Four Female Prisoners, Four Liberated Prisoners: Stories of Freedom
Full text: 

أن تدخل فلسطينية السجن لأنها فلسطينية، وتكون "تهمتها" الوحيدة، بمنطق العدو الصهيوني، أنها "مخربة"، أو أنها من دون "ترباية"، يعني العكس تماماً، أي أن هذا النوع من الفلسطينيين، المخرب جداً والذي من دون "الترباية" جداً، هو ما يقلق المستعمِر الصهيوني، سارق الأرض والجسد والذاكرة. وهذا النوع هو ما يحتاج إليه الفلسطينيون لوضع قضيتهم في ميزان العدل الوحيد، ميزان التحرر، لا ميزان الاستقلال فقط. 

يعرض هذا التحقيق المستند إلى حواريّة أُجريت في رام الله في أواخر تموز / يوليو، قصة أربع أسيرات حُرّرن مؤخراً من سجن الدامون المخصص للأسيرات في جبل الكرمل في حيفا، هن: ميس أبو غوش، وسماح جرادات، وشذى حسن، وإيلياء أبو حجلة. وقد سُجنّ، تباعاً، على خلفية نشاطهن الطلابي في جامعة بيرزيت، واتُّهمن، خلال التحقيق، بأنهن "مخربات" و"من دون ترباية"، وغير ذلك من ألفاظ نابية في محاولة لابتزازهن عن طريق سلخهنّ، نفسياً، عن حاضنتهن الاجتماعية خارج السجن.

إن نظام التحقيق الاستعماري نظام متكامل ومنظم، بدءاً من لحظات الاعتقال الأولى حتى انتهاء التحقيق، إذ أشارت الصبايا المحررات، وخصوصاً ميس أبو غوش وسماح جرادات اللتين خضعتا لأيام طويلة من التحقيق، إلى أنه خُصص لكل أسيرة ملف يتداوله المحققون في جولات التحقيق المتتالية، وكان كل منهم يضع ملاحظاته عليه. وكل جولة من جولات التحقيق معهن كانت تختص بواحد من الأبعاد الاجتماعية والإنسانية والسياسية، وذلك لإنهاك الأسيرة جسدياً وعاطفياً ونفسياً. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه كان يتم استغلال الأسيرات عبر حاجاتهن النابعة من تكوينهن البيولوجي، وذلك بممارسة الضغوط النفسية والجسدية عليهن، كحرمانهن من اللوازم الخاصة ومساومتهن عليها، وإرهاقهن جسدياً كتقديم الطعام السيىء لهن، وإخضاعهن للتحقيق القاسي.

نقدم هنا خلاصة للحوارية مع الأسيرات المحررات الأربع استناداً إلى تجربة الاعتقال الخاصة بكل منهن، بما فيها: الاعتقال، والتحقيق أو الاستجواب الذي خضعن لهما، وظروف المحاكمة، والنقل بين السجون بالـ "البوسطة" وغيرها. ثم نخصّص أربعة أبعاد لأهم قضايا الأسيرات، وهي: تجربة سجن "هشارون" ("معبار الشارون")؛ القضايا الشاغلة في سجن الدامون، ومنها: وسائل تواصل الأسيرات مع أهاليهن؛ التعليم داخل السجن؛ وضعية الأسيرات الأمهات والقاصرات. ونختتم الحوارية بتشخيص الأسيرات العام للوضع السياسي في فلسطين بعد "هبّة القدس" و"سيف القدس".

ميس أبو غوش: "احتضنتُ الفأر، وخفت أن تخنقني العصفورة!"

اعتُقلت الأسيرة المحررة ميس أبو غوش (24 عاماً) من منزلها في مخيم قلندية، بين القدس ورام الله، في فجر 5 أيلول / سبتمبر 2019، وهي طالبة إعلام في جامعة بيرزيت في عامها الدراسي الأخير، ومن عائلة لاجئة من قرية عمواس المهجرة في سنة 1948. خضعت ميس للتفتيش العاري في المنزل من طرف المجندات، وصودر العديد من الأجهزة الإلكترونية الخاصة بها وبالعائلة. وفور الاعتقال، تم تحويلها إلى حاجز قلندية للتفتيش مرة أُخرى والاستجواب، وقد وصفته ميس بأنه "أسوأ من مركز تحقيق المسكوبية"، إذ هُددت بالاغتصاب والضرب والسجن لفترات طويلة، كما جرت مضايقتها من طرف الجنود والمجندات بالسباب والشتائم والتعليقات الساخرة.

أمضت ميس 33 يوماً بين غرف التحقيق والزنزانات الباهتة والضيقة والمعزولة في المسكوبية، ومعتقلَي الرملة وعسقلان حيث تعرضت للتعذيب الجسدي والنفسي الذي اشتمل على ثلاثة أيام من التحقيق العسكري القاسي خضعت فيها لـ "شبح الموزة" والقرفصاء والشبح على الطاولة، وتم ترهيبها بالقول لها: "الكرسي اللي قاعدة عليه، سبقك عليها زكريا زبيدي" [أحد مؤسسي كتائب شهداء الأقصى في الضفة الغربية وقائدها في مخيم جنين، وأحد أبطال معركة مخيم جنين ضد قوات الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية] من أجل الفتّ من عضدها. وكان هذا كله يحدث على وقع استهزاء المحققين والمحققات بها، إذ تذكر ميس أن المحققات كنّ يشغّلن الأغاني ويرقصن في أثناء تعذيبها وشبحها، ويتوعدنها بالضرب الشديد. بعد ذلك، نُقلت ميس إلى سجن الدامون حيث بقيت حتى انتهاء محكوميتها التي بلغت 15 شهراً، على خلفية نشاطها الطلابي في جامعة بيرزيت.

إن تجربة ميس في السجن، مثلما تصفها، انتهت بمرارتها وقسوتها، إلّا إن ظروف التحقيق التي مرت بها وعايشتها انطبعت في الجسد والذاكرة. ولعل أبرز الأساليب التي استخدمها الصهيونيون على ميس هو الصدمة النفسية التي سعوا من خلالها لإضعافها جسدياً ونفسياً، كخطوة أولى قبل بدء التحقيق معها. وما تعرضت له ميس منذ اللحظات الأولى لاعتقالها حتى وصولها إلى حاجز قلندية، من ترهيب وتثبيط للمعنويات، واستفراد للجسد المنهك تهديداً وتفتيشاً وضرباً، ومهاجمة بالشتائم والكلام البذيء، وتهديد بالموت وبأنها لن تخرج سالمة من التحقيق، لا يعكس إلّا بذاءة المستعمِر وعدم شرعية وجوده وحقارة أساليبه. أمّا الضغط النفسي فتنوعت وسائل المحققين فيه، إذ تقول ميس إنه تم اعتقال أخيها الأسير سليمان أبو غوش في اليوم الثالث لها في التحقيق العسكري من أجل الضغط النفسي عليها، كما جرى استخدام العائلة والأصدقاء كورقة ضغط عليها، وخصوصاً زملاءها وأصدقاءها المعتقلين الذين كانوا يخضعون للتحقيق أيضاً، إذ جعلها المحققون تستمع إلى صراخهم وأصواتهم في أثناء التعذيب، وكان المحققون يستغلون ذلك لتخويفها بأن دورها في الضرب والتعذيب سيأتي. وتشير ميس أيضاً إلى أن المحققين حاولوا تثبيط عزيمتها عن طريق الضغط عليها بتلفيق التهم لها وإلصاق الأوصاف المشينة بها، في محاولة لسلخها عمّا يمكن أن يشكل لها حافزاً معنوياً داعماً في التحقيق، ذلك بأن سلخ الأسيرة عن محيطها العائلي الداعم، هو، تبعاً لتجربة ميس ورفيقاتها، أول ما يسعى له المستعمِر لاختراق وعي الأسيرة، وصدمها بالواقع. وليست الشتائم والتهديد، وتحضير لوائح اتهام طويلة تراها الأسيرة لأول مرة أو تسمع بها، إلّا أحد أساليب اختراق حالة "الاطمئنان"، أو حالة "المتوقع"، إذ يُنتظر أن يكون الأسير على علم بما سيحدث له في المرحلة اللاحقة، وذلك لإضعاف الأسيرة وتثبيط عزيمتها.

يضاف إلى هذا كله ما تعرضت له ميس، شأنها في ذلك شأن سائر رفيقاتها، من تهديد معنوي ووجودي داخل الزنزانة بوضعها في زنزانة قريبة من زنزانات السجناء والسجينات الجنائيين، الأمر الذي جعلها هي ورفيقاتها عرضة لشتائم وتهديد من طرفهم. وتضيف ميس أنه جرى إدخال "عصفورة" (جاسوسة متنكرة) إلى زنزانتها، تحت ادعاء أنها أسيرة معتقلة على خلفية حيازة سلاح. وقد عرفت ميس منذ اللحظات الأولى أن هذه الدخيلة غريبة ومشكوك في أمرها، لكنها في الوقت ذاته خافت على حياتها إذ تقول ميس: "كنت أخشى أن تقوم بخنقي وأنا نائمة." وهذا الموقف يحيل إلى أسلوب العدو في صناعة الخوف وتكريسه في مرحلة التحقيق سواء داخل زنزانات التحقيق أو زنزانات العزل التي من المفترض أن تكون "استراحة" للأسيرة بين جولات التحقيق المتبقية.

الحواس في غرف التحقيق مهددة على الدوام، فمثلما تخبر ميس، فإنها كانت تستمع إلى تعذيب أسرى آخرين، لكنها لم تكن لتميز هل هذه أصوات حقيقية أم مسجلة. وتضيف أنه كان يتم عرض "مسرحيات ملفقة" أمامها، كحادثة ضرب لأسرى افتعلوا مشكلات أمام زنزانتها في أثناء التحقيق معها، واستدعاء وحدة القمع "نحشون" لقمعهم وضربهم. والهدف من هذه المسرحية، مثلما تصفها، هو جعلها ترى الضرب أمامها لممارسة مزيد من الضغط النفسي عليها وترهيبها، مع ما يمكن أن يتسبب به هذان الأسلوبان من هشاشة نفسية قد تصيب الأسيرة، فضلاً عن تكريس حالة الشك لديها في كل شيء حولها في مرحلة التحقيق، كالشكّ فيما تسمع، وفيما ترى، وفيمَن يتعامل معها.

أمّا الزنزانة التي وُضعت فيها ميس خلال جولات التحقيق الطويلة، فتصفها بأنها صفراء وضيقة لا تتسع إلّا لفرشة واحدة، كما أن وضع الحمامات كان مأسوياً، فهي في بعض الزنزانات بلا باب، ومن دون ماء أو مناشف أو أي حاجات أُخرى تحتاج إليها الأسيرة، فضلاً عن الرائحة النتنة المنبعثة منها، والقاذورات التي تملأ الزنزانات، وهذا كله مترافق مع عدم استجابة حراس السجن لتنظيفها أو المساعدة في التخلص من الأوساخ أو منع فيضان مجاري السجن في الزنزانات ومكان النوم، إلى حدّ أن ميس وجدت نفسها مرة تحتضن فأراً كبير الحجم دخل إلى زنزانتها، واستمر في إقلاق نومها بالاقتراب منها. وقد ماطل السجان في الاستجابة لطلبات ميس بالانتقال إلى زنزانة أُخرى أو محاولة إخراج الفأر، الأمر الذي جعلها تشعر بالخوف من أن ينقل إليها عدوى أو حساسية ما.

ولعل من أبرز ما يعكس شجاعة ميس وإصرارها على تخطي هذه التجربة المرة، هو إصرارها على عدم نسيانها والبناء عليها. فميس، بذاكرتها وحواسّها كلها التي حاول المحققون إضعافها من خلال التحقيق، ما زالت تذكر وبالتفصيل، مثلما تقول، وجوه المحققين والمحققات و"العصفورة" (الجاسوسة) التي أدخلوها لتكون معها في الزنزانة. تذكر ميس ألوان عيونهم وشعرهم وأسنانهم وبنية أجسادهم، وأسماءهم المستعارة ولهجاتهم. لقد صنعت ميس في ذهنها، بدقة عالية وبحدقة واسعة، ملفاً شخصياً (بروفايلاً) لكل مجرم منهم، وهذا التذكر يشمل من دون شك ذاكرة التعذيب، إذ سجلت ميس وزميلاتها الأسيرات، ما استطعن تسجيله في الذاكرة التي لن تُهزم، ولن تضعف، والأهم لن تنسى.

سماح جرادات: "أخذني وقت لَعْرِفْت إنو كلمة "بو" بالعبري مش بس لمناداة الكلب!"

سماح جرادات (24 عاماً)، خريجة من جامعة بيرزيت، تقيم في رام الله، وتتحدر من عائلة من بلدية سعير في مدينة الخليل، وقد اعتُقلت من بيتها في مدينة البيرة بتاريخ 7 أيلول / سبتمبر 2019، على خلفية عملها ونشاطها الطلابي في جامعة بيرزيت، وحُكمت لـ 9 أشهر. خضعت سماح للاستجواب الأولي في منزلها، ومورست عليها الضغوط النفسية، إذ جرى استغلال مرض والدها في ذلك، فضلاً عن التفتيش الدقيق لها، ثم زُجّت في الجيب العسكري، ورُميت فيه من دون مراعاة لإجلاسها بشكل عادي. نُقلت سماح إلى معسكر "بسيغوت" (المقام على أراضي مدينة البيرة)، ثم إلى مركز تحقيق "عوفر" (في بيتونيا)، وبعد ذلك إلى "المسكوبية" في القدس المحتلة حيث احتُجزت في التحقيق 22 يوماً من دون السماح لها بمقابلة المحامي الخاص بها.

كان الجنود والمحققون يتعاملون مع سماح خلال التحقيق بالصراخ عليها بصوت عالٍ وبشكل مستمر، إذ يُعدّ الصراخ أحد الأساليب النفسية الممارسة ضدها، حتى عندما كان الأمر لا يتطلب صراخاً. وعلاوة على تهديدها بهدم منزل عائلتها، وبأنها ستمضي مدة طويلة في السجن، والضغط عليها عن طريق استغلال زملائها من جامعة بيرزيت ممّن جرى اعتقالهم أيضاً، فقد أسمعها المحققون صراخ زملائها وهم يخضعون للتحقيق، وجعلوها ترى ذلك عبر شبابيك غرف التحقيق، وهددوها بأن تخضع للتحقيق العسكري. وتضيف سماح أن التحقيق معها كان قاسياً، كما أن المحققات كنّ يقمن بالرقص والغناء أحياناً، والصراخ عليها أحياناً أُخرى. كانوا دائماً يصرخون عليها "بو، بو، بو، بو....."، وتقول سماح: "أخذني وقت لَعْرِفْت إنو كلمة (بو) بالعبري مش بس لمناداة الكلب."

وأشارت سماح إلى أن المحقق استغل كونها أنثى للضغط عليها في التحقيق، فحاول مثلاً مساومتها على الملابس النظيفة التي أرسلها إليها الأهل، وهددها بمنعها من الحصول عليها إلّا إذا قدّمت معلومات أو أدلت باعترافات. كما ضُغط عليها عبر استغلال وضعها الاجتماعي كفتاة تنتمي إلى عائلة من مدينة سعير في الخليل، ومن خلال محاولة المحقق تضليلها بادعاء أن عائلتها في سعير ستتبرأ منها، وسترفضها لأنها "مش مربّاية"، في إشارة إلى نشاطها الطلابي في الجامعة، واتهامها بتهم محورها الخروج على القيم الاجتماعية الفلسطينية.

وعن أوضاع العزل المادية في سجن "المسكوبية"، تقول سماح إن هذه الأوضاع كانت تعمل بشكل متكامل مع تكثيف الضغوط النفسية والجسدية عليها، كعزلها أحياناً في زنزانة قريبة من غرف التحقيق، بحيث كانت تسمع بسهولة أصوات ضرب الشباب، وفي أحيان أُخرى كان يتم عزلها في زنزانة بعيدة معزولة، ولم يكن أحد من السجانين يستجيب لندائها وصراخها.

أمّا فيما يتعلق بالعيادة الطبية داخل "المسكوبية" وسجن الدامون، فتتندّر سماح على المعاملة السيئة التي تعرضت لها، كردّ الممرض عليها حين كانت تشكو من ألم ما، بأن تشرب الماء، وكيف أنه في أحسن الأحوال، ومهما يكن العارض الصحي، فإنها كانت تُعطى حبة دواء صفراء (غير معروف نوعها وربما كانت مسكّناً). وفي سجن الدامون كان يتم تأخير مواعيد الفحص الطبي للأسيرات في إهمال كبير ومتعمد لوضعهن الصحي.

شذى حسن: "35 تهمة، وحكم إداري واحد!"

اعتُقلت شذى (23 عاماً) من بيتها في حيّ عين مصباح في رام الله، في فجر 12 كانون الأول / ديسمبر 2019، وحُكمت حكماً إدارياً لـ 5 أشهر و10 أيام، وكانت عند اعتقالها طالبة في جامعة بيرزيت، تتخصص بعلم النفس كتخصص أساسي، وبعلم الاجتماع كتخصص فرعي (تخرجت في الفصل الثاني من العام الدراسي 2020 / 2021). وكانت شذى تسكن في مدينة رام الله، وتتحدر عائلتها من قرية دير السودان (رام الله)، وقد عملت منسقة لأعمال مؤتمر مجلس الطلبة في جامعة بيرزيت. ومثلما تسرد شذى، فإن أصعب لحظات الاعتقال هي الساعات الأولى بجميع تفصيلاتها، بدءاً من المفاجأة بأن الاعتقال لها وليس لأحد أفراد أسرتها كما جرت العادة، وهذه الصدمة الأولى، في رأيها، تترك أثرها على الأسيرة. وطبعاً، هناك المعاملة السيئة من طرف المجندات والجنود بما يختصر أعظم الانتهاكات لحرية الإنسان، من تقييد المعصمَين، ووضع العصبة على العينين، والزجّ بالأسيرة في الجيب الحديدي والذهاب إلى المجهول.

وفيما يتعلق بظروف الاعتقال، فإن شذى تصف اللحظات الأولى لاعتقالها، فتروي كيف دارت مواجهات بين الشباب الفلسطينيين وجنود الاحتلال، وأن الجنود أطلقوا قنابل الغاز المسيل للدموع على الشباب، بحيث إن الغاز تسرب إلى داخل الجيب وكادت تختنق، لكنها تُركت من دون أي مساعدة من طرف الجنود لنحو ربع ساعة. وكانت محطة الاعتقال الأولى في معسكر "بنيامين - عوفر" قرب بيتونيا، حيث خضعت للاستجواب الأولي من طرف الضابط المسؤول عن ملف جامعة بيرزيت، والذي حاول تثبيط عزيمتها بالادعاء أنها ستمضي فترات طويلة في السجن، وأن الاستخبارات تعلم كل شيء عنها، وأن إنكارها لن ينفعها، وغير ذلك من الاتهامات التي كان هدفها الأساسي زعزعة ثباتها النفسي. احتُجزت شذا لخمس ساعات في زنزانة سيئة كان يتم التلاعب بدرجة حرارتها، فمرة تكون باردة ومرة تكون حارة، الأمر الذي ألحق الأذى الجسدي بها، ثم نُقلت إلى سجن "عوفر" الذي وصفته بأنه "ثلاجة الموتى" لطول ساعات الانتظار فيه ولشدة برودته، وقد خضعت فيه للاستجواب لثلاث ساعات ونصف ساعة، وجرى توجيه 35 تهمة ملفقة إليها، يدور معظمها حول نشاطها الطلابي في جامعة بيرزيت. وحين لم يثبت أي من هذه التهم عليها، حُوّلت إلى الاعتقال الإداري بادعاء أن لديها ملفاً سرياً في المحكمة لا يمكنها لا هي ولا المحامي الاطلاع عليه. وإمعاناً في تعذيب الأسيرة وإرهاقها نفسياً وجسدياً، لم يتم إخبارها بنتيجة الاستجواب ولا بخلفية اعتقالها، وإنما علمت بالمصادفة بنتيجة حكمها لثلاثة أشهر إدارياً، وذلك عن طريق سجين عربي سياسي كان معزولاً في زنزانة قريبة من زنزانتها في سجن "هشارون" الذي كانت قد بقيت فيه ستة أيام، قبل أن تُنقل لاحقاً إلى سجن الدامون الذي أمضت فيه بقية محكوميتها التي جُددت مرة أُخرى.

في حديثها عن التجربة، تروي شذى أن من أصعب المحطات في تجربة السجن هي البوسطة التي وصفتها بأنها "قبر متنقل" ضيّق على شكل قفص حديدي يُحبس فيه الأسرى لساعات طويلة في طريق الذهاب إلى المحكمة وفي الإياب منها، وأنه قفص بارد جداً في الشتاء لطبيعته الحديدية ولظروف عزل الأسرى فيه. وتضيف شذى أن هذه تجربة لا يمكن نسيانها من جهة الأحاسيس والروائح وجميع ما تتركه في النفس من مشاعر تختزن التجربة القاسية، وتقول أنها، ولأول مرة في حياتها، تشعر بهذا البرد غير المسبوق؛ برد الجو وبرد المكان وبرد الغرباء، وهو برد مختلط ببرد المجهول ومظلومية المستعمَر أمام صلف المستعمِر وعنفه. وعلى الرغم من المعاناة القاسية في رحلة البوسطة، فإن شذى وجدت فيها وسيلة للتسرية عن نفسها ومشاهدة المناظر الطبيعية للمناطق الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1948، والتي لم تشاهدها من قبل إلّا مؤخراً حين زارتها في رحلة تجوال. ومع أن زيارتها في البوسطة لم تكن رحلة، إلّا إن شذى تعاملت معها كوسيلة للتجوال البصري في الطبيعة الخلابة لأعالي الجليل، متناسية ولو لوهلة بسيطة، وجود السجن والسجان.

إيلياء أبو حجلة: "هذا أبوي وهو صغير، هذا أبوي وهو كبير!"

إيلياء أبو حجلة (21 عاماً)، طالبة في جامعة بيرزيت، وتسكن مدينة رام الله، ومن عائلة تتحدر من قرية دير إستيا، جنوبي غربي نابلس، اعتُقلت من منزلها في حيّ الطيرة، في فجر 1 تموز / يوليو 2020، بعد أن حضرت قوات كبيرة من الجيش الصهيوني وعلى رأسهم "كابتن" منطقة الطيرة وعين قينيا، و"كابتن" جامعة بيرزيت، وقد جرى اعتقالها بُعيد اعتقال زميلتها حنين نصار. ومنذ اللحظات الأولى للاعتقال، تسرد إيلياء أن الضابط المسؤول عن ملف جامعة بيرزيت أخبرها أن اعتقالها جاء على خلفية نشاطها الطلابي في الجامعة، وقد ترافق ذلك مع تخويفه إياها بأنها ستمضي في السجن أعواماً طويلة بعيدة عن عائلتها عامة، ووالدتها خاصة، مستغلاً الظرف الإنساني لإيلياء بوفاة والدها. أُفرج عن إيلياء في 10 أيار / مايو 2021 بعد أن أمضت 11 شهراً في سجن الدامون، منها 14 يوماً في سجن "هشارون".

تسرد إيلياء ظروف اعتقالها، بدءاً من ضربها في الجيب العسكري لدى محاولتها إزالة العصبة عن عينيها، كما أن إلصاق فوهة البندقية بخصرها كان تهديداً مباشراً لحياتها إن هي حاولت أن تريحَ يديها من عقدة القيود البلاستيكية المزدوجة، مروراً بتركها ثلاث ساعات تحت أشعة شمس تموز / يوليو الحارقة وهي جالسة القرفصاء، وعدم الاستجابة لمطالبها بإزاحتها إلى الظل. وسيستمر هذا المشوار المرّ باحتجازها أسبوعين في سجن "هشارون" السيىء جداً من جميع النواحي، وهي فترة انتُهكت فيها خصوصيتها، إذ لم يُسمح لها بقضاء الحاجة إلّا وهي مقيّدة اليدين وتحت مراقبة المجندة لها، ثم نُقلت إلى سجن الدامون.

خضعت إيلياء للاستجواب في معسكر "عوفر" لثلاث ساعات تمحورت حول عملها الطلابي في جامعة بيرزيت، وخلال فترة انتشار وباء كورونا، عُقدت لها محاكم إلكترونية مُنعت فيها أمها من زيارتها إلّا لمرتين فقط خلال 11 شهراً. وعن ظروف المحاكم الإلكترونية، تشير إيلياء إلى أنها لم تكن تُعطى الوقت الكافي للحديث مع المحامي الخاص بها، ولا لرؤية أمها عن طريق الشاشة إلّا لأقل من دقيقة، مع التعتيم الكامل والمتعمد لمجريات المحاكمة، وعدم إخبارها بنتائج المحاكمة إلّا بعد أن عرفت لاحقاً من محاميها بالحكم المفروض عليها.

ولعل من اللحظات الساخرة التي أشارت إليها إيلياء، أنه خلال مداهمة منزلها، سأل ضابط الاحتلال عن الصور التي تعلقها إيلياء على حائط غرفتها، وهي صور لشهداء ومناضلين وغيرهم... فحين سألها الضابط عن صورة الشهيد نديم نوّارة، في محاولة لابتزازها واستخدام ذلك ضدها في التحقيق، أجابت: "هذا أبوي وهو صغير!"، وعندما سألها عن صورة الحكيم جورج حبش، أجابت: "هذا أبوي وهو كبير!". كما تصف إيلياء، ومن دون أن تخفي غبطتها، هلع الجنود وهستيريتهم في الرد بإطلاق النار وقنابل الغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت على الفتية والشباب الذين أمطروا مركبات الاحتلال، بما فيها الجيب الذي كانت فيه، بالحجارة... مع أنها لم تكن متفائلة بأن الشباب سيقومون بتحريرها قبل الوصول إلى مركز التحقيق!

سجن "هشارون": محطة تعذيب وعزل

من أكثر المحطات إيلاماً وصعوبة في حياة الأسيرات هو سجن "هشارون". وتشير إيلياء أبو حجلة إلى أن مطلب إلغائه وإزالته هو على رأس قوائم مطالب الأسيرات، لأن الأوضاع فيه بأكملها تُعدّ الأسوأ على الإطلاق في تجربة السجن كلها، وخصوصاً أن فيه انتهاكاً فجّاً لخصوصية الأسيرات، كنساء أولاً، وكمعتقلات سياسيات ثانياً. وتفيد إيلياء بأن زنزانات هذا السجن الذي اعتُقلت فيه، هي غرف كانت تُستخدم لعزل الأسيرات قديماً، وبالتالي فإنها مهيأة لتكون غرف عزل فقط، لا غرف احتجاز، فهي غرف ضيقة ومتسخة وتفتقر إلى أدنى مقومات العيش. علاوة على ذلك، حُرمت الأسيرات من أبسط حقوقهن في الملابس النظيفة والصابون والمناشف، إذ تشير إيلياء إلى أن الأسيرات كن يلجأن إلى غسل ملابسهن وإعادة ارتدائها قبل أن تجفّ نظراً إلى انعدام وجود أي بدائل أُخرى. وإلى جانب ذلك، هناك تَعَدٍّ فجّ على أي خصوصية أو راحة داخل هذه الزنزانات التي كان يجري اقتحامها من أجل العدّ في ساعات الصباح الباكرة، وهذا من دون إشعار الأسيرات بذلك، ولا إعطائهن فرصة لتحضير أنفسهن. وكانت السجّانات أيضاً يقمن باقتحام الزنزانات في أثناء استحمام الأسيرات في انتهاك صارخ ووقح لأدنى متطلبات الخصوصية والاحترام الإنساني. وفضلاً عن ذلك كله، كانت الأسيرات عرضة للتحرش اللفظي من طرف المساجين والسجينات الجنائيين المحبوسين على خلفيات جرائم قتل واغتصاب ومخدرات، إذ كانت إدارة السجن تتعمد حبس الأسيرات في زنزانات قريبة من زنزانات الأسرى الجنائيين إمعاناً في تعذيبهن ومضايقتهن، الأمر الذي حدا بالأسيرات، وعلى فترات سجن متنوعة، إلى عدم الخروج إلى "الفورة" اليومية كي لا يضطررن إلى المرور من أمام زنزانات الجنائيين. وتضيف إيلياء أنه حتى عندما كانت تخرج الأسيرات إلى " الفورة"، فإنه كان يتم تقليص مدتها إلى ثلث ساعة بدلاً من الساعة، كما أن أوقاتها كانت عشوائية تخضع لمزاجية السجانين، وهو ما كان يزيد في حالة القلق والانتظار التي تعتري الأسيرات، ويزيد في عبء ساعات النهار وثقلها داخل الزنزانات.

أمّا المراقبة داخل زنزانات سجن "هشارون"، فمستمرة من الكاميرات الموجهة نحو ساحة "الفورة"، وحتى من خلال الكاميرات المثبتة في بعض الغرف، فقد روت إيلياء أن ثمة غرفة في سجن "هشارون" ملأى بالكاميرات، واسمها "غرفة الكاميرات" وتعمل على مدار الساعة، وتوضع فيها الأسيرة الأمنية التي غالباً ما تكون الوحيدة داخلها، مثلما حدث مع الأسيرتَين، ليان كايد وشذى الطويل، اللتين سُجنتا في تلك الزنزانات. وبسبب هذه الانتهاكات كلها، فإن الأسيرات يطالبن بإلغاء سجن "هشارون"، وإزالة الكاميرات من ساحة الفورة ومن بعض الزنزانات لما في ذلك من انتهاك لخصوصيتهن وحقوقهن كأسيرات. وأفادت سماح جرادات بأن وجود الكاميرات في ساحة "الفورة" دفع الأسيرات سابقاً إلى الإضراب 60 يوماً عن الخروج إلى الساحة، كمطلب لإلغاء وجود الكاميرات فيها، لكن لم تتم الاستجابة لمطالبهن، وإنما جرى نقلهن إلى سجن الدامون. وللمفارقة، ومثلما هو متوقع، فإن ساحة "الفورة" في سجن الدامون تحتوي أيضاً على كاميرات مراقبة. وهكذا، رُفض طلب الأسيرات، وأصبح وجود الكاميرات أمراً واقعاً على الرغم من استمرار نضال الأسيرات ضدّها.

وشددت الأسيرات أيضاً، على سوء الطعام الذي كان يُقدّم إليهن في أثناء فترة التحقيق والعزل، إذ تقول شذى حسن إنه غير صالح للأكل، وله رائحة كريهة جداً تسبق وصوله، كما أنه غير نظيف، فالدجاج مثلاً، كان يُقدّم بجلده وريشه. وتشير ميس أبو غوش إلى أنهم كانوا يُحضرون لها أردأ أنواع اللحوم، وأسوأ الأطعمة، وهو ما جعل الأسيرات يرفضن الطعام ويكتفين بتناول الخبز والجبنة.

بريد السجن: الرسائل تصل اليوم!

فيما يتعلق بوسائل تواصل الأسيرات مع الأهل في سجن الدامون في ظل غياب أي هواتف عمومية أو هواتف خاصة لديهن، أشارت شذى حسن إلى أن هناك خمس طرق رئيسية تتواصل فيها الأسيرات مع أهاليهن. والطريقة الأساسية هي خلال زيارات الأهالي مرة كل أسبوعين، أو عن طريق زيارة المحامين وما يرسله الأهالي معهم إلى بناتهم، إذ كان المحامون يضعون الرسائل المكتوبة للأسيرات على الزجاج الشفاف العازل بينهم كي يتمكّنّ من القراءة، ثم تقوم الأسيرات بالردّ الشفاهي على الرسائل، بينما يشرع المحامون في تدوين ما ترغب الأسيرات في إيصاله إلى الأهل. والطريقة الثالثة هي رسائل الأهل عن طريق الإذاعات المحلية والبرامج الإذاعية الخاصة بالأسرى، مثل إذاعة "صوت الأسرى" وإذاعة "صوت فلسطين" وإذاعة "أجيال"، فقد كانت الأسيرات يتابعن الراديو الصغير في السجن بشغف ليستمعن إلى أهاليهن وأخبارهم، وخصوصاً خلال فترة وباء كورونا حين مُنعت الزيارات، وهو ما جعل من الإذاعة متنفساً وحيداً تُطلّ الأسيرات منه على العالم خارج السجن على الرغم ممّا يحتاج إليه لاقط البث من تعديلات بشكل متكرر، إذ تحتاج الإشارة إلى جو صافٍ لتصل بوضوح. أمّا الطريقة الرابعة فهي إرسال الرسائل إلى الأهالي مع الأسيرة التي يقترب موعد حريتها، وهذا طبعاً، إذا لم تصادرها إدارة السجن. وذكرت شذى وسيلة خامسة لجأت إليها الأسيرات خلال فترة وباء كورونا، وهي التراسل مع قسم الأشبال الموجود إلى جانب قسم الأسيرات في سجن الدامون، فقد كانت ممثلة الأسيرات، وبعملية دقيقة تتميز بأناة وصبر، تقوم شفاهة بإملاء أرقام أهالي الأسيرات، ومضمون رسائلهن، على ممثل الأشبال الذي كان فيما بعد، يُجري، وبطرقه الخاصة، التواصل مع الأهالي (إذ على ما يبدو، كانوا يملكون جهاز اتصال في قِسمهم).

"جامعة السجن"، وتحرير الكرّاس والقلم

من أبدع التجارب التي تحدثت عنها الأسيرات في السجن هو تجربة التعليم النظامي، علاوة على التعليم غير النظامي الذي تمارسه الأسيرات. فمن خلال تجربتهن في السجن، تقول الأسيرات إن الأسيرات القاصرات، في أغلبيتهن، كنّ قد أتممن مرحلة التعليم المدرسي، وإنهن اجتزن التوجيهي داخل السجن، وإن ذلك جاء بعد نضال طويل خاضته الأسيرة خالدة جرار من أجل تحقيق مطلب التعليم للأسيرات. فعملية تنظيم الوقت داخل السجن، سواء في إدارة الحياة اليومية للسجن، أو في التنظيم الدوري للحياة الثقافية والعلمية كفرز لجنات علمية وأدبية متنوعة كلجنة المكتبة ولجنة البحث العلمي وغيرها، كانت أولوية بالنسبة إلى الأسيرات. وتشير الأسيرات إلى أن هذا التنظيم شجّعهن على الاستغلال المثمر لوقتهن في القراءة، وفي ممارسة التعليم غير النظامي كالدورات المتنوعة التي كانت تعقدها الأسيرات، وخصوصاً الجامعيات منهن، للأسيرات الأصغر سناً ممّن يرغبن في الانضمام، كدورات اللغة العبرية والإنجليزية والفلسفة وعلم الاجتماع وغيرها، أو كعقد حلقات نقاش لكتب متنوعة، وما إلى ذلك من نشاطات ثقافية ومعرفية.

ولم يتوقف التعليم في السجن عند التعليم غير النظامي، بل كان ثمة محاولات لإدخال التعليم النظامي إلى سجن الدامون، ففي سنة 2020 وافقت إدارة جامعة القدس المفتوحة على قبول الأسيرات الراغبات في الدراسة الجامعية كطالبات نظاميات في الجامعة ضمن اختصاص "الخدمة المجتمعية". أمّا المنهاج، فشكّل تحدياً حقيقياً، ذلك بأن إدارة مصلحة السجون لم تكن على علم بهذه الخطوة من طرف الأسيرات، وبالتالي، شُكّلت لجنة البحث العلمي، وجرى استخدام ما هو متوفر من كتب داخل المكتبة في تعليم المساقات النظامية بموضوعاتها المتعددة. وكانت الأسيرات في لجنة البحث العلمي يذهبن إلى المكتبة ويقرأن الكتب المتعلقة بموضوع مساق ما، كي يحددن القراءات اللازمة. ففي الفصل الأول بُدىء بمساق واحد كتجربة، ثم تلته المساقات الإجبارية الجامعية، كاللغة الإنجليزية 1، واللغة العربية 1، ومساقات القضية الفلسطينية وتاريخ القدس، ومساق تعلّمْ كيف تتعلم، بينما تم في الفصل الثاني تعليم مساقات اللغة الإنجليزية 2، والعربية 2، وغيرها من مساقات جامعية. وتشدد الأسيرات على أن عملية التعليم النظامي كانت محكومة بقوانين ضابطة وشديدة، إذ كان هناك تنسيق عالٍ لمواعيد المحاضرات، وكانت الأسيرات يلتزمن بالخطط الأكاديمية الجامعية التي تقرّها جامعة القدس المفتوحة بحسب كل مساق، مع الالتزام بأخذ قوائم الحضور والغياب والمراقبة على الامتحانات، والتصليح وتسجيل العلامات، وغيرها من أمور تنظيمية وإدارية لإنجاز تعليم المساقات المتعددة. وكان المنتَج المعرفي الناجم عن هذه المساقات على درجة عالية من الجودة، ففي مساق اللغة الإنجليزية مثلاً، كان التقدم كبيراً، إذ ابتدأت المدرسات بتعليم الأحرف، وانتهين في ختام الفصل بأن أصبحت الطالبات الأسيرات قادرات على كتابة مقالات كاملة ومنظمة. وتكررت هذه الحال مع مساق مناهج البحث، إذ استطاعت الأسيرات في نهاية الفصل أن يكتبن في موضوعات شائكة ومهمة، كالسيطرة والضبط عند ميشيل فوكو، والتعليم التحرري لدى باولو فريري، والتبعية الاقتصادية والثقافية وغيرها من موضوعات مهمة.

وتشير الأسيرات إلى أن ذلك كله حدث من دون معرفة إدارة مصلحة السجون، ومن دون أخذ موافقتها، على الرغم ممّا كان يدور من شكوك لديها حول هذا الموضوع، وهو ما تسبب ذات مرة بتفتيش أقسام السجن ومصادرة عدد كبير من الكتب في الغرف نفسها ومن مكتبة السجن كلّها، بما يزيد على 400 كتاب، وكذلك مصادرة الدفاتر التعليمية وكل ما يُشتبه في أنه يتعلق بموضوع التعليم؛ ولم يُسمح لكل أسيرة إلّا بحيازة كتابين فقط، كما مُنع إدخال كتب جديدة تحمل مضامين معرفية مهمة، أو قد تستخدمها الأسيرات في التعليم النظامي. ومارست إدارة مصلحة السجون الشدة على الأسيرات اللواتي كن يقمن بالتعليم، فمنعت إدخال أي كتب جديدة إليهن، وهددتهن بأنهن سيُعاقبن بحرمانهن من الزيارات إذا ثبت تورطهن في عملية التعليم النظامي داخل السجن.

الدامون: أن تُؤسر الأم والبنت معاً

سلطت سماح الضوء على معاناة الأسيرات الأكبر سناً في سجن الدامون والأسيرات القاصرات صاحبات المحكوميات الأعلى في سجن الدامون. ففيما يتعلق بالأسيرات الأمهات والأكبر سناً، تشير سماح إلى أنهن يعانين مشكلات صحية جرّاء الاعتقال، وبسبب السنّ والهموم التي ألحقها الاحتلال بهن، الأمر الذي زاد تجربة السجن ألماً وانتظاراً عليهن، كالأسيرة خالدة جرار - أم يافا - التي فقدت ابنتها مؤخراً وهي داخل السجن ولم تسمح لها إدارة السجن بوداعها الأخير، والأسيرة أم الشهيد أشرف نعالوة (والتي تحررت بعد استشهاده)، والمصابة إسراء الجعابيص، وإيناس عصافرة التي اعتُقلت هي وزوجها وهُدم منزلهما، ولديهما أطفال، ولمى خاطر، وغيرهن.

وتركز سماح اهتمامها على حالة الأسيرة المصابة إسراء الجعابيص لما تعانيه جرّاء إهمال طبي داخل السجن، وإهمال متعمد لحروق جسدها ولمطالبها بالحصول على "بدلة الحروق"، وهي بدلة طبية ضرورية لشفاء حروق جسدها، إذ طوال 9 أشهر، وهي مدة سجن سماح، والجعابيص تطالب إدارة السجن بإحضار هذه البدلة الطبية، غير أن مطالبها لم تلقَ أي استجابة لها على الرغم من الحاجة الماسة إلى الدعم الطبي العاجل.

وتؤكد سماح أن هؤلاء الأسيرات الأكبر سناً هن الحاضنة الاجتماعية الداعمة للأسيرات في السجن، وخصوصاً للأسيرات القاصرات اللواتي اعتُقلن وهنّ قاصرات بين 13 و16 عاماً، مثل شروق دويات ونورهان عواد وملك سلمان، وحُكمن بأحكام عالية تتراوح مدتها ما بين 10 و16 عاماً، علاوة على اللواتي اعتُقلن خلال انتفاضة السكاكين في سنة 2015 أو بعدها. وبالتالي، فإنهن يفتقدن الحاضنة الاجتماعية خارج السجن، والتي هي غير حاضنة العائلة، كالأصدقاء والمحيط الاجتماعي، لأنهن اعتُقلن وهن صغيرات في السن وليس لديهن تجارب حياتية عادية. وبالتالي، فإن الأسيرات الأكبر سناً يشكلن حاضنة نفسية وثقافية واجتماعية داعمة لهن.

الأسيرات المحررات كفلسطينيات سياسيات أولاً

ترى الأسيرات المحررات اللواتي تناولهن هذا التحقيق أن الواقع السياسي اليوم يحتاج إلى إعادة هيكلة وترتيب، وأشرن إلى وجود أزمة عميقة لدى القيادة الفلسطينية، وخصوصاً السلطة الفلسطينية. فشذى حسن تشدد على أن "فشل السلطة الفلسطينية الرسمية تمثّل في انتهاجها منهج المفاوضات... وأن السلطة الفلسطينية فشلت فشلاً ذريعاً في أسلوب المفاوضات مع العدو"، بينما ترى إيلياء أبو حجلة أن "أزمة السلطة الرسمية اليوم... لم تكن إلّا تراكماً لسياسات القمع الوفيرة التي مارستها السلطة الفلسطينية، فضلاً عن تراجع واندثار دور منظمة التحرير وانحصار مهماتها في تمرير سياسات السلطة الفلسطينية المتخاذلة والمتعاونة مع دولة الاحتلال." أمّا ميس أبو غوش فتعتقد أن "أزمة المشروع الرسمي اليوم، ما هي إلّا صراع التمثيل، مَن يمثل مَن، وأنها ليست صراعاً على القضايا الجوهرية، لأن الصراع الذي تخوضه السلطة والمنظمة على مرّ التاريخ وبعد اتفاق أوسلو، هو صراع مَن يمثل الشعب الفلسطيني أمام المجتمع الدولي والمساعدات الأميركية والأوروبية." وتضيف أبو غوش أن "سياسة منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية ثابتة ولم تتغير، وهو ما يظهر من خلال علاقتها بالبيت الأبيض والاحتلال، وعبر مواقفها من التطورات، والتي باتت متوقعة. فعلى سبيل المثال، فإن موقفها المعارض لترامب، بدا كأنه موقف شخصي منه وليس من سياسته كرئيس للولايات المتحدة، وقد ظهر الأمر جلياً بترحيبها بوصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، علماً بأنه لم يعطِ شيئاً مختلفاً إزاء المسألة الفلسطينية، عن سلفه ترامب. ويدخل في هذا السياق ذاته اجتماع الأمناء العامّين للفصائل الفلسطينية في بيروت خلال أيلول / سبتمبر 2020، والذي حمل خطابات شكلية هدفت إلى تعزيز مكانة بعض الفصائل الفلسطينية."

وتتفق سماح جرادات مع ما طرحته أبو غوش، إذ تعتقد أن سياسة السلطة الرسمية "مبنية على التبعية للاحتلال والمجتمع الدولي بصورة عامة، وهو ما يتجلى في علاقتها بالبيت الأبيض مثلاً، الأمر الذي يمكّننا من توقّع ردات أفعال السلطة تجاه مختلف القضايا مع المجتمع الدولي، والتي تتسم بالوسطية وعدم اتخاذ أي مواقف جذرية أو جدية. كما أن سياسة السلطة واضحة في نهجها الذي تعمل وفقاً له، وهو نهج سلمي واضح وصريح يتضح في مواقفها وعلاقتها، عدا طرحها المشاريع والمواقف التطبيعية بشكل علني أمام الجميع، والتباهي بهذا الخيار."

وفيما يتعلق بالتناقضات الفلسطينية الداخلية بين البنى التنظيمية لمختلف المستويات القيادية والقاعدية، فإن إيلياء أبو حجلة ترى أن أزمة المشروع السياسي الرسمي "ارتقت إلى ذروتها حين تباعدت مواقف القيادة السياسية للحزب الحاكم عن تلك في قاعدتها الجماهيرية، وهو ما تجلّى في مواقف هذه الجماهير في الشارع، وهذا علاوة على تباعد مواقف القيادة نفسها في الحزب ذاته، الأمر الذي أدى إلى ترشح ثلاث قوائم عن حركة (فتح)." أمّا أبو غوش فتركز في تعقيبها على التناقضات الداخلية على الانقسام الفلسطيني الدموي الذي عمّق وجذّر التناقضات الداخلية، فالأزمة في نظرها نابعة من "أن طرفَي الانقسام يشكلان خطاباً تحريضياً ووعياً مزيفاً تجاه مَن يخالفهم في القضايا والأحداث والتحركات التي حدثت في الفترة الأخير، مثل اغتيال الشهيد نزار بنات. فالسلطة مثلاً، استخدمت خطابين: الأول لحشد جمهورها من أجل مواجهة المعارضين، والآخر مصحوب بالتشهير والتخوين." وتضيف جرادات إلى ذلك بالقول إن" طرفَي الانقسام يكرّسان حالة مركبة جداً تتّسم بالتقسيمات والاختلافات."

وهكذا نرى أن الأسيرات المحررات يتفقن على أن هناك ضرورة ملحّة لتغيير الواقعية السياسية الفلسطينية، فشذى حسن ترى أن الحل يكمن في العودة إلى مشروع المقاومة الفلسطينية، ومثالها النموذجي هو المقاومة في قطاع غزة التي وضعت في سنة 2021، قواعد جديدة للصراع مع المستعمِر خلال معركة سيف القدس وبعدها، فتقول: "ولنا في غزة خير أسوة. صحيح أنها لم تتحرر بالكامل وأنها ما زالت تحت الحصار المميت.. إلّا إننا نستطيع أن نقول بكل فخر إن أراضي غزة محررة، ويخرج منها ما يوجع المحتل وهذا ما نريده.. لكن عملية التحرر متدرجة، إذ من المؤكد أن التحرير والتخلص من هذا الكيان لن يحدثا في يوم وليلة، بل لا بدّ من خطوات متدرجة وممنهجة ومدروسة تكون تحت مظلة المقاومة، ومظلّة الحق السياسية الثابتة التي تؤكد أن فلسطين يجب تحريرها من النهر إلى البحر، فنحن لن نتخلى عن شبر منها، ولن نرضى بفكرة حلّ الدولتين وحدوث السلام مع الكيان الغاصب." أمّا إيلياء أبو حجلة فترى أن الحل يكون في إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية "كونها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأن يضم هذا البناء جميع الأحزاب الفلسطينية بمختلف توجهاتها لتحقيق الديمقراطية، الأمر الذي يستوجب العودة إلى الإطار القيادي الموقت لمنظمة التحرير، ثم التخلص والتحلل من اتفاق أوسلو وإنتاجاته من سلطة تنفيذية. هكذا سيُرسم هذا التنظيم الجامع، مع ضرورة إنهاء الانقسام الذي أدى بتبعياته ومخلفاته إلى تفريق المجتمع الفلسطيني، وإلى أن يستغل شقّا الانقسام هذا الشرخ لمصلحة تمرير خطاباتهم السياسية."

وتلتقي أبو غوش مع الطرح القائل بضرورة إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وإنهاء الانقسام "وتعويض طرفَي الانقسام، وإنشاء محاكم تأخذ مجراها القانوني تجاه الجرائم التي حدثت في الضفة وغزة بعد سنة 2006"، وتضيف إلى ذلك ضرورة عمل الفصائل الفلسطينية مع قاعدتها الجماهيرية "والوعي بأن النضال هو نضال اجتماعي سياسي اقتصادي مصحوب بالإعداد والتجهيز للاستعداد دائماً من أجل النهوض بالتحركات السياسية والاجتماعية. ولهذا، من المهم أن نحدد إلى أي معسكر ننتمي، كي تصبح علاقة الدعم متبادلة وغير منقطعة." وتتفق سماح جرادات مع ما قدّمته كل من ميس وإيلياء، وتضيف إليه الحاجة الملحّة إلى "إعادة بناء وعي بأن النضال يجب أن يكون اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً للنهوض بالحالة الفلسطينية والتنظيمات الفلسطينية"، وإلى "ضرورة بناء وعي جمعي بأن الحل الوحيد هو الكفاح المسلح والنضال من أجل تحرير فلسطين من البحر إلى النهر. كما يجب إعادة ترتيب العلاقات الدولية وتحديد المعسكر الذي ننتمي إليه كي تصبح العلاقات واضحة ومبنية على الدعم المتبادل وغير المنقطع بدلاً من العلاقات التبعية وانتظار الدعم المشروط."

أمّا شذى حسن فتعتقد أن المرحلة المقبلة هي مرحلة حساسة "لا بدّ فيها من تثبيت معادلات جديدة في التعامل مع المحتل، وتحقيق إنجازات ملموسة، فما بعد هبّة القدس أو سيف القدس ليس كما قبلها، وطبعاً مع ضرورة وجود الحاجة إلى تكثيف الجهود من طرف الكل الفلسطيني من أجل المحافظة على هذا الإنجاز العظيم والإضافة إليه وصولاً إلى التحرير." وفيما يتعلق بالنضال الشامل، فإن إيلياء أبو حجلة تعتقد أنه ضروري اليوم، إذ من المهم "إدراك أن الغاية الأسمى ستبقى بعيدة المنال إذا ما اقتصر نضال الشعب الفلسطيني على النضال الشعبي، على الرغم من أهميته، وأنه لا بدّ للنضال من أن يسمو كي يصبّ في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والجندرية والتي هي جميعاً في علاقة تعبير مكثف ومتبادل مع الجانب السياسي."

وختاماً، لا بدّ من القول إن الفلسطينية المناضلة من أجل حريتها وحرية بلدها تضيف إلى تجربة السجن مثلما تضيف التجربة إليها، باستراتيجيات البقاء التي اجترحتها الأسيرات داخل السجن لمواصلة الحياة اليومية ومواجهة الأوضاع المعيشية، ولتجاوز شباك السجن الحديدية. فالأسيرات المحررات يصفن زنزانات التحقيق كمكان للتذكر والمواجهة، والسجن كمكان للتفكيك والصمود والعيش، وفلسطين كبلد حرّ يستحق العيش فيها على الرغم من مشقة الطريق. فالأسيرات، أكنّ أسيرات أم محررات، قد حرّرن السجن من السجن، في عكس لمقولة المحرر عصمت منصور عن "سجن السجن"، لأنهن بروايتهن للتجربة وبمعنوياتهن التي نتعلم منها، حوّلن السجن إلى محطة، وتجربة، وذكرى، وحتى إلى نكتة ساخرة.. فهنّ يروين تجربتهن كي لا ننسى، ولنكون أقوياء بما فيه الكفاية، مع أنفسنا، وأكثر مع المستعمِر، بحيث تصبح فلسطينيتنا شرفاً لنا.

Author biography: 

قَسَم الحاج: مرشحة دكتوراه في برنامج العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت، فلسطين.