The Freedom Tunnel and the Media Apparatus
Full text: 

كان نجاح ستة من المناضلين الفلسطينيين في تحرير أنفسهم من معتقل "جلبوع" الإسرائيلي حدثاً استثنائياً بجميع المعاني من حيث ظرفه وتوقيته ودلالاته، ولذا ترددت أصداؤه في كل مكان، وكان بمثابة هزة أرضية زلزلت كيان المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي تصرفت خلال الأعوام الأخيرة على اعتبار أنها الأكثر تفوقاً في المنطقة وربما في العالم أيضاً، وخصوصاً مع النجاحات التي حققتها المنظومة الأمنية داخلياً وإقليمياً، الأمر الذي دفع بعض قادة الاحتلال إلى اتّباع سلوك فيه قدر عالٍ من التبجح والاستعلاء. ويمكن قراءة ذلك في العديد من التصريحات الصادرة عن رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو، حتى إن المنظومة الأمنية كانت رأس حربة في خلق مناخات قادت إسرائيل إلى تحقيق إنجازات سياسية كبيرة، وتحديداً فيما يتعلق بمنزلق التطبيع العربي.

أمّا فلسطينياً، حيث المعاناة مستمرة: ذاتياً، من ويلات الانقسام ومترتباته؛ وموضوعياً، من سياسات وجرائم الاحتلال المتواصلة والمكثفة في جميع مجالات الحياة لتكريس الاحتلال وإيصال الشعب الفلسطيني إلى حالة من الإحباط تجعله غير واثق بقدرته على تحقيق الحرية والاستقلال، فإن الأسرى يقعون في صلب هذه السياسة الإسرائيلية التي تقترف في حقّهم الجرائم الممنهجة برعاية كاملة من جميع مؤسسات الاحتلال السياسية والأمنية والعسكرية والقضائية، والمتصاعدة، بحيث نسمع كل يوم عن أسرى جدد واعتقالات، وعقوبات جماعية في حقّ الأسرى وإضرابات وجوع ومصادرة حقوق وتعذيب واستهداف الأطفال.

في ظل تلك الظروف، جاءت عملية "نفق الحرية" البطولية لتوقد مشعلاً منيراً في ظل فضاء معتم، ولتُدخل الشعب الفلسطيني، بصورة مفاجئة، في حالة من النشوة والثقة بالنفس، وتعزز الإيمان بأن ليس هناك من مستحيل إذا ما توفرت شروط الانتصار: الإرادة؛ التصميم؛ الإيمان؛ التخطيط السليم. فأن ينتصر ستة من أبطال فلسطين على منظومة الأمن الإسرائيلية يعني أن الشعب الفلسطيني قادر على الانتصار على الاحتلال إذا ما توفرت له الشروط التي كانت حاضرة بقوة في وعي الفرسان الستة أبطال "نفق الحرية"، فكان المشهد الأول في هذه الموقعة النضالية انتصاراً فلسطينياً مبهراً بالمعاني كافة.

ومع بداية الفصل الآخر من هذه العملية (الملاحقة والمطاردة)، ظهر البون الشاسع بين الأداء الإسرائيلي المؤسساتي المنظم والمحكوم بقوانين وقواعد وخطة، والأداء الانفعالي العاطفي الفلسطيني المحكوم بالارتجال والانفعال، وهو أمر عزز الاعتقاد السائد بأننا كأفراد، يمكن أن نتفوق على الاحتلال، لكن حين يكون الأمر محكوماً بالعمل الجماعي، فإن يد الاحتلال هي العليا، وذلك ليس بسبب التفوق في الإمكانات، وإنما بسبب القدرة على إدارة الأزمة بطريقة علمية ومنظمة. وما يهمنا هنا هو تسليط الضوء على الأداء الإعلامي الفلسطيني مقارنة بإعلام الاحتلال، وقدرة كل طرف على توجيه الرأي العام بما يخدم المصلحة أو الفكرة أو التوجه، وربط التطورات وتطويعها بشكل يعزز توجهاته ويخدم المشروع الأساسي الذي يعمل من أجل تحقيقه.

لا أدري بالضبط نسبة العارفين بحجم التأثير الإسرائيلي في تشكيل الرأي العام في فلسطين، وموضوعات البحث المتداولة يومياً في الشارع الفلسطيني، وسلّم الاهتمامات، لكنني ألاحظ أن هناك توجيهاً ممنهجاً للرأي العام الفلسطيني تشرف عليه جهات أمنية إسرائيلية، ويتم تظهيره كنتاج لتفاعلات داخلية من دون أي تدخّل خارجي. فهدف الاحتلال هو تخفيض مستوى ثقة الفلسطينيين جميعاً بقدرتهم على تحقيق الانتصار، وتعزيز القناعة بأن إسرائيل دولة لا تُقهر، وأن ما علينا إلّا التسليم والاكتفاء بمطالب حياتية، والتنازل عن الأهداف الوطنية التي من أجلها انطلقت الثورة وضحّى الآلاف من أبنائنا لتحقيقها.

مع نجاح العملية البطولية في سجن "جلبوع"، سعت إسرائيل لتحويل هذه الانتكاسة الأمنية الكبرى إلى فرصة من خلال اعتماد هدف رئيسي كُرّست جميع المؤسسات الإسرائيلية من أجل تحقيقه، والذي تتفرع منه مجموعة أهداف أُخرى. وكان واضحاً أن إسرائيل وضعت في سلّم أولوياتها، إعادة اعتقال الأبطال الستة وهم في قيد الحياة، بل حرصت أيضاً على أن تعيد الثقة إلى الشارع الإسرائيلي والمؤسسات الأمنية والشرطية والعسكرية، وأن تضخّ الإحباط في نفوس أبناء فلسطين، وعلى أن تبدو كأنها دولة قانون.

جميعنا يعرف أن الأسرى تعرضوا لاعتداءات وحشية بعد اعتقالهم، ولتعذيب عنيف خلال التحقيق، لكن الصورة التي أنتجتها المنظومة الإعلامية الإسرائيلية كانت مضللة للمتابع من بعيد لمجريات الأحداث، فنُشرت على نطاق واسع الصور التي يظهر فيها رجال الشرطة ومعهم شرطي، وهم يمسكون بأيدي الأبطال المعاد اعتقالهم ويدخلونهم إلى سيارات الشرطة بصورة هادئة بعيداً عن أجواء الانفعال والتوتر، كما ظهر الحرص على عقد جلسات المحكمة في مواعيدها من أجل إخفاء الصورة الحقيقية لطرق الاعتقال الوحشية التي يداهم الجيش فيها البيوت ويفجر الأبواب ويعيث فساداً وخراباً.

وفي المقابل، كان أداؤنا نحن الفلسطينيين مثقلاً بالأخطاء، فمن نشوة الشعور بالانتصار نبع السلوك العاطفي الجماعي في قراءة الحدث وأهميته وأبعاده ودلالاته، وكيفية الاستفادة منه على الصعيد الداخلي والخارجي. ومن أجل وضع هذه العملية البطولية في سياق كفاحنا التحرري ضد الاحتلال، وحتى في تقديرنا لقدرات أبطال العملية والظروف المعقدة التي واجهوها لمجرد نجاحهم في تحرير أنفسهم، حمّلناهم ما لا طاقة لهم به، وطالبنهم، من دون معرفة ظروفهم، بأن يكونوا أسطوريين وأن يتولوا إهداءنا مزيداً من الانتصارات، وأن يضخّوا في حياتنا المملة مزيداً من الإثارة لنملأ وقتنا وصفحاتنا. لكن ما إن تمكنت إسرائيل منهم وأعادت اعتقالهم، حتى ارتددنا على ذاتنا سريعاً، وبتنا نبحث بيننا، ومن خلال المواقع الإعلامية، عن مجرم كان سبباً في اعتقالهم. ومع تدفق الأنباء التي كان جزء منها غير صحيح، بل إنها في كثير من الأحيان تكون موجهة من طرف جهات أمنية إسرائيلية أعدّتها بعناية لتبدو كأنها أخبار صحافية، سارعنا نحن إلى نشرها وتحليلها وبلورة استخلاصات منها، متناسين أن الاحتلال لا ينشر هذه الأخبار للتعميم والتضليل والإرباك فقط، بل هو منشغل أيضاً فيما هو أعمق من ذلك كثيراً، وخصوصاً العمل على ضخّ الإحباط وعدم الثقة في نفوسنا، وصولاً إلى حالة من الشك الجماعي في قدرتنا على تحقيق أهدافنا الوطنية.

لقد حرص الاحتلال على عدم تصفية الأبطال الستة لأنه قرر منذ البداية أن هذا المشهد البطولي يجب أن ينتهي من أجل تحقيق أمرين: أولهما تعزيز الثقة بالمؤسسات الأمنية وإعادة الطمأنينة، وثانيهما إضعاف الروح المعنوية الفلسطينية وزرع الشك واليأس وعدم الثقة. ولو قمنا اليوم بتقييم أداءنا كأفراد وأحزاب وإعلام لوجدنا أننا في كثير من الجوانب، ومن دون أن نقصد، قد شطحنا بعيداً وحكمتنا العاطفة، وتفاعلنا مع كثير من الأخبار تماماً مثلما أراد لنا الاحتلال أن نتصرف، أو بالضبط مثلما افترض، وتحول كثيرون منّا إلى ماكينات إنتاج "أخبار عاجلة" وأسبقيات صحافية، ولم ندرك أن المعركة مع الاحتلال لم تُحسم ولم تنتهِ عند فوهة "نفق الحرية" بانتصار المحررين الستة، وإنما ستمتد حتى فصلها الأخير، وهذا ما كان يهمّ الاحتلال الذي يحرص على أن يكون هو مَن يكتب السطر الأخير بما يخدم استراتيجيته المستمرة منذ عشرات السنين، وهو إيصالنا إلى قناعة جماعية بعدم قدرتنا على تحقيق النصر عليه والوصول إلى تحقيق حقوقنا الوطنية.

يشعر الاحتلال بالقلق إزاء كل صورة من صور نضالنا ومقاومتنا فيها انطباع عن بسالة الفلسطيني وعناده وذكائه في إدارته للصراع. فعلى سبيل المثال، إن صورة الشباب الفلسطينيين في كفر قدوم وهم يفاجئون جنود الاحتلال ويأتونهم من حيث لم يتوقعوا ويرمونهم بالحجارة، تُظهر ضعف الجندي الإسرائيلي، وتتسبب بتآكل هيبة الجندي، ثم الجيش الإسرائيلي، ولا سيما أن هناك نقاشاً محتدماً منذ أعوام عن تآكل قوة الردع الإسرائيلية داخل المؤسسات الرسمية وبين مختلف الأحزاب، الأمر الذي يمثل مصدر رعب حقيقي للمؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية.

أستخلص من كل ما تقدّم لأقول إنه لا بد من امتلاكنا منظومة إعلامية رزينة وذات صدقية لتكون مرجعاً للمعلومة التي نريد نشرها، وأداة لبثّ الثقة لدى السواد الأعظم من أبناء شعبنا من خلال أداء تراكمي يحتكم إلى المهنية والدقة، متذكرين دائماً أننا في صراع مرير مع احتلال يسخّر أدواته كلها من أجل الانتصار، وإنه في المقابل علينا أن نعلم أن إحدى أهم الجبهات التي نقاتل عليها هي جبهة الإعلام وصناعة الرأي العام وطنياً وعربياً ودولياً. فالمناضل البطل يصنع المشهد البطولي، لكن تحقيق الفائدة القصوى من البطولة ليست مسؤوليته، وإنما هي مسؤولية جماعية تقع على كاهل كل مواطن في موقعه، فما أحوجنا إلى إعمال عقلنا في إطار تفاعلنا مع كل حدث، متذكرين دائماً أن المواطنة الصالحة هي مسؤولية علينا أن نمارسها كي نكون، كمؤسسات وأفراد، شركاء في هذا الصراع مع الاحتلال.

Author biography: 

قدورة فارس: رئيس نادي الأسير الفلسطيني.