Opening the Cellars and the Memory of Pain
Date: 
June 28 2021
Author: 

تمّ التوجه في الأسابيع الأخيرة إلى العشرات من الأسرى والمعتقلين السابقين الذين تعرضوا للتعذيب في أقبية دولة الاحتلال وأجهزتها، والطلب منهم التعقيب على منحوتة الفنان سيروان باران وماذا تعني لهم. تجاوب البعض وعبّر كلٌّ منهم عن هول الذكريات.

 

بوستر لفنان غير معروف، 1983، من موقع بوستر فلسطين

 

لكن اللافت أيضاً اعتذار أغلبية الذين عبّروا شفوياً وبصورة شخصية عن عدم الكتابة.  فمنهم مَن قال "لا أريد أن أتذكر"، أو "لا أريد أن أفتح جروحي من جديد"، أو "هالأيام التحقيق هو دي- لوكس وأوتيل خمس نجوم بالنسبة إلى ما كان"، و"اليوم يعرض عليك المحقق فنجان قهوة ولو من باب حاجات التحقيق، وهو ما كنتَ تُحرَم منه أشهر". معظم هذه الاقتباسات من أسرى سابقين تقدّموا في السن وكانوا خضعوا للتحقيقات في أواخر الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

أثارت فضولي واهتمامي ردات الفعل الفردية شبه الجماعية. فلماذا هم ليسوا معنيين بالحديث، وبالذات بالكتابة؟ عادة ما يتفاخر الأسرى والأسيرات بصمودهم في أقبية التحقيق، والتعامل الشعبي مع هذا الشأن هو التعاطف التام، والتماثل مع ضحايا التحقيقات الذين لا يفضلون كلمة ضحايا. ولدى تناوُل أطراف الحديث مع عدد من الزملاء والأصدقاء، تحدثوا عن رائحة كيس الخيش القذر الذي كان المحققون يغطون به وجه المعتقل لدرجة أنه لا يستطيع التنفس سوى عبر قاذورات سياسة كيس الخيش، الذي لم تكن نتانته سوى من تصميم سياسي ومن ذهنية القهر والإذلال المقصودين. ناهيك بكل أشكال التعذيب الجسدي، من الشبح لساعات وأيام، مروراً بتكسير العظام والصعق الكهربائي، إلى الرش بالمياه الباردة والحرمان المتواصل من النوم، وصولاً إلى الإهانات المقصودة ولغاية التعرّض للاعتداءات الجنسية بأشكال مختلفة، وهناك مَن استشهدوا جرّاء هذه الأنواع من التعذيب. وبما أن للرائحة النتنة ذاكرة قوية، وكذلك بالنسبة إلى الألم الشديد، وبالذات المصحوب بالإذلال، فإن هذه الذاكرة تصحو ببرهة مع كل ذِكر لها.

لم يشعر المحقَّق معه وهو تحت التعذيب بأنه مُهان، بل كان يشعر بأنه مقاوم، ولا يزال. كان هدف المحققين كسر روحه، بينما كان مسعاه جبر تلك الروح والحفاظ على إنسانيته وعلى مقومات الصمود التي كان ينتصر لها حين يفقد الحسّ بالوجع نتيجة الألم غير المحتمَل، ليخرج منتصراً من أقبية التحقيق إلى السجن الاحتلالي. ربما كان في ذروة نهضة الثورة الفلسطينية ما يغذّي روح الجماعة وروح الفرد على حد سواء. ومع مرور السنين وتبدُّد الحالة الفلسطينية الجماعية، يعود مفهوم الألم الفردي. فهو لا يريد أن يتحدث اليوم عن التعذيب لأن صموده تحت وطأته كان جزءاً من الحلم الفلسطيني الكبير، وكلما تراجعت حدود الحلم كلما حضرت ذاكرة الألم، لكن ليس للبوح بها، بل لتعصف في داخله كأنها سرّ خطير.

إنه يدري أن سياسة الاحتلال الإذلالية لا تعني الذل أو المهانة، وأن انتصاراتهم لا تعني هزيمتنا، وأن جبروتهم القمعي لا يعني ضعفنا، بل هي من قصة صمود الشعب والأفراد وكفاحه المجيد الذي فاجأ ويفاجئ كل جبروت، وفي كل العالم. على الرغم من ذلك، إلّا إنه لا يريد التعبير عمّا يدور في وجدانه، بل يريد لذاكرته أن تهدأ، وحتى أن تصمت، كي تتيح له استعادة توازنات الحياة. كما لفت نظري في لقاءات الأسرى السابقين والمحرَّرين، وخصوصاً القدامى منهم، أن مفردات السجن تعود إلى لغة اللقاء، والكثير من ذاكرة السجن، لكن ذاكرة الحياة الاعتقالية اليومية المعيشية والتندّرات، وليس ذاكرة التحقيقات أو القهر.

تكمن في منحوتة الفنان سيروان باران قصة التعذيب، سواء في أقبية دولة الاحتلال أو في أقبية الأنظمة العربية، والتي جرى التعبير عنها في روايات وحكايات وقصص يمكن أن نطلق عليها اسم أدب الأقبية، وهي مأساة كل الوطن العربي وشعوبه. والمأساة حين تكون أقبية ذوي القربى أشدّ مضاضة وأكثر فتكاً بالروح كما عبّر عنها عبد الرحمن منيف في روايته "شرق المتوسط". بالإضافة إلى ذلك فإن المنحوتة لا تتحدث عن الماضي ولا عن ذاكرتيْ الجسد والروح المعذبتين، بل هي عمل فني صاعق، يكشف أكثر ما يكشف عمّا تعرّض له الجسد، لكن ما تعرّضت له النفوس يريده الكثيرون أن يبقى في أقبية الروح. بل هم يتخوفون من اللحظة التي يبوحون فيها بما في الذاكرة، إذ إن ألم الروح والجسد والحال يعود ويطفو.

ربما لهذا السبب يحتفظ الكثيرون ممن ذاقوا جرعة التعذيب وقتل الروح بالرغبة في الإقلال من التعبير. في المقابل، من المؤكد أن عمل سيروان فيه كسر للأقبية وإعادة الاعتبار للألم، وفيه تعبير عن المعذبين في الأرض، فكلٌّ منهم يريد أن يتنفس.

شكراً للفنان سيروان باران.

Mousa Khoury
Issa Qaraqe
Khaled Farraj
Lama Khater
Ismat Mansour
Dahesh Akari
Hassan al-Fatafta

Read more