرين من شمال أفريقيا، وكان حريصاً على ألّا يُعدّ واحداً منهم، ومع ذلك كان أجنبياً في المجتمع الإسرائيلي، وتجنّب مسارات الاستيعاب التي وفرها هذا المجتمع. تجربة الغربة هذه كانت تجربة منعزلة.

كانت والدتي أحياناً تشغّل شريطاً سُجل في سنة 1972 خلال رحلة عائلية إلى أشدود. كنت حينها في التاسعة من عمري، وكان أبي يقودالسيارة، وقد جلست أمي بجانبه، بينما جلستُ مع أختي الصغرى في المقعد الخلفي مع جدتنا لأمنا. كنت أنا مَن حمل الميكروفون لأدير عملية التسجيل، وعلى عكس الأشرطة الأُخرى التي أخفتها عائلتي بمرور الوقت، فإنه جرى الاحتفاظ بهذا الشريط لأنه احتوى على صوت جدتي في اليوم السابق لإصابتها بسكتة دماغية ووفاتها. عندما استمعت إليه، كان في إمكاني فقط أن أخمّن أن هذه المرأة ذات اللهجة الثقيلة – هل هي بلغارية؟ لادينو؟ - كانت جدتي. لم يكن صوتها مثلما أتذكرها، وإنما ظل وجهها الأبيض وشعرها الأسود محفوظين بلا صوت في ذاكرتي بالطريقة التي تختفي بها الأصوات من ألبومات الصور. الأصوات الأُخرى في ذلك الشريط بدت أيضاً غير مألوفة. لقد استمعتُ كيف حثّت الفتاة الصغيرة في السيارة - أنا - الآخرين على الكلام بشكل متكرر بقولها: "تحدّث إليّ". وعندما استمعت مرة أُخرى، أدهشني كيف استطعت أن أختصر محن حياتي كلها في هاتين الكلمتين: "تحدّث إليّ". لقد ذكّرتني هذه الفتاة الصغيرة التي تردد صوتها في الشريط وهي تضحك وتحتج، بأن اهتمامي الفكري بمسرح اللغة والصمت - الذي يتعلق بمسائل الملكية والمصادرة والانتماء والاستجابة والتعلم الحِرفي والنطق والغربة والوحدة والقلق والحرمان والخيانة والإسكات والإزالة والتوافق والهجرة – سبقه فعل مكتوب في الجسد. ومنذ الاستماع إليه، أدخلت الكاسيت في المسجل عدة مرات، لكني لم أجرؤ على كبس زر التشغيل مرة أُخرى.

إيماءة الصمت اختبأت في جسدي مثل رمز وراثي حتى قبل أن أحاول الهجرة من لغتي الأم. وقد مرت عدة أعوام قبل أن أدرك أنه حتى والدتي التي جسد خطابها الهوية الإسرائيلية الجماعية، هاجرت منها في معظم الوقت الذي كانت فيه في غرفة المعيشة. فهناك، وما دمت لم أكن أستفزها، كانت تنسى الأمر وواجباتها تجاهه، كما كانت للحظات عابرة، مع زوجها، والدي، تستطيع أن تسمح لنفسها بأن تحتضن قطيعتها عن الإسرائيليين فتشارك أبي في تناول شراب فاتح للشهية، أو تنغمس في الخياطة، أو تحلم بقصر عائلتها في صوفيا، وتحنّ إلى أمها التي لم تحرجها غربتها قط.

عندما سألتُ والدتي أسئلة عن الغسالة الفلسطينية التي عملت في منزل أهل أمي في ريشون لتسيون (التي لا بد من أنها علّمت والدتي العدد الهائل من الكلمات العربية التي عرفتها)، أو عندما سألتُها عن رأيها عندما لم يحضر العمال الفلسطينيون الذين عملوا في بستان برتقال جدي للعمل، ارتسمت أمامي شخصية "الصابرة" الأحادية البعد. فقد نبع صوت الأمّة من حنجرتها ليحل محل المرأة التي ربّتنا معظم أيام السنة، وتحدثت بصوت ذي نبرة قومية من أجل تبديد أسئلتي الفضولية وإعادتي إلى المسار الصحيح، وضبط رؤيتي نحو وجهة النظر المواتية التي يُنتظر مني أيضا من خلالها تجاهل الجرائم التي حدثت.

وصفتني والدتي بالمتمردة في اليوم الذي بدأت بالاستعلام عن فلسطين، ولم تعد تتحدث إليّ مثلما تحدث الأم الابنة. لقد أحدث خروجي عن المعتقدات المألوفة أو هرطقتي هوة واسعة ومؤلمة بيننا، ولم أدرك سوى بعد وفاة والدتي أنني عندما اقتربت منها من باب المشاحنات، وحين كنت أراها بشكل حصري على أنها تجسيد لشخصية "الصابرة"، فإنني أسبغت من دون قصد على هذه الشخصية قوة أكبر ممّا كانت عليه فعلاً. ربما كنت سأقوض قوتها لو أنني سمحت لإحساس والدتي بالغربة بأن يبرز، فأنا ما زلت أعتقد أن ذاك الشعور بالقطيعة حماها من ألم فقدان مشهد طفولتها - شخصيات وعادات وتصاميم الملابس ونكهات الحياة في مدينتها الحبيبة ريشون لتسيون - حيث اختلط العرب واليهود حتى تأسيس الدولة. ومنذ لحظة بلوغها السابعة عشرة، والمتزامنة مع تدمير فلسطين، سعت لغة الاستقلال الجوفاء لجعل هذا الدمار لا رجعة فيه، ولأن تحل محل الألم والخسارة. فأنا أرفض أن أصدق أن اليهود الفلسطينيين الذين لم يصيروا صهيونيين ملتزمين بعد، لم يشعروا بألم أو خسارة عندما صارت هذه اللغة هي المهيمنة.

لو أنني سألتها عن هذا الشعور بالقطيعة، لكان من المحتمل لشخصية "الصابرة" في داخلها أن تنكر هذا الأمر؛ فهي، وبدافع من الخوف، كانت ستلتزم الصمت عمّا لم تستطع مشاركته كأنني خائنة ستقلب كلماتها إلى شهادة على ما يجب أن يكون مخفياً.

إن إحساسها بالغربة يجسد الخسارة التي اختبرها بعض اليهود عندما نُكبت فلسطين فجأة، تلك الأرض التي أعلنت والدتي بفخر أنها موطنها، والتي هُجّر سكانها العرب المألوفون ليحلّ محلهم آخرون فُرضوا على أنهم أقارب. وأنا أرفض أن أصدق أن والدتي لم تدرك الكارثة التي حلت، حتى عندما استُدرجت إلى تبنّي القصة المهيمنة التي بررت تلك الكارثة وأجبرتها على إنكار معناها.

لو لم أرسم ملامح اغترابها، لما تمكنت من التخلي عما عُلِّمتُه من لغتي الأم، ولما استطعت اللجوء إلى لغة أجدادي للتعبير عن تاريخ محتمل لفلسطين على أساس العودة غير المشروطة للفلسطينيين بمَن فيهم جميع أحفادهم. وها أنا أستطيع أن أسمع والدتي تخبرني بلغة اللادينو أنها تفتقد الـ ojos negros ("أوخوس نيغروس" / العيون السوداء) للمرأة الفلسطينية التي كانت تعمل في بيت أهلها، ونغمة كلامها والصوت الخاص الذي يصدر عنها عندما تلفظ اسمها على لسانها مثل طفل - "زهوة". ربما توقفَتْ برهة لتضيف: "أفتقد أيضاً لمسة يدها وهي تداعب خصلاتي الذهبية، وكيف كانت تحملني بين ذراعَيها." من تلك اللحظة فصاعداً، يبدأ كلامها يتدفق وتستعيد حيويتها، وقد يشرق وجهها بعد أن صارت شخصاً لم يعد مطلوباً منه الانخراط في الجهد المضني لمحاولة التستر على أفعال الصهيونيين الذين خانوها هي أيضاً عندما دمروا فلسطين - المكان الذي هاجرت إليه جدتها لأبيها في أواخر القرن التاسع عشر، لكن ليس كصهيونية.

عندما يكون المرء محاطاً بصمت هادر، تعبّر كلمات "تحدّث إليّ" عن شوق إلى فعل الكلام، وعندما يحيط أحداً حفيفُ الكلام، فإن كلمات "تحدّث إليّ" تناشد المرء أن ينأى عن الخطاب الحالي. فالكلام الذي ينطق به من تُعتبر أصواتهم رديفاً لصوت الأمّة، والكلام الذي لا يخاطب الإنسان الملمّ بالأشياء، ليس كلاماً على الإطلاق. فعبارة "تحدث إليّ" تتطلب فعل الكلام وفعل الصمت على حد سواء.

في الواقع، كانت مناشدة "تحدّث إليّ" توسلاً للتحدث إليّ. كان الالتماس طلباً لتخصيص وقت لي، ولعدم إهمالي بينما كنت أحاول سد الفجوة بين الكلمات والجسد. لم تحاول المناشدة طمس ما طُبع على الجسد، وإنما تعريض الجسد للهواء، سنتيمتراً بعد سنتيمتر، من خلال الكلام المباشر، الكلام الموجه إليّ، نحو الجسد، ليعيد بناءه عن طريق اللسان، وذلك كي تتمكن الكلمة والجسد معاً من إعادة الاتصال أحدهما بالآخر. فالعلامات التي تنطبع على الجسد لا يمكن إزالتها من الجسم، مع أنها تكون في أكثر الأحيان خالية من محتوى معين، بل إنها تحفّز على عمليات التفاوض داخل اللغة.

لكن يمكن للمرء أن يرفض المعاني التي تقترحها العلامات ويقول: "لا، شكراً"، ويواصل البحث عن أُخرى حتى إن استغرق الأمر وقتاً طويلاً. وها أنا أقول لكم: "لا، شكراً لكم، لست مهتمة بالكتابة عن هوية 'المزراحيم'." لو كنت كذلك، لما تمكنت مطلقاً من أن أتخلى عمّا عُلِّمتُه بما يكفي لأقول أنني يهودية جزائرية. "لا، شكراً لكم، لست مهتمة بنسيان أنني امرأة 'مزراحية'، أو إهمال عنصريتكم تجاه الآخرين وتجاهي"، إذ لو كنت كذلك، لما تمكنت مطلقاً من أن أتخلّى عمّا عُلِّمتُه بما يكفي لأقول أنني يهودية فلسطينية.

ملاحظة الكاتبة: يمكن لنص كتبته في سنة 2003، أن يُعتبر على نحو ما، مسودة مبكرة لهذه المقالة (ورد النص في كتابHazut Mizrahit ، تحرير يغال نزري وطال بن تسفي). فقبل عقد من الزمن، وبعد وفاة والدَيّ، أعدتُ كتابة هذا النص المبكر. أمّا الآن، وبعد ما يقرب من عقد من الزمن من مغادرتي المستعمرة الصهيونية، فإنني أردت الخوض مرة أُخرى في مسألة ما يعنيه أن نعكس فعل إنهاء الإمبريالية للعالم اليهودي - الإسلامي بعد ثمانية أعوام من التوقف عن الكتابة بالعبرية. لكني أدركت أن كتابتي عن عالم أجدادي تولد اضطراباً لا يسمح بعملية إعادة الكتابة، وإنما بالكتابة من جديد –  بكتابة نص مختلف.

 

* هذه المقالة كُتبت باللغة الإنجليزية بعنوان:

"Unlearning Our Settler Colonial Tongues: On Language and Belonging"

ونُشرت في "بوسطن ريفيو"، 30 / 11 / 2021. وللاطلاع على المقالة انظر الرابط الإلكتروني.

ترجمة: صفاء كنج.

Author biography: 

أريئيلا أزولاي: أستاذة الثقافة الحديثة والإعلام في قسم الأدب المقارن في جامعة براون.