ربما يكون أهم ما امتازت به جولة القتال الأخير في غزة عن سابقاتها، الأثر الذي تركته في وعي المواطن الإسرائيلي. فقد كان بارزاً منذ الأيام الأولى للقتال عدم تصديق الجمهور الإسرائيلي الإنجازات الكبيرة المدّعاة، والتي تحدثت عنها القيادتان السياسية والأمنية، وعدم تصديقه السردية الإسرائيلية عن "الدرس القاسي" الذي لقّنه الجيش الإسرائيلي لـ "حماس"، وعن نجاح العملية في استرجاع الردع.
السبب الذي دفع المواطن الإسرائيلي العادي من سكان مستعمرات غلاف غزة وسكان أشدود وعسقلان إلى عدم تصديق هذا الكلام، هو أن الصواريخ ظلت تتساقط عليه حتى اللحظات الأخيرة من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. ولم تنفع الصور التي نقلتها المحطات التلفزيونية لإسقاط الأبراج السكنية في غزة ومشاهد الدمار الهائل في أحيائها، ولا البيانات العسكرية عن تدمير "مترو الأنفاق" واستهداف قياديين كبار في "حماس"، في تبديد الانطباع العام بالإحباط وخيبة الأمل. وكان السؤال الذي طرحه هؤلاء على أنفسهم، من دون أن يجدوا عليه جواباً في الكلام الرسمي، هو: كيف يمكن لجيش يُعتبر أقوى قوة عسكرية في المنطقة، ومدجج بأحدث السلاح ويستخدم جميع التقنيات المعقدة من السلاح السيبراني والذكاء الاصطناعي، أن يفشل في وقف قصف صواريخ من إنتاج محلي نجحت في الوصول إلى عقر دارهم، وقضّت مضاجعهم، وأجبرتهم على النزوح إلى أماكن أكثر أمناً، وعطّلت الحياة الطبيعية في نصف البلد تقريباً، وشلّت النشاط الاقتصادي؟
في رأي أغلبية لا يستهان بها من الإسرائيليين، بينهم منتمون إلى القاعدة الانتخابية لبنيامين نتنياهو، أن هذه الجولة انتهت أيضاً، بخلاف الراوية الرسمية، بعدم حسم واضح وربما بتعادل، وأن العنف توقف، لكن المواجهة لم تنتهِ.
كيف أثرت حرب غزة في الوعي الإسرائيلي؟ وإلامَ يعود الإحساس بخيبة الأمل والإحباط لدى الجمهور الإسرائيلي؟ ولماذا لم تقنعه السردية الإسرائيلية الرسمية التي تحدثت عن إنجازات كبيرة؟ وهل كان لأيام القتال في غزة تأثير في التطورات الأخيرة للوضع الحكومي وتشكيل ائتلاف جديد من دون بنيامين نتنياهو بعد 12 عاماً متواصلة من ترؤسه الحكومات الإسرائيلية؟
المفاجأة وغياب الاستراتيجيا
تأرجحت ردة الفعل الشعبية الإسرائيلية على تجدد القتال على جبهة غزة، بين الشعور بالإحباط وخيبة الأمل، وتفاقم عدم الثقة بالمنظومة السياسية الحاكمة، وقد ساهمت عدة عوامل في هذا الشعور بعد انتهاء المعارك، بينها:
1 - عنصر المفاجأة: فقد كانت"حماس" مبادرة إلى القتال بعد انقضاء مدة الإنذار الذي وجّهه محمد ضيف، قائد الذراع العسكرية لـ "حماس"في غزة، إلى إسرائيل في 11 أيار / مايو، والذي طالبها فيه بضرورة وقف انتهاكاتها لحرم المسجد الأقصى فوراً، ووقف طرد العائلات الفلسطينية في حي الشيخ جرّاح، وإطلاق جميع الموقوفين الفلسطينيين، وهو إنذار لم تأخذه إسرائيل على محمل الجد، فكان أن بدأ تساقط الصواريخ على إسرائيل فور انتهاء المهلة؛
2 - كثافة القصف الصاورخي ووصوله إلى مراكز سكنية بعيدة عن غزة في وسط إسرائيل وجنوبها؛
3 - عدم وجود استراتيجيا واضحة المعالم لدى الجيش الإسرائيلي، وتخبّط القيادة السياسية المأزومة.
استناداً إلى آراء كثير من المحللين الإسرائيليين، فإن "حماس" فاجأت الإسرائيليين بالقصف في وقت لم يكونوا مستعدين. ويرى نائب رئيس معهد دارسات الأمن القومي إيتي بارون أن "حماس" حققت ثلاث مفاجآت خلال جولة القتال الأخيرة:
"أ - اكتشاف الجمهور الإسرائيلي أن حكومته اختارت مجدداً ردع 'حماس' بدلاً من إخضاعها؛
"ب - عجز العمليات العسكرية الإسرائيلية عن وقف القصف على الرغم من ضخامتها؛
"ج - الصعوبة الكبيرة للجيش الإسرائيلي في تفسير الإنجازات التي حققها خلال العملية.
"هذه المفاجآت كلها هي وليدة السياسة التي تُطبق منذ عدة أعوام مقرونة بفشل القيادتين السياسية والأمنية في أن تشرح للجمهور استراتيجيتها وخصائص المواجهات الحالية."[1]
وعلى ما يبدو، فإن المواجهات مع "حماس" أخذت الإسرائيليين على حين غرّة وفي مرحلة حساسة جداً. وتقول الباحثة في معهد هيرتسليا المتعدد المجالات ليراز مرغليت: "إذا كان هناك كلمة تصف شعورنا في الأيام الأخيرة فهي كلمة 'مفاجأة'؛ المعركة الدائرة هذه الأيام لم نكن مستعدين لها، وجرت في أحرج الأوقات بالنسبة إلينا، فبعد عودة الحياة الطبيعية واستعادة العافية بعد عام الكورونا، إذ بنا نستيقط على الواقع الذي نجحنا في نسيانه." وتضيف: "كيف استطاعت 'حماس' أن تأخذنا على حين غرّة من دون أن نكون مستعدين؟ وهل كان الجيش الإسرائيلي يجهل القدرة التي طورتها خلال الأعوام الأخيرة؟" وقارنت الكاتبة بين الخطأ الذي ارتكبته الاستخبارات الإسرائيلية في تقدير نيات "حماس" بالتقصير الذي حدث في "حرب يوم الغفران" (حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973)، حين قدّر الجيش الإسرائيلي أن مصر ليس لديها قدرة عسكرية لتهاجم إسرائيل، ولم يأخذ بالتحذيرات التي وصلته في هذا الشأن. وتتابع: "لقد تحرك الجيش بناء على النظرية التي تقول: كلما تحسّن وضع سكان غزة وخفّت ضائقتهم الاقتصادية، كانت 'حماس' أكثر استعداداً للموافقة على تهدئة وتسوية بعيدة الأجل مع إسرائيل. هذا المنطق انهار في الأسبوع الماضي، وبدا أن لدى 'حماس' دوافع أُخرى تحركها ولم تأخذها إسرائيل في الحسبان."[2]
المسألة الثانية التي أحدثت صدمة داخل إسرائيل كانت كثافة القصف الصاروخي الذي قامت به "حماس" حتى اللحظات الأخيرة من اتفاق وقف إطلاق النار. فاستناداً إلى أرقام الجيش الإسرائيلي، خلال الأيام الـ 11 للمواجهات، أُطلق من غزة على إسرائيل 4360 صاروخاً وقذيفة مدفعية، أي ما يقارب 400 صاروخ في اليوم، وهو عدد يفوق أربع مرات عدد الصواريخ التي أُطلقت من غزة في عملية "الجرف الصامد" في سنة 2014، والصواريخ التي أُطلقت في حرب تموز / يوليو ضد حزب الله في لبنان في سنة 2006. وسقط نحو 3400 صاروخ في الأراضي الإسرائيلية، ومعظمها سقط في منطقة غلاف غزة . ففي عسقلان التي تبعد 12 كيلومتراً عن حدود القطاع، والتي يبلغ عدد سكانها 160,000 نسمه، سقط 960 صاروخاً، أي ربع العدد الاجمالي من الصواريخ. وفي أشدود التي تبعد 30 كيلومتراً عن القطاع، ويبلغ عدد سكانها 250,000 نسمة، سقط 253 صاروخاً. كما أُطلق 120 صاروخاً، تقريباً، على غوش دان التي تبعد 76 كيلومتراً، وعلى تل أبيب الواقعة على بعد 71 كيلومتراً عن غزة. وتشير الأرقام أيضاً إلى مقتل 12 مدنياً مقارنة بـ 6 قتلى مدنيين في عملية "الجرف الصامد" التي استمرت 7 أسابيع، و44 قتيلاً في حرب تموز / يوليو 2006. كما أن الأضرار التي خلّفها القصف كانت كبيرة. هذا كله دفع عدد من الباحثين الأمنيين إلى الاستنتاج التالي: "على الرغم من المدة الزمنية القصيرة نسبياً للمواجهات، فإن القصف من قطاع غزة كشف تحسناً بارزاً في القدرة الهجومية لـ 'حماس' والجهاد الإسلامي، من ناحية عدد الصواريخ التي أُطلقت يومياً، ونوعيتها وقوتها التفجيرية في المدى القصير."[3]
بعد توقف القتال ترسخ انطباع لدى الإسرائيليين بأن "حماس"، وخلافاً لإسرائيل، خاضت معركة ذات أهداف استراتيجية واضحة، وتمكنت من تحقيقها في وقت مبكر من القتال. هذا ما استخلصه كل من يائير غولان، القائد السابق للمنطقة الشمالية، وتشاك أرليخ، النائب السابق لرئيس مجلس الأمن القومي، عندما كتبا: "مع توقّف المعارك لا بد من الاستنتاج مع الأسف، أن ميزان الإنجازات يميل نحو 'حماس'. ففي عملية 'حارس الأسوار' سقطت أسوار كثيرة، وحققت 'حماس' أهدافها الأساسية منذ بداية المعركة، وكل يوم مر عزز ذلك. فقد أُطلقت آلاف الصواريخ على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وعُطّلت الحياة في أنحاء البلد، وزُعزع الشعور بالأمان. على الصعيد الاستراتيجي ربطت ['حماس'] نضالها بالنضال من أجل القدس، ونصّبت نفسها مدافعاً عن الأقصى، وتسببت باضطرابات في البلد والضفة الغربية، وكشفت تزايد التصدع في العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة."[4]
لكن المسألة التي كان لها التأثير السلبي الأكبر في وعي الإسرائيليين، والتي برزت بوضوح خلال أيام القتال الـ 11، واستحوذت على حيز كبير من النقاشات، هي فشل سياسة الاحتواء التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حيال "حماس"، بهدف تعميق وتأبيد الانفصال بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
سقوط نظرية "فرّق تَسُد"
ما جرى خلال عملية "حارس الأسوار" كشف إخفاق النظرية التي تبنّاها بنيامين نتنياهو طوال أعوام حكمه، وهي الفصل بين الضفة الغربية وغزة من خلال إضعاف سلطة محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، واحتواء تعاظم قوة "حماس" وابتزازها عبر سياسة "الأموال في مقابل الأعمال"، واشتراط دخول أموال المساعدة القطرية، وتخفيف المعاناة الإنسانية لسكان غزة في مقابل التهدئة.
زادت عملية "حارس الأسوار" الجدل بشأن فشل السياسة الإسرائيلية المعتمدة حيال "حماس"، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى العسكري، وضرورة البحث عن استراتيجيا جديدة.
سياسياً، فضحت عملية "حارس الأسوار" موقف بنيامين نتنياهو المزدوج من "حماس". فهو في تصريحاته العلنية كان يتحدث عن العمل على إسقاط حكم "حماس"، بينما عمل سراً على احتوائها وليس إسقاطها، مثلما تجلى بوضوح خلال العملية العسكرية، وفي تصريحات المسؤولين العسكريين بعد انتهائها. وعن هذا الفشل كتب المحلل بن كسبيت: "تعهد بنيامين نتنياهو بإسقاط حكم 'حماس' وتفكيك وكر الدبابير، لكنه خيّب الأمل، فقد حوّل 'حماس' إلى حليف استراتيجي ووضعها في قفص، والمشكلة أن 'حماس' خرجت من القفص منذ وقت طويل."[5] فطوال الأعوام الـ 12 التي قضاها في رئاسة الحكومة، وضع مواجهة الخطر الإيراني وخطر الجبهة الشمالية في رأس أولوياته، وأهمل المشكلة الأقرب إليه التي تقع على حدوده، والتي انفجرت مجدداً في وجهه.
لقد طرح فشل سياسة الاحتواء والكبح حيال "حماس" معضلة أُخرى لا تقل حساسية وإشكالية، هي: مَن يسيطر على غزة في حال سقوط سلطة "حماس"؟
هنا يبرز تباين في الآراء؛ ففي رأي عاموس غلعاد، مدير مركز هيرتسليا، فإن البديل من "حماس" يكمن في تعزيز قوة السلطة الفلسطينية والعمل على تسوية سياسية، وفي هذا السياق، كتب: "الافتراض بأن 'حماس' قابلة للاحتواء والاقتلاع لم يعد صالحاً بعد الآن، والمطلوب تغيير جذري في السياسة حيال السلطة الفلسطينية التي تتعاون مع إسرائيل. وبخلاف الدعاية الإسرائيلية، فإن هذا يتطلب تغييراً في التوجه، وثمة فرصة لنجاح ذلك. إذا أردنا إخضاع 'حماس'، ستُطرح مسألة مَن يسيطر هناك بعد سقوطها؟ الخيار هو تسوية سياسية مع السلطة الفلسطينية."[6]
في المقابل، رأى الباحث في معهد دراسات الأمن القومي أودي ديكل أن إسقاط "حماس" عسكرياً لن يكون من دون عملية عسكرية برية للجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، عارضاً أربعة بدائل محتملة للوضع في القطاع بعد العملية الأخيرة: إدارة النزاع مع وقف إطلاق نار (تهدئة) بين إسرائيل و"حماس"؛ فصل القطاع نهائياً عن إسرائيل والضفة الغربية في ضوء الإدراك بعدم وجود بديل من "حماس"؛ القيام بعملية عسكرية لإسقاط الذراع العسكرية لـ "حماس"؛ خلق ظروف مصالحة داخلية فلسطينية تعيد سيطرة السلطة الفلسطينية إلى القطاع. ويصل الباحث إلى الخلاصة التالية: "جميع البدائل، باستثناء سيطرة الجيش الإسرائيلي على غزة وتفكيك الذراع العسكرية لـ 'حماس'، لا يمكنها أن تقدم جواباً فاعلاً على تعاظم القوة العسكرية لـ 'حماس' وإطلاق الصواريخ على إسرائيل. بناء على ذلك، حتى إذا اختارت إسرائيل التهدئة، فإن عليها إعداد عملية عسكرية قادرة على الحسم وتتطلب مناورة برّية في عمق قطاع غزة، ليس لإسقاط حكم 'حماس' فحسب، بل لإخضاع قوتها العسكرية وقوة الجهاد الإسلامي ونزع سلاحهما أيضاً. وهذه عملية يمكن أن تستمر أسابيع وتنطوي على خسائر كبيرة في الجيش الإسرائيلي وعلى قتل ودمار هائل في غزة، ويجب إعداد الرأي العام الإسرائيلي لهذا الخيار."[7]
على المستوى العسكري، أكدت المواجهات عدم القدرة على تحقيق الانتصار من خلال القصف الجوي وحده. فقد كتب يتسحاق بريك القائد السابق للكليات العسكرية: "هذا الشهر شاهد شعب إسرائيل الانهيار الكامل للنظرية التي تقول إن في الإمكان الانتصار بواسطة سلاح الجو. فعلى الرغم من مئات الطلعات، ومئات الطائرات التي ألقت بذخيرة دقيقة تُقدَّر قيمتها بمليارات الشيكلات على قطعة صغيرة من الأرض، على الرغم من هذا كله، فإنها لم تنجح في وقف إطلاق النار."[8]
إن تحقيق الحسم من خلال القصف الجوي وحده يتطلب ما يسميه مسؤول الاستخبارات السابق أهرون لبران، تحقيق "خنق استراتيجي" من خلال تكبيد الخصم خسائر وأثمان لا تُحتمل، وتضاهي تحقيق الانتصار. لكن لبران لاحظ بعد الأيام الأولى للقتال والقصف الجوي، أن الجيش استنفد الأهداف العسكرية التي لديه، وهو ما دفعه إلى الاستنتاج: "من الصعب تحقيق انتصار واضح في الحرب بواسطة القصف الجوي وحده. لكن من الممكن تحقيق نتائج تساوي انتصاراً إذا تسبب هذا القصف بخسائر وأضرار وأثمان باهظة لا يمكن تحمّلها. وفيما يتعلق بالعملية في غزة يمكن قول أمرين: على الرغم من العمل الذي قام به الجيش والشاباك، فإنه لم يكن لديهما أهداف استراتيجية كافية لتحقيق الخنق الاستراتيجي للتنظيمات المسلحة، والذي يمكن أن يؤدي إلى نتائج حاسمة، لذا كان يجب تأمين مزيد من الأهداف لتحقيق ذلك."[9]
وتوضح التصريحات الأخيرة لرئيس الأركان أفيف كوخافي (10 / 6 / 2021) بشأن نتائج عملية "حارس الأسوار"، ما سبق ذكره كله، إذ قال: "إن الإنجازات التكتيكية التي حققها الجيش في العملية لا تؤدي بالضرورة إلى هدوء طويل الأمد، ولا تعني أن حركة 'حماس' لن تشنّ هجمات مرة أُخرى على إسرائيل في وقت قريب."
هل سرّعت غزة ولادة حكومة بينت - لبيد؟
لدى كتابة هذه السطور كان الائتلاف الحكومي الجديد بزعامة نقتالي بينت يمثل أمام الكنيست ويحصل على الثقة (60 مع و59 ضد) وأداء القسم. إذاً، أخيراً نجح تحالف الأحزاب المناوئة لنتنياهو في الإطاحة به، وتأليف حكومة هي مزيج هجين من أقصى اليمين القومي وأقصى اليسار. فقد ضمت هذه الحكومة حزب يمينا اليميني المتشدد بزعامة نفتالي بينت (7 مقاعد)، وحزب أمل جديد المنشق عن الليكود برئاسة جدعون ساعر، إلى جانب 4 كتل لها برنامج علماني وتتأرجح بين الوسط واليسار وهي: يوجد مستقبل (17 مقعداً)، وأزرق أبيض (8)، وإسرائيل بيتنا (7مقاعد)، وحزب العمل (7)، وحركة ميرتس (4)، علاوة على القائمة العربية الموحدة راعم بزعامة منصور عباس (4 مقاعد).
كادت الحرب الأخيرة تطيح آمال معارضي نتنياهو بإزاحته، إذ تراجع نفتالي بينت في الأيام الأولى للمواجهات العسكرية عن اتفاقه مع لبيد، عائداً إلى حضن نتنياهو فيما بدا عملية إحباط ناجحة من طرف نتنياهو لجهود لبيد تشكيل ائتلاف حكومي بديل، لكن سرعان ما حسم بينت موقفه ليعلن في 31 أيار / مايو، عودته إلى التعاون مع لبيد لتشكيل حكومة جديدة.
من الصعب القول إن عملية "حارس الأسوار" سرعّت في تشكيل حكومة التغيير، فالعوامل التي ساهمت في ذلك لها علاقة أكثر بحالة الشلل السياسي التي وصلت إليها إسرائيل بعد 4 معارك انتخابية من دون حسم فعلي، وبتمسُّك نتنياهو المستميت بمنصبه حتى لو كان الثمن الذهاب إلى انتخابات خامسة، فضلاً عن الحرب الشعواء التي شنّها على خصومه، سواء من اليمين مثل جدعون ساعر زعيم أمل جديد الذي انشق عن الليكود، أو نفتالي بينت زعيم يمينا، متهماً إياهما بالسعي لتشكيل حكومة يسار، وفضلاً كذلك عن الأكاذيب وحملات التحريض وأجواء والكراهية التي أشاعها نتنياهو في الأشهر الأخيرة.
لكن من المكن القول إن العدوان على غزة ساهم في زعزعة صورة نتنياهو أمام أعين الجمهور، فلم يعد في استطاعته الادعاء بأنه "سيد الأمن"، وأنه وحده القادر على ضمان أمنهم.
النظرية التي طبّقها نتنياهو طوال أعوام حكمه انهارت في رأي شلومو أفينري، فقد أثبتت الحرب الأخيرة انهيار جميع الأطروحات التي نادى بها نتنياهو خلال أعوام حكمه، مثل "السلام في مقابل السلام"، و"سلام اقتصادي"، و"سلام إقليمي"، وإحباطه أي عملية تفاوض مع الفلسطينيين يمكن أن تؤدي إلى تسوية سياسية تسمح بقيام دولة فلسطينية مستقلة. وكتب: "نظرية نتنياهو بأن السلام ممكن من خلال تجاهل الفلسطينيين فشلت فشلاً ذريعاً. وفشل نتنياهو لا يختلف عن فشل غولدا مئير وموشيه دايان اللذين أرادا المحافظة على الوضع القائم بعد حرب 1967، واستخفّا بقدرات المصريين والسوريين مثلما تجلّت في حرب يوم الغفران." وتابع: "لا حل بسيطاً للمشكلة الفلسطينية، وليس واضحاً ما إذا كانت مبادرة إسرائيلية ستنجح، لكن لم يعد من الممكن تجاهل المشكلة الفلسطينية. نتنياهو لا يستطيع التوصل إلى حل لأنه جزء من المشكلة. لا ينفع أي تغيير تكتيكي أو استراتيجي في مواجهة 'حماس'... لقد باع نتنياهو الجمهور أوهاماً، والآن فشل فشلاً ذريعاً."[10]
من المحتمل ألا تكون صواريخ "حماس" وحدها هي التي ساهمت في الإطاحة بنتنياهو، لكن الأكيد أن "الفوضى السياسية التي نشرها عملاؤه وسط الجمهور، وثقافة الكذب والكراهية والتنمر والتحريض وعبادة الشخص، كانتا بين الأسباب التي أدت إلى سقوطه."[11]
على الرغم من فشل نتنياهو في تقويض إمكان تشكيل حكومة لا يترأسها، فإن انتهاء حقبته لا يمكن أن يشكل بداية تغيير جذري إذا لم تجرِ مراجعة في العمق للسياسة الإسرائيلية حيال المشكلة الفلسطينية ككل، وحيال مستقبل التسوية السياسية بصورة عامة. وهذا الأمر يتطلب رؤيا وقيادة سياسية من الصعب توفرهما في الحكومة الجديدة بزعامة بينت - لبيد، فهل انتهت مرحلة تهميش القضية الفلسطينية، وعاد الاهتمام الحقيقي بالبحث عن حلول سياسية جذرية للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي؟ من الصعب التنبؤ بذلك، لكن التركيبة الهشّة للحكومة الجديدة لا تدعو إلى كثير من التفاؤل.
المصادر:
[1] إيتي بارون، "عملية 'حارس الأسوار': مواجهة ببُعدين متوازيين"، "مباط عال"، العدد 1469، في موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية - "مختارات من الصحف العبرية" (21 / 5 / 2021)، في الرابط الإلكتروني.
[2] ليراز مرغليت، "عنصر المفاجأة: المعركة مع 'حماس' لم نكن مستعدين لها، "معاريف"، في موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية - "مختارات من الصحف العبرية" (16 / 5 / 2021)، في الرابط الإلكتروني.
[3] مائير ألرين، كرميت فيدن، جيلا سنهار، حيلكي سوفار، " 'حارس الأسوار': دروس الجبهة المدنية"، "مباط عال"، العدد 1476 (30 / 5 / 2021).
[4] يائير غولان وتشاك أرليخ، "ميزان الإنجازات يميل لمصلحة 'حماس'"، "هآرتس"، في موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية – "مختارات من الصحف العبرية" ( 25 / 5 / 2021)، في الرابط الإلكتروني.
[5] بن كسبيت، "نتنياهو هو المسؤول عن تحول حماس إلى نموذج مصغر عن حزب الله"، "معاريف"، في موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية – "مختارات من الصحف العبرية" (19 / 5 / 2021)، في الرابط الإلكتروني.
[6] عاموس غلعاد، "بمواجهة 'حماس': الجيش ينجح والسياسيون يفشلون"، "يديعوت أحرونوت"، في موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية – "مختارات من الصحف العبرية" (20 / 5 / 2021)، في الرابط الإلكتروني.
[7] أودي ديكل، "حارس الأسوار توقفت لكنها لم تنتهِ"، "مباط عال" (23 / 4 / 2021)، في الرابط الإلكتروني (بالعبرية).
[8] يتسحاق بريك، "الجيش الإسرائيلي ليس مستعداً لحرب إقليمية"، "هآرتس"، في موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية – "مختارات من الصحف العبرية" (28 / 5 / 2021)، في الرابط الإلكتروني.
[9] أهرون لبران، "هل من الممكن الانتصار بواسطة القصف الجوي؟"، "يسرائيل هَيوم"، في موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية – "مختارات من الصحف العبرية" (1 / 6 / 2021)، في الرابط الإلكتروني.
[10] شلومو أفينري، "انهيار نظرية نتنياهو"، "هآرتس"، 27 / 5 / 2021.
[11] بن كسبيت، "سببان أساسيان أطاحا بنتنياهو"، "معاريف"، 13/6/2021.