بعد أن أزال حرس الجامعة والشرطة في مدينة روتردام لافتة رفعها الطلاب، مزينة بالعَلَم الفلسطيني ومكتوب عليها عبارات تدعو إلى الحرية لفلسطين ووقف سياسة التطهير العرقي، وإلى التضامن مع الشيخ جرّاح، رفع طلاب أكاديمية روتردام للفنون لافتة بديلة مرسوم عليها بطيخة ومكتوب تحتها عبارة: "هذه ليست بطيخة"، وذلك للالتفاف على قرار المنع، إذ إن البطيخة تحتوي على ألوان العَلَم الفلسطيني: الأخضر والأحمر والأسود والأبيض.
وبسبب منع تثبيت لافتة بشكل دائم، عمد الطلاب أيضاً إلى حمل اللافتة بشكل دوري بدلاً من تعليقها على مدار اليوم ولمدة أسبوع؛ كان ذلك قبل وقت قريب، وفي إطار حملة التضامن العالمية مع فلسطين.
حضرت البطيخة وقصتها فجأة إلى المشهد بعد 14 عاماً من إنتاجها كمشروع فني، وقد فوجئت بهذا الحضور والاهتمام بها واستخدامها بأكثر من طريقة وصيغة من طرف المتضامنين مع فلسطين حول العالم، فحضورها كان بمثابة ترميز إلى العَلَم الفلسطيني الوطني وألوانه الأربعة التي كثيراً ما كانت ممنوعة من جانب الاحتلال الإسرائيلي.
هناك العديد من القصص عن منع العَلَم الفلسطيني بأوامر عسكرية منذ احتلال سنة 1967، فمجرد حيازته أو رفعه تهمة تعاقب عليها قوانين الاحتلال. وحياة الفلسطينيين بالقصص وسردية المواجهة مستمرة مع الاستعمار الاستيطاني الذي يدخل الفن سلاحاً ضده في المعركة، وهو ما تمتلىء به مدونة الفن في فلسطين.
في سبعينيات القرن الماضي اجتمع ضابط إسرائيلي مع مجموعة من الفنانين كانوا يعتزمون تشكيل رابطة للفنانين، وهم: عصام بدر، وسليمان منصور، ونبيل عناني، إذ إن قوانين الاحتلال تقتضي تقديم طلب لتأسيس الجمعيات، ومنها الفنية، وتسجيلها.
أخبر الضابط الإسرائيلي الفنانين أنه ممنوع التحريض، وممنوع رسم كذا وكذا من الرموز الوطنية، ومحظور رسم العَلَم الفلسطيني أو ألوانه: الأحمر والأخضر والأبيض والأسود.
فقال له عصام: لكن ماذا عن رسم وردة بألوان العَلَم؟ ردّ الضابط ممنوع طبعاً. وممنوع حتى رسم بطيخة !!.
استعرت، لاحقاً، من هذه القصة وهذا الضابط، فكرة العمل (رسم بطيخة بألوان العَلَم الفلسطيني)، ليس إعجاباً بما تفتّق عن خياله المريض، وإنما سخرية من منعه رسم العَلَم الفلسطيني.
هكذا، عندما سمعت بالقصة من زملائي الفنانين لأول مرة واتتني فكرة رسم بطيخة، واستغربت أن أياً منهم لم يُنتج عملاً عن هذه القصة الطريفة، وفي سنة 2007 غامرت بعمل ساخر في إطار مشروع أطلس فلسطين الذاتي، ورسمت "العَلَم البطيخة".
نُشر العمل في كتاب "أطلس فلسطين الذاتي" (Subjective Atlas of Palestine) في سنة 2007، كجزء من فكرة عن عَلَم فلسطين الجديد، وذُكرت القصة فيه. وفي سنة 2009، رسمتُ بطيخة على حائط صالة العرض في مدينة تولوز في فرنسا بحجم ضخم، وكررت ذلك في العديد من المعارض الفنية، بالرسم المباشر على حائط صالة العرض، أو بطباعة حريرية على ورق مقوى، كما في دارة الفنون في عمّان. وبلغ عدد ما أنتجته 13 نسخة موقعة، أصبحت في معظمها من مقتنيات الدارة - مؤسسة خالد شومان، وبعضها عند أفراد ومجموعات خاصة. وهناك نسخة مرسومة باليد في فلسطين من مقتنيات بنك فلسطين منذ سنة 2014، وقبل ذلك كانت البطيخة جزءاً من معرضي الاستعادي الأول في مركز الفن المعاصر في مدينة غلاسكو في سنة 2014، حيث رسمتها على جدار المركز.
لقد سمعت كثيراً من القصص عن البطيخ والعَلَم الفلسطيني، وهي قصص غنية وممتعة، فكان هذا العَلَم البديل بالنسبة إليّ مجازاً ساخراً. والبطيخ بالمناسبة فاكهة صيفية أثيرة في فلسطين تشتهر بزراعتها مدن مثل جنين وعرابة البطوف ومنطقة الأغوار. وهي فاكهة طريفة لسبب لا نعرفه وجميلة بالتأكيد ومفيدة، وما يزيد في جمالها أن ألوانها هي ألوان العَلَم الفلسطيني كاملة وصريحة، وبالتالي صار يمكن استخدامها عندما يتعذر استخدام العَلَم ورفعه... فضلاً عن أكلها طبعاً.
قدمتُ هذه الحيلة الفنية في حينه، كنوع من السخرية واقتراح البديل، وللتدليل على المكان الذي وصل إليه عقل الاحتلال وخياله المريض؛ من ناحية ثانية، يحب الفلسطينيون عَلَم بلادهم مثل غيرهم من الشعوب، ويعتزون به، لكنهم قد يلجؤون إلى السخرية كاستراتيجيا بقاء ومحاولة للتغلب على الواقع، إذ ربما زال الحظر والمنع عن العَلَم مع مشروع أوسلو، إلّا إن الاحتلال لا يزال قائماً، وكذلك الصراع على السردية والرموز والطعام والهواء والسماء.
حضرت البطيخة العَلَم والقصة التي تقف خلفه لتكون ثيمة مؤثرة في وسائل الإعلام وخلال التظاهرات على حد سواء؛ شيء اختاره الناس بعفوية تامة، وربما يعود الأمر إلى البساطة الشديدة للفكرة، وإلى الكيفية التي يستطيع الفن والألوان عبرها أن يلتفّا من خلال السخرية على المنع ومنغصات الواقع.
حمل الناس البطيخ في سيدني ووزعوه في التظاهرات، ورُفعت البطيخة على لافتة في تورونتو.. نعم لقد غيّر الناس من وظيفة البطيخ واختاروه أداة للتعبير، مضيفين إليه حياة وقصصاً ومعاني عظيمة. لقد غيّر تفاعل الناس هذا من رؤيتي إلى العمل الذي يبدو أنه أعجب جيل الشباب بالتحديد، فابني عمرو (22 عاماً) اختاره منذ أعوام ليكون رمزه المفضل، وبات يضعه صورة بروفايل له، وكذلك فعل بعض أصدقائه.
هكذا تغير مصير عمل لم يحظَ باهتمام خاص في حينه؛ لكن كثيراً من الأعمال الفنية ربما يعاد فهمها واستخدامها لاحقاً في الأحداث الكبيرة، ومن حسن حظ الفن أن يعيد الناس إحياءه وصوغه، ثم إعادة إنتاجه على طريقتهم، الأمر الذي يدل على قوة الفن وحضوره.
لم يكن الشعب الفلسطيني أسوأ حالاً قبل المواجهة الأخيرة، فالأمل بالعملية السياسية تلاشى، وتصاعد توحش الاحتلال، وزاد الاستيطان كثافة، وتراجعت القضية الفلسطينية على أكثر من مستوى.
حضر الفن بشكل لافت في هذه الهبّة: في الأغاني والشعارات والرسوم، كما استُحضرت الفنون من التاريخ والميديا، فمعظمها لم يكن وليد اللحظة، وإنما نتاج أعوام خلت. لقد جُنّد الفن بكثافة في هذه المواجهة، وجُنّدت البطيخة بشكل لافت، ليس من طرف الفنانين فحسب، بل من طرف الناس العاديين أيضاً، ولا أقصد الفلسطينيين فقط، بل استخدمها الفنانون والناس العاديون في كل مكان. لقد أسمعَ الفنانون صوتهم عالياً هذه المرة، وانخرطوا في نضال صريح ضد الاحتلال وضد قتل المدنيين ومصادرة الحقوق ونظام الأبارتهايد.
كانت المواجهة ثقافية أيضاً. مواجهة بين ثقافة ترفض الخنوع والإذلال وثقافة المستعمرة؛ بين ثقافة السكان الأصليين، أصحاب البيوت الحقيقيين، وبين يعقوب المستعمِر والمستوطن في حي الشيخ جرّاح، صاحب الفيديو الشهير الذي قال فيه: إن لم أسرق أنا بيتك فسيسرقه غيري، في حديث مجنون مع صاحبة البيت.
ما حدث لم يكن حرباً لأن الحرب تكون بين جيشين أو طرفين متكافئين، وإنما كانت مواجهة بين شعب شبه أعزل في معظم المناطق الفلسطينية باستثناء قطاع غزة المحاصر والأسلحة البدائية التي تملكها المقاومة هناك، وبين مستعمِر يملك أواصر القوة كافة. كان الفلسطينيون، شابات وشبان، مسلحين بالفن والأغاني والأناشيد، فضلاً عن الشجاعة التي تحلّوا بها في القدس حيث سجلت الابتسامات حضوراً مذهلاً، وبُثّت النشاطات والقصص والفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي.
كانت مواجهة بين الخيال وضيق الأفق، وبين الفن والبشاعة؛ بين الكف والمخرز، وبين الحاضر والماضي، وبين اللحظة المواتية و73 عاماً من النكبة، وبين جيل شاب وعجائز، وبين المرأة والذكورة الهشة.
إن أكثر من نصف قرن فصل في هذه المواجهة بين الشباب الفلسطيني في باب العمود وقيادته، كما فصل نصف قرن على أقل تقدير بين الجنود الإسرائيليين وقيادتهم؛ لقد وَجد هذا الجيل نفسه في مواجهات ومشكلات لم تُحلّ منذ نكبة 1948.
في سياق هذا المشهد، حضرت البطيخة كجزء من المواجهة مع الاحتلال: هنا في فلسطين، وفي أي مكان.
حضر الخيال والفن إلى جانب الحق والخير، مثلما يجب أن يكون الحال دائماً، وكان ملهماً للناس، بينما المستعمرة الغبية أصلاً لا تستطيع إنتاج شيء غير الهموم.. فهي غير قادرة على اختراع نكتة، وليست خفيفة الظل على الإطلاق.