Debating as an Educational Liberation Tool
Date: 
January 20 2022

الإنسان دائم البحث عن المعرفة، ويتعمق البحث أكثر إذا توفرت الأجواء التعليمية، التي تساهم في إثارة القلق والعطش للمعرفة، عبر الأسئلة والتساؤل والشك. هذه العبارة التي أبدأ بها مقالتي لا تعكس أبداً ما تم استنتاجه بعد التأمل بتجربتي المتنوعة في مجال التعليم في فلسطين. فقد اكتشفت من خلالها أن المؤسسات التعليمية والدينية والسياسية تقوم على إلغاء وتهميش الإنسان ودوره، وهدر كرامته كمتعلم، ولا تعترف به إلا كمستهلك لكل شيء، حتى المعرفة؛ لذا، هو متلقٍّ سلبي للمعارف الجاهزة. فلا مكان للتساؤل ما دام هناك إجابات جاهزة ونصوص مُعدة مسبقاً تدّعي الحقيقة، فالمعرفة معلبة في كتب ومناهج مدرسية ودينية وحزبية، وكي تنجح ما عليك إلا الإجابة عن الأسئلة كما هو مقرر، ولا داعٍ للإضافة والاجتهاد.

وهذا ما يؤكده لي بعض المعلمين/ات الذين ألتقيهم، فهم على استعداد لتشجيع الطلبة وتحفيز مهارات التفكير والتحليل في الصفوف ما قبل التوجيهي، لكن عند التوجيهي لا مجال لذلك، بل يحثون الطلبة على الالتزام بالنص المكتوب في الكتاب.

التعليم الحالي لا يعترف بالتجارب والخبرات المرتبطة بحياة الإنسان، ويقدس الشهادات التي تمنحها المؤسسات الرسمية، ولا يعترف بأن لكل فرد عبقريته الخاصة.

يعكس مسار العمل الذي نقوم به ضمن المناظرات الطلابية إلى التحرر مما خلقته وتخلقه المؤسسات التي ذكرتها، بشأن الإنسان والتعلم والمعرفة. وقد تأثرنا بالمدارس الحديثة وبتجربة خليل السكاكيني التربوية في عشرينيات القرن الماضي، عبر أهمية (إعزاز التلميذ لا إذلاله)، والتعلم بالتجربة والاكتشاف، وتعزيز الاعتماد على الذات، وتحفيز روح المبادرة والحس بالكرامة.

كيف يكون الطلبة شركاء في تكوين معانٍ جديدة؟

هذا ما سعت له المناظرة التي انطلقت قبل عشرة أعوام، بمبادرة من مؤسسة "أفكار"، وبالتعاون مع وزارة التربية والتعليم التي أتاحت لنا العمل مع عدد لا بأس به من المدارس والصفوف، وأتاحت لنا أيضاً تدريب مجموعات من المعلمين لمشاركة المؤسسة في تنفيذ المناظرة. كانت البداية بالاستماع إلى قصص الطلاب والطالبات والمعلمين/ات وأسئلتهم وهمومهم. وشرعنا في تحديد عناوين إشكالية تتعلق بالتعليم، وقضايا اجتماعية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان والمواطن، وبعد ذلك جرى تشكيل مجموعات طلابية، إحداها تتبنى مفاهيم معينة، على سبيل المثال، حق المرأة في العمل؛ والمجموعة الأُخرى تتبنى مفاهيم ضد عمل المرأة، ويدور السجال بحضور عدد كبير من طلبة المدارس حول مَن يستطيع الإقناع بوجهة نظره، وقد طُرحت عشرات العناوين والمجموعات، واحتدم الجدل بين المجموعات بأسلوب ديمقراطي، وشيئاً فشيئاً، تحولت "المناظرة" إلى نهج عملي تشاركي وتفاعلي قدم نموذجاً لتحسين نوعية التعليم والتعلم في فلسطين، وأوجد دفعاً وتحفيزاً للطلبة للخروج من الصندوق. 

عن معنى المناظرة

تنطلق المناظرة من مجموعة مفاهيم، أولها: إزالة القيود من العقول وإتاحة فرصة لتكوين رأي والدفاع عنه وسط تعدُّد في المواقف والسياسات داخل المدرسة والمجتمع. ثانياً: الاعتماد على أساليب علمية، كقاعدة معلومات يتولى الطلبة البحث عنها من مصادر متعددة، بما في ذلك التوقف عند تجارب ووقائع لها صلة بموضوع المناظرة، وقد ساهمت المناظرات والسجالات في إغناء عالم المعرفة فعلاً. ثالثاً: ممارسة الديمقراطية من خلال الإقرار بتعدُّد المواقف والآراء والأفكار واحترام الرأي المختلف والحق في الاختلاف، من خلال تبيان أوجه الاختلاف وكشف التناقضات في المواقف والسياسات الأُخرى ومحاولة إقناع الطلبة الحضور بالموقف الذي يعتقدون أنه صحيح، وقد ساهمت المناظرات في بناء ثقافة تقول إن لا أحد يمتلك الحقيقة كاملة، وفي تجاوُز منطق شيطنة المختلف. رابعاً: كشف مشروع المناظرة في العديد من المدارس أن لدى الطلبة قدرات مهمة في التفكير والبحث، وفي تحديد المواقف التي لم يستطع منهاج التعليم ولا سياسات التعليم الرسمي اكتشافها، وقد انعكست على ثقة الطلبة بقدراتهم المستقلة، وعلى مشاركتهم طاقم التعليم في التعلم وتبادل الأدوار.

  • استطاعت المناظرة أن توفر لفرح عطاطرة الأجواء للبحث في ركام ضجيجها وتخليصها مما خلقه النظام التعليمي الرسمي فيها من خوف الوقوف أمام الآخرين والتعبير عن ذاتها. تقول فرح: "كنت أبحث في ركام الضجيج عن حل، فجاءت المناظرة وبيدها المفتاح لأتخلص من الضياع الذي كان يرافقني بمجرد وقوفي على خشبة المسرح."[1]
  • أما ماسة مؤيد فقالت: "للوهلة الأولى لم تكن تجربة عابرة، ولمن لا يعرف موضوع ومجال المناظرة الذي بدا لي كأنه هامشي أو فرصة لملء وقت الفراغ، لكن التجربة أثبتت أهمية عرض وتبادُل الأفكار، إذ وفرت المشاركة في المناظرة فرصة لي لتطوير قدراتي الكلامية والذهنية وإدارة النقاش بشكل منطقي."[2]
  • "لم اكتفِ بتعليم نفسي هذه الأصول والأساليب، بل نقلتها إلى أهلي وأصدقائي وبيئتي المدرسية حتى أصبحت كل نقاشاتي بأدلة وبراهين وحجج"، هذا ما قاله فادي عودة.[3]
  • أمل أبو عرة قالت: "بالنسبة إليّ، هذا شيء عظيم، فلولا المناظرة لما كنت علمت بما للقراءة والثقافة من فائدة، غير ذلك يكفي أنها صقلت شخصيتي، عرفت معلومات سياسية وثقافية لم أكن أسمع بها. ومن كان يعلم بأنني أقف اليوم أمام أي إنسان وأتحدث وأناقش، أتحدث بهدوء من دون خوف أو توتر." [4]

 وعلى صعيدي الشخصي، تعمقت تجربتي في مسار "المناظرة" عبر اللقاءات الدورية مع الطلبة، وقد ساهم الإنجاز في تعزيز فكرة أن التعليم يمكن أن يكون أداة لتحرير الإنسان، وليس أداه سيطرة وفرض الخضوع كما يريد له البعض.. وشجعني هذا المسار على مطالبة القائمين على التعليم بالعودة والتعمق في تجارب التعليم فلسطينياً، وبصورة خاصة تجربة السكاكيني. إن تشجيع التعبير عن الذات بحرّية وبكافة الفنون التعبيرية وإقران القول بالعمل يمكن أن يعيد إلى التعليم الفلسطيني روحه.. لقد نجح مسار المناظرة بين الطلبة في تحفيز استكشاف الذات، وتعمّق معرفتها، ومعرفة العالم المحيط بهم، النجاح دفع الشركاء إلى تنظيم البطولة الوطنية لفن المناظرات، وقد لاحظنا التحسن الذي طرأ على ثقة المشاركين /ات بالنفس وبقدراتهم الذاتية، وبالمهارات التي قال المشاركون إنها انعكست إيجاباً على حياتهم وعلاقاتهم اليومية.

أستطيع القول إن المناظرات عززت قدرات الطلبة المعرفية، وشجعت استخدام نهج البحث والتحليل والاستنتاج وبناء الحجج والتفكير النقدي والمنطقي لفهم القضايا، وكرست العمل كفريق متعاون، ومهارات الحضور والحوار الهادىء الفعال.

 

[1] فرح عطاطرة، طالبة من جنين شاركت في المناظرة.

[2] ماسة مؤيد، طالبة من طولكرم شاركت في المناظرة.

[3] فادي عودة، طالب من قلقيلية شارك في المناظرة.

[4] أمل أبو عرة، طالبة من طوباس، شاركت في المناظرة.

 

انظر

Read more