هذا ما أطلقه محمود العارضة وزملاؤه على عملية النفق، وهذا ما أرادوا كتابته على جدار الزنزانة، قبل الولوج في النفق من أجل الخروج منه كما فعلوا. لم يتمكنوا من الكتابة وإبقاء الرسالة على الجدار، نظراً إلى تطورات اللحظة الأخيرة في حينه، لكنهم كتبوا الرسالة وطبعوها عميقاً في وجدان شعبهم، كل شعبهم، وكل أنصار ونصيرات الحرية في العالم.
الطريق إلى القدس هي رسالة، وهي رسالة فلسطينية إلى شعب فلسطين، وإلى شعوبنا العربية في الوطن العربي. فلا مكان لطرق التفافية، ولا لمسارات تُكثر الحديث عن القدس برمزيتها، بل وتتحدث باسمها، لكنها تبتعد عنها في كل خطوة تخطوها.
الحديث عن القدس يذكّرني بأمر آخر مختلف، لكنه التصق بالقدس وبالأسرى. كان ذلك في سنة 2011، حين نظّمت اللجنة الرياضية في القسم 2 من السجن ذاته ماراتون القدس. المسافة من مشارف غور بيسان إلى القدس تعادل ثمانين كيلومتراً. طول ساحة القسم نحو 35 متراً، وعرضها نحو العشرين، إن لم أكن مخطئاً. لكن الخيال الأسير حين يحرر ذاته يجد الحلول، فكيف تصل إلى القدس وأنت مكبّل بالسجن وقيوده، وكيف تُدخِل فلسطين في باحة السجن كي تخرج إليها؟ تم احتساب كل دورة ركض في الساحة بـ 65 متراً. رسم أعضاء اللجنة الرياضية الإشارات لتحديد مسار الركض، ومن لا شيء، فالطباشير ممنوعة والحجارة محظورة، وعليه استخدموا علب مخللات استعاروها من الكانتينا، وقام آخرون بتفكيك أكياس البطاطا إلى خيوط دقيقة استخدموها للقياس، ثم لتحديد حدود المسار، وتم اعتماد أسرى كمراقبين للمسار والطابور كي يلتزم الجميع بالتعليمات.
تم احتساب الوقت الضروري كي يقوم الأسرى بالمهمة وكي يصلوا إلى القدس. وبعد اعتماد المعادلات الرياضية اتفق الرأي على أن يتواصل الطابور مدة أسبوع، وخلال ساعتين متواصلتين ومن دون استراحة، يومياً من السابعة ولغاية التاسعة صباحاً. وهكذا انطلق الماراتون، وقد بلغنا نهايته وكنا 18 أسيراً بقينا حتى خط النهاية، وحصلتُ شخصياً على الرقم 18، لكن صديقي علي عمرية ابن إبطن، الذي تحرر في صفقة وفاء الأحرار، أبى إلّا أن يقدمني إلى المرتبة السابعة عشرة ليحتل هو المرتبة الثامنة عشرة، إذ تباطأ خصيصاً في اليوم الأخير كي يحدث ذلك.
للقدس مكانة في رسالة الأسرى، فالمسجد الأقصى المبارك هو أكثر محرّك لمشاعر الأسرى، كما أن الكثيرين، وبالذات من الأجيال الناشئة المعتقلين دفاعاً عن القدس، أو في الاحتجاج على اعتداءات الاحتلال على القدس والأقصى في مختلف أنحاء فلسطين. أذكر ما بين سنتيْ 2017 و2019، كنت في "قسم نابلس" في سجن الجلبوع، حيث كنت ألتقي الأسرى الشبان بكثافة، سواء في التدريس أو في الفعاليات وورشات النقاش الثقافية والسياسية، وقد شارك في الحلقات اثنان وثلاثون منهم. وحين كنت أطرح في إحدى الورشات سؤالاً عما يدفع الشباب إلى مواجهة الاحتلال والقيام بعمليات فردية، كان شبه إجماع على أن الخط الأحمر هو المس بالقدس والأقصى، وتلي ذلك اعتداءات الاحتلال على النساء والأمهات، وبالذات في القدس.
حين بدأت تتكشف وقائع التخطيط وحفر النفق وعملية الخروج إلى الحرية وتحرير الذات، سواء أكان ذلك بالرسائل التي بعث بها الأسرى الستة، أم بما يرشح من حيثيات التحقيقات من خلال المحامين وبعض المصادر الإعلامية، تكشّف أيضاً كم كانت الحالة الفلسطينية بحاجة إلى نفق يهزها، كي تصحو ولو موقتاً، وتكون عملية مراجعة، ليتعلم الجميع ما معنى الحلم، وما معنى الطريق إلى الحلم، وما معنى القيادة حين يكون محمود العارضة أول مَن خطط للنفق، وأول مَن بدأ عملية الحفر في 14/12/2020، وآخر الستة في الخروج منه بعد أن ضمن سلامة زملائه في مسيرة الثلاثين متراً تحت الأرض ونحو السماوات. لقد أراد أحرار النفق الوصول إلى الضفة وحماية حريتهم من خلال الناس، وإذا لزم الأمر من خلال الاحتماء بسجن السلطة الفلسطينية من السجن الإسرائيلي، ومن جيش الاحتلال. كما أرادوا، بحسب تصريحات العارضة وزكريا الزبيدي، تلقين الاحتلال ومؤسسته الأمنية درساً بأن لا شيء يقف أمام الحرية، وأن كل مخططاته خائبة في هذا الشأن.
حين سأل محققو الشاباك محمود عن مصيره بعد سبعة أعوام، هل سيحاول حفر نفق جديد، إذ كان النفق السابق الذي عمل عليه في سنة 2014، أي قبل سبعة أعوام، فأجاب: سأكون محرَّراً في صفقة التبادل مع "حماس"، والتي يكثر الحديث عنها، وأتجول في أنحاء الوطن. وقد رد عليه المحقق بادعائه: "لن نجري صفقة ولن نبادل جثث جنود"، فقال له محمود: لكن السنوار يقول إنهم أحياء. إنه صدام روايات، وفي هكذا صدام لم يقبل الفلسطيني، سواء بروايته وليس برواية الاحتلال مهما كانت. وفي هذا درس بأن احتلال المستعمِر للرواية هو وسيلته لتعميق احتلال الأرض والوطن وإرادة ضحاياه الذين لم ولن يستسلموا.
الطريق إلى القدس شعار، وفي حالة أسرى النفق الستة هو مشروع، فلا تلعثم عندهم ولا توجد أية فجوة بين الشعار والممارسة في هذا الصدد. فالطريق يمر من الوطن، من بطن أرضه، ويتجاوز مشقات ومخاطر حفره، ليخرج إلى الوطن. لم يفتش طريق الأسرى عن مكان آخر يلتف فيه على فلسطين كي يعود إليها، وربما لا يعود. لكنه يقبل أن يبقى في أرضها ويصرّ على ذلك مهما كان الثمن، فلا فرق عنده بين فلسطين وفلسطين، ولا يتوقف عند "خط أخضر" وهمي زرعه المستعمر في أذهاننا كي يعبث بجانبيه، بينما يريد لنا أن نلتهي به ونتوقف عنده. لم يأبه الأسرى الأحرار لأن يتيهوا إلا في أرض الوطن، وكل قطعة من أرض فلسطين هي قدس وهي حرية. فالطريق إلى القدس واضحة لمن يريد أن يصل.