الأسير أشرف القيسي محكوم منذ سنة 2007 بالسجن المؤبد خمس مرات وعشرين عاماً، وكذلك بسحب رخصة السوق. وبطبيعة الحال غير الطبيعي فهو من الجيل الأول الذي وُلد خارج قرية عرب المفجر الساحلية التي اقتلعوها كي يقتلعوها، ثم بنوا محطة توليد الطاقة جنوبي جسر الزرقاء، وعلى الرغم من صمود جده محمد القيسي إلى جانب علي القيسي على أرض البلدة، إلا إن منظومة الاقتلاع سعت لئلا يبقى أي أثر لحضور عربي فلسطيني هناك في وسط ساحل فلسطين، فجففوا مياه عين العسل التي كانت تروي البلدة وضخوا نفايات المصانع ومياهها الكيميائية السامة إلى نهر المفجر. فاستقبلتهم باقة الغربية كما يليق بهذه البلدة، ونشأ وترعرع فيها كأحد أبنائها.
لا يوجد سجن لم يتم نقل أشرف إليه، والتنقلات القسرية هي إحدى أدوات استخبارات السجون والشاباك في استنزاف الروح، وفي تشتيت التوازن الذي يحتاج إليه الأسير كي يبني في زنزانته الضيقة عالمه الكبير برحابة خياله. إلا إن أشرف تجاوز قهرهم بعد أن بنى توازناته على التنقل الدائم. أحد الأسباب الرئيسية لنقله من سجن إلى سجن هو كثرة الدعاوى التي كان يرفعها إلى المحكمة الخاصة تحت مسمى "التماس سجين"، وهي محكمة منبثقة عن المحكمة المركزية الإسرائيلية تعنى بهذا النوع من الدعاوى. في المجمل، يمثُل الأسير ويدافع عن نفسه. وبحسب اعتبارات مصلحة السجون، فإن هذه الدعاوى هي عبء، أولاً لأن كثرتها توثَّق في ملف مدير السجن المعني وضباطه الكبار، وأحياناً تحول دون ترقيتهم، ومن منطلقات منظومتهم، ثم أنها تُلزمهم بنقل الأسير وتخصيص مرافقة أمنية له إلى المعبر ومنه إلى المحكمة في اليوم التالي، ثم إعادته إلى السجن. في المجمل، تنصاع المحكمة إلى مصلحة السجون وجهاز الاستخبارات، حتى في مسائل، مثل تسببهم بفقدان حقيبة ملابس الأسير وأغراضه خلال النقل في البوسطة المشؤومة، إلا إن أشرف تعامل مع مشاقها أيضاً كفرصة يتحمل أعباءها، لكنه يرى بعض نور المكان من ثقوبها وفيها كما يقول "تغيير أجواء" والتقاء أسرى من سجون أُخرى.
أشرف الصديق الوفي والدمث وصاحب الروح المرحة، والصبور حتى الفرج، كانت له مقولة انطبعت في ذهني ونحن نكثر من الجري الرياضي صباح كل يوم، وهو في كتابة الالتماسات: "معاي وقت كفاية، بدي أعبّي وقتي وبدي أنشّف دمهم مثل ما بنشفوا دمّي"، وبحسب منطقه هذا، درج يقول لي إنه لا يستطيع حالياً فتح الملف الكبير والقرار بالسجن، ولذلك "بدي أطالبهم برخصة السياقة". يحضر "دوسيه" أزرق اللون عمره أعواماً طويلة، وهو يشكل بضاعة نادرة في السجون، وفيه رزمة ملفاته المنظمة بصورة مثالية، ومعه عدد احتياطي من الاستمارات الخاصة بتقديم التماس، لأنه يدرك أن سياسة ضابط الاستخبارات هي ثنيه عن تقديم الالتماس ولو بحجة عدم توفّر نسخ من الاستمارات، وأحياناً يضغطون عليه من خلال ممثل الأسرى (ممثل المعتقل) لثنيه عن الالتماس والاجتماع بهم لحل المسألة العينية، وفي الغالب لا تجد حلها. مثلاً مطلب شراء حذاء رياضي طبي قد يحتاج إلى أعوام والنتيجة ليست مضمونة، إذ يحتاج ذلك إلى نقله إلى مستشفى الرملة الذي لا يشفي أحداً، والمكوث ثلاثة أيام حتى يعود إلى السجن بعد معاينة طبيب العظام التابع للسجون كي يوصي بحاجته إلى الحذاء، وعندها تنتقل المعاملة والإجراء إلى ضابط الأمن في السجن ومدير القسم من بعده، وقد يقرر ضابط الاستخبارات نقله في هذه الفترة قبل تنفيذ الاقتناء، ليعيد الكرّة في سجن آخر. في "قصر" كافكا وفي "مفتش" غوغول تنهكك التفاصيل والمسافات والوقت الضائع الأشبه بالركض الموضعي، بينما في السجن يتمسك أشرف بهذه التفاصيل كي يبني صورة حياة ذات معنى.
عمل في البناء، وعمل على شاحنة، وفي صباه حلم بأن يصبح عارض أزياء كما يقول وكان واعداً في هذا المسار، لكن الحياة والمحكمة صمّمتا له منحى آخر وزنزانة. وهو اليوم يصمم حياته الاعتقالية بقدر ما يستطيع.
هناك الكثير مما يمكن إضافته عن دهاء أشرف ومواظبته على الحصول على كل حق تضمنه اللوائح أو الحق الإنساني. التقينا مرات كثيرة ووقتاً مطولاً حول هذه الملفات الصغيرة والكبيرة المعنى، وكنا نجلس ساعات في الصوغ والمراجعة وبناء الحجة، والبيّنات التي لا دليل عليها سوى طول النفَس، فكل ردود السجن غير مكتوبة ولا يبقى منها بيّنة، وكل معاملة للأسير أو طلب مهما كان يكون فقط كتابياً، درجنا على مراجعة النصوص مرات ثم كتابتها على الاستمارة الرسمية. هو يستفيد من تجربتي في الكتابة وأنا أستفيد من تجربته في الصبر. لم يستعِد رخصة السوق بعد، لكنه لا يكلّ، ولا يستسلم أمام تنكيل جهاز القهر والمحكمة التي حكمته بالمؤبدات.
أسوق كل هذه الخلفية المرحة للأسير أشرف، سعياً للدخول في عالمه الحزين في الثالث من أيلول/سبتمبر. فقد توفي والده. وهو مرتبط جداً بوالديه، وكان يحدثني عن زياراتهما وكيف كانت تتحول إلى لقاءات مرحة تبث الروح الطيبة بين أصحاب اللقاء من جانبيْ الفاصل الزجاجي الشفاف. إنه ارتباط فيه من مشاعر الابن تجاه والديه، لكن أيضاً مشاعر الصداقة والانفتاح الجميلة بينهم. والداه لا يستسلمان لتواصل سجنه، وهو يسعى لئلا يخيّب حلمهما الذي هو حلمه. وما الزيارة إلا انبعاث وشحن لمنسوب الأمل وإرادة الصمود.
في حالات الفقدان تحضرني اللحظة، لحظة التبليغ وتلقّي الخبر، فالزيارات العائلية للأسير تقوم على طمأنته حتى حين تنعدم الطمأنينة، أو تسعى الأسرة لإخفائها عنه بضحكة شفافة، وهو يشكّك في ذلك. من ثقافة الحركة الأسيرة الطويلة الأمد أن تشكّك في الطمأنينة، وأن يخشى أفرادها وبصورة مستدامة فقدان الأحبة. فلا مناورة مع الفقدان، وبالذات حين لا يملك الأسير الحزين سوى أن يحزن بصمت مكبوت، فلا مكان للحزن ولا عتمة يحتمي بها ليفتح أحزانه على ملئها، ولا هدوء يستكين إليه كي يطلق العنان للخيال ليسرح، ولذكريات زمن جميل لتحضر ومعها ابتسامة باكية.
قلبي معك يا أشرف بوفاة الوالد نظمي محمد القيسي ولروحه السلام. الحرية لك وللأسرى والأسيرات.