في ليلة الثلاثين من حزيران/يونيو 2002، حين اجتاحت قوات الاحتلال منزلنا القائم في البلدة القديمة في مدينة نابلس. كان صلاح، حينها، لا يزال مطارَداً، ومع وصول الجنود والآليات، استطاع أن يهرب، ليستمر في رحلة المطاردة. في البداية اعتقدنا أنهم يريدونه، وأنهم علموا بوجوده في المنزل، إلّا أننا اكتشفنا بعد وقت قصير أن أخينا صلاح لم يكن هو المقصود. فتبين بعدها أن الجنود المدججين الذين اجتاحوا منزلنا أرادوا اعتقال أختنا ليلى التي اعتُقلت، حينها، وحُكم عليها بالسجن مئة شهر.
كان صلاح لا يزال مطارَداً بين كرّ وفرّ وخطر دائم، قلّصوا احتمالات المستقبل إلى اثنين: إمّا الاعتقال؛ وإمّا الشهادة. وكان قد تزوج حديثاً، وباتت العائلة التي طمح إلى تأسيسها تعيش معه في ظروف انعدام الأمان والمطاردة. إلّا إن هذا لم يمنعه، أو يقف في وجه حب الحياة الذي جاء إليه على شكل ثلاثة أبناء، بنت وولدين. وكعادته، كان يواظب على نوم أطفاله بهدوء، وبحضوره، إذا سمحت الظروف، على أمل اللقاء غداً، وهو أمل لم يفقده طوال الأعوام الطويلة من المطاردة وانتظار المصير القادم بصورة جنود مدججين بالسلاح. وبعد شهرين من الإفراج عن ليلى، بعد سبعة أعوام وستة أشهر، فجّرت وحدة "دفدفان" شبابيك وأبواب منزلنا، ودخلوا من الشبابيك فحاصروه من جميع الاتجاهات، وكعادتهم، انهالوا عليه بالضرب حتى امتزج الدم بوجهه ليرسم ملامح جديدة، وكان هذا تحديداً في ليلة 8/12/2009. سمحوا له بتوديع أطفاله، الذين لا يزالون يعانون صدمة وداع الأب الحنون، بملامح مرسومة بالدم والاعتداء والضرب والحقد والغضب.
أحضروه إلى مركز الحلقة وجمعوا كل مَن كان في المنزل، ليس بهدف الوداع، بل للتأكّد من هويته التي يُحتمل أن ينكرها في أقبية التحقيق التي اختفى فيها قرابة أربعة أشهر، لم نسمع أي شيء عنه خلالها، لا مصيره، ولا مكانه، ولا حتى صوته. مضت هذه الأشهر الأربعة كأنها دهر. أمّ وزوجة وثلاثة أطفال، لا يعرفون شيئاً عن أب وابن وزوج، كان على الرغم من مطاردته الطويلة حنوناً وموجوداً ومطلاً على الجميع. بعدها تمكنت الوالدة من الحصول على تصريح بالزيارة، فانطلقت برفقة الولدين والابنة لتطمئن أولاً على ابنها الذي كان الدم يسيل من عينيه في آخر مرة شاهدته فيها، كما كان جسده محطماً من شدة الضرب. ومع وصولها، بدأ يداعب أطفاله من وراء الجدار الزجاجي، وباتت القبلة التي كان يمنحها لطفله قبل النوم، قبلة من وراء جدار زجاجي، وباتت المداعبة كأنها من خلف شاشة. أمّا الوالدة التي أرهقتها زيارات السجون منذ سنة 1989، فلا تزال تلبّي رغبة ابنها، على الرغم من السن والكبر والتعب، فتصطحب الأطفال، تعتني بهم، وتواظب على زيارة السجن الذي لا تزال الطريق إليه تعذبها منذ أكثر من 30 عاماً. هذا الاعتقال لم يكن الأول لصلاح، ففي المرة الأولى اعتُقل وهو في الصف الحادي عشر، خلال الانتفاضة الأولى، وتحديداً في سنة 1991، ولم يكمل عامه الدراسي، إذ أُصيب بالرصاص في كتفه وصدره خلال الانتفاضة الأولى، فدخلت إحدى الإصابات من الكتف واستقرت بالقرب من القلب. أمضى في السجن الاحتلالي 38 شهراً من أصل 60 شهراً، ومع قدوم السلطة الفلسطينية، بدأت إسرائيل بالإفراج عن الأسرى على دفعات. فكانت الأم ذاتها التي ذاقت مرارة زيارات السجون، تمضي الأيام على باب سجن نابلس، تنتظر الإفراج عن طفلها الذي كبر. وجاء خبر الإفراج في يوم خميس من أيام حزيران/يونيو، ومع شمس الظهيرة، خرج إلى جانب أسرى آخرين من باب السجن إلى المنزل الذي لم يكن بعيداً عن السجن، سيراً على الأقدام.
تبدو أعوام سجنه الأولى قصيرة جداً مقارنةً بالحكم الذي أصدرته بحقه محكمة الظلم القائمة في مستوطنة بيت إيل القائمة على أراضي رام الله والبيرة، ويعادل ثمانية وثلاثين عاماً، تُضاف إليها الأعوام السبعة من المطاردة التي تستنزف المقاوم وعائلته على عتبات المجهول، حيث الغد غير مضمون والخبر الكارثي متوقَّع في كل ساعة. فيوم الاعتقال، كان عمر الطفلة خمسة أعوام، أمّا الولدان، فكان عمر الأول ثلاثة أعوام والثاني عامان، أمّا اليوم فباتوا في عمر الشباب، ينتظرون والدهم الذي غاب والدم يسيل من عيونه، وهم بالكاد ينطقون حروفهم الأولى. كبروا على زيارات السجون ورؤية والدهم من وراء الجدار الزجاجي. وخلال الزيارات، كانوا يجلسون ويتحدثون عبر هاتف ومن خلف زجاج، ويرون والدهم وهو يتنقل في قاعة الزيارات بينهم وبين أولادي أنا، الذين يزورون والدهم، وخالهم صلاح، فيتنقل بين أبناء له كبروا وهم ينتظرون عودته، وبين أبناء أخته الذين يكبرون ووالدهم إلى جانبه أسير. فتتلخص شجرة العائلة في قاعة زيارات السجن، ويبدو السجن على الرغم من كل الظلم والموت والإعدام، مكاناً لاجتماع العائلة الفلسطينية، من أطفالها، البنت التي أصبح عمرها 18 عاماً، والولديْن اللذين أصبحا في عمر الـ 15 و16 عاماً، مروراً بالجدة التي تبلغ من العمر اليوم 72 عاماً، ولا تزال تنتظر الإفراج عن ابنها الذي خطفه الاحتلال، أولاً من الصف الحادي عشر، فطارده سبعة أعوام وستة أشهر، ثم حكمه ثلاثة عقود وثمانية أعوام، أمضى منها 13 عاماً حتى اليوم.
الأولاد يكبرون، أمّا الوالدة فتكبر هي الأُخرى، وتكبر أمنيتها في كل زيارة، على الرغم من تقدّم العمر، أن تراه محرّراً، وتعانقه في بيتها القائم في حي المدارس في نابلس، وألّا تكون الزيارة الأخيرة، إنها تعيش على الأمل، تخاف على طفلها المخطوف، وتخاف أكثر من فقدان الأمل، شريان الحياة.