وأنت في غيبوبتك، أو في هذه الإجازة الخطِرة التي ألمّت بك بعد عقدين من الاعتقال، وأخذتك لبرهة، بعيداً عن روتين السجن وأسلاكه الشائكة، وقريباً من الموت الذي تراكم على جرعات وحقن من الكراهية والتنكيل والإهمال الطبي.
على سريرك الذي، على الرغم من شلل جسدك وغياب وعيك، ومن أنهم بخلوا عليك بالعلاج، فإنهم لم يبخلوا عليك بسجّان مدجج بأدوات قمعه وزيّه العسكري، لتذكيرك حتى وأنت تصارع الموت بأنك أسير.
أعترف لك بأنني حاولت أن أكتب لك، وأن أكثر من جهة طلبت مني الكتابة عن وضعك وتجربتك وتفاصيل أُخرى، إلّا أنني فشلت. فالكلمات الجافة المعلبة لا تليق بك وبالموقف الذي تعيشه بين الحياة والموت والسجن والحرية. لذا، قررت أن أكتب لك بكلمات من واقعك وواقعنا الجماعي.
هل أبدأ من إضراب 2017 وحجم التنكيل الذي تعرضتَ له وأردت أن تلخّصه لي في جملة مقتضبة، وبكلماتك: "غير كل اللي شفناه من قبل"، أم إضراب 2004 الذي حوّله شارون إلى محاولة انتحار جماعية، وكنت أنت وأبناء جيلك ممن قاتلوا في الانتفاضة الثانية تعتبرونه تجربة للتعبير عن رفضكم إلقاء السلاح، وإشارة إلى استمرار الانتفاضة.
أذكر كل شيء، لكنني لا أعلم أيّ مقطع طفا على سطح ذاكرتك وأنت الآن غارق في غيبوبتك، هل ستعيد لك ذاكرتك الطليقة المتحررة من ثقل جسدك مشاهد الانتفاضة الأولى وبطلتك الشهيرة، أم الانتفاضة الثانية وبتقديم السمراء، أم ذكريات السجن والإضرابات عن الطعام ووجبات الغاز السام التي أطلقوها على الأسرى؟ ربما تعيد لك وجه أمك ووجوه أشقائك الأربعة، زملائك في الزنزانة! سأطّلع على ذاكرتك وعشوائية اللحظات التي يمكن أن تختارها وأروي لك قليلاً عني.
لا ليس عني بل عنك.
قررت ليلاً أن أكتب لك في الصباح. أوصلت أولادي إلى المدرسة. نعم، أصبح لدي أبناء منذ افترقنا قبل تسعة أعوام، وأصبحت أباً مطيعاً ومسالماً يهتم بطعامهم وتعليمهم.
بعدها توجهت في سيارتي إلى رام الله، إذ قررت أن أكتب لك من أقرب مكان تحبه، أقرب ما يكون من الشارع؛ لذا، خططت للكتابة من أحد المقاهي. في الطريق كنت أفكر فيك، وأسأل نفسي: لماذا أنت؟ إنه السؤال المحزن والقاهر الذي نسأله عندما نريد التعبير عن احتجاجنا الأخرس المكتوم على القدر.
إن لم تكن أنتَ أيها المقدام، سيكون حتماً أسير آخر نعرفه أكثر أو أقل، هذه الظروف المسمومة لا تنتج سوى السرطان والأمراض المزمنة. الغاز، والجوع، والطعام البارد الرديء، وعدم التعرض للشمس، واستنشاق الهواء المهرب من بين فتحات الشبك الصغيرة، لا بد من أن تنتج هذا الموت البطيء الذي لن يواجَه بأي علاج مناسب في شكله ونوعه أو توقيته، فالعلاج دائما متأخر ومنقوص بقدرة قاهر.
الطريق التي تحتاج إلى ربع ساعة يا صديقي استمرت أكثر من ساعة ونصف بسبب حاجز عسكري قرب مدخل رام الله الشمالي، وهذا منحني وقتاً أطول كي أفكر فيك، كما أنه زاد في حافزي إلى الكتابة، بعد أن باتت تحدياً. لم يكن يقطع تفكيري فيك سوى بعض السائقين الذين يتجاوزون عشرات السيارات، وما يخلّفونه من استياء وفوضى، لكن لا بأس بذلك في واقع البؤس.
والآن، أنا وأنت وحدنا؛ أريد أن أقول لك إن الحياة تسير كالمعتاد، أي أبعد ما يكون عن الطبيعي، أو لنقُل عمّا حلمتَ به وما يمكن أن تختاره لك ذاكرتك في هذه الغيبوبة التي ألمّت بك وأخذتك في إجازة، بعيداً عن روتين السجن المعتاد، هو أنني أجلس في مقهى لأكتب لك بدلاً من أن أكون بقرب والدتك، أو أغلق الشوارع تضامناً معك ومع زملائك.
الحرس أغلقوا الشارع المقابل لمقهاي ليتسنى لموكب الرئيس المرور بالسرعة التي يحتاج إليها ليتابع قضايا الوطن من مكتبه. هل قلت لك إنه اجتمع بوالدتك وقبّل رأسها أمام شاشة الإعلام الرسمي؟
صاحب بسطة بسيط مثلها، لا أعرف كيف علم بأنني أعرفك، فطلب مني "بوستر" لك. قال لي: "جيبلي بوستر لأبو حميد، بدي أتضامن معه". ثم علّق صورتك فوق قوائم الأسعار، بحيث لا يستطيع أحد إلّا أن يراك.
هذا يوم عادي جداً يا ناصر، أقصد غير عادي إطلاقًا ولا يشبه أحلامنا. إنه يوم تُزاحم فيه أخبارك أخبار الفساد وصراعات مراكز القوة وجولات المصالحة.
لا أعلم إن كنت أريد لك أن تعود من غيبوبتك إلى سجنك لتكمل المؤبدات السبعة، أم أن تكملها هنا في أحد مستشفياتنا، أو مستشفيات الدول العربية كما تطالب القيادة؟
كل ما أعرفه هو أنك في المكان الخطأ منذ عشرين عاماً، وأن مكانك هنا ينتظرك، وأن هذا الخطأ الذي أصبح عادياً تماماً جعل كل شيء نعيشه يتواجد في مكان غير مكانه، مثلي الآن في هذا المقهى، ومثلك في غيبوبتك، ومثل هذا الشاب بزيّه العسكري الذي يغلق الشارع كي يمر الموكب.