تعليقي في هذه الورقة على منحوتة الفنان سيروان باران يذكّرني بمشهد التعذيب والشبح في أقبية التحقيق الإسرائيلية بحق أسرى فلسطينيين، ويتزامن مع اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب (26 حزيران/يونيو)، لتستعيد ذاكرتي تجربة شخصية في سجون وزنازين الاحتلال، وتكتمل من خلال متابعتي واقع الأسرى والانتهاكات الجسيمة التي يتعرضون لها.
بوستر للفنان اللبناني إميل منعم، 1978، من موقع بوستر فلسطين
هناك صور وأصوات في تلك الظلمات القاسية ما زلت أشاهدها وأسمعها: صراخ السجانين، الشتائم، البصق، شد القيود، الضرب والتنكيل، الرفس والدعس، الشبح في أوضاع مؤلمة، الزنازين القذرة، التحقير والتهديد، الصعقات الكهربائية، الحرمان من النوم والعلاج، العزل، الابتزاز، التجويع، الحرق بأعقاب السجائر، التعليق والصلب، وغيرها من الأصوات والمشاهد المخيفة التي لا يزال يتردد صداها وظلالها في النفس الإنسانية.
منذ لحظة الاعتقال تبدأ حفلات الضرب المبرح وتكسير العظام بحق الأسير المكبل والمعصوب العينين؛ الضرب بأعقاب البنادق، بالبساطير المدببة، بالهراوات، بالكلبشات، بالأيدي، بالأرجل، بإطلاق الكلاب المتوحشة لنهش جسد الأسير. ويستمر الضرب والتنكيل والتعذيب خلال نقل الأسير في السيارات العسكرية.
إنها "توراة" التعذيب الصهيونية، قتل الأغيار والمقصود الفلسطينيون، هي تعليمات دينية وسياسية، دستور لدولة الاحتلال بكافة مستوياتها، الأمنية والقضائية والسياسية والتشريعية، هذه "التوراة" التي تسمح بتعذيب وقتل الفلسطينيين لأنهم ليسوا بشراً، ليسوا آدميين، هم بمنزلة البهائم الذين يجب السماح بقتلهم؛ لهذا، نسبة التعذيب بحق المعتقلين الفلسطينيين هي 100%، كل أسير وأسيرة يتعرض لشكل أو لآخر من التعذيب.
إن ما يسمى التحقيق العسكري، وهو التحقيق العنيف اللا محدود في أدواته وأسلوبه وشكله، حتى لو قُتل الأسير تحت التعذيب، يتم بغطاء قانوني من المحكمة العليا الإسرائيلية والمستشار القضائي الإسرائيلي، وبموجبه يُسمح بالتعذيب العسكري المستمَد من القوانين والأحكام الحربية والأوامر العسكرية، وليس من القوانين المدنية.
التشريعات والقوانين الإسرائيلية تسمح باستخدام التعذيب، وبإعفاء المحققين من توثيق التعذيب بالصوت والصورة، وفي ذلك تحدٍّ سافر للقانون الدولي ولكل الاتفاقيات والشرائع الإنسانية، بالإضافة إلى أن سجلات القوانين الإسرائيلية لا تتضمن المحاسبة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
إن إخفاء جريمة التعذيب وطمس الحقائق سياسة متقنة لدى أجهزة ومؤسسات الاحتلال، فآلاف الضحايا من المعذّبين الفلسطينيين لم يتم فتح تحقيق جنائي بشأنهم، لقد تم إغلاق معظم الملفات على الرغم من الشكاوى العديدة التي رفعتها مؤسسات حقوق الإنسان.
استُخدم التعذيب في أقبية التحقيق الإسرائيلية، ليس فقط من أجل انتزاع اعترافات ومعلومات من المعتقلين، وإنما تعذيب من أجل التعذيب، الذي يستهدف تجريد الإنسان من إنسانيته وكرامته وهويته الوطنية.
شهادات الضحايا تشير إلى أن الهدف من التعذيب هو التسبب بكسر روح وإرادة الأسير، والموت الداخلي وليس فقط الجسدي، وإيصاله إلى لحظة التدمير الذاتي، والى أقصى درجات التذلل والإهانة.
المحققون الإسرائيليون تحولوا إلى كماشات لتهشيم العظم واللحم وتدفّق الدماء، وتصرفاتهم الوحشية تدل على أنهم مرضى يمثلون ظاهرة عامة في إسرائيل، ظاهرة دولة إسرائيل المصابة بأمراض العنف والفساد والفاشية والتطرف.
لم يعد استخدام التعذيب في دولة الاحتلال أمراً شاذاً أو طارئاً، بل هو سياسة ممنهجة ومستمرة ومتواصلة منذ وُجد هذا الاحتلال، فالتعذيب الجسدي والنفسي والمعنوي الذي تعرّض له الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين هو جزء من إرهاب الدولة الإسرائيلية الرسمي بحق الشعب الفلسطيني، ومنظومة التعذيب هي جزء من منظومة القمع المتواصلة لتعميق الاحتلال والقضاء على المقاومة الفلسطينية وتطلعات الشعب الفلسطيني إلى الحرية والاستقلال.
إن جرائم التعذيب القاسية التي تعرّض لها الأسرى داخل السجون وفي زنازين التحقيق يجب أن تتحول فعلاً إلى أيام سوداء على المحتلين والجلادين بتقديمهم إلى المحاكمة والعقاب الدولي بسبب ارتكابهم انتهاكات جسيمة وجرائم حرب بحق أسرانا في السجون تنتهك ميثاق روما للمحكمة الجنائية واتفاقيات جنيف الأربع.