كثيراً ما شارك فلسطينيو 48 في النشاطات الاحتجاجية التي كانت تجري بصورة خاصة في المسجد الأقصى، فرابطوا فيه إلى جانب أشقائهم المقدسيين، ومَن تمكّن من دخول القدس المحتلة من الضفة الغربية، كما كان لهم وقفاتهم الاحتجاجية الخاصة بأوضاعهم كمواطنين في إسرائيل محرومين من كثير من الحقوق، وتمارَس ضدهم بصورة منظمة ومدروسة، جميع أشكال التمييز والتهميش، من طرف المؤسسة الإسرائيلية. ويكفي أن نُذكّر بيوم الأرض في 30 آذار / مارس 1976، حين انتفض فلسطينيو 48 ضد مصادرة آلاف الدونمات من الأراضي الخاصة أو المشاع في الجليل والمثلث والنقب، وكيف عمّ الإضراب العام المناطق كلها، واندلعت مواجهات أسفرت عن سقوط ستة شهداء، وإصابة واعتقال المئات. وبات يوم الأرض يُعتبر حدثاً محورياً ومؤسساً في الصراع على الأرض وفي علاقتهم بالمؤسسة الإسرائيلية، كونها المرة الأولى التي ينظّم فيها فلسطينيو 1948 احتجاجات رداً على السياسات الصهيونية بصفة جماعية وطنية فلسطينية.
كما أن فلسطينيي 1948 ما زالوا ينظمون نشاطات دورية في القرى والبلدات المدمرة، تشديداً على التشبث بالأرض والحقّ اللذين لا يزولا، على الرغم من التدمير الشامل والممنهج والمجازر التي ارتُكبت خلال نكبة 1948 وبعدها.
في هبّة أيار / مايو 2021، كان الأمر مختلفاً بصورة جذرية، فقد شهد معظم المدن والبلدات والقرى ذات الأغلبية العربية، وما يُسمى المدن المختلطة، احتجاجات صاخبة ضد الممارسات العنصرية التي انتشرت بشكل واسع، والتي اشترك فيها المتطرفون الصهيونيون والشرطة الإسرائيلية ضد المواطنين العرب، وهي احتجاجات اندلعت نصرة للقدس، ومشاركة للهبّة التي شملت الضفة الغربية وقطاع غزة.
لكن التظاهرات التي كانت ذات طابع سلمي، تعمدت المؤسسة الإسرائيلية مواجهتها باستعمال العنف، فسقط الشهيدان موسى حسونة من اللد على يد مستوطن متطرف، والشاب محمد كيوان في أم الفحم بنيران الشرطة الإسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى توتر الوضع في مختلف القرى والمدن، وحدوث مواجهات هي الأعنف منذ هبّة القدس والأقصى في تشرين الأول / أكتوبر 2000.
ترابط المصير وقلب المعادلات
انتفاضة فلسطين التاريخية كلها، بثّت لدى فلسطينيي 48 مزيداً من الشعور بالانتماء إلى فلسطينيتهم التي لم يتخلوا عنها يوماً على الرغم من سياسات العزل السياسي والاجتماعي والقمع على خلفية قومية. فقد شعروا بأنهم جزء من شعب مترابط يمارس أشكال المقاومة كلها لهدف استراتيجي / حلم واحد، هو فلسطين. وجاءت صواريخ غزة وهبّة القدس ومواجهات الضفة، وتظاهرات الشتات وفي دول العالم، لتعلن أن الشعب الفلسطيني، شبه الأعزل، يمكنه أن يقاوم الطاغوت الصهيوني، بل يفرض عليه موازين قوى ومعادلات جديدة تربط بين ما يجري في أي جزء من أجزاء الوطن: غزة والضفة والقدس والـ 48.
طفل من فلسطينيي 48، يحمل لافتة تضامناً مع حي الشيخ جرّاح، خلال نشاط تضامني.
(الصور في هذا التحقيق خاصة بـ "مجلة الدراسات الفلسطينية")
ترى المربية ثائرة حاج - يحيى (40 عاماً، من بلدة الطيبة) أن "الأحداث غيرت المعادلات وقلبت الموازين على المستوى الشعبي المحلي وعلى المستوى الإقليمي تجاه القضية الفلسطينية، وأثبتت أن الخيار هو خيار المقاومة التي قالت للمعتدي المحتل إن زمن الهزائم ولى، وإن اليد الطولى أصبحت للمقاومة التي بات في استطاعتها أن تفرض شروط المعركة." فانتصار المقاومة، مثلما تقول، "كان انتصاراً ذا أبعاد وانعكاسات مستقبلية."
وتعتبر حاج - يحيى أن "تلاحم الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده لنصرة مقدساته ولنصرة قضيته التي هي أهم القضايا، والتي حاول المحتل محوها من خلال صفقة القرن والتهويد، مثّل تحولاً كان له صدى عالمي إزاء القضية الفلسطينية"، ويحمل "متغيرات محورية تدعم نضال الشعب الفلسطيني حتى التحرير الكامل."
وتؤكد المربية والمترجمة ديما كناعنة (39 عاماً، من قرية كفر قرع) أن مشاركة فلسطينيي الأراضي المحتلة منذ سنة ١٩٤٨ "فيما بات يُعرف بهبّة الكرامة تضامناً مع القدس والمسجد الأقصى، هي تأكيد أن الجماهير العربية جزء لا يتجزأ من شعبنا العربي الفلسطيني."
وتقول: "كانت مشاركة الفلسطينيين لإخوانهم في سائر أرجاء الوطن انحيازاً إلى قضايانا الوطنية، ودفاعاً عن رموزنا الدينية والوطنية، إذ إن ما قامت به السلطات الإسرائيلية من اعتداءات متكررة على الأقصى ومدينة القدس المحتلة، وشنّها حرباً على قطاع غزة، كانا أعمالاً مستفزة للغاية، لا يقبل بها أي إنسان حر، فكيف بالحري عندما يتم الحديث عن رموز دينية ووطنية؟"
ويتوافق رأي الطالب بشار حسن (17 عاماً، من باقة الغربية) مع سائر الآراء بشأن وحدة المصير، فيقول: "ممّا لا شك فيه أن الهبّة في الأراضي المحتلة منذ سنة 1948، هي دليل على مدى ترابط مصير الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده، ففلسطينيو 48 هم الجزء الثالث لضلع المثلث الفلسطيني: في الأراضي المحتلة منذ سنة 1948، وتلك المحتلة منذ سنة 1967، وفي الشتات."
تضامناً مع القدس والأقصى.
مواجهة الاحتلال والتمييز
لا فرق بين السياسات الاحتلالية والاستعمارية في الضفة الغربية والقدس، والحصار المحكم على قطاع غزة، وبين سياسات التمييز على أساس عرقي وديني ضد فلسطينيي الداخل في أراضي 1948. هذا ما يؤكده فلسطينيو 48 الذين يربطون بين النضالين ضد شكلَي الاحتلال في فلسطين كلها.
يؤكد سامي علي (38 عاماً)، وهو رئيس اللجنة الشعبية في قرية جسر الزرقاء ويعمل أيضاً مستشاراً إعلامياً، وفي مجال الصحافة: "لقد ثار الشباب في القرى والمدن الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1948، معبّرين عن غضبهم واحتجاجهم على ممارسات المؤسسة الإسرائيلية وسياساتها، وكانت الاعتداءات على المصلّين والمسجد الأقصى والمحاولات الحثيثة لتهجير سكان حي الشيخ جرّاح، الفتيل الذي أشعل الهبّة التي باغتت أذرع الأمن الإسرائيلية وأخذتها على حين غرّة."
أمّا فيما يتعلق بأسباب انتفاضة شباب 48، فيقول علي: "الدوافع والأسباب العميقة التي دفعت الشباب إلى الانتفاض تختلف بين مكان وآخر. فدوافع الغضب لدى شباب المدن تختلف عنها لدى شباب القرى، في حين كان الدافع المباشر محاولات تهجير سكان حي الشيخ جرّاح في مدينة القدس المحتلة، واقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال. أمّا الدوافع والأسباب الأُخرى فهي الغبن المتراكم الذي يعيشه الشباب، والسياسات العنصرية والتمييزية، والتضييقات والملاحقات وانعدام الأمن الشخصي والعام في بلداتهم، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة، مثل أزمة السكن وعدم قدرتهم على توفير شقة، وانعدام أي أمل وأفق لمستقبل آمن يضمن لهم العيش الكريم."
تجاوب كامل مع إضراب الكرامة في أراضي 48، حيث عمّ الإضراب أرجاء فلسطين التاريخية كافة.
ويلفت سامي علي إلى أن الاحتجاج والغضب لم يكونا موجهَين فقط ضد المؤسستَين الإسرائيليتين السياسية والأمنية، "بل أيضاً ضد الحكم المحلي في البلدات العربية، وخصوصاً القرى، أي ضد المجالس المحلية وقياداتها التي فشلت، في نظر الشباب، في توفير حياة آمنة وسكن ومستوى تعليمي ملائم، وجودة حياة ومستقبل." ويضيف: "ومنهم مَن ثار ضد الشرطة لأسباب شخصية، وضد القمع والعنف الشرطي، ومنهم مَن عبّر عن استيائه من الحصار والفقر والبطالة وتدنّي التعليم وحرمانه من تحقيق أحلامه ومن سياسة هدم المنازل. وفضلاً عن الدافع القومي، هنالك أيضاً دوافع اجتماعية ونفسية شخصية واقتصادية."
ويوضح علي أن الأمر في "المدن المختلطة" يختلف، إذ ثمة عوامل أُخرى تتعلق بالوجود العربي في هذه المدن في ظل التهويد والاستيطان اليهودي التوراتي الذي يحاول احتلال هذه المدن، ولا سيما في ظل الهجرة النوعية للطبقة الفلسطينية الوسطى إلى المدن المختلطة التاريخية مثل يافا وحيفا واللد والرملة وعكا. فهذه الهجرة التي عززت وجود ما تبقّى من سكان أصليين، جوبهت بعنجهية المستوطنين الذين يعملون ما في وسعهم لتعزيز الاستيطان اليهودي، ومنع المواطنين العرب من السكن في أي حيّز مشترك في المدن المختلطة (المدن التاريخية). وتتجلى سياسة تهجير العرب، أو تفريغ المدن المختلطة التاريخية والحديثة من العرب، بعدة وسائل جليّة وخفية، منها الهدم وتحويل الأحياء العربية إلى غيتوات فقر وجريمة ومخدرات وحرمانها من أبسط الخدمات."
ويعتبر سامي علي أن "دور الدوافع الاجتماعية الاقتصادية يتفاوت من مدينة إلى أُخرى، في رفد وتغذية الهبّة وغضب الشباب. ففي حيفا مثلاً، كان للدافع القومي والوطني والوعي الجمعي الدور الأكبر، بينما أدى الحافز الديني في أم الفحم وغيرها دوراً أيضاً."
ويختم علي قائلاً: مع هذا كله، فإن القاسم المشترك هو الدافع الوطني الديني الذي كان المحرك الأساسي. فعلى الرغم من تعدد الدوافع، فإن ميداناً واحداً جمع الشباب ووحّد صفهم ورسالتهم."
عضو بلدية الرملة المحامي ورجل الأعمال والناشط السياسي والاجتماعي نايف أبو صويص (53 عاماً)، يرى بدوره أن "ما شهدته المدن التاريخية هو نتيجة تراكم السياسات الإسرائيلية التمييزية ضد فلسطينيي 48 عامة، وفلسطينيي المدن الساحلية خاصة، فسكان هذه المدن يشكلون نحو 10% من مجمل فلسطينيي 48 البالغ عددهم أكثر من مليون ونصف مليون مواطن." ويقول: "سكان المدن التاريخية يعانون التمييز المزدوج من طرف الحكم المركزي أولاً، والحكم المحلي ثانياً. فمثلاً، في مدينة اللد حيث تستشري سياسة التمييز الممنهج والتهميش ضد العرب طوال 73 عاماً، يُعتبر عمدة المدينة يائير رفيفو من أكبر مشجعي وداعمي المستوطنين."
حريق في إثر مواجهة بين فلسطينيي 48 والشرطة والمستوطنين الإسرائيليين.
ويختم أبو صويص كلامه مؤكداً: "نحن سكان هذه المدن جزء لا يتجزأ من الشعب العربي الفلسطيني، وهمّنا وألمنا واحد ومصيرنا كفلسطينيين واحد، وسنعمل كقيادات محلية وقطرية على إيجاد السبل لمواصلة النضال من أجل تحصيل حقوقنا المدنية وفي إطار القانون، كما سنعمل على خدمة أهلنا قدر ما استطعنا." وفي شأن المستقبل، يقول: "للأسف المستقبل غير مشجع، لكننا سنبقى محافظين على عروبة وفلسطينية الحيّز والمكان، وسنظل حرّاس الذاكرة الفلسطينية في بلداتنا التاريخية، ومناضلين لمنع محو الحضارة فيها، فالحديث هنا هو عن مدن لها تاريخها في حياة شعبنا الفلسطيني وعمقنا العربي والإسلامي."
وتُبدي ديما كناعنة اعتقادها بأن "هبّة فلسطينيي 48 هي مسألة مفصلية في مواجهة تعامل الدولة الإسرائيلية مع مَن يُفترض أنهم مواطنون فيها، وفي النضال لنيل الحقوق المدنية وضمان حياة أفضل تتلاءم مع متطلبات العصر، ولرفع الغبن القائم في حقّهم والمتواصل منذ النكبة الفلسطينية في سنة 1948."
وتؤكد أحلام زطمة (40 سنة)، وهي موظفة من الناصرة لكنها تعيش في يافا: "سياسة إسرائيل لم تتغير في القدس من خلال تكثيف الاستيطان وزيادة المستوطنين اليهود في البلدة القديمة، فضلاً عن سياسة تهويد الأرض والمكان في المدينة المقدسة، ومواصلة مساعيها لوضع المخططات الهادفة إلى تغيير طابع المدينة العربي الفلسطيني الإسلامي." أمّا فيما يتعلق بالفلسطينيين في المدن التاريخية (يافا؛ اللد؛ الرملة؛ عكا)، فتقول: "يتعلق الأمر أكثر بتمييز مزدوج تمارسه السلطات الإسرائيلية في حقّ المواطنين الأصلانيين فيها، إذ نرى الهجمة الشرسة من طرف غلاة المستوطنين الذين يحاولون الاستيلاء على الأحياء العربية، مثلما يحدث في اللد، وإقامة النواة التوراتية، وكذلك في يافا حيث أسكن، وخصوصاً في حي العجمي التاريخي وسائر أحياء يافا القديمة."
إن النيات العنصرية ضد الجماهير العربية والفلسطينيين واضحة، على ما تستطرد زطمة، وتؤكد أن من "حقنا الاعتراض على المخططات الإسرائيلية، وقد نجحنا كفلسطينيين في التصدي للاعتداءات العنصرية. لقد كنت أجانب الاحتياط والحذر خلال الأحداث، لكننا ندافع عن حقوقنا كمواطنين في البلد، فالأحداث أظهرت مدى العنصرية ضد المجتمع العربي في إسرائيل، وكذلك في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967."
وعن المستقبل، تقول أحلام زطمة: "المستقبل معقد وغير واضح، فالوضع العام هنا معقد، لكننا ما زلنا صامدين، وسنناضل دائماً للحصول على حقوقنا المدنية، وسنبقى لهم بالمرصاد، وهذه الحرب ستتواصل، وفي النهاية ستنكسر شوكة المحتل على صخرة الصمود الفلسطيني."
أمّا الطالب بشار حسن فيرى أن "وقفة فلسطينيي 48 جاءت أيضاً للتعبير عن مدى الغضب المتراكم حيال ممارسات سياسة الحكومة الإسرائيلية التي تقوم بها ضد أهلنا في الأرض المحتلة منذ سنة 48، فهناك التمييز قائم على أساس قومي، والأمثلة كثيرة ومتعددة، ويمكن القول إن الأهداف تتعدد، لكن الظلم واحد. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الهبّة جاءت للتعبير عن كرامة الجيل الفلسطيني الشاب داخل الأرض المحتلة، وأن الوقت حان لأن تتعامل معنا إسرائيل كمواطنين متساوين، ومن دون تمييز على أساس عرقي."