From Tantura and So On
Full text: 

 I

أثار فيلم ألون شوارتس "الطنطورة" عاصفة من النقاش في إسرائيل، وجاء ليصوّب فضيحة أكاديمية قديمة، دفع ثمنها تيدي كاتس، وتحمّل تبعاتها إيلان بابِهْ.

نعم حصلت مجزرة مروعة في الطنطورة ذهب ضحيتها نحو 250 فلسطينياً قُتلوا بأيدي جنود لواء "ألكسندروني" في 22 و23 أيار / مايو 1948، وهناك اليوم موقف للسيارات فوق المقبرة الجماعية.

الفيلم الإسرائيلي بالغ الأهمية، لكننا كنا نعرف الحقيقة من زمان. فالتطهير العرقي الدموي محفور على خرائط أرواح الفلسطينيين، غير أن السؤال الذي سيبقى بلا جواب هو عن اللاعدالة التي جعلت محاسبة القتلة على جرائمهم مستحيلة، أو غير واردة.

الطنطورة اختفت، لكنها لا تزال. وهي ليست ذاكرة رواها جنود سابقون صاروا اليوم في التسعينيات من أعمارهم، بل هي شاهد على المجزرة المستمرة في فلسطين منذ بداية ليل حرب النكبة الطويل.

فالنكبة هي الحاضر متخذاً صوراً متنوعة، من الشيخ جرّاح إلى غزة، ومن المستعمرات التي تحتمي بحراب الجيش الإسرائيلي إلى الجدار.

سؤال الطنطورة الحقيقي هو سؤال الضحايا. وهو لم ولن يكون إسرائيلياً، لأنه يطرح علامات استفهام كبرى عن شرعية المشروع الكولونيالي الاستيطاني برمّته، وخصوصاً بعد انكشاف بُنيته كنظام أبارتهايد.

ماذا نقول للضحايا؟

مهجرو الطنطورة ينظّمون مسيرة سنوية إلى قريتهم المهدمة حاملين أسماء الشهداء. يقفون أمام موقف السيارات الذي يغطي المقبرة، ويسألون عن حقّ الموتى في قبر يليق بهم.

لكن سؤال الحق ضاع عندما ضاعت الحقيقة.

موتى بلا قبور، وبلد تحول إلى ملعب للاستيطان والاحتلال ومقبرة للقيم.

يستحق ملف الطنطورة أن يُفتح من جديد، من زاوية حقوق الضحايا، وهي الزاوية الغائبة عن النقاش الإسرائيلي.

لكن مَن يستطيع كسر أقفال هذا الصمت المدوي؟ 

II 

تحيلنا أسئلة الطنطورة إلى سؤال القيم في هذا الزمن الذي يحتله الأوغاد.

ننتقد ازدواج المعايير في "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، ونفاجأ بأن قيم حقوق الإنسان لا تُحترم حين يصل الأمر إلى شعوب الجنوب والشرق.

لكن مَن قال إن القيم وُجدت لتُحترم؟

هل احترم الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية والجزائر قيم الثورة الفرنسية؟

هل احترمت الإمبراطورية الأميركية يوماً قيم العدالة والحقوق التي تبشر بها؟

هل احترم الاتحاد السوفياتي قيم الثورة البلشفية؟

وإلى آخره...

فالقيم في أيدي الأقوياء هي سلاح للقمع والغزو.

ولعل الدولة العبرية هي النموذج الأكثر وضوحاً، ليس لامتهان القيم فقط، بل للإساءة لحرمة الضحية أيضاً، وتحويلها إلى مطية لارتكاب المجازر والاحتلال والقمع.

لم نكن حمقى كي نصدق القيم التي يبشرنا بها المستعمرون، لكن تمسّكنا بقيم العدالة والمساواة بين البشر يُجبر الأقوياء على كشف حقيقة خطابهم، وعلى خلع القناع الإنسانوي الذي يحجب وجوههم.

إسرائيل اليوم عارية من القيم، فقد خلعت القناع الذي لبسته طويلاً، وكشفت عن طبيعتها كدولة كولونيالية استيطانية تمارس التمييز العنصري، وهي امتداد لسلسلة من المشاريع الاستيطانية التي اندثرت اليوم، ولم يبقَ سوى الدولة العبرية كشاهد مستمر على حقيقتها. 

III 

إسرائيل تعرّت في محيط عربي تعرّى هو الآخر وانكشف على أيدي المستبدين والمطبّعين.

لم يكن هذا العري العربي سوى نتيجة انهيار الفكر النهضوي الذي قامت الانقلابات العسكرية بتمزيقه، قبل أن يحصد ملوك الطوائف والنفط هذا الانهيار، ويصيروا رديفاً للمشروع الكولونيالي الإسرائيلي.

غير أن هذا العري العربي لا يمكن قراءته بمعزل عن العري الفلسطيني الذي بدأت ملامحه تلوح مع اتفاق اوسلو، وتحوّل إلى بُنية سلطوية بعد هزيمة الانتفاضة الثانية.

العري الإسرائيلي يتغطى اليوم بالعري العربي. ثقافة اللاقيم على الجانبين ترطن بالحداثة أو تلجأ إلى الأسطورة، لكنها تعرف أنها تلعب في زمن ضائع، لأن الناس أُخرجوا من المعادلة وتحولوا إلى ضحايا.

الاحتلال الإسرائيلي يُعيّر العرب بأنظمتهم المستبدة، وهو يعلم أن شرط بقائه واستمرار احتلاله هو هذه الأنظمة التي أخرجت المنطقة العربية من التاريخ وحولتها إلى ملاعب للقوى الإقليمية والدولية. 

IV 

غير أن الغزو الروسي لأوكرانيا أتى ليفاجئنا بالمدى الذي وصل إليه انهيار القيم في العالم.

الحرب الأوكرانية يجب أن تُقرأ بصفتها منعطفاً استراتيجياً في بلورة استباقية لحرب باردة يستعد لها العالم مع الصعود الاقتصادي الصيني المذهل، ومع عودة الروح إلى المشاعر القومية الروسية المصابة بجروح عميقة.

وهي تعيد أوروبا إلى واقع تناسته طويلاً، وهي أنها أرض صراع، وفيها وعليها يدور الصراع الإمبراطوري الجديد.

غير أن هذه القراءة لا تزال سابقة لأوانها، فالصراع ما زال في بداياته، والآثار الكبرى للحملة العسكرية الروسية لم تتضح معالمها بعد. فالعالم يشهد حرباً طويلة ومفتوحة، تُستخدم فيها الأسلحة العسكرية والاقتصادية كافة.

غير أن المثير في تداعيات الحرب الأوكرانية هو نتائجها الثقافية التي برزت إلى السطح بسرعة، كأنها كانت تختبىء وتتحيّن الفرصة كي تتحول من خطاب أقلّوي يتبنّاه اليمين الأوروبي العنصري، إلى خطاب عام.

هل يحقّ لأحد أن يقول أنه فوجىء بالخطاب العنصري الذي ساد مع بدايات اللجوء الأوكراني إلى الدول الأوروبية المجاورة؟

العنصرية التي شهدنا بعض نماذجها خلال مرحلة اللجوء المأسوي السوري، تحولت اليوم إلى خطاب عام وسائد.

"هؤلاء أوروبيون وبيض وعيونهم زرقاء ومسيحيون مثلنا، وليسوا كالسوريين والعراقيين والأفارقة والأفغان."

التعاطف الأوروبي مع اللاجئين الأوكرانيين واجب إنساني أكانوا بيضاً أم سوداً، ولا سيما أن الولايات المتحدة دفعت الحكومة الأوكرانية إلى الهاوية، عبر تحريضها على طلب الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وبذلك تم تحويل أوكرانيا إلى ساحة للصراع بين القوتين النوويتين الكبريَين.

غير أن هذا التعاطف أتى محملاً بلغة عنصرية فجّة كشفت دلالات المواقف الهستيرية في مرحلة تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا.

إن فكرة التضامن بين البشر حين تُحبس ضمن لغة عنصرية تصير أداة كراهية، وتفقد معناها.

من جهة ثانية تأتي اللغة القومية الروسية بلهجتها المتغطرسة، وطموحاتها الشوفينية لتصبّ الزيت على نار الروسيو- فوبيا، وهو مرض يصيب المجتمعات في الغرب الأوروبي والأميركي، ويهدد بتحويل العزلة الروسية إلى أداة دمار شامل.

ليس مستغرباً أن يلجأ بوتين إلى لغة الاستعلاء القومي، أو أن يندفع إلى الإطاحة بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، لكن المستغرب هو أن يكون الرد على النزق الروسي من خلال نزق أميركي وأوروبي يأخذ العالم إلى حفرة عنصرية مثل ذلك المشهد الجامعي المريع في ميلانو حين تقرر التوقف عن تدريس أدب دوستويفسكي.

مَن أوحى لهذا العُته بأن الأدب تؤطره الحدود القومية؟

إن ملامح الفاشية بدأت تظهر في كل مكان، كأن العالم في زمن هيمنة النيوليبرالية والعولمة، فَقَدَ صلته كلها بتاريخ طويل من الشقاء الذي أنتج نضالاً أممياً وثقافة إنسانية تدعو إلى الحرية والمساواة. 

V 

حاولنا أن نقرأ دلالات الفضيحة الثقافية والأخلاقية الإسرائيلية في الطنطورة، فوجدنا أنفسنا في خضم الحرب الأوكرانية، وفي مشاهد الدمار واللاجئين التي تذكّرنا بواقعنا في فلسطين وسورية ولبنان حيث صارت الأوطان أسماء أُخرى للمنافي.

هذا الشعور بوحدة العالم بدأ يخيفنا.

كيف نقاوم هذا الانحدار إلى الهاوية؟

شرح لنا ابن خلدون أن المغلوب يقلّد الغالب. كان صاحب "المقدمة" يتكلم على المستوى الحضاري، ولم يطرح على نفسه سؤال تقليد المغول والتتر الذين حولوا بغداد ودمشق إلى ركام.

أمّا اليوم فالسائد هو تقليد البربرية التي تطل برأسها من الحرب الأوكرانية.

الغزو الروسي من جهة، والردّ عليه من جهة أُخرى. بل نستطيع أن نتكلم عن فخ أميركي للروس، ضحيته الأولى هي الشعب الأوكراني.

وسط هذه اللعبة السياسية الدموية، تعود اللغة العنصرية لتطل برأسها من شقوق هذا الصراع.

القيم الإنسانية تنهار، وقاحة أوروبية وأميركية تكشف عن عنصرية دفينة، وعن شعور أجوف بالتفوق، وسط لغة تسودها الكراهية والعنف اللفظي، وصلافة روسية تختزن خطاباً قومياً لا يقود إلّا إلى الخراب.

واللافت أن لا أحد بات معنياً بطلاء لغته، إنها لغة عارية وفجّة وسوقية تجتاح عالمنا من دون أي رادع. 

VI 

إسرائيل تتبنّى الخطابَين معاً: خطاب قومي – ديني يذكّرنا بالخطاب البوتيني عن حق روسيا في الاستيلاء على أوكرانيا لأسباب تاريخية- أسطورية، وخطاب عنصري ضد اللاجئين مصحوباً بالدعوة إلى التمييز بسبب الدين أو اللون.

في هذا التقاطع تقع الطنطورة.

الطنطورة هي فلسطين كلها. إنها تلخيص للمآسي في كفر قاسم، واللد، والشجرة، ويافا، وحيفا...

والممارسة الإسرائيلية لم تتغير، فالجريمة لم تتوقف في نابلس وجنين والقدس وغزة...

هل نقلد أحد المؤهلين للانتصار في هذه الحرب الأوروبية التي تهدد بالتحول إلى حرب عالمية، فنتوحش كي نقاوم الوحش؟

أم نحرس اللغة وقيم الحرية، ونبحث عن عالم جديد خارج دائرة البربرية الزاحفة؟