يقول مالكوم إكس، إن الرجل الأبيض الأميركي، في زمن العبودية، كان يختار فئة مطيعة من العبيد من أجل خدمته ومساعدته في إدارة شؤونه والقيام بالمهمات القذرة، في مقابل امتيازات كانت عبارة عن بقايا طعام الرجل الأبيض وثيابه المستخدمة، والنوم في ملحقات البيوت بدلاً من الحظائر، والثمن هو قمع هؤلاء لعبيد الحقل ومعاقبتهم إذا ما فكروا في التمرد على السيد الأبيض.
جولة عنف من أجهزة السلطة وأزلامها ضد المدنيين الفلسطينيين.
في فلسطين، اختلفت الامتيازات التي يقدمها الرجل الأبيض الإسرائيلي إلى عبيد المنزل، أي الفئة الحاكمة في السلطة الفلسطينية، لتأخذ الآن شكل بطاقات رجل مهم (VIP) ورجل أعمال (BMC) وامتيازات وتسهيلات أمنية واقتصادية يطول حصرها، في مقابل بقاء السلطة الذي بات مرهوناً بتقديمها خدمة وظيفية وحيدة هي حماية إسرائيل، بعدما فشلت خلال 28 عاماً منذ تأسيسها، أي منذ اتفاق أوسلو، في تنفيذ المهمة التي أُنشئت من أجلها، وهي قيام دولة فلسطينية على أراضي 67 عبر المفاوضات.
ليس هذا فحسب، بل إن حركة "فتح" التي رعت الاتفاق ووقّعته قيادتها، توقفت أيضاً عن كونها حركة تحرر وطني، وأُفرغت من مضمونها الثوري، وصارت الحزب الحاكم الذي تختبىء وراءه السلطة وأجهزتها الأمنية، وأصبحت بما تبقّى من رمزيتها، درعاً واقياً للدفاع عن السلطة وتبرير خطاياها داخلياً وخارجياً. فأعضاء "فتح"، في أغلبيتهم، باتوا موظفين يتقاضون راتباً خاضعاً للابتزاز، أمّا أعضاؤها وكوادرها الذين طالبوا بفصلها، كحركة وطنية، عن السلطة، فهُمّشوا وجرى إقصاؤهم.
القمع وسيلة للبقاء
لقد أصبح بقاء السلطة، كفئة حاكمة مسيطرة من خلال ما تقدمه لها إسرائيل من امتيازات، غير قابل للاستمرار من دون إحكام السيطرة على الفلسطينيين وقمعهم. وآخر تجليات هذا القمع هو قتل المعارض السياسي نزار بنات في 24 حزيران / يونيو الماضي، عبر تنسيق أمني كامل مع الاحتلال الإسرائيلي الذي سمح لقوات الأمن الفلسطيني بأن تصل بسلاحها ومركباتها إلى المنطقة H2 الخاضعة للسيطرة الإدارية والأمنية الإسرائيلية في الخليل.
لم يكن بنات، المرشح الثاني في قائمة "الحرية والكرامة" لخوض الانتخابات التشريعية التي ألغاها الرئيس محمود عباس، تابعاً لأي تنظيم سياسي فلسطيني، ولم يكن مسلحاً عند اعتقاله أو في أي يوم من الأيام، بل لم يكن محمياً من عشيرة، فهو من عائلة لاجئة صغيرة يعيش جزء منها في مدينة الخليل، ومَن تبقّى هم مهجرون في مدن ومخيمات الأردن. لذلك كان قرار اعتقاله بشكل وحشي وضربه بالعتلات الحديدية حتى الموت، على يد عناصر من جهاز الأمن الوقائي في الخليل، سهلاً على جهاز أمني يأخذ بعين الاعتبار جميع التوازنات العشائرية والعائلية والتنظيمية قبل أن يُقدم على عمل كهذا، خشية من ردات الأفعال.
شكّل مقتل بنات الذي كان معارضاً شرساً للسلطة الفلسطينية من خلال مقاطع فيديو يصورها وينتقد فيها أداء الصف الأول من المسؤولين الفلسطينيين بذكر أسمائهم الصريحة من دون مواربة، صدمة كبيرة في الشارع الفلسطيني. فقد تسبب قتله بخروج تظاهرات على مدار أيام، واجهتها أجهزة السلطة الأمنية بالقمع والضرب والسحل، وتشويه سمعة الصحافيين والناشطين والمتظاهرين، في تأكيد أن القمع هو القاعدة وليس الاستثناء، وأن القبضة الحديدية التي تحكم بها السلطة الأمنية الشارع لا تختلف عن العتلة الحديدية التي قتلت معارضاً سياسياً كان ينسف روايتها في مختلف الأحداث، ويقيم الحجة عليها بالمعلومة والأرقام والسياق التاريخي، وبطريقة كان يستحيل الرد عليه بالحجة. فعدد الاعتقالات الكثيرة التي تعرّض لها بنات، ومحاكماته المتعددة، لم يفلحا في إسكات صوته، فكان القتل قراراً.
تظاهرة احتجاجاً على مقتل بنات.
لكن، كيف وصل الأمر بسلطةٍ (المفترض أنها وطنية) تحت الاحتلال إلى أن تقتل معارضاً سياسياً غير مسلح، كل ما يملكه هو قناة في موقع "يوتيوب" لبثّ مداخلاته؟
وكيف انتهى الأمر بعشرات الصحافيين الفلسطينيين إلى أن يطلبوا، في 28 حزيران / يونيو الماضي، من مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة، توفير الحماية الدولية بعدما تعرضوا، بشكل متواصل، وعلى مدار أربعة أيام من تظاهرات خرجت احتجاجاً على مقتل بنات، للسحل والضرب من طرف مئات عناصر الأمن بالزي المدني؟
وكيف أصبح الاعتقال السياسي بسبب التعبير عن الرأي عبر منصات السوشال ميديا، أو بسبب الانتماء السياسي، أو تأييد المقاومة ضد الاحتلال، نهجاً لدى السلطة الفلسطينية التي بات نظامها السياسي بوليسياً مستنسخاً بالكامل عن أسوأ الديكتاتوريات العربية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى؟
في الأعوام القليلة الماضية، وصل الجميع إلى يقين بأن السلطة تتجه إلى مزيد من القمع كلما تقدم بها العمر، بل إنها باتت تستنسخ تجربة الأنظمة العربية الديكتاتورية. وهو يقين يعززه كثير من الشواهد وأهمها اختزال النظام السياسي الفلسطيني بمكوّن واحد هو السلطة التنفيذية التي يتحكم فيها الرئيس محمود عباس، وأشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة من المتنفذين وقادة الأجهزة الأمنية، وأبرزهم شخصان يُعتبران الأقوى في مطبخ القرار لدى السلطة، هما: وزير الشؤون المدنية وعضو اللجنة المركزية في حركة "فتح" حسين الشيخ المكلف متابعة ملف "المفاوضات اليومية" (أي ما يتعلق بمتابعة شؤون الفلسطينيين من تنسيق وتصاريح وأمور يومية تقتضي التنسيق مع إدارة الاحتلال "المدنية" الإسرائيلية)، ورئيس جهاز المخابرات ماجد فرج.
السيطرة على مفاصل السلطة.. والمنظمة
عملياً، اهتزت الحياة الديمقراطية الفلسطينية منذ سنة 2007، أي منذ الاقتتال الفلسطيني بين حركتَي "فتح" و"حماس"، والذي سيطرت بموجبه هذه الأخيرة على قطاع غزة بالكامل، فحدث الانقسام الذي لا يزال المجتمع الفلسطيني يدفع ثمناً فادحاً جرّاء استمراره. فقد عمد الرئيس محمود عباس في 22 كانون الأول / ديسمبر 2018، إلى إصدار قرار حلّ بموجبه المجلس التشريعي الفلسطيني الذي تسيطر "حماس" على أغلبية مقاعده، مستنداً إلى قرار من المحكمة الدستورية التي شكلها هو، بل إن قسماً آخر من قرار الرئيس الفلسطيني لم يتم تنفيذه، وهو متمثل في إجراء انتخابات خلال ستة أشهر، فغاب العمل التشريعي، وباتت السلطة التنفيذية سيدة الموقف والآمر الناهي.
لم يكتفِ الرئيس عباس بحل المجلس التشريعي، بل حرم نواب "حماس" من حقهم في التقاعد المالي أيضاً، كإجراء عقابي مألوف، إذ درج الرئيس على استخدام العقاب المالي ضد معارضيه، مثل وقف مخصصات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لمعارضتها قراراته، وهو أمر حدث أيضاً مع الجبهة الديمقراطية في الأعوام الماضية، وهذا في مقابل استخدام مال الصندوق القومي الفلسطيني، أي مال منظمة التحرير للترغيب، مثلما فعل عندما أعطى حزب الشعب الفلسطيني مخصصاته مسبقاً، دفعة واحدة ولمدة عام، لحل أزمته المالية، مكافأة له على عدم مقاطعته جلسات المجلس الوطني في سنة 2018.
فالصندوق القومي الفلسطيني وقع كاملاً تحت سيطرة عباس بعد التئام المجلسَين المركزي والوطني الفلسطيني في مقر المقاطعة في رام الله في آذار / مارس 2018، وعقب انتخاب عباس رئيساً للجنة التنفيذية بالإجماع، والموافقة على الأعضاء الذين رشحهم لعضوية اللجنة التنفيذية، بعد مقاطعة الجبهة الشعبية وشخصيات مستقلة، واستبعاد آخرين من الترشح من أعضاء "فتح" ومن خارجها، وهذا كله بإشراف متنفذين في "فتح" وأجهزة الأمن، الذين هندسوا العضوية بعناية، بحيث تم، بالتصفيق، وليس بالاقتراع السري، انتخاب عباس رئيساً للمنظمة والدولة الفلسطينية، واختيار أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
إلغاء الانتخابات التشريعية بنصيحة إسرائيلية
وتوالت سياسة حكم الفرد لترسيخ السيطرة على جميع مفاصل السلطة الفلسطينية التي أصبحت "دولة عميقة"، لكن من دون دولة. فبعد أعوام من المطالبة بعقد الانتخابات التشريعية لإنقاذ النظام السياسي المتهالك من الانهيار التام، أصدر عباس في مطلع سنة 2021 مرسوماً رئاسياً يقضي بإجرائها في أيار/ مايو، لكنه أمر بإلغائها قبل يوم واحد من بدء الدعاية الانتخابية، بذريعة "رفض إسرائيل إجراءها في القدس الشرقية المحتلة"، وهو أمر لم يصدر رسمياً عن سلطة الاحتلال.
غير أن الفصائل الفلسطينية والقوائم الانتخابية التي تشكلت لخوض الانتخابات، رأت أن السبب الحقيقي في إلغاء الانتخابات هو الانقسام داخل "فتح"، بعد قيام عباس، بصفته رئيساً للجنة المركزية للحركة، بفصل عضو لجنتها المركزية ناصر القدوة قبل أن يؤسس قائمته الانتخابية "الحرية"، ويدعمه لاحقاً القيادي الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي، فضلاً عن قائمة ثانية للفتحاوي المطرود من "فتح" محمد دحلان، وقوائم منافسة أُخرى فتّتت الحركة قبل أن تبدأ معركتها الانتخابية، علاوة على احتجاجات كوادر "فتح" الواسعة والعنيفة، والتي استُعرض فيها السلاح تعبيراً عن رفض إقصاء بعض الكوادر عن قائمة "فتح" الانتخابية الرسمية، أو احتجاجاً على ترتيب الأسماء في القائمة.
أمّا السبب الجوهري غير المعلن، فهو أن رئيس الإدارة المدنية الإسرائيلية (أي منسق شؤون الاحتلال، وهي الجهة المكلفة من الحكومة الإسرائيلية بإدارة شؤون السكان الفلسطينيين تحت الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة) الجنرال كميل أبو ركن، أوصى في كانون الثاني / يناير، بحسب الإعلام الإسرائيلي، القيادةَ الفلسطينية بعدم إجراء أي انتخابات تشريعية في هذه الفترة، لأن ذلك سيزيد في فرص "حماس" في الفوز، ويشكل خطراً على أمن إسرائيل وعلى وجود السلطة في ظل تفتّت حركة "فتح" وانقسامها الداخلي، مذكراً قيادة الحركة بأنها لم تفز في سنة 2006 في مواجهة "حماس"، مع أنها كانت موحدة في ذلك الوقت.
جاء قرار الرئيس عباس بإلغاء الانتخابات في 30 نيسان / أبريل تحت عنوان "التأجيل إلى حين سماح إسرائيل بإجرائها في القدس"، من دون أي محاولة فلسطينية جادة لعقدها في القدس أو فرضها بالقوة إذا ما تعذر الأمر. وخلال اجتماع للقيادة لم يشاور فيه عباس أحداً من الفصائل الوازنة، أو القوائم الـ 36 التي كانت قد استعدت لخوض الانتخابات، بلّغهم الرئيس بقراره فقط، وسط احتجاجات خافتة من المجتمع المدني اقتصرت على إصدار البيانات.
السيطرة على القضاء
بعد نحو عام على حلّه المجلس التشريعي في سنة 2018، أصدر عباس في 18 تموز / يوليو 2019، قراراً بحلّ مجلس القضاء الأعلى، وإنشاء مجلس انتقالي لمدة عام، في مخالفة صارخة للقانون الأساسي الفلسطيني، كما أعاد تشكيل هيئات المحاكم في جميع الدرجات، وعدّل القرار الثاني في قانون السلطة القضائية بشأن سن التقاعد، محوّلاً العشرات من القضاة إلى التقاعد القسري، وهذا كله من دون علم رئيس مجلس القضاء الأعلى في ذلك الوقت عماد سليم، الذي اكتفى بالتعليق لصحيفة "العربي الجديد" يومها بأن "القانون لم يُعرض على مجلس القضاء الأعلى، وليس لديّ علم به."
هكذا سيطر عباس على هيئات المحاكم كافة، وتخلص من القضاة الذين دافعوا عن القانون الأساسي بإحالتهم إلى التقاعد المبكر، وعيّن مفاصل النيابة العامة ووكلاءها بعناية.
وكان عباس استبق قرارَيه المذكورين، بإصداره في سنة 2016، مرسوم تشكيل المحكمة الدستورية وتعيين قضاتها بشكل مخالف للقانون الأساسي، الأمر الذي رأت فيه المؤسسات الحقوقية والقانونية أهدافاً سياسية بالدرجة الأولى، وهو ما تأكد، حين أوجدت هذه المحكمة مخارج قانونية لقرارات الرئيس اللاحقة كلها، مثل حل المجلس التشريعي، ورفع الحصانة عن نواب في المجلس التشريعي معروفين بخصومتهم السياسية معه، وحل مجلس القضاء الأعلى، وغير ذلك من قرارات.
التغوّل في قمع الحريات
ولم يقف الأمر عند استباحة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بل إن المجموعة المتحكمة في القرار الفعلي تغولت على الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير والصحافيين، مستخدمة قانون "الجرائم الإلكترونية" سيىء الصيت، والذي صدر بقرار / قانون عن الرئيس عباس، وكُشف عنه في صيف سنة 2017 (قبل أن يُعلن رسمياً في ربيع سنة 2018)، من دون أن تتم الإشارة إلى الجهة التي صاغته، علماً بأن المرجح، وفق المعلومات في حينه، أن مَن صاغه هم المستشارون القانونيون في مكتب الرئيس، والنائب العام حينها أحمد برّاك الذي هرب من الضفة الغربية في 6 حزيران / يونيو الماضي، بعد أن اقتحم الأمن الفلسطيني مقر هيئة مكافحة الفساد التي كان يترأسها بعد منصب النائب العام.
هرب برّاك عبر المطار الإسرائيلي بتنسيق من الاستخبارات المصرية التي يحمل جنسيتها، ولم تُعرف الأسباب بعد، وبقي ملفه مثل أغلبية الملفات التي لا يمكن في نظام بوليسي، معرفة تفصيلاتها ومضمونها، لكنه لمّح لاحقاً، في منشور له في صفحته في الفايسبوك، إلى "أنه تعرّض للظلم من ذوي القربى!"
وحتى قبل أن يصدر قانون الجرائم الإلكترونية بإعلان رسمي، كان قد جرى حظر أكثر من 30 موقعاً إخبارياً إلكترونياً، كما اعتُقل عشرات الصحافيين والناشطين على ذمة هذا القانون، وتوالى بعد ذلك، حجب المواقع والصفحات الإلكترونية الإخبارية بقرارات من المحاكم بالجملة.
ومع أن من المفترض أن تكون النقابات حريصة على الحريات والدفاع عن أعضائها، إلّا إن معظمها كان قد تحوّل إلى نقابات أمنية لا تملك حتى حق تقرير موعد انتخاباتها، وإذا حاولت التمرد قليلاً، فإن المحاكم ستكون لها بالمرصاد.
فقبل أشهر قليلة، منع قرار قضائي نقابة المحامين من إجراء انتخاباتها الداخلية بالقوة، كما أن إجراء الانتخابات في نقابة الصحافيين غير وارد أصلاً، فنقيبها الحالي ناصر أبو بكر غير منتخب، مع أنه في منصب النقيب منذ أكثر من ستة أعوام.
نظام بوليسي بمراسيم رئاسية
لقد تأسس النظام البوليسي الذي يقوده الرئيس عباس من خلال مراسيم رئاسية ومئات القرارات / القوانين التي أصدرها الرئيس الفلسطيني في الأعوام العشرة الماضية. وهذه السلطة البوليسية بامتياز، تُعدّ فاجعة تستحق أن يدرسها علماء السياسة والاجتماع، إذ كيف لسلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال، وتطالب بالتحرر، أن تكون بهذا الكم الهائل من البوليسية المقيتة فيما يتعلق بالحريات وحالة حقوق الإنسان والقمع الممنهج؟
إنها سلطة تقمع مواطنيها، وتعتقل المعارضين وتقتلهم أيضاً، وتلاحق المقاومين وتسلم الاحتلال معلومات عنهم، مثلما جرى مع المقاوم منتصر شلبي الذي نفذ عملية إطلاق نار قُتل فيها مستوطن قرب حاجز "زعترة العسكري" جنوبي نابلس في 2 أيار / مايو الماضي، والذي ساهمت السلطة في اعتقاله، بحسب تصريحات متلفزة للإعلام العبري. لكن هذه السلطة في الوقت ذاته تقف عاجزة عن حماية أي رجل أمن ينفذ القمع بقرار منها من أن يُقتل عمداً أو بالخطأ على حواجز الاحتلال الإسرائيلي أو في اقتحام ليلي للمدن الفلسطينية، فقد اعترفت إسرائيل في أيار / مايو الماضي، بقتلها اثنَين من عناصر أمن السلطة، عن طريق الخطأ، على حاجز حوارة العسكري جنوبي نابلس.
الطوارىء... الاستثناء يصبح قاعدة
تمضي السلطة في مأسسة القمع وربطه بوجودها، عبر قرارات / قوانين رئاسية تخدم هذا الهدف. فقد ألغت السلطة أخيراً المادة 22 من مدونة السلوك التي تمنح الموظف العام الحق في التعبير عن رأيه، وأقالت رئيس المكتبة الوطنية، وزير الثقافة السابق إيهاب بسيسو من منصبه بسبب منشور في صفحة الفايسبوك انتقد فيه قتل نزار بنات، فضلاً عن إرسال إنذارات وعقد لجان تحقيق لموظفين آخرين، وتحديداً في وزارة الخارجية الفلسطينية، ليصبح شعار المرحلة "الراتب في مقابل الصمت".
أمّا الطريقة الأُخرى التي باتت السلطة تستخدمها بكثافة، فهي استخدام حالة "الطوارىء" التي تعطل بموجبها القانون الأساسي، وهي حالة استثناء أصبحت قاعدة، بعد أن جرى تعطيل القانون لمصلحة اتخاذ قرارات يصدرها الرئيس عباس، ولها قوة القانون. وضمن هذا المناخ البولسي الأمني، وبقوة حالة الطوارىء، جاء قتل نزار بنات، واعتقال العشرات من الناشطين السياسيين والصحافيين، وتحديداً الذين عبّروا عن دعمهم للمقاومة في معركة "سيف القدس" في أيار / مايو الماضي.
المشهد الأسوأ كان على مدار أيام السبت 26 والأحد 27 والاثنين 28 حزيران / يونيو، عندما اندفع من مبنى الرئاسة المعروف في رام الله بـ "المقاطعة"، مئات من عناصر الأمن بالزي المدني من مختلف الأجهزة الأمنية ، وجزء منهم من تنظيم حركة "فتح"، ليضربوا ويسحلوا المتظاهرين والصحافيين ويخطفوا هواتفهم المحمولة، وكان عدد من هؤلاء العناصر يحمل أسلحة حادة وعِصِيّاً إلى جانب الأسلحة النارية، تحميهم حالة الطوارىء، أي الاستثناء الذي حوّله الرئيس عباس إلى قاعدة.
فمنذ 5 آذار / مارس 2020 أعلن الرئيس عباس حالة الطوارىء تسع مرات منفصلة، وفي كل مرة كان يمددها شهراً واحداً، أي أن عباس أعلن حالة الطوارىء 18 شهراً بطريقة مضللة تحايل فيها على القانون الأساسي، فكيف كان يتم ذلك؟
بعد أن كان عباس يعلن حالة الطوارىء لمدة شهر، ثم يمددها شهراً آخر، كان ينتظر يوماً واحداً ليعيد إعلانها، لأن القانون الأساسي لا يسمح باستمرارها بشكل متصل ومتواصل.
ماكينة تخوين رسمية
في ظل القمع والقهر القائم، بات رفع الصوت ضد القمع لدى الناشطين والمثقفين والصحافيين، يواجَه باتهام من ماكينة الإعلام الرسمي وأدوات السلطة على "السوشال ميديا"، بأن هؤلاء الناشطين والصحافيين يتبعون أجندات خارجية، وأنهم ضد المشروع الوطني الفلسطيني.
وهذا الأمر يذكّر بإحدى نكات الفيلسوف جيجك سلافوي، عن زيارة الكاتب الشيوعي الروماني بانيت إستراتي للاتحاد السوفياتي في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، في زمن التطهيرات الكبرى، ومشاهدته المحاكمات المتنشرة آنذاك. فقد حاول أحد الموالين للحكم أن يقنع هذا الشيوعي الروماني بالحاجة الماسّة إلى العنف ضد الأعداء مستشهداً بالمثل الشهير: "لا يمكنك أن تصنع العجة من دون أن تكسر البيض"، ليجيبه إستراتي: "آه حسناً، أرى البيض المكسور، لكن أين هي العجة؟"
هذا بالضبط هو الحال التي لا تفارق الفلسطينيين الذين يقولون في هذه الأيام: نرى بيض السلطة، لكن أين عجة المشروع الوطني؟