The Biden Administration and the Palestinian Question: Limited Breakthroughs and Delayed Solutions
Full text: 

تقول "مجموعة الأزمات الدولية" في إحاطة لها نُشرت قبل تسلّم الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه رسمياً، والمتضمنة نصائح لإدارته في مجال التعامل مع الأزمات التي تعمّ العالم، أنه "على مدى السنوات، كان للسياسات الأميركية الأثر المؤسف، ولو أنه أحياناً غير مقصود، والمتمثل في تسهيل ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين. وأصبح غير المقصود متعمداً في ظل إدارة ترامب، التي شجّعت بناء المستوطنات، وفي كانون الثاني / يناير 2020، أطلقت (خطة السلام من أجل الازدهار) التي مالت بشكل حاسم لصالح استمرار الاحتلال الإسرائيلي. قد تخدم سلسلة اتفاقات التطبيع التي تم التوصل إليها أخيراً والعلاقات الدبلوماسية التي توسطت الولايات المتحدة في إقامتها بين إسرائيل ودول عربية في تحقيق بعض الأهداف الإيجابية، لكنها لم تكن مرتبطة بأي تقدم يحدث في عملية السلام أو بحياة الفلسطينيين."[1]

ودعت إحاطة مجموعة الأزمات الدولية الإدارة الأميركية الجديدة إلى التنصل من خطة ترامب التي نُشرت في مطلع سنة 2020، وكذلك إلى التأكيد أنه "إذا استمرت إسرائيل في إعاقة تأسيس دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة كاملة، فإن أي بديل لحل الدولتين سيتوجب عليه احترام الحق في المساواة الكاملة ومنح الحقوق الكاملة لجميع أولئك الموجودين في أي مكان تسيطر عليه إسرائيل." وأن على الإدارة أيضاً أن "تقاوم أي دافع لأن تنجرّ إلى عملية سلام فقط للمحافظة على وهم تحقيق التقدم"، وعليها "أن تحجم عن القيام بأعمال تُعفي إسرائيل من تكاليف احتلالها وتجعل تحقيق السلام أكثر صعوبة، مثل استعمال حقّ الفيتو ضد قرارات مجلس الأمن الدولي عندما يشكل القيام بذلك تقويضاً للسياسة الأميركية (على سبيل المثال، بتقويض حل الدولتين) أو القانون الدولي."[2]

فهل ستأخذ إدارة بايدن بمثل هذه الأفكار؟

صحيح أن مدير "مجموعة الأزمات الدولية" خلال الأعوام الثلاثة الماضية (منذ اليوم الأول لسنة 2018)، روبرت مالي (Robert Malley)، وهو الموظف الكبير السابق في إدارتَي ويليام كلينتون وباراك أوباما، عيّنته إدارة بايدن الجديدة مبعوثاً خاصاً لها في الملف الإيراني، وصحيح أن جيك سوليفان (Jake Sullivan)، مستشار الأمن القومي الجديد للرئيس بايدن، كان في الماضي مشاركاً في مجلس أمناء "مجموعة الأزمات الدولية"، إلّا إن جميع المؤشرات والتصريحات التي أطلقها مسؤولو الإدارة الجديدة لا توحي بأن الإدارة ستذهب كثيراً في الاتجاه الأساسي الذي أوصت به الإحاطة في موضوع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ربما باستثناء احتمال تجاوبها مع مقترح "مقاومة الانجراف في عملية سلام" ظاهرية. هذا، في حين أن من الممكن أن تأخذ الإدارة بأفكار متعلقة بجبهات صراع وأزمات أُخرى، بما فيها الجبهة الإيرانية التي دعت الإحاطة بشأنها إلى "العودة إلى الاتفاق النووي."

وليس مستغرباً، في هذا السياق، أن يكون روبرت مالي قد كُلّف بالملف الإيراني، وليس بالملف الفلسطيني - الإسرائيلي، مع أنه صاحب خبرة طويلة في الموضوع الأخير، وسبق أن شارك في المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية التي جرت تحت الرعاية الأميركية في الماضي، بما في ذلك في اجتماعات منتجع كامب ديفيد في صيف سنة 2000. ولا شكّ في أن المعارضة الواسعة التي لقيها تعيين مالي في موقع المبعوث للملف الإيراني تعود جزئياً، إلى جانب موقفه الداعي إلى العودة إلى اتفاقية سنة 2015 مع إيران، وهي الاتفاقية التي كان قد شارك في التمهيد لها، إلى مواقفه النقدية لسياسات إسرائيل، بما في ذلك في مقالات كتبها وتناول فيها مجريات مؤتمر كامب ديفيد 2000 بلهجة لم تلقَ ارتياحاً لدى الجانب الإسرائيلي وأصدقائه في الولايات المتحدة.

وواقع الحال، فإن الشخصيات المقررة في الإدارة الأميركية الجديدة، وعلى رأسها الرئيس جوزيف بايدن نفسه، ونائبته كامالا هاريس، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، كان لها إعلانات ومواقف واضحة في دعم إسرائيل والدفاع عنها. وبمعزل عن هذه المواقف القديمة، فإن التصريحات العديدة التي صدرت مؤخراً عن كبار المسؤولين الجدد في واشنطن أوضحت إلى حد كبير الملامح العامة للسياسة المحتملة للإدارة خلال أعوام ولايتها الأربعة تجاه الملف الفلسطيني – الإسرائيلي.

 تراجع عن بعض إجراءات إدارة ترامب، وليس كلها

في جلسة مجلس الأمن الدولي التي عُقدت في 26 كانون الثاني / يناير 2021 لمناقشة مفتوحة للوضع في الشرق الأوسط، قرأ القائم بأعمال مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، السفير ريتشارد ميلز،[3] بياناً مكتوباً جاء فيه أنه "في ظل الإدارة الجديدة، ستكون سياسة الولايات المتحدة قائمة على دعم (حل دولتين) متفق عليه."[4] وتعبير "متفق عليه" مهم جداً هنا، لأنه يعني أساساً أن الإدارة الأميركية لن تضغط على الجانب الإسرائيلي للتوصل إلى حل لا يرضى عنه الأخير. وهو، على أي حال، أمر أوضحه المندوب الأميركي في سياق مداخلته التي جاء فيها أنه "لا يمكن فرض السلام على أي من الطرفين، الإسرائيليين أو الفلسطينيين"، وأن "الانخراط الدبلوماسي للولايات المتحدة سينطلق من فرضية أن التقدم القابل للاستمرار يجب أن يرتكز على التشاور النشط مع الطرفين، فالنجاح اللاحق يتطلب موافقة فاعلة من كلا الطرفين."[5]

ولمزيد من تخفيض مستوى التوقعات، أضاف بيان المندوب الأميركي: "لسوء الحظ، كما أعتقد بأنكم سمعتم، فإن القيادات المعنية لها مواقف متباعدة جداً بشأن قضايا الوضع النهائي، فالعمل السياسي الإسرائيلي والفلسطيني مشحون، والثقة بين الجانبين في أدنى مستوياتها." ومع ذلك، فإن "الولايات المتحدة ستحثّ حكومة إسرائيل والسلطة الفلسطينية على تفادي خطوات أحادية الجانب تجعل حل الدولتين أكثر صعوبة، مثل ضم أراضٍ، والنشاط الاستيطاني، والهدم، والتحريض على العنف، وتأمين التعويضات لأشخاص اعتُقلوا نتيجة أعمال إرهابية"، على حد تعبيره. وهذه صيغة حاولت أن تساوي بين "أفعال" إسرائيل المسيطرة عسكرياً على الأراضي المحتلة و"ردات فعل" الطرف الفلسطيني الواقع تحت السيطرة الإسرائيلية تجاه هذه الأفعال. وتابع المندوب الأميركي، في بيانه المكتوب: "نأمل بأنه سيكون ممكناً البدء بالعمل لبناء بطيء للثقة بين الجانبين من أجل تأمين بيئة نتمكن في إطارها مرة أُخرى من المساعدة في التقدم نحو حل." وبشأن المساعدات التي أوقفتها إدارة دونالد ترامب عن الجانب الفلسطيني، فقد جاء في بيان المندوب الأميركي: "كان الرئيس بايدن واضحاً في نيّته إعادة برامج المساعدة الأميركية التي تدعم التطور الاقتصادي والدعم الإنساني للشعب الفلسطيني، واتخاذ خطوات لإعادة فتح البعثات الدبلوماسية التي أغلقتها الإدارة الأميركية السابقة"،[6] والمقصود هنا هو إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، والتي أغلقتها إدارة ترامب وألحقتها بسفارتها الجديدة في القدس الغربية، إمعاناً في نفي الحقّ الفلسطيني في القدس الشرقية، وكذلك إعادة فتح مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. وكلا الأمرين يتطلب إجراءات قانونية وإدارية أميركية وإسرائيلية، ليس واضحاً حتى الآن ما إذا كانت مضمونة التحقق.

وكي لا يُفهم ذلك على أنه يشكل تغييراً كبيراً في المواقف المعهودة للإدارات الأميركية التي سبقت إدارة ترامب تجاه إسرائيل، فقد أضاف بيان المندوب الأميركي: "في الوقت ذاته، عليّ أن أكون واضحاً: ستحافظ الولايات المتحدة على دعم ثابت لإسرائيل، وستواصل، في ظل إدارة بايدن، سياستها المتبعة منذ فترة طويلة في معارضة قرارات وإجراءات أحادية الجانب في الهيئات الدولية، تستهدف إسرائيل بصورة خاصة وغير منصفة. كما ستعمل الولايات المتحدة على تطوير مكانة إسرائيل ومشاركتها في هيئات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأُخرى." وبشأن اتفاقيات التطبيع التي رعتها إدارة ترامب بين إسرائيل وعدد من الدول العربية وغير العربية، ورد في بيان المندوب الأميركي: "إدارة بايدن ترحّب باتفاقيات التطبيع الأخيرة بين إسرائيل ودول من العالم العربي عضوة في الأمم المتحدة، ودول ذات أغلبية مسلمة [....] لكننا نقرّ بأن التطبيع العربي - الإسرائيلي ليس بديلاً من السلام الإسرائيلي – الفلسطيني. وربما لا يكون الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين خط الصدع الكبير في الشرق الأوسط، لكن حلّه على الرغم من ذلك، سيكون مفيداً للمنطقة ككل بشكل ملموس. وتأمل الولايات المتحدة بأن يكون ممكناً أن يجري التطبيع بطريقة تفتح الأبواب أمام احتمالات جديدة لتقدّم حل الدولتين."[7]

وما قرأه المندوب الأميركي بالوكالة في الأمم المتحدة ورد كذلك، بشكل أو بآخر، على لسان عدد من كبار المسؤولين الجدد في إدارة بايدن، الأمر الذي يؤكد أن ما قيل في جلسة مجلس الأمن كان، بالتأكيد، تعبيراً عن المواقف الرسمية، المعدّة بعناية، لهذه الإدارة.

ففي أثناء استجوابه في مجلس الشيوخ، يوم 19 كانون الثاني / يناير 2021، بهدف تثبيت تعيينه وزيراً للخارجية، ردّ أنتوني بلينكن على ملاحظة لأحد أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في المجلس بشأن الموقف من "اتفاقيات أبراهام" وبشأن حركة "مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (BDS)، قائلاً: "أنا أدعم اتفاقيات أبراهام، وأشيد بالعمل الذي جرى لإنجازها، وأعتقد أنها عززت بشكل ملموس أمن إسرائيل وأمن الدول المعنية. فهي تفتح آفاقاً واحتمالات فيما يتعلق بالتنقل، والأعمال، والتجارة، وهذا كله إيجابي جداً جداً، وآمل بأن تتوفر لنا الفرصة للبناء عليه في عملنا المقبل. أمّا فيما يتعلق بحركة المقاطعة، فإن الرئيس المنتخب – وأنا أشاطر بقوة هذه القناعة - يعارض بشكل حازم هذه الحركة... لأنها موجهة إلى إسرائيل وحدها بشكل غير منصف وغير ملائم، ولأنها تخلق معياراً مزدوجاً، ومعياراً لا نطبّقه على دول أُخرى... طبعاً، نحن نحترم بشكل كامل وسنحترم دائماً الحقوق التي يضمنها التعديل الأول (First Amendment) للأميركيين بقول ما يؤمنون به وما يعتقدونه، لكن حركة المقاطعة نفسها هي شيء نعارضه."[8]

وكررت جانيت يلين (Janet Yellen) الموقف ذاته في جلسة من جلسات لجنة المال في مجلس الشيوخ التي عُقدت لمناقشة قرار تعيينها في موقع وزيرة الخزانة في إدارة بايدن، وقالت رداً على استفسار من أحد أعضاء اللجنة بشأن الحملات الداعية إلى مقاطعة إسرائيل ودور وزارة الخزانة في مواجهتها: "الرئيس بايدن قاد الجهود لمعارضة نزع الشرعية عن إسرائيل، سواء في المنظمات الدولية أو من خلال حركة المقاطعة في الولايات المتحدة. وأنا أدعم مقاربة الرئيس بايدن بمعارضة محاولات كهذه، وإذا ما جرت المصادقة على تعييني، فإنني سأعمل كوزيرة خزانة لمعارضة نشاطات حركة المقاطعة الموجهة ضد إسرائيل."[9]

أمّا ليندا توماس - غرينفيلد التي رُشّحت من طرف إدارة بايدن لتولّي مسؤولية مندوبة الولايات المتحدة في منظمة الأمم المتحدة، فقالت في جلسة الاستجواب التي عُقدت في مجلس الشيوخ، في 27 كانون الثاني / يناير 2021، رداً على سؤال بشأن ملاحقة إسرائيل في الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان التابع لها: "بشأن مسألة إسرائيل، كان الرئيس بايدن أحد أقوى داعمي إسرائيل خلال الخمسين عاماً الماضية من عمله المهني، وكلكم يعلم ذلك جيداً. فالرئيس يرى أن الروابط بين بلدينا متأصلة في مصلحتنا الاستراتيجية وقيمنا المشتركة. ولذلك، إذا تمت المصادقة على تعييني [....] فإنني أتطلع إلى الوقوف مع إسرائيل، وإلى الوقوف ضد الاستهداف غير المنصف لها، والقرارات المتلاحقة التي تُطرح ضدها بشكل غير منصف، كما آمل وأتطلع فعلاً إلى العمل عن كثب، مع السفارة الإسرائيلية والسفير الإسرائيلي لدعم أمن إسرائيل ولتوسيع الفرص الاقتصادية للإسرائيليين والأميركيين على حد سواء، ولتوسيع دائرة السلام. أعتقد أنه غنيّ عن القول إن لا صديق أقرب إلى إسرائيل من الولايات المتحدة، وسأعكس ذلك في أعمالي في الأمم المتحدة."[10]

وذهبت أبعد من ذلك حين سُئلت عن موقفها من "اتفاقيات أبراهام" للتطبيع بين إسرائيل ودول عربية أو ذات أغلبية مسلمة، فقالت: "أنظر إلى اتفاقيات أبراهام على أنها توفّر لنا فرصة للعمل بطريقة مختلفة مع الدول التي اعترفت بإسرائيل. ومرة أُخرى، نحن نحتاج إلى أن ندفع هذه الدول إلى تغيير مقاربتها في الأمم المتحدة. فإذا كانوا سيعترفون بإسرائيل في (اتفاقيات أبراهام) فعليهم أن يعترفوا بحقوق إسرائيل في الأمم المتحدة... أنوي العمل عن كثب مع السفير الإسرائيلي، ومع زملائي في أنحاء العالم، لأن ذلك ليس شأناً محصوراً بنيويورك فقط."

وفي حديثها عن حركة المقاطعة، فإنها تجاوزت تعبيرات زملائها الآخرين، لتعتبرها ليست فقط "غير مقبولة"، بل "تقترب من اللاسامية" أيضاً، وتعهّدت بـ "ألّا يتم السماح لهم بأن يكون لهم صوت في الأمم المتحدة"، وبأنها تنوي "العمل بشكل قوي جداً ضد ذلك."[11]

لقد لفت الكاتب الأميركي المناهض للصهيونية فيليب وايس في مقالة نشرها في موقع "موندووايس" (Mondoweiss)، الذي يشرف هو عليه، أنه يجب الانتباه إلى أن أنتوني بلينكن، خلال استجوابه في مجلس الشيوخ، "لم يذكر قط الاحتلال ولا حقوق الإنسان الفلسطيني أو حتى المستعمرات"، بل إنه ذهب إلى حد الإشادة ببعض سياسات ترامب في الشرق الأوسط، حين قال: "أعتقد من موقعي الذي كنت فيه أن هناك عدداً من الأمور التي قامت بها إدارة ترامب خارج حدودنا يمكنني التصفيق لها... (اتفاقيات أبراهام)، بالتأكيد... العمل الذي جرى إلى دفع التطبيع مع إسرائيل قدماً، أصفّق له. هذا يجعل إسرائيل أكثر أمناً، هذا يجعل المنطقة أكثر أمناً. وهذا أمر جيد. وآمل أن يكون في إمكاننا البناء على ذلك." ورداً على سؤال لعضو مجلس الشيوخ المعروف ليندزي غراهام: "هل تعتبر إسرائيل دولة عنصرية؟" أجاب بلينكن: "لا أرى ذلك". وأكد موقف الإدارات الأميركية المتعاقبة المعروف: "التزامنا تجاه أمن إسرائيل مقدس، وهذا شيء يشعر به الرئيس المنتخب بشكل قوي جداً"، مع أنه أضاف: "الرئيس المنتخب يعتقد، وأنا أشاطر هذا الاعتقاد، بأن السبيل الأفضل، وربما السبيل الوحيد، لضمان مستقبل إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية ولإعطاء الفلسطينيين الدولة المخولة لهم هو من خلال ما يُسمى (حل الدولتين)، وهو حل يواجه في هذه الآونة تحدياً شديداً بشكل واضح." وفي استطراد يهدّئ بالتأكيد من أي قلق لدى بعض أنصار إسرائيل الرافضين لأي حل يتضمن التخلي عن أراضٍ تسيطر عليها إسرائيل حالياً، أضاف: "أعتقد بشكل واقعي أن من الصعب رؤية آفاق قريبة المدى للتقدم في هذا الشأن."[12]

هكذا، يصبح هذا الموقف المعلن من "حل الدولتين" أقرب، في الواقع، إلى رفع العتب، وعودة إلى سياسات اتبعتها الإدارات الأميركية التي سبقت إدارة ترامب، بما فيها إدارة باراك أوباما التي عمل فيها بلينكن في مواقع مسؤولية رفيعة، إذ اعتمد بعض هذه الإدارات الإقرار اللفظي بحقّ الفلسطينيين في دولة لهم، لكن من دون القيام بأي عمل مؤثّر لضمان تحقق هذا الهدف، أو لمنع الأعمال التي تسدّ الطريق أمام تحققه، مثلاً من خلال ممارسة ضغوط ملموسة على إسرائيل. وفعلاً، يستبعد المتابعون أن تمارس إدارة بايدن أي ضغوط على إسرائيل، بما في ذلك ربط المساعدات العسكرية لها باحترام حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، وهو مطلب دعا إليه عدد قليل من أعضاء مجلسَي الشيوخ والنواب الأميركيين، وفي طليعتهم عضو مجلس الشيوخ بيرني ساندرز ونواب "الزُّمرة" (The Squad) في مجلس النواب، المحسوبون على الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، والذين شهدوا زيادة في عددهم بعد الانتخابات الأخيرة في تشرين الثاني / نوفمبر 2020. وذهب فيليب وايس إلى حد اعتبار أن لغة بلينكن خلال استجوابه في مجلس الشيوخ هي خطوة إلى الوراء، في نظره، عن لغة وزير الخارجية الديمقراطي السابق في عهد أوباما، جون كيري.

كرر بلينكن في مؤتمره الصحافي الافتتاحي يوم تولّيه صلاحياته في وزارة الخارجية، في 27 كانون الثاني / يناير، بعد تثبيته في مجلس الشيوخ بأغلبية لافتة شملت أكثر من نصف الجمهوريين (78 في مقابل معارضة 22)، ما سبق أن ذكره بشأن الموقف من التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية والدول ذات الأغلبية المسلمة، فقال رداً على سؤال بشأن "اتفاقيات أبراهام": "نحن ندعم كثيراً (اتفاقيات أبراهام)، ونعتبر تطبيع إسرائيل للعلاقات مع جيرانها ومع دول أُخرى في المنطقة تطوراً إيجابياً جداً، ولهذا رحّبنا به، بل إننا نأمل بأن تتوفر فرصة للبناء عليه في الأشهر والأعوام المقبلة."[13] واستطرد أنه يجري التدقيق في أي التزامات اتُّخذت في سياق تأمين هذه الاتفاقيات، في إشارة إلى الرشى التي قدمتها إدارة ترامب السابقة للدول المطبّعة، العربية وغير العربية. لكنه تفادى الرد على سؤال بشأن الالتزام الأميركي مع المملكة المغربية بالاعتراف بسيادتها على الصحراء الغربية، وهو التزام لقي معارضة من عدد كبير من الدبلوماسيين والسياسيين الأميركيين.[14] ومعروف أن إدارة ترامب استخدمت مجموعة من أدوات الإغراء والتهديد (الجزرة والعصا) مع الدول العربية المعنية لدفعها إلى التطبيع مع إسرائيل، أملاً بأن تخدم موجة التطبيعات هذه مصلحة ترامب في العملية الانتخابية التي جرت في أواخر سنة 2020، وهو أمر لم يكن كافياً لضمان فوزه في الانتخابات.

بلينكن: نحن بعيدون عن حل نهائي بين إسرائيل والفلسطينيين

أكد أنتوني بلينكن مرة أُخرى، موقف الإدارة من "اتفاقيات أبراهام"، وذلك في المقابلة التلفزيونية المهمة التي أجراها معه وولف بليتزر على شبكة "سي. إن. إن." في 8 شباط / فبراير 2021، حين قال رداً على سؤال: "رحّبنا بـ (اتفاقيات أبراهام)، فهذه خطوة مهمة إلى الأمام. وكلما رأينا إسرائيل وجيرانها يطبّعون العلاقات ويحسّنونها، فإن ذلك يكون أمراً جيداً لإسرائيل وللدول الأُخرى المعنية، كما أنه جيد للسلام والأمن الشاملَين... إلّا إن هذا لا يعني أن تحديات العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين ستختفي، فهي لم تختفِ، ولا تزال هناك، كما أنها لن تزول بمعجزة. ولذلك نحن نحتاج إلى الانخراط في هذا الشأن، لكن في المقام الأول، على الأطراف المعنية أن تنخرط في ذلك. انظر، الحقيقة القاسية هي أننا، كما أعتقد، بعيدون عن رؤية السلام يحل، ورؤية حل نهائي لجميع المشكلات بين إسرائيل والفلسطينيين ولإقامة دولة فلسطينية. وفي المقام الأول الآن، يجب عدم القيام بأي عمل مؤذٍ، ونحن نسعى للتأكد من ألّا يقوم أي طرف بأعمال أحادية الجانب تجعل آفاق التحرك نحو السلام ونحو حل ما، أكثر صعوبة ممّا هي عليه حالياً. وبعد ذلك، كما نأمل، سنرى كلا الطرفين يتّخذ خطوات لإيجاد بيئة أفضل يمكن أن تجري في إطارها محادثات فعلية."[15]

وأكد بلينكن مجدداً، في المقابلة نفسها، دعم الإدارة لـ "حل الدولتين"، وإن كان واضحاً في كلماته التي أوردناها أعلاه أن هذا الدعم لا يتجاوز حدود الموقف اللفظي. فالوزير الأميركي لا يتوقع حدوث تقدم في المدى القريب في اتجاه تحقيق هذا الهدف، وهو تقدم لا يمكن أن يحدث من دون ممارسة ضغوط على إسرائيل لفرض احترامها للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة، وهي ضغوط لن تمارسها الإدارة الجديدة، مثلما هو واضح. ولمزيد من تأكيد هذا التمنع لدى الإدارة الجديدة من ممارسة أي خطوات عملية للدفع في اتجاه تحقق "حل الدولتين"، أجاب بلينكن، من دون تردد، على سؤال لبليتزر بشأن ما إذا ما كان يعتبر القدس عاصمة إسرائيل: "نعم، أنا أعتبرها كذلك. والأهم نحن نعتبرها كذلك"، ويقصد، طبعاً، الرئيس بايدن والإدارة بصورة عامة. وحين سُئل عمّا إذا كان سيدعم أن تكون لفلسطين عاصمة في القدس الشرقية، تهرّب من الرد بشكل واضح، وقال: "ما علينا أن نراه يحدث هو أن يلتقي الطرفان معاً بشكل مباشر ويتفاوضا على ما يسمّى قضايا الوضع النهائي. هذا هو الهدف. وكما قلت، نحن، لسوء الحظ، بعيدون عن هذا في الوقت الراهن." وهذه مواقف لا يمكن إلّا أن تُدخل الارتياح لدى حكام إسرائيل.

يبدو واضحاً، على الرغم من تراجع إدارة بايدن عن بعض الخطوات التي اتخذتها إدارة ترامب وليس كلها، أن مواقف الدعم لإسرائيل تبقى هي الملموسة والمؤكدة، في حين أن المواقف التي يُفترض أن تلبّي مطالب وحقوق الجانب الآخر في الصراع، أي الجانب الفلسطيني، تبقى نظرية ومطروحة للتفاوض المحكوم، بطبيعة الحال، بموازين القوى المعروف أنها تميل راهناً لمصلحة إسرائيل. فعلى سبيل المثال، حين أعلن بلينكن، في 8 شباط / فبراير، عودة الولايات المتحدة بصفة "مراقب" إلى مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة، ومقرّه في جنيف، بعد أكثر من عامَين على انسحاب إدارة ترامب (في حزيران / يونيو 2018)، قال: "نحن نقرّ بأن مجلس حقوق الإنسان هيئة فيها شوائب تحتاج إلى إصلاح لجدول أعمالها ولعضويتها وتركيزها، بما في ذلك التركيز غير المتوازن على إسرائيل."[16] أي أن الإدارة الجديدة لا ترتاح حتى لقرارات تتخذها الهيئات الدولية للتنديد بالانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطيني وللشرعية الدولية، حتى لو بقيت هذه القرارات مجرد حبر على ورق لا تعيره إسرائيل أي اهتمام، ولا يغير شيئاً في واقع الحال، على الأقل في ظل موازين القوى الراهنة، وفي ظل الدعم الأميركي المتواصل لـ "الطفل المدلل".

وعندما أصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية، في 5 شباط / فبراير 2021، قراراً يقضي بوجود ولاية قضائية للمحكمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 (الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة)، سارع الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس، في اليوم ذاته، إلى التعقيب بالقول: "اليوم، أصدرت محكمة الجنايات الدولية قراراً تدّعي فيه ولايتها القضائية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة، في حين أقرّت بشكل صريح بوجود قضايا قانونية ووقائع تحيط بقدرتها على فعل ذلك." وأضاف: "على غرار ما أوضحناه عندما سعى الفلسطينيون للانضمام إلى نظام روما في سنة 2015، فإننا لا نعتقد أن الفلسطينيين يتمتعون بصفة دولة ذات سيادة، وبالتالي هم غير مؤهلين للحصول على العضوية كدولة، أو المشاركة كدولة في المنظمات والكيانات والمؤتمرات الدولية، بما في ذلك محكمة الجنايات الدولية [....]. لدينا تحفظات جدية بشأن محاولات محكمة الجنايات الدولية ممارسة ولايتها القضائية على موظفين إسرائيليين. والولايات المتحدة اتخذت دائماً موقفاً يعتبر أن ولاية المحكمة القضائية يجب أن تقتصر على الدول التي توافق عليها، أو تلك التي يشير إليها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة."[17]

هكذا، وبينما كانت القيادة الإسرائيلية الحاكمة وأغلبية ساحقة من الرأي العام في إسرائيل، تفضّل بقاء دونالد ترامب في السلطة، وتعتبره أكثر تأييداً من بايدن لإسرائيل ومشاريعها التوسعية، فإن الإدارة الديمقراطية الجديدة لن تُحدث تغييراً جوهرياً على المواقف الأميركية التقليدية المؤيدة لإسرائيل. وللرئيس بايدن سجل طويل من مواقف الدعم الحماسي لإسرائيل منذ بدء نشاطه السياسي في الهيئات التشريعية الأميركية في سبعينيات القرن الماضي. ووفقاً لعدة مصادر، فإنه تدخّل شخصياً في صيف العام الماضي، في البرنامج الانتخابي للحزب الديمقراطي، لمنع إيراد كلمة "احتلال" في سياق الحديث عن سياسات إسرائيل. ولا تقلّ نائبته كامالا هاريس حماسة عنه في دعم إسرائيل وفي المواظبة على حضور مؤتمرات "أيباك" (AIPAC)، اللوبي الأقوى الداعم لإسرائيل. هذا في وقت تُظهر استطلاعات الرأي تغيراً ملحوظاً في مواقف قواعد الحزب الديمقراطي (والرأي العام الأميركي عامة) تجاه سياسات إسرائيل وحكوماتها اليمينية المتعاقبة، وخصوصاً معاملتها للشعب الفلسطيني. ولا شك في أن الرموز اليسارية البارزة في الخريطة السياسية الأميركية، وفي طليعتها عضو مجلس الشيوخ والمرشح السابق للرئاسة بيرني ساندرز، أدت دوراً كبيراً على هذا الصعيد، ولا سيما خلال ترشح ساندرز للانتخابات التمهيدية للرئاسة في سنتَي 2016 و2020.

ومع أن ثلاثة فقط من أعضاء مجلس الشيوخ صوّتوا، في 4 شباط / فبراير 2021، ضد قرار قضى بتثبيت إبقاء سفارة الولايات المتحدة في القدس - وهم ساندرز، والمرشحة الأُخرى للانتخابات التمهيدية للرئاسة إليزابيث وارين، المحسوبة أيضاً على التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي، وعضو ثالث في المجلس هو توم كاربر الذي صوّت لاعتبارات عملية ولا يُعتبر من الجناح اليساري في الحزب - بينما صوّت الأعضاء الـ 97 الآخرون لمصلحة التثبيت، إلّا إن استطلاعات الرأي تعطي نسباً عالية من الراغبين في تغيير سياسة الحزب والدولة تجاه إسرائيل في قواعد الحزب الديمقراطي، وخصوصاً بين الأجيال الشابة التي كانت الأكثر حماسة في تأييد ترشح بيرني ساندرز للرئاسة. ومن الممكن أن يكون لهذه التحولات في الرأي العام تأثير ما في إدارة بايدن، لكن من الواضح أن هذا التأثير، على الأقل في الأسابيع الأولى للإدارة الجديدة، ليس بالقدر الذي يجعل الإدارة تغيّر سياساتها بشكل يستجيب لهذه التغيرات في الرأي العام، ولدى الأجيال الجديدة من قواعد الحزب الديمقراطي.

وفي هذا المجال، كتب فيليب وايس في مقالة أُخرى نشرها في 19 كانون الثاني / يناير 2021، عشية تولّي بايدن لمسؤولياته الرسمية: "إن بايدن، إلى جانب الصهيونيين الليبراليين [الذين ساهموا في إنجاحه في الانتخابات]، سيجدون أنفسهم تحت ضغط هائل من اليسار الديمقراطي، والتقدميين الساندرزيين الذين يكافحون من أجل الحقوق الفلسطينية في أروقة الكونغرس، كي يقوموا فعلاً بشيء ما من أجل حرية الفلسطينيين."[18] إلّا إن القائد العام السابق لحلف شمال الأطلسي الأميرال المتقاعد جيمس ستافريديس رأى أنه في الوقت الذي "ستكون الإدارة أيضاً أكثر مجاملة – على الأقل في العلن - للسلطة الفلسطينية، وأكثر معارضة لمزيد من شرعنة مستعمرات يهودية في الضفة الغربية، وسيكون هناك مزيد من الاحتكاك بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن العلاقة (مع إسرائيل) في المحصلة ستكون قوية."[19]

تأخر اتصال بايدن بنتنياهو يثير تساؤلات في إسرائيل، وواشنطن تطمئن

أثار تأخُّر إجراء بايدن أي اتصال برئيس الحكومة الإسرائيلية [السابق] بنيامين نتنياهو قرابة الشهر منذ توليه مسؤولياته في البيت الابيض، حتى 17 شباط / فبراير، تساؤلات بشأن موقف الإدارة الجديدة، مُشيعاً بعض القلق في إسرائيل. ففي حين أجرى بايدن، منذ الأيام الأولى لولايته، اتصالات بعدد كبير من الزعماء والمسؤولين في أنحاء العالم، من الحلفاء المقربين في أوروبا وقارات أُخرى، فضلاً عن "الخصوم" أو "المنافسين" بمَن فيهم رئيس روسيا فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ، وبينما درج الرؤساء الأميركيون السابقون قبله على المسارعة إلى الاتصال برئيس حكومة إسرائيل في الأيام الأولى لتولّيهم مسؤولياتهم – بمَن في ذلك باراك أوباما – على أساس "العلاقة الخاصة" و"التحالف الاستراتيجي" بين الدولتين، فإن تباطؤ الرئيس الأميركي الجديد في الاتصال بنتنياهو، أثار تساؤلات عن مغزى هذا المسلك غير المعتاد.

وفي هذا السياق، نشر الصحافي الإسرائيلي بن كاسبيت مقالة في 5 شباط / فبراير 2021 بعنوان "ما زال نتنياهو في انتظار الاتصال الهاتفي لبايدن"، كتب فيها أن هناك تساؤلات في رئاسة الحكومة الإسرائيلية بشأن عدم اتصال الرئيس الأميركي بنتنياهو، مع أنه اتصل بالملك الأردني عبد الله الثاني في تشرين الثاني / نوفمبر 2020، أي بعد انتخابه بأيام. وأضاف كاسبيت: "خلف الستائر، هناك قلق يتصاعد في إسرائيل." وسجلت الأوساط الحاكمة في إسرائيل "بقلق، إغفال بايدن ذكر إسرائيل والتهديد الإيراني في خطاب السياسة الخارجية الأول" الذي ألقاه الرئيس الأميركي في 4 شباط / فبراير 2021 من مقرّ وزارة الخارجية. كما نقل كاسبيت وجود عدم ارتياح في إسرائيل من تصريح للمبعوث الأميركي الخاص بشأن الملف الإيراني، روبرت مالي، وذلك قبل تعيينه في الإدارة، انتقد فيه اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده (غالباً من طرف عملاء إسرائيليين)، وعدم ارتياح كذلك تجاه معظم تعيينات إدارة بايدن في مجال السياسة الخارجية، ولكون المعينين الجدد هم، في معظمهم، ممّن انخرطوا سابقاً في عملية إنجاز الاتفاق النووي المبرم مع إيران في سنة 2015 في إبان إدارة أوباما. ونقل كاسبيت عن مصدر أمني إسرائيلي لم يرغب في ذكر اسمه، قوله: "بصورة عامة، الأميركيون يريدون الخروج من الشرق الأوسط بأسرع ما يمكن [....] فهم لا يرون في اقتراب إيران من حافة إنتاج القنبلة النووية تهديداً أو خطراً، لأن لديهم إمكانات قوة عالمية، وجدولاً زمنياً مختلفاً عنا [....] أمّا بالنسبة إلينا، فإن إيران على حافة الإنتاج هي (خطرة جداً)، وهي ذات قدرة نووية تشكل تهديداً وجودياً."[20]

صحيح أن الرئيس بايدن لم يتصل بنتنياهو إلّا بعد مضي أربعة أسابيع على تولّيه مسؤولياته، إلّا إن كبار المسؤولين الأميركيين الآخرين لم يتأخروا في الاتصال بنظرائهم الإسرائيليين. فمجلس الأمن القومي الأميركي أصدر بياناً في 24 كانون الثاني / يناير 2021 ذكر فيه أن مستشار الرئيس بايدن للأمن القومي جيك سوليفان اتصل بنظيره الإسرائيلي مئير بن شابات، مؤكداً أن واشنطن "ستتشاور عن كثب مع إسرائيل في جميع القضايا المتعلقة بالأمن الإقليمي." وتناول المسؤولان، بحسب البيان، "الفرص لتعزيز الشراكة خلال الأشهر المقبلة، بما في ذلك البناء على نجاح ترتيبات التطبيع التي قامت بها إسرائيل مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب."[21]

كما أن وزير الخارجية أنتوني بلينكن، اتصل في اليوم الأول لممارسته مسؤولياته بعد تثبيته في مجلس الشيوخ، في 27 كانون الثاني / يناير، بنظيره الإسرائيلي غابي أشكنازي. وقد تناول الناطق الرسمي باسم الخارجية الأميركية نيد برايس هذا الاتصال قائلاً: "تحدث وزير الخارجية أنتوني ج. بلينكن اليوم مع وزير خارجية إسرائيل غابي أشكنازي، مؤكداً الالتزام الحازم لحكومة الولايات المتحدة بأمن إسرائيل. وناقش الوزيران تحديات الأمن الإقليمي وأهمية التعاون المستمر في التعامل مع هذه القضايا. ورحّب وزير الخارجية الأميركي بالتقدم الحديث المسجل مع (اتفاقيات أبراهام)، مشدداً على اهتمام الولايات المتحدة بمزيد من البناء على هذا التقدم لدفع السلام إلى الأمام. وأكد وزير الخارجية أشكنازي والوزير بلينكن الشراكة الثابتة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وأن البلدين سيعملان بشكل وثيق معاً لمواجهة التحديات المتوقعة."[22]

ومهما تكن الأسباب التي جعلت الرئيس بايدن يؤخر اتصاله الشخصي المباشر بنتنياهو، إلّا إن من الواضح أن ذلك لا يعني تحولاً جوهرياً في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل، تجاوباً مع دعوات التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي، ومثلما يتضح من جملة الإعلانات والتصريحات التي أوردناها أعلاه. وفي جميع الأحوال، فإن من الواضح أن الشرق الأوسط عامة، ليس ضمن أولويات الإدارة الجديدة، مقارنة بقضايا داخلية مثل مواجهة وباء كورونا وانعكاساته على الوضع الاقتصادي، وقضايا خارجية مثل إعادة العلاقات الحميمة مع الحلفاء التقليديين في العالم، وخصوصاً دول أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية، والتي كانت العلاقات معها قد تعرضت لشيء من الفتور في عهد إدارة ترامب، فضلاً عن معالجة العلاقات الدولية الأوسع، ولا سيما مع الدول الكبرى "المنافسة"، وفي المقام الأول الصين وروسيا.

وحتى في الشرق الأوسط، فإن هناك أولويات تسبق، من منظار الإدارة الأميركية الجديدة، موضوع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، مثل الموضوع الإيراني وإعادة إحياء الاتفاق السداسي مع إيران بشأن النشاط النووي بصيغة أو بأُخرى، وإنهاء الحرب المدمرة في اليمن والتورط الأميركي فيها، وكذلك معالجة الأوضاع المتوترة في دول أُخرى في المنطقة ومحيطها، والتي تورطت فيها الولايات المتحدة بدرجات متفاوتة، بدءاً بأفغانستان والعراق، وصولاً إلى ليبيا وحتى سورية. وعلى واشنطن أيضاً أن تحدد موقفها بوضوح أكبر من قرار إدارة ترامب نقل إسرائيل من مظلة المنظومة الأميركية العسكرية في أوروبا إلى القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط "سنتكوم" (Centcom)، وإن كانت المؤشرات الأولى تذهب في اتجاه الحفاظ على هذه الوضعية الجديدة كونها تعزز نزعات التطبيع العربية مع إسرائيل، والتي أيّدتها إدارة بايدن.

وفي إعلان مشترك صدر عن "مجموعة الأزمات الدولية" و"مشروع الولايات المتحدة للشرق الأوسط" (United States Middle East Project) في 15 كانون الأول / ديسمبر 2021، أي بعد انتخاب بايدن وقبل توليه مسؤولياته، ورد أن "من غير المحتمل أن يكون الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي أولوية لدى الإدارة الجديدة للولايات المتحدة، غير أن مسار الصراع وتبعاته على مصالح الولايات المتحدة، يجب، على الرغم من ذلك، أن يكونا موضع اهتمام صنّاع السياسة الأميركيين. على الإدارة الجديدة أن تتعلم من دروس الماضي: عليها أن تكون في آنٍ واحد، طموحة في مجال تغيير معادلات النقاش، ومتواضعة فيما يتعلق بإمكان إنهاء الصراع في أي وقت قريب."[23] ومن المبكر تلمّس مدى التجاوب المحتمل للإدارة الجديدة مع هذه الأفكار، وإن كان من الواضح أنها تشاطر محرّري هذا الإعلان القناعة بعدم الرهان على إنهاء قريب للصراع.

ولفت فيليب وايس إلى أنه، في ضوء المواقف الرسمية الأولية التي أعلنتها إدارة بايدن، فإن المسؤولين الجدد في واشنطن لم يتحدثوا عن رعاية محادثات بين الجانبين، أو دعوة الطرفين إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، خلافاً لإدارات سابقة منذ إدارة كلينتون. واستخلص أن إدارة بايدن "لن تبذل أي رأسمال سياسي لمواجهة اللوبي الإسرائيلي"، و"لن تنفق من رأسمالها السياسي من أجل فلسطين."[24]

ويمكن كذلك تلمّس بعض ملامح هذه السياسة الأميركية المحتملة تجاه الموضوع الفلسطيني – الإسرائيلي، في حديث للناطق باسم الخارجية الأميركية نيد برايس، الذي قال في سياق مؤتمراته الصحافية اليومية، في 2 شباط / فبراير 2021، بعد أن أكد مجدداً موقف الإدارة الداعم لعمليات التطبيع بين إسرائيل ودول عربية: "نحن نأمل بأن تتلاقى إسرائيل ودول أُخرى في المنطقة معاً من أجل جهد مشترك لبناء جسور وشقّ مسارات جديدة للحوار وتبادل الأفكار، بحيث تساهم هذه الجهود في تقدّم ملموس نحو هدف دفع سلام متفاوض عليه بين الإسرائيليين والفلسطينيين."[25] أي أنه يتبنّى عملياً قلب المعادلة التي تضمّنتها "مبادرة السلام العربية" لسنة 2002، بحيث يقوم العرب المطبّعون مع الإسرائيليين بجهود مشتركة لإيجاد شروط جديدة للتقدم في "عملية السلام" بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وأضاف الناطق باسم الخارجية الأميركية في مؤتمره الصحافي ذاته، توضيحاً لحدود خطوات الإدارة الأميركية الجديدة: "إن تعليق المساعدة للشعب الفلسطيني لم يُنتج تقدماً سياسياً ولم يؤمّن تنازلات من القيادة الفلسطينية [....] بل إنه طبعاً لم يتسبب إلّا بالأذى لفلسطينيين أبرياء."

وجاء في مقالة نشرها موقع "أكسيوس" في 17 شباط / فبراير 2021، وتناولت بصورة خاصة دور نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإسرائيلية – الفلسطينية هادي عمرو (المولود في لبنان)، أن إدارة بايدن تعمّدت عدم تعيين مبعوث خاص لـ "عملية السلام في الشرق الأوسط"، بل إنها كلّفت هادي عمرو بمتابعة شؤون الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، من خلال اعتماد سياسة "بناء الثقة من الأسفل إلى الأعلى" بخطوات براغماتية عملية، خلافاً لما قامت به الإدارات التي سبقت إدارة ترامب.

وتشير تلك المقالة إلى أن "عمرو يطوّر خططاً لإعادة التواصل مع السلطة الفلسطينية، والتراجع عن بعض سياسات ترامب وإعادة المساعدة المالية إلى الفلسطينيين، والتي من المحتمل أن تبدأ بـ 75 مليون دولار سبق أن خصّصها الكونغرس لمشاريع الدعم والتنمية." وسيكون أمام عمرو، وفقاً للمقالة، "تحديان سياسيان في الأمد القصير: إعادة تنظيم سياسة الولايات المتحدة فيما يتعلق بمستعمرات الضفة الغربية من دون إشعال مواجهة مع الحكومة الإسرائيلية، وبلورة سياسة بشأن الانتخابات البرلمانية الفلسطينية المخطط لها في 22 أيار / مايو"، علماً بأن عمرو، وفقاً لكاتب المقالة، سبق أن اتصل بالمسؤولين من كلا الجانبين، بمَن في ذلك السفير الإسرائيلي في واشنطن ونائب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، من جهة، ورئيس الحكومة الفلسطينية ومدير الاستخبارات في السلطة الفلسطينية، من جهة أُخرى. وافترض الكاتب أن عمرو سيمثل الولايات المتحدة في اجتماعات الرباعية الدولية، كما أنه يقوم عملياً بدور رئيس بعثة الولايات المتحدة للفلسطينيين في ظل إلحاق إدارة ترامب للقنصلية الأميركية في القدس الشرقية بالسفارة في إسرائيل. ويرى الكاتب أن هذا الدور المنخفض لهادي عمرو يتلاءم مع "الأهداف الأكثر تواضعاً لإدارة بايدن."[26]

تبدو الصورة واضحة: انفراجات محدودة في بعض الجوانب العملية المتعلقة بالشعب الفلسطيني الذي تعاملت معه إدارة ترامب بعدائية وسلبية بالغتَين، لكن من دون الذهاب بعيداً في إعادة السعي من أجل معالجات أكثر استدامة. ويبدو واضحاً أن إدارة بايدن ليست مستعجلة للدفع قدماً نحو إحياء المفاوضات الثنائية بين الجانبَين الفلسطيني والإسرائيلي، لقناعتها بصعوبة التوصل إلى حل بين الطرفين في أي أمد مرئي، نظراً إلى حرصها على عدم ممارسة أي ضغط فاعل على الجانب الإسرائيلي.

ويمكن القول كذلك إن الضعف الراهن للوضعَين الفلسطيني والعربي، وغياب أي عناصر ضغط عربية جادة، سواء على إسرائيل، أو على الإدارة الأميركية لدفعها إلى الضغط على إسرائيل، عنصران لا يوحيان بإمكان حدوث تغييرات جوهرية في مواقف هذه الإدارة الأميركية تقودها إلى دور فاعل للحدّ من غلواء السياسات الإسرائيلية التوسعية والتعسفية تجاه الشعب الفلسطيني وعلى حساب حقوقه الأساسية.

ومن البديهي الإقرار بأن الآليات الداخلية الإسرائيلية لن تفرز أي تغيرات إيجابية تسمح بالتوصل إلى حل للصراع مع الشعب الفلسطيني، مثلما هو واضح من العملية الانتخابية الأخيرة للكنيست، ومن برامج ومواقف الأغلبية الساحقة من الأحزاب الإسرائيلية، وخصوصاً في ظل غياب أي ضغط خارجي أو أي تغيير في موازين القوى. وما دام هذا الضغط الخارجي غائباً، وهذه الموازين مختلة كما هي راهناً، فإن الأمور ستظل تراوح مكانها على صعيد إمكان التوصل إلى حلول مقبولة للشعب الفلسطيني، تبدأ بالضرورة بإنهاء احتلالات سنة 1967.

صحيح أن التخلص من إدارة ترامب تطور إيجابي، وصحيح أن هناك تطوراً ملموساً في مواقف قطاعات واسعة من الشعب الأميركي تجاه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، لكن الطريق نحو تغيير جاد للواقع في منطقتنا، ونحو خلاص الشعب الفلسطيني من محنته المستمرة منذ أكثر من سبعين عاماً، ما زال طويلاً ويتطلب في المقام الأول، عملاً دؤوباً وصبوراً وطويل النفس من طرف الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة المعنية بهذا الأمر.

 

* الكاتب يشكر الصديقَين إبراهيم ودانا عشراوي، المقيمَين في الولايات المتحدة، لمساهمتهما في توفير مصادر المعلومات لهذه المقالة. ويلفت الكاتب النظر إلى أن المقالة كُتبت في شباط/فبراير 2021. 

 

المصادر:

[1] "مجموعة الأزمات الدولية"، "تسع عشرة نصيحة لإدارة بايدن من أجل منع الصراعات" (بروكسل / واشنطن، 28 كانون الثاني / يناير 2020)، ص 8، في الرابط الإلكتروني.

[2] المصدر نفسه، ص 8، 9.

[3] تؤكد قراءة بيان مكتوب أنه جرى صوغه بإشراف أعلى المستويات في الإدارة الجديدة، علماً بأن وزير الخارجية الجديد أنتوني بلينكن لم يكن في ذلك اليوم قد تولى مسؤولياته رسمياً بعد، وهو ما حدث في اليوم التالي، كما أن المندوبة الجديدة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة ليندا توماس - غرينفيلد (Linda Thomas-Greenfield) لم تكن قد حازت مصادقة مجلس الشيوخ لبدء ممارسة مهماتها، الأمر الذي تحقق بعد ذلك بأيام قليلة.

[4] United States Mission to the United Nations, “Remarks at a UN Security Council Open Debate on the Situation in the Middle East” (Rodney Hunter, Political Coordinator), New York, April 22, 2021.

[5] Ibid.

[6] Ibid.

[7] Ibid.

[8] Foundation for Middle East Peace, FMEP Legislative Round-up: January 22, 2021, “Senate Foreign Relations Committee Consideration of Nomination of Anthony Blinken as Secretary of State, 1/19”.

[9] Ibid., “Senate Foreign Relations Committee Consideration of Nomination of Janet Yellen as Treasury Secretary, 1/19”.

[10] Ibid., January 29, 2021, “Hearing to Consider the Nomination of Linda Thomas-Greenfield to be the US Ambassador to the UN”.

[11] Ibid.

[12] Philip Weiss, “Biden’s Secretary of State Praises Trump’s Achievements on Israel”, “Mondoweiss Net”, January 21, 2021.

[13] U.S. Department of State, “Secretary Antony J. Blinken at a Press Availability”, January 27, 2021.

[14] وجّه 25 عضواً في مجلس الشيوخ من الحزبَين الديمقراطي والجمهوري، أي ربع أعضاء المجلس، رسالة إلى الرئيس بايدن في 17 / 2 / 2021 دعوا فيها الإدارة إلى التراجع عن الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. انظر:

Senators Urge Biden to Undo US Recognition of Morocco's Claim to Western Sahara”, “Middle East Eye”, 18 February 2021.

[15] U.S. Department of State, “Secretary Antony J. Blinken with Wolf Blitzer of CNN’s The Situation Room”, February 8, 2021.

[16]US Rejoins UN Rights Council, but Voices Concern over ‘Focus on Israel’ ”, “Middle East Eye”, 8 February 2021.

[17] U.S. Department of State, “Opposing International Criminal Court Attempts to Affirm Territorial Jurisdiction over the Palestinian Situation”, Press Statement by Ned Price, Department Spokesperson, February 5, 2021.

[18] Philip Weiss, “Nathan Thrall Calls Out J St and Other Liberal Zionists for Enabling Apartheid”, “Mondoweiss Net”, January 19, 2012.

[19] James Stavridis, “Biden's Middle East Balancing Act: Israel, Iran, Saudi Arabia”, “Bloomberg”, February 4, 2021.

[20] Ben Caspit, “Netanyahu Still Waiting for Biden’s Phone Call”, “Al-Monitor”, February 5, 2021.

[21]Biden Administration Vows to Consult with Israel on ‘All’ Regional Issues”, “Middle East Eyes”, 24 January 2021.

[22] U.S. Department of State, “Secretary Blinken’s First Call with Israeli Foreign Minister Ashkenazi”, January 27, 2021.

[23]Three Pillars for a New U.S. Approach to Peace in Israel-Palestine”, “Joint Statement by the International Crisis Group and the U.S. Middle East Project”, 15 December 2020.

[24] Philip Weiss, “Admin’s First Signals Show Biden will Spend no Political Capital on Palestine”, “Mondoweiss Net”, January 29, 2021.

[25] U.S. Department of State, “Department Press Briefing by Ned Price, Department Spokesperson”, February 2, 2021.

[26] Barak Ravid, “Biden's Point Man on Israel-Palestine isn't Aiming for a Nobel Prize”, “Axios”, February 17, 2021.

Author biography: 

داود تلحمي: كاتب فلسطيني.