زكريا محمد
القطيعة
لم أكن راغباً في أن أخرج للاحتجاج على شيء، إذ لديّ مشروع رواية وكتاب، وكنت مشغولاً بهما، ومهموماً لأنني لا أنجزهما بحسب الخطة. لكن ضميري لم يساعدني على أن أظل في البيت، فهناك أناس يُحبسون لأنهم يحتجون سلمياً، ويُسحل أهاليهم المطالبون بالإفراج عنهم. وعلى غراري، فإن زوجتي سلمى الخالدي لم تحتمل البقاء في البيت، ولا أن يُضرب الناس ويُسحلون على يد مَن يُفترض أنهم يمثلون القانون، وهكذا دفعنا الواجب إلى الخروج إلى الشارع.
حين وصلنا إلى دوّار المنارة وجدناه مقفلاً، بل تحول إلى ثكنة عسكرية. لم يكن هناك تجمع احتجاجي أو تظاهرة، وإنما قوى الأمن التي تحتل الدوّار. وقفنا على الرصيف، وكان عليه كثيرون آخرون قدّرنا أنهم، على الأقل، أفراد أجهزة أمنية بملابس مدنية، موجودون فقط ليدققوا السمع وينظروا هنا وهناك، وهكذا سمعوا حواري مع سلمى، فتوترت نظراتهم وحركاتهم.
ثم ظهر بشير الخيري – وهو حقوقي وقيادي في الجبهة الشعبية وأسير سابق – فوقف في وسط الدوّار، وكان الوحيد الذي تجرأ على الاحتجاج.
دار بشير حول الدوّار عدة مرات، ثم تبعته زوجته وابنته لحمايته على الأغلب، وكنا نراقب المشهد من الرصيف. بعد ذلك جاءت رلى دحّو المحاضرة في جامعة بير زيت، ووقفت إلى جانبنا، مقترحة أن نذهب لندعم بشير. قلت لها: "خلينا نتجمع بالأول وبعدين بنروح مجموعة"، لكنها ذهبت وحدها، قائلة: "ما بقدر أترك بشير."
أمّا نحن فنزلنا من فوق حديد الرصيف ووقفنا على طرف الساحة كي نبدو كأننا مجرد متفرجين على الرصيف، وكي نرى ما سيحدث. جاء خلدون بشارة - وهو مهندس معماري في مؤسسة رواق - ووقف بالقرب منا، وكذلك جاء محمد العطار – وهو مخرج أفلام وثائقية وناشط حقوقي. اقتصر الأمر على هذه القلّة، ولم يحدث أي تجمع، أمّا الراغبون في الاحتجاج فكانوا يمارسون حقّهم بعيداً عن الدوّار ويحاذرون الاقتراب منه، فأي إشارة من رجل الأمن الذي يرتدي ملابس مدنية كافية لاعتقالهم.
ذهب خلدون بشارة إلى بشير الخيري وعاد بعد دقيقة، فقد طلب عناصر الأمن منه أن يبتعد إلى حيث نقف نحن... كأنهم أرادوا تجميع مَن يريدون اعتقالهم في هذه البقعة.
سألت خلدون: ماذا حدث؟ فقال: "سألتهم شو صاير، فقالوا: هذا تجمّع غير قانوني. قلت لهم: أنا لا أرى تجمعاً، أنتم المتجمعون فقط."
أراد محمد العطار أن يمازحني، فأشار إليّ ضاحكاً، وقال: هذا الأشيب هو المحرض، خذوه."
وما هي إلّا دقائق قليلة حتى توجهت عناصر أمنية نحوي وأخذوني بالفعل. قالو لنا بلهجة آمرة: "هاتوا هوياتكم لو سمحتوا." أعطيناهم هوياتنا، أنا وخلدون ومحمد العطار، واثنان لا أعرفهما. لكنهم لم يسألوا عن هوية سلمى. ثم قالوا: "تفضلوا معنا." سألتهم: "نتفضل وين؟ بدكم تعتقلونا يعني؟" ردوا: "تفضلوا معنا". مشينا معهم حتى أدخلونا إلى شاحنة الاعتقال المركونة في طرف الساحة، وأغلقوا بابها.
كانت هذه أول مرة أُعتقل فيها من طرف سلطة يُفترض أنها تمثلني، الأمر الذي أثّر فيّي نفسياً. فأنا ابن منظمة التحرير، وأفنيت حياتي كلها وأنا أجري وراءها، وها هي هذه المنظمة، عبر وليدتها، السلطة الفلسطينية، تعتقلني، وأنا واقف عند الرصيف، لأنني في اعتقادها (أنوي) أن أحتج. لقد اعتقلتني على نياتي لا على أفعالي.
بعد دقائق دخل الشاحنة كمال أمين، وهو يحتجّ بأنهم يعتقلونه لأنه حاول أن يأخذ صورة للمشهد، فاقتنع أحد الضباط بكلامه وأخرجه من السيارة وأعطاه هويته. غير أني علمت فيما بعد أنه اعتُقل لأنه قال: "شو هذا؟ هذه ثكنة عسكرية"، فتبعوه إلى داخل محل لصديقه واعتقلوه هناك، فقد سمعه رجل أمن بملابس مدنية ينطق بكلمة "ثكنه"، فأشار إليهم فاعتقلوه.
في الشاحنة قلت لنفسي: "لقد اجتازوا الحدود، وقطعوا الخيط، ولم يعد هناك ما يربطنا بهم." كان الخيط يضعف منذ 15 عاماً، لكنني كنت أحاول ألّا ينقطع نهائياً، وها هو ينقطع على دوّار المنارة. في هذا اليوم، 25 آب / أغسطس، في السابعة وعشر دقائق، قُطع الحبل الذي يربطني بهؤلاء الناس... انتهى الأمر؛ صرنا نهائياً في معسكرين متعاكسين.
كنت أخشى منذ زمن أن أصل إلى هذه اللحظة، لكنني منذ مقتل نزار بنات، أحسست بأن هذه اللحظة تقترب، ويوم هجم رعاعهم بالعصي والحجارة والنبابيت على البنات في ساحة المنارة، اقتربت اللحظة أكثر فأكثر، وحين رأيتهم يسحلون ديمة أمين وناديا حبش، كان واضحاً أن الخيط سينقطع... وأنني سأقطعه، لكنهم هم مَن بادر إلى القطيعة في 25 آب / أغسطس. وضعوني في سيارة الاعتقال المشبكة، وقطعوا الخيط بيني وبينهم.
وفي سيارة الاعتقال كان شريط حياتي في منظمة التحرير يمر في لقطات متتابعة سريعة في ذهني... وكان ألمي عظيماً، الألم في شفتَيّ وفي يدَيّ، وفي عظامي، وفي عينَيّ، وفي قلبي. وردّدت في نفسي مقطعاً شعرياً لا أذكر مَن صاحبه:
ثمة ضوء ضئيل
ثمة ألم عظيم
وأنا أحاول أن أمسك هذا الضوء بعيني. أحاول أن أقنعها بوجوده.
أخذونا إلى المباحث، وهناك بدا لي أنهم لا يعرفون المعتقلين. لم يكن يهمهم أن يعرفوهم، وإنما كان هناك قرار بإلقاء القبض على كل مَن جاء إلى المنارة للاحتجاج، كل مَن يظهر من شكله أنه ينوي الاحتجاج أياً يكن اسمه وموقعه وتاريخه. فالهدف إفهام الجميع أنه لا كبير عندهم سوى الجمل، وأنهم سيدوسون على رأس كل مَن يفكر في الاحتجاج. ويبدو أن هذا القرار اتُّخذ على أعلى مستوى.
لكن اتصالات وردتهم بشأني، وهذه الاتصالات مع حملة الاحتجاج على وسائط التواصل الاجتماعي أربكتهم إلى حد ما، فقرروا إطلاق سراحي بعد عمل محضر تحقيق معي. رفضت توقيع المحضر، وقلت لهم: هذا اعتقال خارج القانون، وأنا لا أعترف به، ولن أوقّع أي محضر، حتى لو بقيت أشهراً في الاعتقال. وفي النهاية أعطيتهم المعلومات التي في بطاقة الهوية، وكتبوا سطراً واحداً من إملائي يقول: "هذا اعتقال غير شرعي وخارج القانون وأنا لا أعترف به." وضعت توقيعي على هذا السطر لا غير.
لم يسيئوا إليّ شخصياً إلّا في لحظة واحدة، فقد أدخلوني إلى غرفة واحد منهم ليس له شأن بالتحقيق معي، بل لنقص الغرف فقط. قعدت على الكنبة واضعاً رجلاً على رجل بشكل طبيعي، فاستنفر الرجل، وطلب مني أن أُنزل رجلي عن رجلي لأن هذا احتقار لمَن أجلس (ضيفاً!) عنده. فار الغضب في دمي، وتذكرت حادثة جرت في مركز استخبارات إحدى الدول الشقيقة حيث وضعتُ في أثناء التحقيق رجلاً على رجل، فجاء الضابط يغلي غيظاً، وضرب بقدمه رجلي فأسقطها عن أختها، وأسقطني معها. قلت للرجل: اسمع، لن أسمح لأحد هنا بأن يعاملني مثلما عاملتني استخبارات الدولة الشقيقة، فنحن لم نضيع أعمارنا كي نخترع واحداً مثلك يأخذ دور الاستخبارات الشقيقة.
غير ذلك، كانوا مهذبين معي، أمّا مع سواي فلم يكن الأمر كذلك، فقد رأى زملائي الشيخ خضر عدنان وهو يُضرب بقبضة واحد منهم.
***
هند شريدة
عيد العنصرة الفلسطيني
منذ استشهاد المعارض السياسي نزار بنات، أي منذ 24 حزيران / يونيو، وأنا أفكر في صناعة تقويم جديد ملازم للتقويم الميلادي الشرقي الذي أتّبعه، كوني أرثوذكسية، عبر "فَلَسْطَنَتِه" بعض الشيء، لأدرج التاريخ الحزين عينه، وأعنونه بـ "عيد العنصرة الفلسطيني".
تماماً، ومثلما كسر الرُّسل حاجز الخوف الذي كان يتملكهم، بعد أن كانوا يختبئون في "عليّة صهيون"، وأصبحوا يتكلمون بألسنة الروح القدس، ويبشّرون بعهد جديد، كسر مقتل نزار على يد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، حاجز الخوف لدى عامة الفلسطينيين، من جميع الأطياف والفصائل، ممّن ضاقوا ذرعاً بالنظام البوليسي القائم، والمستبد، وآثروا ممارسة حقهم في التعبير والتصويت، وإعلاء كلمة الحق ضد زمرة المنتفعين الواقعين في براثن الفساد السياسي، والذين يغلّبون مصالحهم الفردية على المصلحة الجمعية الوطنية.
وبالعودة إلى الروزنامة الحداثية الجديدة، أستطيع القول إنه، وفي عيد العنصرة تحديداً بحسب التقويم الشرقي الفلسطيني، حل الروح القدس على جموع الفلسطينيين الذين خرجوا من بيوتهم إلى الشارع، وباتوا يتكلمون بألسنة الحريات، مطالبين بالعدالة لشهيد الكلمة، ومبشّرين بعهد جديد يحسمه صندوق الانتخابات.
خرج آلاف الفلسطينيين إلى الشارع يهتفون بالعقاب لقتلة نزار، وبجملة من المطالب المدنية والدستورية التي كدسوها في نفوسهم على مر عقد ونصف عقد من الزمان، في إثر مصادرة الحزب الحاكم حق الشعب في التصويت في أربع دورات انتخابية لم تجرِ قط، أعقبتها صفقة مهينة لتبادل لقاحات فاسدة مع الاحتلال، لم نعرف بعد مَن هو ذلك "الشبح" المسؤول عنها. وبذلك، هبّت أجهزة القمع ذاتها التي قتلت نزار، لقمع المتظاهرين، في محاولة لكسر عنفوانهم بالاعتقال السياسي لجميع الناشطين، من الخلفيات كلها، حتى إن أحداً ذا تاريخ نضالي لم يسلم، بل نال كثيرون نصيبهم من الجُبّ العبّاسي. وعليه، فبركت الأجهزة القمعية تهماً تعسفية، وغير قانونية، أشبه بمزحات سمجة، كمَن يعيد النكتة الكلاسيكية العتيقة: "في مرة واحد حَبّ.. طحنوه"، حتى ضجر منها الضاحكون!
حدث بعدها أن اعتُقل زوجي - أُبيّ العابودي، مدير مؤسسة بيسان للبحوث والإنماء - ضمن اعتقالات الناشطين على يد سلطة أوسلو. كم شعرت بالوحدة حينها، وخصوصاً أنه لم يمضِ على تحرره بضعة أشهر من سجون الاحتلال، فشحذت همّة أطفالي، تماماً مثلما كنت أفعل عندما كنا ننادي بالحرية لـ "بابا أَبيّ" وهو في سجون الكيان الصهيوني، وعبّأتهم على أنهم "جيش بابا الوحيد"، وأن مهمتنا كعائلة أن نخرجه من السجن، فهتفت حينها بتهكم عالٍ: "يا دولة الحريات"، مثلما يخطب مسؤولونا على التلفزيون الرسمي الممول من خزينة المواطن، ورددتُ لازمة الهتاف صرخة في وجه المنظومة القمعية ذاتها: "لا للاعتقال السياسي". كان الهتاف الوحيد الذي أطلقته طوال الوقفة التي لم أعد أشعر بالوحدة فيها، إذ تكاتف حولي أهالي معتقلين آخرين، وحقوقيون، وأصدقاء، جددوا البيعة لصوت الشارع.
لم تصمد الوقفة طويلاً أمام جبروت الهراوات وغاز الفلفل. ولم يُخيّل إليّ ولا بأسوأ كوابيسي أن السلطة – على الرغم من إيماني الشديد بغبائها – وقحة إلى درجة الاعتداء على وقفة أهالٍ - لن أصفها بالسلمية، لأن مشهد الأطفال على الرصيف كفيل بإيصال الصورة - والاستقواء عليها. وتباعاً، جرى رشّي بغاز الفلفل، وضربي، وشدّي من شعري، وسحلي في الشارع إلى حين اعتقالي مع آخرين وأُخريات، بينما ظل أطفالي الثلاثة في الشارع ليلاً يبكون ويصرخون لما رأوه أمامهم، متروكين بعد أن رُشّ أيضاً جدهم - والد أُبيّ - الدكتور فهمي العابودي بغاز الفلفل، وهو أستاذ علم لغويات متقاعد في دائرة اللغة الإنجليزية في جامعة بيرزيت.
تلا الاعتقالَ اعتداء ثانٍ وثالث داخل مركز الشرطة بوحشية استهدفت الشبان، ومنهم: عُدَي العابودي، وهيثم سياج، وشادي عميرة، والصحافي عقيل عواودة، ثم ابتزازي لتوقيع تعهّد شكلي بـ "احترام النظام" - مثلما وصفه رجال الشرطة – في مقابل خروج أطفالي من نظارة رام الله، الممولة من الرجل الأبيض، صاحب خطاب حقوق الإنسان، لكني أصررت مع الأُخريات على رفض التوقيع.
أكثر ما آلمني في المشهد كله، الشرطيات اللواتي شتمنني، وكنّ متعطشات إلى النيل مني. فقد استغربت فعلاً بطشهن، بل ما زلت أشعر بالأسف حيالهن. فالمنظومة إياها التي تُجْحف بحقّهن في قانون الخدمة العسكرية، ولا تساويهن بالرجل من حيث الراتب والتقاعد والترقية، هي ذاتها المنظومة التي تستغل حاجتهن الاقتصادية، وتقوم بـ "تشييئهن" واستخدامهن أداة لقمع النساء الأُخريات "الداشرات" أمثالي، مثلما نعتوني، غير المواليات للحزب الحاكم، مثل المجموعة التي نالت نصيبها معي من الضرب والتهديد، والشتم والتحرش الجنسي، ومنهن: الطبيبة، والمهندسة، والأسيرة المحررة، والفنانة، والمحامية. وبهذا، تكون المنظومة العتيدة قد حققت صُوَرياً فقط، مطلباً جندرياً مرتبطاً بالنوع الاجتماعي، بإدماج منتسبات إلى قوى الأمن أمام مؤسسات "الأنجزة" المانحة، لكنها قطعاً، لم تقم بذلك من إيمانها الحقيقي والخالص بدور النساء في المجتمع.
لم يمضِ طويلاً على الاعتقال الأول الذي ترك أطفالي في صدمة نفسية عميقة، وهو ما أشعرني بالمسؤولية المضاعفة، حتى انهالت عليّ تساؤلاتهم التي أخجل من الإجابة عليها، ومعظمها يدور حول الفرق بين "السلطة وجيش الاحتلال"، كون القاسم مشترك بينهما، "فكلاهما يأخذ بابا منّا." وبعد فترة قصيرة لم تتعدّ الشهرين فقط، اعتُقل أُبيّ مرة أُخرى، في وتيرة مسعورة من أمن الدولة، هدفها التخويف والتركيع لإسكات الصوت، والاغتيال المعنوي لكل ناشطة تخرج كي تشارك في حراك الفضاء المدني، من خلال نشر الذباب الإلكتروني، وتداول صورها وفيديوهات مركبة لها خادشة للحياء، لترهيبها وإقصائها عن الشارع برمّته، الأمر الذي دفعني إلى التساؤل: أين وزيرة شؤون المرأة من هذا كله؟ ولماذا غيّبت نفسها طوعاً عن الاعتداءات المتكررة في حقّ الناشطات، ولم تصدر بياناً واحداً يدين هذه الاعتداءات؟!
يحاول النظام السلطوي ومؤسساته الرسمية المختطفة من الحزب الواحد، كالمنظومة القضائية وغيرها، تعطيل حياتنا كعائلة، وجرجرتنا إلى المحاكم في جلسات طويلة، بهدف تأديبنا وتثبيط عزيمتنا، لكن ذلك لم ولن يزيدنا إلّا قوة وثباتاً. رسالتنا واحدة: مستمرون، ونصرّح: "لن نعيش في جلباب الرئيس." وسنظل رافضين لمنطق التسحيج والتزمير، والتطبيل، ولن نكون "زكريا"، ولن نزوّج الفيل للفيلة، مثلما حدث في مسرحية "الفيل يا ملك الزمان"، فحبّنا للغناء والنشيد، سيزيد في إصرارنا على قيام الدولة التي نناضل من أجلها، وعليه، ستستمر احتفالاتنا في "عيد العنصرة الفلسطيني".
***
فادي قرعان
هل أصبح حَمْل العلم الفلسطيني تهمة؟
استجوبني أحد محققي مباحث شرطة مدينة رام الله والبيرة قائلاً: "هل تُقرّ بأنه كان في حيازتك عدداً من الأعلام الفلسطينية، عند اعتقالك؟"
صعقت، ثم ابتسمت، وأجبت: "نعم، وهل أصبح حمل الأعلام الفلسطينية تهمة؟"
لم أتوقع يوماً أن أُستجوب من طرف جهاز أمن فلسطيني بسبب حيازتي أعلاماً فلسطينية! لكنها مفارقة مؤلمة.
قبل ثلاثة أشهر، عمّ "إضراب الكرامة" أرجاء فلسطين التاريخية، احتجاجاً على مجازر الاحتلال في غزة، ومحاولته السيطرة على منازل أهالي الشيخ جرّاح، واعتداءات المستوطنين وشرطة الاحتلال الهمجية على سكان أهالي الداخل في اللد ويافا وحيفا. كان الإضراب ناجحاً، فلأول مرة منذ عقود تتوحد مكونات الشعب الفلسطيني كلها، من البحر إلى النهر، تلبية لنداء الإضراب الشامل، وفي تحدٍّ مباشر وصريح للاحتلال.
بعد وقت قليل على بدء الإضراب، شرع الآلاف من محافظة رام الله والبيرة يتجمعون في دوّار المنارة، وخرجت مسيرات حاشدة نحو المدخل الشمالي لمدينة البيرة بهدف الاشتباك مع قوات الاحتلال التي واجهت هذه الهبّة المجيدة بوحشية، فاستشهد عدد من الشبان، واعتُقل المئات في الداخل والضفة.
كانت صدمة الناشطين كبيرة عندما شاهدوا أجهزة أمنية فلسطينية تشارك في اعتقال بعض الشبان، في سعي لاحتواء الهبّة الشعبية وتنفيسها، وتتوّج سياستها القمعية باغتيال الناشط السياسي نزار بنات.
في إثر اغتيال بنات، انطلقت مسيرات للمطالبة بالعدالة، فقُمعت بوحشية تكراراً. وتصاعد القمع حين حاصرت الأجهرة الأمنية دوّار المنارة في رام الله في 21 آب / أغسطس لمنع مسيرة نظمتها مجموعات مدنية مطالبة بالعدالة لنزار، وعمدت إلى اعتقال شخصيات وطنية، منها: الأسير المحرر ماهر الأخرس، وعمر عساف أحد قيادات الانتفاضة الأولى، وغيرهما.
أدركنا، نحن الشباب، أنه ما لم نَتَحَدَّ هذه السياسة الجديدة بمنع التجمهر واعتقال الشخصيات الوطنية، فإننا قد نفقد حرياتنا، وأن الأمل الذي انبثق من الهبّة قد يختفي كلياً، فقررنا الدعوة إلى مسيرة في اليوم التالي، لنجد دوّار المنارة محاصراً مرة أُخرى، إذ كانت الأجهزة الأمنية تقوم باعتقال بعض المارة، ومنهم الشاعر زكريا محمد والأستاذ في جامعة بيرزيت خلدون بشارة.
قررت مجموعة منّا التوجه إلى مهرجان "وين ع رام الله" الذي كان يقام في الوقت نفسه، وعندما وصلنا إلى المكان ورفعنا صوراً لنزار بنات والأعلام الفلسطينية وشعارات مطالبة بالتغيير، ووقف الجمهور إجلالاً واحتراماً للشهيد، وبدأ بالتصفيق بحفاوة بالغة... أيقنت أن الشعب الفلسطيني ما زال بخير.
غادرنا موقع المهرجان، وما إن ابتعدنا قليلاً عن الجماهير، إذ بسيارة شرطة وشاحنة اعتقال تسيران نحوي بسرعة حتى ظننت لوهلة أنهما ستصدمانني؛ توقفت سيارة الشرطة وخرج منها أفراد قالوا لي ولصديقي إننا مطلوبان للعدالة، وكان برفقتي محامية وأسيرة محررة هي ناشطة سياسية، حاولتا حمايتي من الاعتقال، لكن كان واضحاً أن أفراد الشرطة أتوا بأوامر سياسية لاعتقالي، فاسمي كان معهم وصورتي كانت على جوالاتهم. وهنا، لا مكان للتحدث عن الحقوق والقوانين معهم، إذ قرروا اعتقال رفيقتَيّ معي، إلّا إن شجاعتهما صعّبت الأمر على أفراد الشرطة (الذكور)، فقد طالبتا بحضور شرطيات إذا كان لا بد من اعتقالهما، فارتدع أفراد الشرطة. وساعد في الأمر أن قائد الشرطة أراد مغادرة المكان (شارع البريد وسط رام الله) بأسرع وقت قبل تجمهر عدد أكبر من المارة.
وضعوني داخل شاحنة الاعتقال، ومن حولي شرطيان يحملان الكلاشنكوف، وسارت بي السيارة حتى وصلت إلى مديرية الشرطة في منطقة البالوع في مدينة البيرة.
في الطريق، سألني الشرطي الذي يراقبني: "أنت من أي حزب؟"، قلت له أنني لا أنتمي إلى حزب لكنني مع "فتح" الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، والشهيد سعد صايل، و"فتح" الكفاح، لكنني بعيد كل البعد عن "فتح" أبو مازن وحسين الشيخ. فتفاجأ الشرطي الذي ابتسم متنهداً كأنه يتفق معي. قلت في نفسي: دايتون لم ينجح كلياً، ما زال بعض أبناء شعبنا الذين يخدمون في الأجهزة بخير.
عندما وصلنا إلى مركز الشرطة أخذوني إلى طابق المباحث، وهناك وجدت نفسي مع خيرة أبناء فلسطين: الشاعر والباحث والكاتب الفلسطيني زكريا محمد، والمناضل أحمد نصر وهو من مبعدي مرج الزهور، والمخرج الفلسطيني محمد العطار الذي أخرج الفيلم الوثائقي "الجدار الحديدي"، والدكتور خلدون بشارة أحد رواد الأنثروبولوجيا في فلسطين ومدير مؤسسة رواق سابقاً، والأسير المحرر خضر عدنان الذي أضرب عن الطعام ٦٦ يوماً وهزم سجون الاحتلال بأمعائه الخاوية. كان الجو داخل الغرفة متوتراً جداً، فبعد لحظات من وصولي وخلال التحقيق مع الشيخ خضر عدنان، قام أحد أفراد الشرطة بالتهجم عليه وضربه. حقق جهاز المباحث مع كل منا بمفرده، وكنت آخر مَن دخل إلى غرفة التحقيق.
سألني المحقق عن حيازتي للأعلام الفلسطينية، وسجّل هذه التهمة في المحضر. نصحت المحقق بأن من المعيب أن يضع ذلك في المحضر، فقد يدخل التاريخ كأول فلسطيني يحقق مع فلسطيني آخر بتهمة حيازة الأعلام، إلّا إنه للأسف لم يأبه وواصل الكتابة. وعندما عدت إلى غرفة الانتظار، قلت لأحد أفراد الشرطة أن يزيل صورة الرئيس محمود عباس عن الحائط، فتفاجأ بالطلب وردّ بعفوية: "هذا ليس مكتبي".
وفي نقاش آخر قال لي شرطي أنه يشعر بالخجل بسبب تنفيذ زملائه لأوامر القمع، وأنه يتفق معنا على أن السلطة فاسدة، وأن كثيرين من زملائه في الأجهزة يشاركوننا الموقف ذاته، لكنهم يتخوفون من حدوث فلتان أمني، ولا يقبلون ممارسة دور القامع لأبناء شعبهم.
لاحظت أنه يوجد أقلية داخل الأجهزة الأمنية لا تحترم أدنى حقوق الناس والبعض يصدق أكاذيب قياداته وينفذ أوامرها من دون تفكير، لكن ما وجدته في محادثاتي أن أغلبية أبناء هذه الأجهزة غير راضين. قال لي أحد الضباط الأمنيين حين سألته كيف يتم إقناع شباب الأجهزة باستخدام هذه الأساليب الوحشية ضد أبناء جلدتهم، فأجاب: "إحنا بحضرونا فيديوهات الانقلاب في غزة 2006، وصور شباب الأجهزة ممّن تم رميهم من فوق البيوت وطخّهم في ركبهم، وبيقولولنا إذا بتنجح هذه المسيرات رح يصير فيكم هيك، وهذول الطالعين في الشارع بخدموا أجندات وحماس، إلخ، كي لا نراكم كبشر وإنما فقط كخطر. بعدين يُفاجأ ابن الجهاز بأنه يضرب أسيراً محرراً، أو دكتوره في الجامعة، أو حتى ابن عمه!"
أُفرج عن الشاعر زكريا محمد وأخبرونا أنهم لن يفرجوا عنّا، ووزعونا على زنزانات النظارة. حينها قال لي أحد الأصدقاء الذي يعمل في المباحث: "هذا القرار من فوق... والله أنا طلبت نفرج عنكم ونريح حالنا... بس هذا قرار سياسي."
وضعوني في غرفة صغيرة فيها ١٧ معتقلاً جنائياً، ولم يكن فيها متسع للنوم، ولم أستطع النوم في تلك الليلة. كما صادرت إدارة السجن حق المعتقلين الآخرين في استعمال الهاتف، وذلك كعقاب جماعي على إضرابنا عن الطعام، وكانت المفاجأة أن جميع المعتقلين في الزنزانة ساندوني ووقفوا معي. كان موقفهم قوياً وفعلوا ما في وسعهم لحمايتي وتأمين راحتي، من دون أن أطلب منهم شيئاً.
سألني المعتقلون عن الحراك وأهدافه، ودار نقاش عمّا إذا كان من الممكن إصلاح الوضع الداخلي الفلسطيني حقاً؛ وللأسف، فإن أغلبية المعتقلين عبّروا عن فقدانهم الأمل والثقة بهذه المنظومة، وعن رأيهم بضرورة التخلص من السلطة المتنفذة، لكن بأقل الأضرار. لقد سألوني: "قل لنا كيف [نتخلص من السلطة] وإحنا معكم؟"
في اليوم التالي، ساقونا إلى المحكمة، ومثلت أمام رئيس النيابة الذي رأيت محضر التحقيق عنده، وفيه أنني اعتُقلت لحيازتي عدداً من الأعلام الفلسطينية. قلت له إن من الأفضل عدم قراءة المحضر وإسقاط جميع التهم، وإلّا سيدخل التاريخ كأول نائب عام فلسطيني يتعامل مع "حيازة الأعلام الفلسطينية" كتهمة. ثم قلت له إن دوره هو حماية حقوق الشعب والدفاع عن العدالة، وإنه "يجب أن نحدد بوصلتنا: الدفاع عن فلسطين، أم الدفاع عن نظام فاسد؟"
تعامل رئيس النيابة مع هذا الطرح بهدوء، لكن كان من الواضح عدم ارتياحه، وقال لي "سأسمح لك بإضافة هذه التفصيلات لاحقاً"، غير أنه انتقل إلى ملف "الجرائم الإلكترونية" وتهم "إثارة النعرات"، وكان أمامه ملف ضخم فيه، على ما يبدو، منشورات لي على الفايسبوك أنتقد فيها الرئيس عباس. هنا، قررت الالتزام بالصمت بعد أن أصبح جلياً أن هناك ملفاً "جاهزاً" سيُستخدم لزيادة مدة اعتقالي، وقلت للمحامية إن من المؤلم أن الشاباك الإسرائيلي حقق معي قبل سنتين بسبب حملات أطلقتها على الفايسبوك، واليوم تحقق معي السلطة بسبب كتاباتي على الفايسبوك أيضاً.
تم تمديد اعتقالي ٤٨ ساعة، أنا والشيخ خضر عدنان الذي قرر أيضاً تحدي النيابة والمنظومة ورفض حتى وجود محامٍ ليمثله.
عدت إلى غرفة الاعتقال، وكان فيها رجل في السبعين من عمره شديد التعب لم يتحرك من سريره لفترة، ويبدو عليه المرض. وأود أن أشير هنا إلى أنه قبل عدة أسابيع توفي رجل مريض بعد ساعات من تحويله للمستشفى، وأن هذه الغرفة شهدت تفشياً لفيروس كورونا قبل أسبوعين.
يوم الثلاثاء زارنا ممثلون عن الصليب الأحمر، وكان معهم ممثل عن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، بينما ازداد الضغط الشعبي والدولي للإفراج عنا، بعد أن أصبح اعتقالنا قضية رأي عام. وعند الساعة السادسة مساء نُقلنا: الشيخ خضر، والأستاذ عمر عساف، والأسير المحرر لؤي الأشقر، وأنا، إلى زنزانة أُخرى، وبعد ساعتين، في نحو الساعة الثامنة مساء، حضر مدير السجن وأخبرنا أنه سيُفرج عنا، كما أخبرنا وكيل النيابة أن التهم أُسقطت.
عندما خرجت، تبيّن لي أن الضغط الشعبي والخارجي كان السبب في ذلك، وأن القيادة تراجعت أيضاً عن قرار منع التجمهر، فشاركنا في تظاهرة اليوم التالي في المنارة. كان ذلك انتصاراً صغيراً ومهماً.
أهم ما لاحظته أن الشارع الفلسطيني بخير، فجمهور مهرجان "وين ع رام الله" الذي وقف تحية لنا، وضباط الشرطة الذين اعتقلوني واعتذروا على تنفيذهم أوامر القمع، والسجناء الجنائيون في النظارة الذين ساندوا ورفعوا صوتهم من أجل التغيير، والأكاديميون والمثقفون الذين اعتُقلوا ورفضوا الانحناء، والشخصيات والقيادات الوطنية من جميع الفصائل ممّن التقيت بهم بعد الإفراج عني، والمؤسسات الحقوقية التي دافعت عن المعتقلين، والصحافيون الذين نشروا قصتي، كلهم يُجمعون، ومعهم الشارع الفلسطيني، على أن التسلط والقمع يشكلان عائقاً أمام النضال التحرري، وأمام بناء حياة كريمة للمواطن الفلسطيني، وأن الأفراد الذين في سدّة الحكم لا يمثلون إرادة الشعب.
ربما نختلف على أسلوب التغيير، لكننا لا نختلف على ضرورته، ومسؤوليتنا مواصلة العمل من أجل التغيير والتأكيد أن لا صوت يعلو فوق صوت الشعب.
***
خلدون بشارة
الفِرعَون وأبو الزكي: قصة من نسج الخيال تطابقت، مصادفة، مع الواقع
وقف أبو الزكي أمام القاضي لقضية أجهلها وتلا مرافعته العصماء مخاطباً القاضي: "يا سيادة القاضي، سأمسَخُكَ بَطَّة، وأُحنِّطُكَ، وأضعُكَ مع الفِرعَون في الأهرام."
ثم صمت.
هكذا روى لي شركائي في نظارة المحكمة قصة أبو الزكي الذي كان من نزلاء النظارة رقم 2 في شرطة البالوع - البيرة، عندما سألتهم عن قصته، هو الذي يبدو أنه خطب وُدّ الجميع ما عدا سيادة القاضي. أبو الزكي الذي يبدو أنه اسم حركي لشخصية مثيرة للإعجاب، محاط بهالة من الغرابة والكلمات المتقاطعة التي تنساب من فمه وقتما يرغب، فهو يتكلم بالألغاز، وعن المؤامرات الخارجية، والعشرين الكبار، وتهميش المناطق الطرفية، والفقر والجهل والتعليم. لم أستطع أن أجيب على أي من تساؤلاته، لا بشأن تطوير الريف الفلسطيني، ولا الجدوى من الربيع العربي، ولا عن سوء توزيع الثروة العالمية التي يتحكم فيها سبعة على حد قوله. طبعاً، أنا هنا أعطي تسجيلاً معقولاً لجمل تنقصها الأفعال والأسماء حيناً، والفاعل والمفعول حيناً آخر، وأنا لست هنا بصدد ترتيب جُمل أبو الزكي أو حل أحجية الكلمات المتقاطعة. ومع هذا، تبقى مرافعته أمام القاضي من أبلغ المرافعات التي سمعتها، وأوجزها وأقربها إلى اللغة العربية من حيث التركيب والجماليات. عندما ترافع أبو الزكي وأنهى جملته ضحك القلم والمحامي والنيابة والحضور وساد الهرج والمرج لحظات قبل أن يضبط القاضي المشهد ويرمي المتهم مجدداً في النظارة لأجل مسمى.
روى لي زملاء النظارة أنه حُكم على أبو الزكي ثلاث مرات في سجون إسرائيل: عشرين شهراً في المرة الأولى، وأربعين في المرة الثانية، وعشرين في المرة الثالثة. لا أعرف حقيقة ما هو الترتيب الأكيد لتلك الأحكام، وما هي التهم التي وُجهت إليه، لكن الأكيد هو أن أبو الزكي حُكم أكثر من مرة، وفي المرة الأخيرة عُرض على طبيب نفساني أشار بإطلاق سراحه فوراً لعدم أهليته للمحاكمة أو السجن. هكذا، أُفرج عن أبو الزكي بسبب الجنون (أو العبقرية المفرطة) لتتلقفه الشرطة الفلسطينية، وبغضّ النظر عن تهمته التي لم أتمكن من تجميعها أو حل كلماتها المتقاطعة بعد، وترميه في انتظار محاكمة أُخرى لا يوجد ما يبشر بأنها ستنتهي إلى شيء جديد.
هامش 1: أبو الزكي يريد أن يبني مملكة اللوتس على الأرض وينشر الربيع الجميل، فهذه الزهرة التي وُجدت في الصين والهند ومصر وغيرها من نواحي العالم، هي بالنسبة إليه، القاسم المشترك الذي يجمع الحضارات القديمة والمعاصرة. لماذا؟ يسأل أبو الزكي، وأنا لا أجيب. وبماذا أجيب وهو يؤمن بأن زهرة اللوتس ستسود الأرض وتسيطر عليها كإمبراطور جبار؟
هذه قصة أبو الزكي فما قصتي؟
"أنتم متهمون بالتجمع غير الشرعي، والذم والقدح بالسلطة الوطنية الفلسطينية، وإثارة النعرات المذهبية والطائفية في فلسطين."
هكذا تلا القاضي على أربعتنا التهمة التي أنكرناها لأن أياً من عناصرها لم يقارب الصواب؛ لم يكن هناك تجمّع كي يكون شرعياً أو غير شرعي، ولم يكن هناك ذم أو قدح للسلطة لأن ذلك لم يحدث لأن العنصر الأول (التجمع) لزوم حدوث العنصر الثاني (الذم والقدح) لم يحدث، وإثارة النعرات المذهبية والطائفية غير صحيح لا لعدم حدوث الحدث الأول لزوم حدوث الحدث الثاني، وحدوث الثاني لزوم حدوث الحدث الثالث (إثارة النعرات)، بل لانتفاء وجود شيء من هذا القبيل في حراكات الاحتجاج.
رد القاضي طلب المحامين إسقاط الدعوى لعدم اقتناعه بديباجة حقوق الفرد المكفولة في القانون الفلسطيني الأساسي، وطلب من المدعية العامة إحضار شاهد الإثبات في الجلسة المؤجلة لأربعتنا إلى يوم 21 / 11 / 2021.
طلبت من القاضي أن أرافع وسمح لي:
"يا قاضي، أنا أستغرب أن تسمح للنيابة بأن تأتي على ذكر نعرات مذهبية وطائفية في فلسطين، وهو أمر لا نعرف له وجود وعكس تربيتنا." هذه مرافعتي التي أشك في أن القلم وثّقها، والتي أعترف بأنها لم تكن ببلاغة مرافعة أبو الزكي ولا بجرأتها.
زميلي في الاعتقال المخرج محمد العطار، والذي لم أكن أعرفه قبل هذه الحادثة، كان أكثر بلاغة مني بقليل: "يا قاضي، الصراحة أنا هنا لأنني كنت ذاهب لأشتري خيار من أجل عمل السلطة العربية للمقلوبة التي طبخناها للتو. ويبدو أن الاحتلال لم ينجح في تهجيرنا من هذا الوطن، لكن يظهر أن هؤلاء سينجحون."
"إن شاء الله"، أجاب القاضي.
للقانون نص وروح. النص موجود في مواد القانون المطبوعة والمنشورة، وبحسب هذه النصوص تستطيع السلطة التنفيذية احتجاز مَن تشاء، والادعاء أمام القضاء على مَن تشاء، وتقديم الأدلة الثبوتية على خرق القانون. أمّا روح القانون فله علاقة بتفسير القاضي لحيثيات خرق القانون، ويهتم قبل أي شيء بالسلم الأهلي وإرساء العدالة وإحقاق الحق، وبما يضمن استمرار العقد الاجتماعي الذي يجمع المجتمع بوئام.
إذا كنت أريد أن أُشخص ما حدث معنا، وما حدث قبل ذلك مع أبو الزكي وكثيرين في الحجز من دون حكم أو في انتظار حكم في منظومة كئيبة، بطيئة وغير موثوق بها، لكنت اختصرته بـ "الصمم" أو عدم القدرة على السمع. فإجابة القاضي للعطار بـ "إن شاء الله ]يستطيعوا تهجيركم["، وإعادة أبو الزكي إلى الاحتجاز في نظارة مكتظة وقذرة وينقصها أدنى مقومات الوجود الإنساني، هو مدعاة إلى التساؤل عمّن هو "الزكي"، ومَن هو المجنون. لا شك في أن الفرعون ليس اسماً ولا لقباً، وإنما صفة للشخص الذي يدّعي معرفة الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، والذي تستمد الرعايا معرفتها ووجودها من كرمه. قد يتحول كل إنسان بسلطة مطلقة ومن دون رقابة ولا مساءلة إلى فرعون. سألوه: "مين فَرْعَنَك؟" فأجاب: "لم أجد مَن يردّني."