شيّع الفلسطينيون، في هبّة القدس، الحزن والانكسار والتقسيم والضياع، فعادت جروحهم تزهر أملاً، واستعادت روحهم ذاتها ورائحة زهر برتقال فلسطين، ورجعت فلسطينهم مثلما كانت، من البحر إلى النهر مكتسية ثوباً تَعَشّق بعبق المقاومة، ومستعيدة صوتها وكلامها وثورتها؛ من باب العمود إلى الشيخ جرّاح، مروراً بشوارع القدس التي انفتحت على رام الله وبيت لحم ونابلس والخليل وكسرت حواجز قهرت الروح، وصولاً إلى شوارع اللد وساحل يافا وحيفا وأسوار عكا وجرمق صفد، مغذّية شريان الحياة في غزة والنقب.
أصوات اللاجئين عادت إلى الحياة، بعد أن صاروا يحملون فلسطينهم في الحقائب والصور والذكريات؛ عادت إليهم فلسطين، وعاد صوتها يصرخ عالياً في الشوارع؛ عادت تصدح في قلوبهم أغنيات شابات وشباب حيفا ويافا؛ عاد النقب ينتفض على تهجيره ويغضب، واللد قامت من المجزرة منتزعة علم الاحتلال من فوق سياج الغيتو، بذراع شاب جسور. صارت فلسطين إليهم أقرب، فكان كل ما يحدث كأنه قيامة الذكريات والقبور والمجازر على واقع الاحتلال بوقاحته وفجاجته، إذ رجع المستوطنون يحومون في الشوارع كأنهم في ليلة "النكبة" يصرخون خوفاً من الحارات والبحر والرمال وحجارة البيوت، وباتوا يخافون من ظلال الزيتون، وصار كل شيء في عيونهم سراباً، وأضحوا عصابات بلبوس "الشرطة" والعسس ليقتلوا الفلسطيني وظله، ويعتقلوا حلمه وخيال المستقبل؛ عادت السردية تكتب أولى حروفها بأن ما يحدث هو ذلك الصراع الأبدي بين مستعمِر ومستعمَر، لتعيدنا تلك الجملة المتلعثمة من طفلة صغيرة إلى البدايات: "والله مش رح نعيدها، أنا بخاف تاخذوه ويروح معاكم ويطوّل."
صورة من مقطع الفيديو تُظهر الطفلة وهي تبكي
المصدر: موقع قناة "الجزيرة"، ويمكن مشاهدة الفيديو في موقع "يوتيوب"
كسر قلوبنا مشهد بكاء الطفلة وهي تتوسل جنود الاحتلال ألّا يعتقلوا أخاها؛ تلك الجمل المتقطعة التي كانت تخرج بصوت متحشرج يقطعة بكاء تحكي كثيراً عن إدراك تلك الصغيرة التي لا تتجاوز السادسة لماهية الاعتقالات التي يقوم بها جنود الاحتلال. هذه المقدسية الصغيرة تعرف أن أخاها سيغيب، وأنه لن يكون لعودته موعد. والأمر الذي يزيد القهر قهراً في هذا المشهد، هو ذلك الطفل ابن العاشرة الذي جرى اعتقاله، ورأيناه يجلس داخل السيارة بهدوء ويقين الكبار بأنه معتقل. لم نره مفزوعاً يبكي مثلما يجدر بالصغار أن يفعلوا، وإنما كان ينظر إلى البعيد كأنه ورث وجع الاعتقال!
هذه الحكاية لم تكن الوحيدة، إذ يكفي أن نتذكر محمد ربيع العليان الذي لم يتجاوز الأربعة أعوام من عمره وهو يمشي وكيس حاجاته بيده إلى المحكمة بدعوى إلقائه الحجارة على جنود ومركبات الاحتلال. كان محمد صغيراً كحبّة سكر وهو يمشي في الطريق إلى "محكمة" تعرف كيف تسجن الأحلام وتقاضي الصغار!
الطفل محمد ربيع العليان متوجهاً إلى المحكمة الإسرائيلية
المصدر: موقع قناة "الجزيرة"، ويمكن مشاهدة فيديو له وهو يتوجه إلى المحكمة، في الرابط الإلكتروني
وليس بعيداً عن محمد نرى طفلاً آخر على دراجته الصغيرة يدهسه جنود الاحتلال لأنه زيّن دراجته بعلم فلسطين في مدينة القدس المحتلة، ثم يتكاثرون عليه مدججين بالحقد والكراهية لاعتقال براعم أحلامه!
إن الأرقام عن عدد الأطفال المعتقلين تخرج عن نطاق كونها أرقاماً لتصير نمط حياة ووجعاً ممتداً، إذ إن أكثر من 50,000 حالة اعتقال سُجلت في صفوف الأطفال الفلسطينيين (ما دون 18 عاماً، خلافاً لما تنصّ عليه القوانين الدولية)؛ وبلغ عدد الأسرى الأطفال والقاصرين رهن الاعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلي في نهاية حزيران / يونيو 2020 نحو 160 طفلاً وطفلة في معتقلات "مجدو"، و"عوفر"، و"الدامون"، علاوة على وجود عدد في مراكز التوقيف والتحقيق، وعلى عدة أطفال من القدس يحتجزهم الاحتلال في مراكز اجتماعية خاصة، لأن أعمارهم تقلّ عن 14 عاماً، وذلك بحسب تقارير هيئة شؤون الأسرى والمحررين.
والمؤلم أن هؤلاء الأطفال يتعرضون لما يتعرض له الكبار من قسوة في طريقة الاعتقال والتعذيب، وخضوع لمحاكمات جائرة ومعاملة غير إنسانية، ويكفي أن نتخيل كيف سيكون مستقبل طفل سُرقت منه طفولته وألعابه وسكاكره، وقضى أيامه وهو يقبع في السجن يقارع السجان خلف القضبان المعتمة بدلاً من أن يلهو ويرفل بالحب والحنان!
صور الاعتقال التي نراها كل يوم ما هي إلّا حكاية شعب أمضى عمره في الطريق إلى الاعتقال، أو في طريق العودة منه. لذلك ليس غريباً أن تعلن مؤسسات فلسطينية معنية بشؤون الأسرى أن إسرائيل اعتقلت منذ حزيران / يونيو 1967، حتى نهاية حزيران / يونيو 2020، مليون فلسطيني!
ومع كل هبّة جماهيرية أو غضب فلسطيني جرّاء انتهاكات تطال كرامة الإنسان الفلسطيني وحياته، يرتفع هذا الرقم ويصير الاعتقال إجراء يومياً عقابياً، وهو ما يحدث اليوم، إذ أعلن نادي الأسير الفلسطيني في نهاية أيار / مايو 2021، أن 2650 حالة اعتقال سُجّلت خلال هبّة القدس الأخيرة في الضفة الغربية والقدس ومدن الداخل الفلسطيني، والعدد كل يوم في ازدياد، الأمر الذي يجعل الشعب الفلسطيني بأسره يعيش تحت رحمة الاعتقال الإداري الذي ورثته دولة الاحتلال من سلطة الانتداب البريطاني. والاعتقال الإداري يقوم على الاعتقال من دون توجيه أي تهمة إلى المعتقل أو المعتقلة لمدة أقصاها ستة أشهر قابلة للتجديد، على غرار قوانين الطوارىء المعمول بها في دول الاستبداد في كيان يدّعي الديمقراطية!
الفلسطيني أسير، أو مشروع أسير، مهما يبلغ من العمر، وسواء أكان ذلك بمحاكمة أو من دون محاكمة، كما أن انتهاك حياته وحريته وماضيه، وتخريب مستقبله، ليسا سوى مسار في سياقات دولة الاحتلال التي ترسم الفلسطيني دائماً إمّا لاجئاً مطروداً خارج البلد، وإمّا أسيراً معتقلاً داخل السجن، وإمّا "مخرباً" أو "إرهابياً" في طور التكوين. ولا تختلف حياة الفلسطينيين إلّا بمدى بُعدها أو قربها من باب السجن الأسود.
وبحسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين، فإن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أصدرت في حقّ الفلسطينيين منذ سنة 1967 أكثر من 50,000 قرار اعتقال إداري، ما بين قرار جديد وتجديد اعتقال. وتشير الهيئة إلى أن الأسرى الإداريين، كغيرهم من الأسرى الفلسطينيين، يتعرضون لموجات من القمع، تحت حجج وذرائع واهية تتمثل في عمليات الاقتحام لأقسام وغرف الأسرى، والاعتداء عليهم بالهراوات والغاز المسيل للدموع، ومصادرة أغراضهم، فضلاً عن استمرار سياسة الإهمال الطبي في حقّهم.
إن جسد الفلسطيني المسجى على الأرض، ويدَيه المكبلتين تقاومان جندياً جاثماً على صدره، هي اختصار للحكاية التي تمثل أوجاع الاعتقال وثقل الاحتلال. واليوم بعد أن اشتعلت انتفاضة غير محسوبة في قاموس دولة الاحتلال، ها هي فلسطين تتوحد شعباً وجغرافيا، وتتوحد معها سياسة القتل والتنكيل والاعتقال فوق أرض فلسطين من النهر إلى البحر، فإسرائيل عادت إلى سياسة العقاب الجماعي بنزعة تأديبية، وصارت تقتحم البيوت وتعتقل وتنكّل بالمؤثرين في الساحة الفلسطينية في الداخل الفلسطيني؛ إن الدخول إلى المدن العربية كيافا واللد وغيرها من البلدات بقوات خاصة ودراجات مدججة بالسلاح والتحصينات واعتقال قوات الاحتلال مَن تشاء داخل الخط الأخضر، أمور تعيد هذه "الدولة" إلى جوهرها الاستعماري الاستيطاني، إذ بلحظة واحدة صار كل عربي فلسطيني مشبوهاً، وأضحت كل بلدة أو مدينة عربية فلسطينية خطراً يهز الأرض تحت أقدام المستوطنين قديمهم وحديثهم.
لأكثر من 74 عاماً عومل الفلسطيني في داخل الخط الأخضر كظلّ على الأرض، فإذا به في لحظة واحدة يعود ليكون هو الأرض والسماء والهواء، وتعود الأرض تتكلم وتزغرد مثلما فعلت دائماً.. تغني للمعتقلين والشهداء، للقدس وغزة والخليل وحيفا؛ عادت فلسطين إلى الفلسطينيين بعد أن حاول الاحتلال، ومنذ تأسيس كيانه، أن ينهي الوجود الفلسطيني: إمّا بحصره في كانتونات معزولة، وإمّا بطرده وتهجيره، وبإنشاء السجون والمحاكم العسكرية لاعتقال المقاومين الفلسطينيين بها ومن خلالها، فصارت الاعتقالات عملاً يومياً، وجزءاً من سياسة العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين من أجل دفعهم إلى الخروج من أرضهم وطردهم من جنة "الديمقراطية" الأولى في "الشرق الأوسط".
حكاية الأسر وأوجاعه تبدأ من لحظة الاعتقال التي يسعى الاحتلال من خلالها لترهيب المعتقل وأهله ومحيطه الاجتماعي وخلق بيئة من الرعب في نفوس الجميع، فالأعداد الهائلة من الجنود المدججين بالسلاح والآليات عسكرية التي تقتحم الحيّز الخاص للمعتقل وتحيط به وتنشر الفوضى، تسعى لتخويف الأسير منذ لحظة اعتقاله الأولى. لكن الأمر لا ينتهي عند هذه اللحظة بل يبدأ بها، فالتعذيب والترهيب والانتهاكات الجسدية والنفسية لنزع الاعترافات ما هي إلّا مسار ودرب أليم لا بد لكل معتقل من اجتيازهما على مرارتهما، مع اختلاف الفئات العمرية للمعتقلين والمعتقلات من أطفال ومراهقين وشباب وشيوخ.
جاء في بحث بعنوان "الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الأسرى الفلسطينيين في القانون الدولي الإنساني" صادر عن مجلة "جيل حقوق الإنسان"، أن "العدو الإسرائيلي" يستخدم "أبشع وسائل التعذيب ضد الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية كالهزّ أو الرجرجة، وتعريض الأسرى للبرد والحر، والضرب الجسدي العشوائي، والعزل والضغط النفسي، والحرمان من النوم، والحرمان من قضاء الحاجة، والخنق بالكيس ذات الرائحة النتنة، والتعذيب من خلال التعاقد مع العملاء، والتعذيب الجسدي المميت، والتعذيب اللفظي والمعنوي."[1] وربما يكون التعذيب في أثناء التحقيق وقبله هو الفصل الأكثر إيلاماً، لكنه ليس الفصل الوحيد الموجع في هذه الرحلة التي يتدخل فيها جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) من خلال عمليات تعذيب وابتزاز ممنهج يحاصر الأسرى في أبسط حاجاتهم الإنسانية. وهذا العنف المنظم الذي تتّبعه إدارة السجون ما هو إلّا وسيلة لمحاولة تدمير الأسير سياسياً وإنسانياً، وللنيل من القيم الإنسانية والوطنية لدى المحيط الاجتماعي عبر ترهيبه بما سيحدث له، وما الزيارة والحرمان منها إلّا فصل من فصول الألم التي يتعرض لها الأسرى داخل سجون الاحتلال.
أمّا المحاكم فليست إلّا صورة عن جهاز أمني لا تحكمه قيم العدالة ولا الحقوق، وتكفي مراجعة كتاب "الغضب والأمل - مسيرة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال: مذكرات المحامية فيليتسيا لانغر"، وهي المحامية التي ركضت كثيراً في الدروب الطويلة والمتعرجة لتدافع عن الأسرى الفلسطينيين، لنكوّن فكرة عن آلية العمل في هذه المحاكم، إذ يرد في الكتاب: "فقدت المحاكم حتى أضأل إمكانية لتحقيق أي نوع من العدل. وما كان يتم، وبالجملة، كان صفقات بين هيئة الادعاء وهيئة الدفاع، يعترف بموجبها مراراً متهمون بما لم يرتكبوه، كي لا يبقوا موقوفين مدة يُحتمل أن تكون أطول من مدة العقوبة التي سيُحكم عليهم بها. وفي الواقع، كان المحامي يحتاج إلى مواهب تاجر متمرس كي يعرف كيف يساوم المدعي العام ويحصل على أفضل نتيجة ممكنة للمتهم. وهذا أمر لم أكن أجيده أبداً."[2]
مع استمرار سلب الأرض والممتلكات والبيوت من طرف سلطات احتلال تجثم على صدر الفلسطينيين منذ أكثر من سبعين عاماً، تتواصل عمليات الاعتقال حتى صارت هذه الاعتقالات والسجون عملاً ممأسساً له قواعده الضابطة التي تدرس آليات ووسائل ومناهج تزيد في المعاناة والألم عند الأسير أو عند ذويه. أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن الأسر بات جزءاً من يومياتهم، وصار التضييق على حياتهم جزءاً من آلية ممنهجة تأسر الجسد وحيّزه الجغرافي، بحيث أمست القدس مسيّجة بالقضبان والبوابات، والطريق إليها أشبه بالمستحيل، وأضحت الأحلام مطوقة، والهواء ملوثاً بالمستعمرات والمستوطنين.
إن الاحتلال الذي اخترق الجغرافيا وسعى لأن يمحو التاريخ منذ أكثر من سبعين عاماً، اعتقل الدار والهواء والأشجار، ومنذ ذلك الوقت وهو يحاول أن يعتقل إرادة شعب يقاوم، ويسعى لسجنه إمّا بأحياء مسيجة بالخوف والحقد، وإمّا داخل أسوار العنصرية والتفوق العرقي. ولم يكن الاعتقال الجسدي للأفراد إلّا تكريساً لممارسة اعتقال الأرض وحبس الجغرافيا بحدود الخرافة والعنصرية؛ فالقدس مسيجة بالجنود والأبواب والحراس، والضفة الغربية مسجونة بالمعابر والمحاسيم (نقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية) وجدار الفصل العنصري، وغزة محاصرة ببرّها وبحرها وهوائها، وفلسطينيو 48 معتقلون بقوانين العنصرية ويهودية الدولة والإخلاء والتهجير، فكيف لهذا الجسد الفلسطيني ألّا يحس بأنه يعيش في معتقل كبير يتدخل الاحتلال بكل تفصيل من تفصيلات حياته؟ إن الحسّ السليم بالكرامة والحرية هو الذي يدفع هذا الشعب إلى رفض هذا الظلم كله، وهو ليس السياسة مثلما يفهمها قادة الأمر الواقع الذين يجيدون السير في دهاليزها وممراتها المظلمة، فكيف لشعب هذا قدره ألّا ينتفض، وكيف لهذا الفلسطيني ألّا يتمرد، وكيف لهذا الصبار ألّا يقسو شوكه!
المصادر:
[1] عبد الرحمن علي إبراهيم غنيم، "الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الأسرى الفلسطينيين في القانون الدولي الإنساني"، "مجلة جيل حقوق الإنسان"، العدد 26 (كانون الثاني / يناير 2018).
[2] فيليتسيا لانغر، "الغضب والأمل - مسيرة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال: مذكرات المحامية فيليتسيا لانغر"، ترجمه عن العبرية: أحمد خليفة وخالد عايد وسمير صرّاص، وراجع الترجمة صبري جريس (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 1993)، ص 79.