ثمة ثلاثة سيناريوهات في شأن الحصيلة المرتقبة لمفاوضات فيينا على خلفية ارتباك إسرائيلي يتأرجح بين رفض إحياء الاتفاق والإذعان للإصرار الأميركي على التوصل إلى اتفاق مع إيران؛ بين العودة إلى اتفاق 5+1 من دون تغيير في بنوده وإلغاء العقوبات المفروضة على إيران؛ أو التوصل إلى اتفاق معدّل يأخذ في الاعتبار تطور القدرات العسكرية الإيرانية، وخصوصاً في مجال الصواريخ الباليستية، فضلاً عن إشراك دول عربية خليجية في المحادثات؛ أو العمل للتوصل إلى اتفاق جديد موسّع يقارب البرنامج النووي الإيراني في إطار دور إيران الإقليمي المتعاظم، وانعكاساته على التوازن الشامل في منطقة الشرق الأوسط، وعلى سياسات التطبيع الإسرائيلية – العربية.
السيناريو الأول: العودة إلى التزام الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في عهد إدارة الرئيس أوباما، والذي أشرف على الجانب الأميركي المفاوض خلاله فريق يقوده الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن؛ وذلك مع بعض الضمانات التي تطلبها واشنطن لحلفائها مثل إسرائيل والسعودية، في مقابل الاعتراف بمكانة إيران والقبول بدورها الإقليمي في الشرق الأوسط.
السيناريو الثاني: تقترح واشنطن سلّة من الشروط المترابطة تشمل، إلى ضوابط للبرنامج النووي، السلاح الصاروخي الباليستي لإيران وتوسع نفوذها الإقليمي عبر ما يُسمى "محور المقاومة" وأذرعه السياسية والعسكرية في فلسطين ولبنان وسورية والعراق واليمن. وهذا التوجه المرفوض أصلاً من إيران، هو الذي دفع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى التنصل من الاتفاق النووي ورفضه، علماً بأنه لا يتطابق مع التوجهات المعلنة للإدارة الأميركية الحالية.
السيناريو الثالث: المفهوم الناظم لتقدّم المفاوضات، والذي تعززه في الواقع "رسائل التهدئة" في سورية والعراق والخليج، هو أن عملية التسوية تحت عنوان أزمة الملف النووي يفترض أن تستبطن بالتزامن الحوار بشأن الدور الإيراني في الإقليم، وإن كان هذا المسار لا يُطلّ برأسه على طاولة المفاوضات في فيينا. فالولايات المتحدة تدرك أن الدول العربية المتحالفة معها في المنطقة، معنية بهذا "الحوار الاستراتيجي" لاعتبارات أمنية وجيوسياسية، وذلك عقب تجربة الأعوام الستة منذ توقيع الاتفاق النووي، والتي غلبت عليها أجواء حرب باردة وحروب بالوكالة (سورية، واليمن) بين إيران وهذه الدول العربية.
إن المعضلة في فيينا، مثلما يدل الغموض المهيمن على جولات التفاوض المتتالية، هي أن الإدارة الأميركية الجديدة، وبعض شركائها الأوروبيين، يريدان العودة إلى الاتفاق مع إيران بشروط جديدة تشمل مشروع طهران الصاروخي البالستي، ونفوذها الإقليمي الذي يتصل بالموضوع الفلسطيني، وتالياً بالأمن الإسرائيلي. ويرى الجانب الإيراني الذي تجاوز بدوره بنود الاتفاق النووي برفع درجة التخصيب إلى 60%، أن إدارة بايدن أمامها فرصة واحدة لإنقاذ الاتفاق النووي، وهي إلغاء جميع العقوبات الاقتصادية والمالية التي فُرضت على إيران، من دون قيد أو شرط.
ويرافق الشروط الغربية التي تلقى تحفظات من الصين وروسية تصل إلى حدود الرفض، السعي للحصول على ضمانات إيرانية للتأكد من إعادة البرنامج النووي إلى ما كان عليه في 8 أيار/مايو 2018. وتعني هذه الشروط في واقع الأمر، احتواء دينامية السياسة الإيرانية وفصلها عن محيطها الإقليمي، مثلما جرى مع مصر عقب معاهدة كامب ديفيد، ويجري حالياً مع تركيا القطب الإقليمي الآخر.
تحولات بنيوية؟
قد يكون ضرباً من المغالاة، الحديث عن تحولات إقليمية بنيوية تنبثق من التقارب الأميركي – الإيراني. لكن الأمر الواقع، أن ثمة مناخات وفاقية محرّكها تسوية إقليمية مرتقبة تدفع اللاعبين الإقليميين إلى التحوط إزاء ارتداداتها المحتملة، أو إعادة التموضع لاستقبال نتائجها. وتتصدر هذه الظاهرة، المحادثات السعودية – الإيرانية في بغداد المرشحة لأن تكون أرض لقاء وتعاون بين العرب والإيرانيين، فضلاً عن خطوات التطبيع المصرية - التركية، عقب قطيعة طويلة تُوّجت بالتموضع التركي على الساحة الليبية التي تتّسم بأهمية حيوية بالنسبة إلى الأمن المصري، والتقدم نحو بؤرة التنافس الدولي في شرق المتوسط.
وإذا كان انفجار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في نطاق معركة "سيف القدس" لمواجهة العدوان الصهيوني على القدس والمسجد الأقصى والفلتان الاستيطاني اليهودي، لم يُسفر عن تعثّر أو إحباط في مسار المفاوضات الإيرانية – الأميركية (وإن كان التصعيد الإسرائيلي الوحشي ضد قطاع غزة، والتحريض ضد حركة "حماس"، قد أثارا تساؤلات عن الافتراق الأميركي – الإسرائيلي بشأن الاتفاق النووي)، فإن عودة القضية الفلسطينية إلى الأجندة الدولية باعتبارها المسألة المركزية في نظام الصراع في الشرق الأوسط، وضعت الأمور مجدداً في نصابها. فقد تهاوت الخدعة الصهيونية التي تقوم على تهريب الأزمة الإسرائيلية من حقل التناقض الأساسي مع الشعب الفلسطيني وكفاحه من أجل دحر الاحتلال والاستيطان الكولونيالي.
لقد صار واضحاً من خلال رصد اتجاهات النقاش السياسي الإسرائيلي، أن التركيز بات مصوّباً على ما بعد الاتفاق النووي، بعدما جرى تبليغ المسؤولين الإسرائيليين الأمنيين والعسكريين الذين توافدوا على واشنطن في أثناء مفاوضات فيينا، أن إدارة الرئيس بايدن ماضية في عملية التفاهم مع إيران. وفي ضوء هذا التطور لم يكن في وسع الإسرائيليين سوى التحول إلى المطالبة بضمان تفوّقهم العسكري، مع التشديد على أن مصدر قلقهم هو موضوع الصواريخ الدقيقة، ولا سيما أن حرب غزة الأخيرة أظهرت فاعلية المعادلة الصاروخية.
آفاق التطبيع
تتمحور الأسئلة هنا على مآلات دينامية التطبيع والمصالحة، والتي تبدو على ارتباط باتجاهات التقارب والتفاهم بين إيران وأميركا والسعودية. فما هي آفاق وحدود هذه الظاهرة المعقدة؟ وما هي النتائج التي يمكن توقّعها من الانفراج الإقليمي النسبي؟
المحادثات السعودية – الإيرانية انطلقت في بغداد باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من مسار مفاوضات فيينا، والهدف هو التوصل إلى تفاهمات مشتركة، وخصوصاً بشأن ملف حرب اليمن، الشغل الشاغل للسعوديين، بعد الاتفاق على إعادة العلاقات القنصلية والدبلوماسية بين الرياض وطهران.[1] وكانت السعودية قطعت العلاقات مع إيران في سنة 2012 ردّاً على تظاهرة تعرّضت للسفارة السعودية في طهران احتجاجاً على إعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر.
ويبدو أن المسؤولين السعوديين توصلوا إلى اقتناع فحواه أنهم غير قادرين على تسوية الأزمة اليمنية ووضع حدٍّ للنزاع من دون طهران التي تملك مفاتيح إخراجهم من هذا المأزق. ويمكن أن نتصور أن العودة الأميركية إلى المفاوضات النووية في إطار إحياء الاستراتيجيا الرامية إلى تحويل التركيز من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى (الصين)، وتالياً تفكّك العوامل التي تفرض بقاء القوات الأميركية بحجمها الحالي في منطقة الخليج بذريعة حمايتها من إيران، دفعا الرياض إلى فتح صفحة جديدة مع طهران لتفادي العزلة واستعادة شيء من المبادرة.
واللافت للانتباه أن المحادثات السعودية – الإيرانية تزامنت مع تصريحات متلفزة لوليّ العهد محمد بن سلمان تحدث فيها للمرة الأولى عن إيران معتمداً خطاباً إيجابياً يوحي بمقاربة سعودية واقعية للدور الإيراني في الحرب اليمنية، بعيداً عن تضخيم هذا الدور وشيطنته، مثلما كانت الحال في الرياض طوال الأعوام الماضية؛ كما يوحي بالتوصل إلى قناعة فحواها أن الاستقرار الأمني في الخليج يفترض بالضرورة مشاركة إيران ذات الوزن الكبير على الضفة الأُخرى.[2]
أمّا المؤشر الثاني إلى ظاهرة الانفراج الإقليمي، فهو الانفتاح السعودي على النظام السوري، والذي تمثلت ترجمته الأولى في زيارة وفد سعودي رفيع لدمشق في الخامس من أيار / مايو 2021 تمهيداً لإعادة فتح سفارة المملكة هناك. وتأتي هذه الخطوة التي تلقى تشجيعاً من مصر، والتي سبقتها خطوة إماراتية مماثلة، في إطار السعي العربي لإعادة سورية إلى حضن الجامعة العربية، وتالياً محاولة موازنة الدور الإيراني في سياق إعادة تعزيز الحضور العربي في العراق.
العلاقة النسقية
لا يمكن فصل التحول في السياسة الإقليمية التركية لجهة التطبيع والمصالحة مع مصر عقب تجربة التورط في الحربَين السورية والليبية، عن اتجاهات التقارب الإيرانية – الأميركية، وما ترتّب من انعكاسات على التوازن الجيوسياسي لتركيا في مدار المثلث الروسي / الإيراني / التركي، علماً بأن القطبَين التركي والإيراني يحتاجان دائماً في العلاقة النسقية إلى قطب عربي وازن ومتماسك، وهو ما تحاول مصر استعادته عبر الملف الفلسطيني، والذي يصعب في غيابه تصوّر علاقات تفاعلية متوازنة في "مثلث القوة" العربي/التركي/الإيراني.[3]
في أي حال، لا يزال من السابق لأوانه توقّع عودة العلاقات التركية مع مصر إلى سابق عهدها، أي إلى الزمن الذي كان وزير الخارجية، ثم رئيس الحكومة السابق أحمد داود أوغلو، يعتبر أن مصر هي الركن الأساسي في السياسة العربية لأنقرة. وهنا، ليس مستبعداً أن يكون الرئيس رجب طيّب أردوغان الذي بادر إلى إرسال وفد تركي إلى القاهرة في مطلع أيار / مايو 2021، للبحث في إصلاح العلاقات الثنائية، وإعادة ضخّ بعض الدفء فيها بعدما عرفت تدهوراً شاملاً عقب الانقلاب على حكومة الرئيس محمد مرسي، قد توصّل أخيراً في ضوء دروس التورط في الحرب السورية، والصراع المتصاعد مع أوروبا في شرق المتوسط، إلى الاستنتاج أن لا أفق حقيقياً لسياسة إقليمية لتركيا من دون ترتيب العلاقة بالقاهرة.
إن انتظار حدوث اختراق كبير في ملف حرب اليمن والأزمة السورية في سياق تفاهم إقليمي دولي بشأن دور إيران في المنطقة، لن يكون كافياً للبناء على حالة التطبيع الإقليمية، والانطلاق منها لإرساء أسس وقواعد للتعاون والتنسيق على النحو السائد في اتحادات وتكتلات إقليمية في آسيا وأميركا اللاتينية. لذلك، سيبقى مؤجلاً حتى إشعار آخر، البحث عن ترتيب إقليمي يتطلب قيام بُنية للأمن والاستقرار لا تزال شروطها غير متوافرة، وذلك في مرحلة انتقالية تشهد اختلال آليات الضبط، وفضّ النزاعات تحت وطأة الانسحاب المتسارع لقوة عالمية عظمى، وعودة قوة عالمية أُخرى إلى المسرح، إلى جانب قوى إقليمية تتنافس على الزعامة، واستقطابات فرعية تحل مكان النظام العربي المتداعي.
وعلى الرغم من احتمال اشتداد التنافس نتيجة الانكفاء الأميركي بين قوى دولية تتموضع بدرجات متفاوتة على مسرح الشرق الأوسط، ولها مصالح متشابكة مع قوى وأطراف إقليميين، فإن مصلحة التوازن الإقليمي، واحتواء التهديد الإسرائيلي، يُفترض أن يدفعا نحو ترجيح كفّة الانفراج، وإن بتعدد المبادرات والمراكز.
المصادر:
[1] بدأت المحادثات السعودية – الإيرانية في التاسع من نيسان / أبريل 2021 في بغداد تحت غطاء من السرّية، وكان محورها الرئيسي الأزمة اليمنية، علاوة على شؤون إقليمية أُخرى تعني الجانبين، ومنها الأزمة الاقتصادية اللبنانية. وكشفت صحيفة "الفايننشال تايمز" هذه المحادثات في 17 نيسان / أبريل، قبل أن تؤكدها الرياض رسمياً في 7 أيار / مايو، وطهران في 10 أيار / مايو.
[2] ورد الموقف السعودي الإيجابي من الأزمة مع إيران في سياق مقابلة أجراها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في 28 نيسان / أبريل الماضي، بمناسبة الذكرى الخامسة لإطلاق رؤية 20 / 30، وبثّها التلفزيون السعودي وقناة العربية، وقنوات عربية أُخرى. ويمكن الاستماع إلى المقابلة على موقع يوتيوب في الرابط الإلكتروني.
[3] بارادايم "مثلث القوة" العربي/التركي/الإيراني، صاغه المفكر الجيوسياسي المصري جمال حمدان، وهو ذهب في أبحاثه إلى وصف "مثلث القوة" هذا بأنه محور القوة في العالم العربي الإسلامي. واتخذ باحثون عرب آخرون هذا البارادايم أساساً لتصوّر منظومة إقليمية تضم العرب والأتراك والإيرانيين، وتستوحي تجربة بناء الاتحاد الأوروبي.