The Arab Road to Voluntary Slavery
Full text: 

دفعت نكبة فلسطين في سنة 1948، المثقفين العرب، مثل غيرهم، إلى التساؤل عن أسباب هزيمة أمتهم، تلك الأمة القديمة المجيدة الوافرة العدد، والتي نعتها المثقفون بالتخلف والتجزئة القومية والاستعمار، واندرجوا في أحزاب سياسية تبشّر بإسقاط القديم وبتوليد إرادة جديدة. وقد أوجزها المفكر القومي ساطع الحصري في جملة انتشرت على ألسنة تلاميذه: "لقد هُزمت الجيوش العربية السبعة لأنها كانت سبعة"، وهو أمر يستنكر الفُرقة العربية، ويقضي بتحويل المتفرق العربي إلى موحّد قومي أفقه الانتصار.

تحدّث المفكر قسطنطين زريق بدوره عن وعي قومي حديث يمحو الهزيمة، وارتكن مثقفون غاضبون إلى مفردة: "الثأر" الذي يعيد الشرف المهدور إلى الذين فقدوه، وتسللت كلمة "القَدَر" إلى نفوس وطنية صادقة تهجس بفلسطين، فنطق البعض بتعبير "جيل القَدَر"، وأشار المصري جمال عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" إلى بطل تائه أتعبه الترحال واصطفى موقعاً يرتاح فيه عنوانه: "الثورة"، وقام بانقلابه العسكري الشهير في سنة 1952.

الخيار الذي وقع عليه "الضابط المصري الحر" تناسل في انقلابات عسكرية أُخرى شملت سورية والعراق والسودان وليبيا، بعد حين، وكانت الثورة الجزائرية في طريقها إلى الانتصار، وانتهت مقاديرها إلى عسكري تقليدي يدعى هوّاري بومدين الذي رحل مغتالاً، مثلما قيل.

احتلت "فلسطين المنكوبة" مكاناً مركزياً في الفكر العربي "الثائر"، وفي الانقلابات العسكرية المتنوعة، وفي الصحف والقصائد والأغاني، حتى بدا تحرير فلسطين من الصهيونيين مطلباً شعبياً - قومياً ارتكز على شعارَين: أولهما التنمية الضرورية للإطاحة بالتخلف الذي أفضى إلى هزيمة "جيش الإنقاذ" العربي في سنة 1948، والذي كان مهزوماً قبل ذهابه إلى المعركة؛ ثانيهما الوحدة المجتمعية التي يحتاج إليها الإنقاذ العام، والسير قدماً نحو توحيد المجتمعات العربية كافة.

وعلى الرغم من حماسة قومية، موطدة بالأشعار والأهازيج، فإنه كان في الانقلابات العسكرية ما يصادر أهدافها. فقد أرادت تلك الانقلابات تحقيق التنمية في مواطنين خاضعين، أو مُخضَعين، ينطق الانقلابيون بمطالبهم، ويُلزمونهم بـ "صمت قومي" يمحو فيهم حرية التفكير ويستعيض عنها بـ "حرية التصفيق والانحناء"، كما أرادت تحقيق الوحدة العربية في مجتمعات لا يحقّ لها الاختيار. وهكذا اختُصرت إرادة المجتمعات العربية برغبات عسكريين يحسنون القراءة أحياناً، أو يحسنون القراءة والكتابة بمشقّة وبعد عناء، فدخلت هذه المجتمعات العربية في أنفاق مظلمة متآكلة الجدران.

أقام الانقلابيون العسكريون "أهدافهم" الكبرى، على إلغاء الحياة السياسية المجتمعية، بحيث باتت الأحزاب السياسية تبعية ووباء، وعلى تعيين "النخبة الحاكمة" بديلاً من حياة المجتمع العصية على الاختزال في مشيئة فرد أو أفراد. وقد اتكأ الانقلابيون على مصادرة حقوق مجتمعاتهم، فذهبوا إلى حرب حزيران / يونيو 1967، حاصدين هزيمة جديدة وأكثر فداحة من هزيمة 1948 التي لا تزال آثارها سارية إلى اليوم. فلا فلسطين عادت إلى أهلها، كما أن المجتمعات العربية فقدت الحريات المجزوءة التي كانت تنعم بها خلال فترة الاستعمار، والتي سبقت "النكبة النكباء"، بلغة قسطنطين زريق.

أعادت هزيمة حزيران / يونيو، الصامدة والولود، المجتمعات العربية إلى ما قبل سنة 1948، دافعة بالأنظمة الحاكمة إلى شرعية مفقودة عالجتها بتلفيق لا يعالج شيئاً، ووطّدت أركانه بقمع مستديم أنتج "مجتمعات الصمت" المغتربة عن الأزمنة الحديثة، و"الأنظمة الحاكمة الطويلة العمر"، المغتربة أكثر عن الأزمنة الحديثة. لقد استطاعت هذه الأنظمة التي ساوت بين الظفر بالسلطة والملكية الخاصة، أن تهزم "الحداثة العربية الوليدة" مرتين: أولاً، بممارسات سلطوية منقطعة عن الأزمنة الحديثة، ولا تعترف بالديمقراطية والحوار المجتمعي والفردية المبدعة والاجتهاد الديني الطليق، وثانياً، بإنتاج مجتمع راكد أغلقت آفاقه فزهد بـ "الدولة الحديثة" ورجع إلى مراجع عضوية ما قبل رأسمالية تُشعره بالأمان مثل القبيلة والأسرة والعشيرة والطائفة، مبتعداً عن مظاهر الحداثة إلى تخوم التكفير، أكان ذلك في الفن والأدب، أم في حقل الفكر النقدي عامة، فكثر "الدعاة" المتكسبون بالدين، وازدهرت "الفتاوى الجاهلة"، وطورت الأنظمة الوسائل التي تكفل معاً، ديمومتها وديمومة الشعب الخاضع.

عاشت الأنظمة العربية، كما مجتمعاتها، قبل هزيمة حزيران / يونيو وبعدها، ما يدعوه بعض الفلاسفة "ديالكتيك السلب" الذي يفضي فيه الهدف المنشود إلى نقيضه، والذي تستقدم فيه الغاية المرجوة نقيضها، فيغدو "تحرير فلسطين" مدخلاً إلى تسليعها "مجاناً" وخنق المدافعين عن تحريرها، ويتحول "شذّاذ الآفاق"، أي اليهود، عبر استخدام لغة بائدة، إلى دعاة خير وسلام، وإلى بشر متحضرين "يؤمنون بالتطور"، بعيداً عن فلسطينيين صفتهم الجمود والركود والبوار، ويطالبون باستعادة أرض - سقطت بالتقادم - وغدت من حق غيرهم، حتى كاد الفلسطيني المطالب بحقوقه أقرب إلى "الهندي الأحمر" الذي رفض الاقتناع بأن "أرض أميركا" هبة من الله إلى شعبه الأبيض المختار.

أخذ ديالكتيك السلب لدى الأنظمة العربية المنهزمة شكل القاعدة: هزيمة "جيش الإنقاذ" الذي لا شكل له في سنة 1948، بدت "نموذجاً مصغراً" لهزيمة جيوش عربية عالية التسلح والألقاب في حزيران / يونيو؛ "الفارس المصري" الحالم بعروبة متحررة أعقبه "الرئيس المؤمن" الذي زار إسرائيل؛ الفدائي الفلسطيني الذي أراد "التحرر من عاره"، بلغة غسان كنفاني، صار طريدة لأسلحة عربية متقاطعة النيران؛ مجزرة "دير ياسين" التي ارتكبتها "العصابات الصهيونية" عام النكبة تضاءلت، لاحقاً، أمام مجازر أنجزتها "عصابات عربية" تفتخر بالكذب والتلفيق؛ معارك "القادسية" التي زُجّ فيها العراقيون بحقّ أو بغير حقّ، انتهت إلى تدمير العراق؛ تمرّد "اليمن السعيد"، أفقر اليمنيين مادياً ومعنوياً. وقد توالت الهزائم العربية متواترة، من دون النظر إلى مقاصد المسؤولين عنها، وأخذت شكل قاعدة منتصرة، لا يمكن إبطالها ولا محاصرة آثارها.

بَيْد أن ما يأخذ شكل القاعدة يفقد معناه، وينزاح من اللاعادي إلى العادي، ومن المفزع إلى الأليف، ويعيد صوغ المهزوم، ويتطلب "مراجعة" تمسّ ثلاثة أطراف: النُّظُم العربية، والقضية الفلسطينية، ودولة إسرائيل، ويقضي بتغيير "ساحة المعركة" وإرشاد "السلاح المقاتل" إلى جهات "صائبة"، أكانت موئلاً لفلسطينيين حوصروا في "ممر الغزلان" الذي نقل "قرارهم السياسي" من بيروت إلى رام الله، أم شعوباً عربية أنساها القهر والإفقار "قضية العرب الأولى"، بلغة سخر منها الزمن، ورزحت تحت قمع سلطوي أقرب إلى الانتقام.

ويبدو استرضاء "النظام الرسمي العربي" لإسرائيل، ومعاقبة الفلسطينيين، أمراً منتظراً لا يثير الدهشة، ولا يوقظ "الدَّهَش"، مثلما يعتقد الحريصون على "لغة عربية متينة". لكن هذا العقاب يضيف إلى لاشرعية "النظام" القائم على الاغتصاب والتسلط، لاشرعية جديدة، وينزع نقاب الأمان عن السلطات الحاكمة حتى لو بدت مستقرة وتنعم بالأمان، ويفرض الذهاب إلى حاضنة أمنية أدمن المتخيل السلطوي العربي، ومن دون أي فائدة اقتصادية، رؤيتها في قوى عالمية باركت دولة إسرائيل، كما سعى لتأمين الرضا الإسرائيلي بأساليب متنوعة.

ثمة فرنسي قديم واسع الثقافة يدعى إتيان دو لا بْويسيه (Étienne de La Boétie) وضع في شبابه (1553) كتاباً عنوانه مثير: "خطاب عن العبودية الطوعية"، تمازجت فيه دراسته للحقوق بالفلسفة والتاريخ والشعر، وذلك رداً على واقع اجتماعي فرنسي يستثير الغضب والعقول الكارهة للطغيان والمستبدين. فقد رأى هذا الكاتب، وليس بلا سخرية، أن الطغيان لا يفرضه الطغاة الفاسدون، وأن عبودية الشعب طوعية، تستولدها الطبائع المشوهة والعقول المستقيلة والأرواح الخاملة، وأن الخاضعين عليهم أن يحرروا ذاتهم من عادات الخضوع، وأن يهزموا استسلامهم المفزوع باندفاع إلى الحرية، لا مساومة فيه.[*]

يستوقفنا، هنا، مصطلح: "العبودية الطوعية"، الذي يحيل على عرب مهزومين يتوسلون إسرائيل كي تهزمهم من جديد، ويأخذون على عاتقهم، بشهامة كبيرة، هزيمة الفلسطينيين إذا رفضوا الاعتراف بفضائل الهزائم المتراكمة. وقد لمّح ذاك الفرنسي المنتمي إلى الربع الأخير من القرن السادس عشر إلى مستبدين لامعين طبّقوا على شعوبهم، قبل أن تخضع، معايير من ذهب: على المحكوم أن يأكل بقدر يسعفه على الوقوف، فلا يقتله الجوع ولا يغويه الشبع، وعلى الحاكم النبيه أن يسمح لرعيته بكلمة واحدة: نعم. ومثلما أن بعض الخاضعين يهزم ذاته قبل أن يشكر حاكمه على استعباده، فإن بعضاً من "النظام العربي" (هكذا يُدعى؟) يهزم شعبه قبل أن يسأل إسرائيل أن تُنعم عليه بلقب "العبد المطيع".

 

[*] Etienne de La Boétie, "Discours de la servitude volontair" (Paris: GIF–Flammarion, 1983).

Author biography: 

فيصل درّاج: كاتب وناقد فلسطيني.