The Roots of Normalization: Its History and Goals
Full text: 

لم يفتر يوماً جهد قادة الحركة الصهيونية، منذ نشأتها، في التسلل إلى داخل الجسد العربي الواحد، وحمل بعض أطرافه ومَن يشذّ من نخبه وحكامه، على القبول بفكرة الصهيونية بداية، ودولتها لاحقاً، والاعتراف بها وبحقّها في الوجود، وصولاً إلى افتراض وجود أهداف مشتركة تدفعها إلى التعاون معه، بل التحالف ضد أعداء مفترضين.

وفي سبيل الوصول إلى ذلك، تغيّرت أساليب الحركة الصهيونية، وتنوعت وسائلها، منذ أن خاطب ثيودور هيرتسل الدولة العثمانية محاولاً إقناعها بقدرته على جلب تعاون الدول الأوروبية، ودعم مشاريع الدولة العثمانية الاقتصادية، وإعفائها من الديون المترتبة عليها، في مقابل السماح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، والتي زعم قادة الحركة الصهيونية أنها ستنقل المنطقة من العصور الوسطى إلى عصر الحضارة والرقي، وهو ما انخدع به بعض النُّخب المنبهرة بالحضارة الغربية، والتي رأت في الحركة الصهيونية حركة تنويرية ستجلب معها التقدم العلمي وحضارة الغرب إلى منطقتنا (شبلي الشميّل نموذجاً).[1] كما انخدعت قوى سياسية بادعاءات الاتجاه العمالي في الحركة الصهيونية، وتأسيسه المستعمرات التعاونية (الموشاف)، وهو الاتجاه الذي كان يتولى قيادتها خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، فقد اعتقدت هذه القوى السياسية أنه يمكن التحالف مع هذا الاتجاه في مواجهة الرجعية العربية الحاكمة،[2] بينما أدرك آخرون هذا الخطر المحدق، ولم تُغْرِهم ادعاءات الحركة الصهيونية، وفي مقدمهم شكيب أرسلان، بعد لقائه حاييم وايزمان في جنيف.

بعيداً عن النخب، تواصلت القيادات الصهيونية، قبل نكبة 1948، مع مسؤولين عرب، تارة بدعوى الاتفاق على مشروعات اقتصادية مثل مشروع روتنبرغ لتوليد الكهرباء، أو محاولة استئجار غور كبد من شرق الأردن، وتارة أُخرى بالاتصال المباشر أو عبر بريطانيا التي كانت القوة المهيمنة على المنطقة والمنتدبة على فلسطين، لترتيب تفاهمات، ورسم خطوط تحرك الجيوش العربية، وتحديد المناطق التي ترابط فيها، وما تلا ذلك من اتفاقات الهدنة وترسيم خطوط وقف إطلاق النار، وهي الترتيبات التي أدت إلى ضياع المثلث الفلسطيني، وضم الجزء المتبقي من وسط فلسطين (الضفة الغربية) إلى شرق الأردن، ووضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية.

مكتب مقاطعة إسرائيل

بعد النكبة، وتحديداً في سنة 1951، أسست جامعة الدول العربية "مكتب مقاطعة إسرائيل"، وفي الدورة الثانية والعشرين لمجلس جامعة الدول العربية، والتي عُقدت في سنة 1954، أُقرّ قانون موحد لمقاطعة إسرائيل، وتبعاً لذلك سنّت الدول العربية، كل على حدة، بعد حصولها على استقلالها، قانوناً ينظم المقاطعة في قطرها. واستندت هذه القوانين في ديباجتها إلى القانون الموحد الذي أقرّته الجامعة العربية، فافتُتحت مكاتب للمقاطعة في تلك الدول، كما عُيّن مفوض لمكتب المقاطعة الرئيسي، كان ضمن مهماته وضع لائحة سوداء تجدَّد مرتين كل عام، بأسماء الشركات الإسرائيلية والشركات التابعة لدول أُخرى، والتي تحتفظ بعلاقات تجارية مع إسرائيل، بهدف حظر دخول بضائعها، ومقاطعة أعمالها إلى أن تُوقِف نشاطها في إسرائيل. ويجب هنا أن نذكر أن مكتب المقاطعة شكل إزعاجاً فعلياً لدولة الاحتلال، وأرغم مؤسسات وشركات كبرى على وقف أعمالها فيها، ولهذا كان إلغاء قوانين المقاطعة العربية الرسمية في مقدم متطلبات التطبيع الرسمي مع العدو، الأمر الذي أدى إلى تحوّل مكتب المقاطعة، بعد إغلاق مكاتبه في عدد من الأقطار العربية، إلى جهاز مشلول وشكلي ولا يحظى بإجماع عربي رسمي، وأصبحت المقاطعة الرسمية من الدول العربية أمراً مرهوناً بكل دولة على حدة. 

لقاءات سرية خجولة

على الرغم من قرارات المقاطعة، فإن الأمر لم يخلُ من لقاءات سرية عقدها مسؤولون ورؤساء وملوك عرب مع نظرائهم الإسرائيليين، وقد نُشرت في الأعوام الماضية تفصيلات كثيرة عن هذه اللقاءات التي لم تُعلن آنذاك، إذ كان المسؤولون العرب يتجنبون أي لقاء علني مع أطراف إسرائيلية، وإن كان مصادفة في ممرات المنظمات الدولية أو خلال اجتماعاتها، وعادة ما كان يتم نفي أي لقاء يُعقد خلف الستار، تحسباً من الرأي العربي العام، أو لئلّا يُستخدم في الحملات الإعلامية والاتهامات المتبادلة بين الأنظمة العربية.

بعد هزيمة حزيران / يونيو 1967، ازدادت وتيرة هذه اللقاءات السرية التي تمارَس في الخفاء، تحت ذرائع عدة، مثل جسّ النبض بشأن نية إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في سنة 1967، أو في سياق التمهيد لتسوية مقبلة، أو بسبب التدخل الإسرائيلي في الحروب الداخلية التي حدثت في العالم العربي (المسألة الكردية، والعلاقة مع حزب الكتائب اللبناني). وثمة مرويات كثيرة عن لقاء الملك حسين بمسؤولين إسرائيليين خلال هذه المرحلة، وهي اجتماعات لم تُسفر عن نتائج، ولم تحقق انسحاباً إسرائيلياً من متر واحد من الضفة الغربية، مثلما يروي عدنان أبو عودة في يومياته.[3] وفي الفترة ذاتها، أدى ملك المغرب دوراً لافتاً في تسهيل الاتصالات بين رسميين عرب وإسرائيليين، وكان من أهمها لقاء حسن التهامي، مستشار الرئيس أنور السادات، بمسؤولين إسرائيليين، والتي مهّدت لاتفاق كامب ديفيد لاحقاً. لكن ما كان يميّز هذه اللقاءات والاتصالات هو سرّيتها وبُعدها عن المسار العام، إذ إن مجرد تسريب واحد من هذه اللقاءات كان يثير في الرأي العام، وفي أروقة السياسة، زوابع وأعاصير يتم مواجهتها بالنفي، أو الصمت والامتناع من التعليق.

الاختراق العلني الأول للجسد العربي

شكلت زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس، وخطبته في الكنيست الإسرائيلي، صدمة كبيرة عند العرب، لكنهما، وما تلاهما من توقيع أول اتفاق سلام بين دولة عربية وإسرائيل في منتجع كامب ديفيد، أدّت إلى عزل مصر عن العالم العربي، وإلى تبلور موقف عربي رسمي موحد ضد هذا الاتفاق، جرى في إثره مقاطعة مصر، ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس. ولم يؤدِّ ذلك إلى تطبيع رسمي، وإنما وُوجه بموقف شعبي حازم ضد التطبيع في مصر ذاتها ما زال مستمراً حتى اليوم.

بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، وازدياد سعيها للحاق بقطار التسوية، وتأثيرات حرب الخليج الأولى على النظام العربي، والتي ترافقت مع مسعى أميركي لعقد مؤتمر للسلام في مدريد، تحضره سورية والأردن ووفد فلسطيني تحت مظلة أردنية، عُقد هذا المؤتمر وكان الشرط المسبق هو تبنّي اقتراح الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، المتضمن في خطابه الذي ألقاه في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي طالب فيه بإلغاء قرار اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، وهو طلب وافقت عليه أغلبية الدول العربية، أو صمتت عنه، مثلما هي حال قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كمقدمة للانخراط في مؤتمر مدريد. لكن ذلك لم يرقَ إلى مستوى تطبيع العلاقات بقدر ما كان خطوة على طريق التمهيد لها.

اتفاق أوسلو بداية التطبيع

تغير الحال بعد اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في سنة 1993، والذي اعترفت فيه منظمة التحرير بحقّ إسرائيل في الوجود، في مقابل اعتراف إسرائيلي بمنظمة التحرير ممثلاً للفلسطينيين في مفاوضات الحل النهائي. والأمر الخطر في اتفاق أوسلو أنه اتفاق بين أصحاب الأرض وممثلي القضية المفترضين وعدوهم، وهو ما فتح المجال أمام الدول العربية الأُخرى لعقد اتفاقات مع إسرائيل، أو فتح مكاتب تمثيلية بمستويات متنوعة، ما دام صاحب البيت فتح لهم الباب لذلك. ومنذ هذا الاتفاق تغيرت النظرة الخجولة إلى التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وسرعان ما بدأ التطبيع العلني، بحجة أن أصحاب القضية اعترفوا بعدوهم، وأقاموا سلطتهم في ظلال حرابه، وتفاوضوا معه، فعقب اتفاق أوسلو، جاء اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، لتكون الأردن الدولة العربية الثالثة التي تبرم اتفاق سلام معها.

اعتقدت السلطة الفلسطينية أنها قادرة على استخدام التطبيع كجزرة تلوح بها أمام الإسرائيليين، باعتبارها مؤهلة لفتح أبواب العالم العربي والإسلامي أمام علاقات طبيعية مع دولة الاحتلال، في مقابل تحصيل الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، وهو يماثل ما ورد في مبادرة السلام ومقررات القمم العربية التي ربطت السلام مع إسرائيل بانسحابها من الأرض الفلسطينية المحتلة. لكنها كانت جزرة لا يصحبها عصا ولا وسائل ضغط، إذ راهنت القيادة الفلسطينية على شيء لا تملكه ولا تستطيع التحكم في مساره، بعد أن فقدت تمسكها بالرواية الفلسطينية التاريخية واعترفت بعدوها.

يروي نبيل شعث في كتابه، الذي لم يكن قد صدر عند كتابة هذه المقالة، وهو بعنوان "العودة إلى الوطن"، كيف انهارت هذه المقولة منذ لحظة توقيع ياسر عرفات ويتسحاق رابين الاتفاق الفلسطيني - الإسرائيلي في واشنطن؛ فبعد التوقيع مباشرة، طلب رابين من عرفات أن يساعده في زيارة المغرب في طريق عودته إلى تل أبيب، كي يتمكن من القول للإسرائيليين: "هل رأيتم؟ عندما وقّعت اتفاق سلام مع الفلسطينيين بدأت أبواب الدول العربية تُفتح لكم، وهذا لم يحدث عندما وقّعنا اتفاقاً مع مصر." وفعلاً، وصل رابين إلى المغرب مشفوعاً بدعم وتوصيات الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ودُعي الملك الحسن الثاني إلى حضور قمة اقتصادية شرق أوسطية في الدار البيضاء، لتسويق مشروعات التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط لتقوية السلام، في 30 تشرين الأول / أكتوبر 1994، بمشاركة إسرائيل ومنظمة التحرير وممثلين عن 61 دولة.

يصف نبيل شعث المؤتمر، وكان ممّن حضره، بأنه "كان غريباً لأقصى حد ممكن، فقد تصرف الإسرائيليون والأميركيون وكأنهم يملكون المؤتمر، وكأن السلام الدائم مع العرب قد تحقق." وفي اليوم الثاني للمؤتمر، أعلن شمعون بيرس أن المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل انتهت عملياً، وافتتح مكتب التنسيق الإسرائيلي في الرباط، كما أعلن فتح مكاتب إسرائيلية في تونس وموريتانيا وقطر. أمّا الوفد الفلسطيني فلم ينجح في الحصول على أي مشروع حيوي من خلال المؤتمر، إذ عارض ذلك الإسرائيليون والأميركيون، مشترطين تنازلات فلسطينية إضافية، في مقدمها وقف العنف وتعديل بنود الميثاق الوطني.

فتحت السلطة الفلسطينية الباب أمام التطبيع العربي، لكنها فشلت في ربط مساره بالتقدم في مفاوضات الحل النهائي، بحيث يسير التطبيع العربي مع إسرائيل الذي أُطلق عليه اسم "حوافز السلام"، بالتدريج مع وفاء إسرائيل بالتزاماتها ويرتبط به. لقد أرادت السلطة الفلسطينية أن تكون هي نافذة التطبيع، لكنها، ومنذ اللحظات الأولى، فقدت التحكم فيه، كما أن الدول العربية التي فتحت مكاتب تمثيلية إسرائيلية في عواصمها، مثل تونس وقطر، لم تتراجع عن هذه الخطوة، إلّا بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، ذلك بأن تعثر الحل مع الفلسطينيين، واندلاع الانتفاضة وموجات الربيع العربي، حملاها على إغلاق هذه المكاتب، الأمر الذي يُثبت أن احتدام الصراع، والسعي للتخلص من الاستبداد، يمنعان التطبيع الرسمي ويُفقدانه مبرراته.

لم تستطع الدبابة الإسرائيلية أن تفرض تطبيعاً عربياً، ولم تستطع الاتفاقات الثنائية أن تفرض مثل هذا التطبيع، ذلك بأن القضية الفلسطينية حافظت على مكانتها كقضية مركزية للأمة العربية، وبقي العدو الصهيوني هو العدو الرئيسي لها، على اختلاف أنظمتها ومللها ونحلها. فقد منعت هذه المعادلة إسرائيل من الاختراق العلني للمنظومة العربية ككل، ولم تمكّنها حالات الاختراق المحدودة (كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة) من أن تكون طرفاً فاعلاً في المنطقة.

تأثير الثورات المضادة وصفقة القرن

عقب الربيع العربي والثورات المضادة، تغيرت المفاهيم المتعلقة بأولويات الصراع وأطرافه، فلم تعد إسرائيل في نظر بعض الأنظمة تمثل التهديد الرئيسي بالنسبة إليها، كما أن الصراع السياسي اختلط بالخلاف المذهبي الذي ارتدى طابعاً طائفياً هدد الأمة بالانقسام والتمزق. فقد رأى بعض الأنظمة أن تمدد النفوذ الإيراني يشكل التهديد الأول له، وأن الإسلام السياسي والحراكات الشعبية يشكلان تهديداً داخلياً يزعزع استقراره.

وكانت الولايات المتحدة الأميركية استثنت إسرائيل من حرب الخليج الثانية (1991) التي أُطلق عليها اسم "عاصفة الصحراء"، وطلب جورج بوش من يتسحاق شمير عدم الرد على الصواريخ العراقية، وعدم التدخل في مجريات القتال. وبدا أن إسرائيل فقدت دور الشرطي والحامي للمصالح الغربية، بعد أن حشدت الولايات المتحدة أكثر من نصف مليون جندي في ميدان المعركة، وأرسلت بطاريات صواريخ باتريوت لحماية الكيان الصهيوني، لكن قبل أن تتلاشى سُحب الحرب وجّه بوش إنذاراً إلى شمير بوقف المعونات الأميركية إن لم يلتحق بمؤتمر مدريد للسلام. وبعد نحو عقدين، حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يعيد إلى إسرائيل دورها كشرطي في المنطقة، وحارس لبعض أنظمتها، من خلال صفقة ترامب - نتنياهو التي عُرفت بـ "صفقة القرن"، عبر الاتفاقات "الإبراهيمية" التي عُقدت برعاية البيت الأبيض وفي أروقته.

ثمة مبررات قُدمت لاتفاقات التطبيع التي جرى إبرامها؛ فتارة هي عملية تطوير لتطبيع قائم، ونقله من خانة تطبيع العلاقات وتبادل السفراء إلى واقع التحالف العسكري والسياسي والأمني في مواجهة قوى إقليمية، أو خطر داخلي، كما في حالة الإمارات والبحرين. وتارة أُخرى قُدّمت على أنها رفع لعقوبات ظالمة فرضتها الولايات المتحدة سابقاً، ثم منّت برفعها، كما في حالة السودان، أو إعلان تبادل العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل من داخل البيت الأبيض في مقابل اعتراف الولايات المتحدة بالإقليم الصحراوي إقليماً مغربياً، وهو اعتراف يزيد المشكلة القائمة تعقيداً، ويعمّق الخلاف بين المغرب والجزائر، مع أنه في الحقيقة ليس سوى غطاء يبرر فيه النظام تطبيعه مع إسرائيل أمام الشعب المغربي، وهو ما سبق أن فعله منذ عقود. وفي كل مرة ثمة إيهام للمطبّعين، أو من يسعى للسير على خطاهم، أن الطريق إلى تل أبيب هو الطريق الوحيد المؤدي إلى واشنطن، والضمانة الوحيدة لتثبيت القائمين على الحكم في وجه معارضيهم، وهو خاطر كثيراً ما راود زعماء عرب اعتقدوا أنها الطريق الأسلم لكسب ود الولايات المتحدة والحفاظ على أنظمتهم، مثلما يروي عبد السلام جلود في مذكراته الصادرة حديثاً عن رغبة معمر القذافي في سلوك هذا الطريق.[4]

خلال صفقة القرن، فإن السلطة الفلسطينية، في ظل رفضها هذه الصفقة، والموقف الفلسطيني الموحد في مواجهتها، عارضت تطبيع الإمارات والبحرين، وسحبت سفراءها، لكنها بعد سقوط دونالد ترامب، وزوال خطر الضم القانوني، مع استمرار الضم الواقعي وبوتيرة متزايدة، أعادت السفراء إلى مواقعهم، وعادت المياه إلى مجاريها، في الوقت الذي لم تتخذ موقفاً من التطبيع المغربي والسوداني، كأن المسألة لا تعنيها.

يلاحَظ أن أنظمة التطبيع على الرغم من توظيف أعلامها وذبابها الإلكتروني في التحريض على الشعب الفلسطيني، فإنها لم تقطع مع القضية الفلسطينية، فهي لا تستطيع ذلك أمام شعوبها، ولذا، ادعت أن التطبيع هو مفتاح السلام الذي يمنحها القدرة على الضغط على إسرائيل، بل زعمت أن عملية التطبيع، كما في حالة الإمارات والبحرين، تهدف إلى وقف ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية.

هكذا وظّف المطبّعون القدامى والجدد رؤيتهم المشوهة إلى قضية فلسطين من أجل تبرير التطبيع، وهنا نذكر كيف أصرّ أنور السادات على حضور ياسر عرفات خطابه الذي أعلن فيه عزمه على زيارة القدس، وكذلك عشية إعلان ترامب الاتفاق المغربي - الإسرائيلي، اتصل الملك المغربي بمحمود عباس ليظهر الخبران متلازمَين في وسائل الإعلام، كما استُخدمت زيارة عباس إلى عُمان للتغطية على زيارة بنيامين نتنياهو التي تمت بعدها بيومين.

إن التطبيع الرسمي العلني ثمرة من ثمار هشاشة النظام العربي وانقسامه وفشله، فما كان من المحرمات أصبح مباحاً، لكن التطبيع لا يزال يفتقد الشرعية الشعبية تماماً، وهو ما يفسر تردد سائر الأنظمة في القيام بهذه الخطوة، خوفاً من ارتداداتها الداخلية التي قد تنعكس على شرعيتها السياسية أو الدينية، مثلما هي حال دول مثل السعودية التي تنبأت عدة تقارير منذ أيام صفقة ترامب، بأنها ستكون التالية في التطبيع العلني.

تستند مقاومة التطبيع أساساً إلى موقف الجمهور العربي في البلاد العربية كلها، والذي لا يزال يعتبر القضية الفلسطينية قضيته القومية الأولى. فالسلطة الفلسطينية لا يمكنها ادعاء مقاومة التطبيع وهي منغمسة فيه، وتزداد خضوعاً لإرادة العدو يوماً بعد يوم، في حين أن ما يوقف التطبيع فلسطينياً هو استمرار المقاومة بأشكالها كلها، واستمرار صمود الشعب الفلسطيني في أرضه. واللافت للنظر أن تقارير المنظمات الدولية الحقوقية، والعاملة في مجال حقوق الإنسان، في سنة 2021، أجمعت على اعتبار إسرائيل دولة أبارتهايد وفصل عنصري، مستندة إلى القانون الدولي في القول بضرورة عزلها وعقابها، وعقاب مَن يقدّم لها أي شكل من أشكال الدعم والمساندة، الأمر الذي يضع المطبّعين العرب وأنظمتهم تحت طائلة المساءلة القانونية، هذا إن لم يسبقها القصاص الشعبي.

 

المصادر:

[1] نُشر في هذا الشأن مقالتان لشبلي الشميّل، الأولى في "المُقطّم" في 1 أيار / مايو 1914 وعنوانها "عمّروا واستعمروا، فالأرض ميراث المجتهدين"، والثانية في "الأهرام" في 3 حزيران / يونيو 1914 وعنوانها "الصهيونية وخصومها"، وكلتاهما نُشرت في الصفحة الأولى.

بشأن المقالتين، انظر موقع مؤسسة الفكر اللبناني في جامعة سيدة اللويزة في الرابط الإلكتروني.

[2] لمزيد في هذا الشأن، انظر: محمود محارب، "الحزب الشيوعي الإسرائيلي والنكبة: الموقف والدور" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022).

[3] عدنان أبو عودة، "يوميات عدنان أبو عودة، 1970 - 1988" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017).

[4] عبد السلام جلود، "مذكرات عبد السلام أحمد جلود: الملحمة" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022).

Author biography: 

معين الطاهر: كاتب وباحث فلسطيني.