Introduction

(أ) تمهيد

يحكي الكتاب الذي بين يدي القارئ قصة طويلة دامت عقوداً بيني وبين مخطوطة عن الصهيونية لمحمد روحي الخالدي المتوفى سنة 1913. وروحي هذا هو ابن ياسين بن الحاج محمد علي الخالدي المتوفى سنة 1864. وياسين هو شقيق جد جدي الحاج راغب والد والدي أحمد سامح المتوفى في بيروت بعيداً عن قدسه سنة 1951 رحمات الله عليهم جميعاً.

كانت المخطوطة بين ما تركه الوالد من أوراق وكتب، وكان عنوانها «السيونيزم» أو «المسألة الصهيونية»، وفور تقليبي صفحاتها أدركت بالغ أهميتها فصممت على أن أخصص لها ما تتطلب من الوقت حتى أوفيها حقها من العناية والجهد لدراستها وتحقيقها والتعليق عليها. ثم مرت الأيام والليالي وتقلبت الأحوال وتداخلت الأولويات لتحول دون ما تمنيت، إلى أن جاءت الفرصة سنة 1988 للمساهمة في كتاب تكريمي للأستاذ الجليل الدكتور قسطنطين زريق، رئيس مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية السابق، قررت المؤسسة إصداره بتحرير الأخ الزميل الدكتور هشام نشابه رئيس مجلس أمناء المؤسسة حينذاك. فكانت المناسبة الحافز والدافع إلى إنجاز بحث عن مخطوطة صاحبنا تضمنها الكتاب التكريمي فيما تضمن.

واجهني إشكال كبير عند إعداد بحثي للكتاب التكريمي هو أن مخطوطة الخالدي وصلتنا في كراسين: الأول، حجمه حجم فولسكاب (Foolscap) وغلافه قرنفلي اللون وخطه أحدث من خط الآخر، وهو يقيناً ليس خط روحي وترقيم صفحاته من 1 إلى 123. والثاني، أقدم عهداً وأصغر حجماً غلافه بنّي اللون وخطه يقيناً خط روحي نفسه وترقيم صفحاته 69 - 113. أمّا الصفحات 102 - 123 من الكراس الأول والصفحات 69 - 92 من الكراس الثاني فقد كان بينهما تطابق كلّي محيّر. كما أن الصفحة 69 وما يليها من الصفحات تلت تلاوة مباشرة متسلسلة في النص والسياق الصفحة 102 من الكراس الأول.

 

الغلاف الخارجي للمجلد الثاني من مخطوطة روحي الخالدي

 

غلاف مخطوطة الفولسكاب بغير يد روحي الخالدي

 

الصفحة الأولى من مجلد الفولسكاب بغير يد روحي الخالدي

 

لم أوفّق على الرغم من الجهود إلى الاستهداء إلى هوية ناسخ الفولسكاب، ولا إلى حل لغز التطابق بين الكراسين في الصفحات المذكورة تواً. ومضيت في بحثي في الكتاب التكريمي على فرض أن مخطوطة روحي إنما تتألف من: (أ) الصفحات 1 - 102 (الفولسكاب بخط الناسخ)؛ (ب) الصفحات 69 - 113 (الكراس الثاني بخط روحي)، وتركت الإجابة عن الأسئلة العالقة إلى وقت آت.

خلال كتابة روحي لرسالته عن الصهيونية أصدر نجيب الخوري نصّار، صاحب جريدة «الكرمل»، رسالة عنوانها: «الصهيونية: ملخص تاريخها - غايتها وامتدادها حتى سنة 1905 وبعض مطالعاتنا فيها.»[1] وعلى الرغم من أن غلاف الرسالة لا يذكر تاريخ صدور الرسالة فمن الأغلب أن صدورها كان سنة 1911، إذ إن ما أوحى إلى نصّار بتأليف رسالته هو النقاش الحاد الذي جرى في مجلس المبعوثان في الآستانة في ربيع تلك السنة عن الصهيونية خلال البحث في ميزانية الدولة. وكان النواب العرب عن القدس، وعلى رأسهم روحي ذاته[2] وسعيد الحسيني، قد أثاروا في هذه الجلسة قضية نمو الخطر الصهيوني، فما كان من «الصدر الأعظم» أي رئيس الوزراء حقّي باشا إلاّ أن قال، رداً على النواب العرب، إن الصهيونية «ليست سوى رواية وما القائمون بها إلاّ أفراد مهوسون.»[3] وأثار كلام الباشا حفيظة نصّار، وخصوصاً أن جريدة «طنين» العثمانية الكبرى رددت كلام الصدر الأعظم، «فراعنا هذا الاقتناع.... فعمدنا إلى مصادر يهودية شتى أخصها الإنسيكلوبيديا اليهودية وفيها من الحقائق ما لا يترك مجالاً للاشتباه في حقيقة الصهيونية وأهميتها ويقنع الصدر الأعظم بأنها أكثر من رواية يجب الحذر منها والتحوط لها فيعلم صاحب (طنين) حينئذ أننا على هدى ويضم صوته إلى أصوات الذين ينذرون بخطر الصهيونية على الوطن العثماني.»[4]

 

الصفحة الأولى من المجلد الأول من مخطوطة روحي الخالدي بيده، والذي لم يظهر إلا بعد عقود

 

كان من الطبيعي عند إعداد بحثي للكتاب التكريمي أن أقوم بمقارنة نصَّيْ الخالدي بنص نصّار، وهو ما فعلت. وبما أن الخالدي لم يعنون معظم الثلث الأول من مخطوطته غير المكتملة ارتأيت أن أجزئه إلى ستة فصول وضعت لها عناوين مناسبة تسهيلاً لعملية المقارنة على الشكل التالي:

 

الصفحات

الفصل الأول: مقدمة في الصهيونية

1 - 6 في الفولسكاب

الفصل الثاني: الجذور الدينية اليهودية للصهيونية

6 - 27 في الفولسكاب

الفصل الثالث: لمحة عن تاريخ اليهود من موت

سليمان إلى خراب الهيكل الثاني

27 - 35 في الفولسكاب

الفصل الرابع: تشتت اليهود

35 - 71 في الفولسكاب

الفصل الخامس: ظهور الصهيونية الحديثة

71 - 102 في الفولسكاب

69 - 88 الكراس بخط روحي

الفصل السادس: الجمعيات اليهودية الكبرى

89 - 113 الكراس بخط روحي

 

وعند مقابلة النصين تبيّن لي كما أوضحت في مقالي في الكتاب التكريمي أن ثمة تطابقاً، وأن معظمه يرد فيما سميناه الفصل الخامس، أي الصفحات 71 - 102 من الفولسكاب والصفحات 69 - 88 من الكراس بخط روحي. ويظهر هذا التطابق بوضوح في الفقرات والصفحات التي جعلناها بأحرف مائلة في هذا الكتاب، كما يظهر أيضاً في عبارات وفقرات متقطعة في صفحات سابقة حددناها بالأحرف المائلة أيضاً.

فالجواب عن السؤال الذي طرحناه على أنفسنا في بحثنا في الكتاب التكريمي: هل اطّلع روحي على رسالة نصّار؟ لم يكن بالإيجاب فحسب، بل تعداه إلى الجزم أن روحي إنما اعتمد نص ترجمة نصّار لمقال الموسوعة اعتماداً حرفياً في الفصل الخامس خاصة،[5] علماً بأننا لم ننشر نص مخطوطة روحي في حينه لأننا لم نكن قد حققناها بعد.

ويشير الجدول التالي إلى الفصول الستة التي أوجزتها في مقال الكتاب التكريمي وما يقابلها من فصول وعناوين في نص الخالدي الذي بين أيديكم.

الكتاب التكريمي

الكتاب الحالي (راجع قائمة المحتويات)

الفصل الأول: مقدمة في الصهيونية

الفصل (1) ص 2 - 8

الفصل الثاني: الجذور الدينية اليهودية للصهيونية

الفصلان (2) و(3) ص 8 - 31

الفصل الثالث: لمحة عن تاريخ اليهود من موت الملك سليمان إلى خراب الهيكل الثاني

الفصل (4) ص 31 - 38

الفصل الرابع: تشتت اليهود

الفصل (5) ص 39 - 57

الفصل الخامس: ظهور الصهيونية الحديثة

الفصول (6 - 36)

ص 58 - 122

الفصل السادس: الجمعيات اليهودية الكبرى

الفصول (37 - 42)6

ص 122 - 160

 

[6]لم يعلق الخالدي في مخطوطته على ملاحظات وتعليقات نصّار نفسه على ما ورد في مقال الموسوعة، لكنه احتفظ بجميع العناوين التي وضعها نصّار لمادة الموسوعة المترجمة (عناوين الفصول 6 - 36 من هذا الكتاب). ومما لا شك فيه أن الخالدي تأثر في خلفيته التاريخية بما ورد في الخلفية التاريخية التي أوجزها نصّار عن الموسوعة، غير أنه كان معنياً أيضاً بنواح تاريخية لم تكن من اهتمامات الموسوعة، منها على سبيل المثال: أحوال اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام وبعده، ومعاملة الممالك الإسلامية عبر التاريخ لهم مقارنة بالممالك المسيحية. وتدل مسودة لفهرست وضعه روحي لمخطوطته على اهتماماته وأسلوبه في العمل في هذا الصدد.[7]

كل ما سبق جرى سنة 1988. ومرت العقود الثلاثة منذئذ كلمح البصر، وكنا قد تعهدنا حينذاك بتحقيق المخطوطة إياها باكراً. وتجري الرياح بما لا يُشتهى وتبقى النية معقودة، وها هو النص محققاً بين يدي القارئ اليوم.

وتشاء الرياح أن يصلنا منذ سنتين من ابن العم الدكتور عاصم الخالدي، المقيم بالقدس المحتلة والحارس الأمين للمكتبة الخالدية في البلدة القديمة فيها، أن وقع في المكتبة بين أوراق روحي على مخطوطة عن الصهيونية بيده صغيرة الحجم بنّية الغلاف ترقيم صفحاتها 1 - 68.

طرنا فرحاً أن حصلنا أخيراً على الجواب الوافي عن أسئلتنا العالقة، بل على ضالتنا المنشودة: الكراس الأول الأصيل الذي يحل محل الكراس الأول المنسوخ والذي يتممه الكراس الثاني بخط روحي المرقم من الصفحة 69 إلى الصفحة 113 الذي أسلفنا ذكره.[8]

إنما عند مقارنة مخطوطة القدس الوافدة بالكراس الأول المنسوخ (الفولسكاب) طارت الأفراح وخابت الآمال، إذ وجدنا أن الأخير يحتوي على إضافات غزيرة وزيادات قيّمة لم ترد في المخطوطة الوافدة، بل لم يكن ثمة مجال للشك في أن هذه الإضافات والزيادات إنما هي من تأليف روحي وحباكته (وإن كانت ليست بخطه) لكونها جميعاً بنَفَسه ومفرداته وأسلوبه وسياقه.

وإزاء هذا وذاك كان لا مفر من الاستنتاج أن ناسخ الكراس الأول (المنسوخ)، أياً يكن، لم يعتمد على المخطوطة الوافدة وصفحاتها الـ 68، وإنما اعتمد على نص آخر مخطوط لروحي مفقود أكثر طولاً لا نعلم أين هو، ولا إن كان لا يزال في قيد الوجود. وعليه فإن نص رسالة روحي عن الصهيونية التي حققناها والتي هي بين أيديكم في هذا الكتاب هو النص المؤلف من الكراس الأول المنسوخ[9] (الفولسكاب/Foolscap) من ص 1 إلى ص 102، ومن الكراس الثاني بخط روحي من ص 69 إلى ص 113.

والجدير بالذكر أننا أضفنا إلى هذه الصفحات تسع صفحات وجدناها في ذيل الكراس الثاني بخط روحي، بعد عشرات الصفحات الخالية، مكتوبة بالمقلوب تحت عنوان «مقتطفات لإدخالها في الكتاب». وضمت هذه الصفحات نبذاً عن بعض المستعمرات اليهودية، وفصلاً عن المؤتمر الصهيوني العاشر سنة 1911، وفصلاً عن مدرسة الجمناز العبرية في يافا.[10]

ويبدو، كما أسلفنا، أن صاحبنا بدأ كتابة رسالته وهو لا يزال في بوردو، وأنه أولاها مزيداً من الجهد بعد انتخابه نائباً عن القدس. غير أن كتابته ظلت متقطعة بسبب أعباء عمله في مجلس المبعوثان التي لم تسمح له بالانصراف الكلي إليها، فكان يعود إليها كلما سنحت الفرصة له بذلك حتى آذار/مارس 1913، وهو آخر تاريخ ورد في مخطوطته قبل وفاته بأشهر رحمات الله عليه.

(ب) ترجمة محمد روحي الخالدي[11]

هو محمد روحي الخالدي بن ياسين بن الحاج محمد علي بن علي بن محمد بن خليل بن صنع الله الخالدي المقدسي، وأعمامه هم عبد الرحمن نافذ، ويوسف ضياء الدين باشا، وراغب، وهذا الأخير هو جد الحاج راغب الخالدي الذي هو والد نعمان ونزيهة وحسن شكري، وحسين فخري، وأحمد سامح، وفاطمة وغالب ويعقوب وإسماعيل رحمهم الله جميعاً والفقير إليه ابن أحمد سامح الأكبر.

وتنقسم سيرة المترجم إلى خمس مراحل: 1) مرحلة دراسته الابتدائية والثانوية؛ 2) مرحلة دراساته العليا في الآستانة وباريس؛ 3) مرحلة عمله الأكاديمي في باريس؛ 4) مرحلة عمله قنصلاً عاماً للدولة العثمانية في مدينة بوردو في فرنسا؛ 5) مرحلة انتخابه نائباً عن القدس الشريف في مجلس المبعوثان (النواب) في الآستانة، ثم نائباً لرئيس هذا المجلس.

وُلد المترجم سنة 1281هـ/1864م في محلة العائلة في حارة باب السلسلة في البلدة القديمة في القدس، الملاصقة للحرم الشريف والمطلة على حائط البراق والحي المغربي المباد (وباب السلسلة أحد أبواب الحرم الرئيسية). وتلقى علومه الابتدائية والثانوية تباعاً في كتاتيب القدس، و«المكتب الرشدي» في نابلس، و«المدرسة الوطنية» في طرابلس الشام بإدارة الشيخ حسين الجسر. وحضر دروس المسجد الأقصى بالقدس في اللغة والتوحيد والحديث والنحو والصرف والمنطق والبيان والبديع، وتردد على مدرستي «الأليانس» (Alliance) و«الرهبان البيض» (الصلاحية) في القدس ليلمّ بالفرنسية، ودخل «المدرسة السلطانية» في بيروت بإدارة الشيخ حسين الجسر أيضاً، حيث بقي فيها إلى حين انحلالها، ثم عاد إلى القدس وتابع حضور حلقات المسجد الأقصى.

أمّا سبب تنقله بين هذه الجهات فهو أنه رافق والده في تنقلاته؛ فقد كان ياسين منتسباً إلى حزب الإصلاح العثماني وتأثرت أوضاعه بتغير أحوال زعماء هذا الحزب، فتنقل بين عدة وظائف بحسب تغير هذه الأوضاع والأحوال. وانتُخب أولاً لينوب عن أهالي القدس في المجلس العمومي ببيروت، ثم تولى نيابة طرابلس الشام، وكان ذلك في زمن راشد باشا والي سوريا وأحد الزعماء الإصلاحيين. ولمّا عُزل راشد باشا عاد ياسين إلى القدس، لكنه ما لبث أن أُرسل قاضياً شرعياً إلى نابلس عندما تولى مدحت باشا، كبير الإصلاحيين، ولاية سوريا.

وقبل نهاية هذه المرحلة بقليل، اصطحب عبد الرحمن نافذ ابن أخيه روحي في زيارة إلى الآستانة، حيث عرّفه إلى شيخ الإسلام حينئذ عرياني زاده أحمد أسعد أفندي الذي رغب في تشجيع صاحبنا الفتى على طلب العلم، «فأنعم عليه برتبة (رؤوس بروسه) وهي أول درجة في سلم المراتب العلمية وكسوتها جبة زرقاء مطرزة بالقصب عند القبة وعمامة عليها شريط مقصّب ويلقب صاحبها بـ (قدوة العلماء المحققين) ويعد مدرساً في مدرسة رابعة الخير في مدينة بروسه. ولم يكن المترجم حينئذ يبلغ السادسة عشرة وهو تلميذ وليس مدرساً، وكان ذلك في 15 ربيع الأول سنة 1297هـ/26 فبراير [شباط] 1880م.»[12]

وعند نهاية هذه المرحلة، انتظم المترجم في «سلك خدّام الحكومة في الدوائر العدلية»،[13] وكان ذلك، كما يبدو، بضغط من والديه بينما كان روحي شديد الإلحاح والرغبة في متابعة دراساته في الآستانة. ولعل معارضة والديه لذلك وحرصهما على إبقائه بالقرب منهما في القدس كانا بسبب أنه وحيدهما. وحاول روحي أن يعصي إرادة والديه وأن يسافر سراً إلى الآستانة عن طريق البحر، لكنه أُرغم على العودة إلى القدس بعد أن وصل إلى ظهر الباخرة في يافا.

وعُيّن روحي، بعيد عودته إلى القدس، باشكاتباً لمحكمة غزة، فاغتنم فرصة سفره إلى غزة وبدل أن يذهب إلى مقر عمله الجديد تمكن من «الإفلات»[14] والسفر إلى الآستانة حيث بدأ المرحلة الثانية من سيرته.

ونكاد نجزم أن تصميم صاحبنا كل هذا التصميم والعناد على متابعة دراسته العليا في الآستانة إنما كان مستوحىً من سيرة عمه يوسف ضياء بن محمد علي الذي كان أسنّ منه بأكثر من عشرين عاماً.[15]

 

يوسف ضياء الدين باشا الخالدي (1842 - 1906)

 

وكان يوسف قد غادر القدس شاباً يافعاً ليلتحق بثانوية إنكليزية في جزيرة مالطا. وبعدها بكلية روبرت (Robert College) الأميركية في الآستانة، حيث أتقن الإنكليزية والفرنسية ليتعين بعدها تباعاً مترجماً في الباب العالي، ونائب القنصل في مدينة بوتي على البحر الأسود، ونائباً عن القدس في أول مجلس نواب عثماني عام 1877/1878، ومدرساً في معهد اللغات الشرقية في العاصمة فيينا في النمسا، ورئيساً لبلدية القدس أولاً وثانياً وثالثاً. أمّا سنة 1887، وهي سنة قدوم روحي «الفالت» من القدس إلى إستانبول، فقد كان يوسف قائمقاماً في ولاية بدليس الكردية في الأناضول.

غب وصول روحي إلى الآستانة دخل «المكتب الملكي» وبقي فيه ستة أعوام (1305هـ/1887م - 1311هـ/1893م) أخذ في نهايتها الشهادة العالية. وعند عودته إلى القدس، عُيّن معلماً في «المكتب الإعدادي» فيها. لكنه «رأى في نفسه أنه أجدر بأن يتولى وظيفة أعلى من هذه»، فرجع إلى الآستانة وطلب أن يُعيَّن «قائم مقاماً» لأحد الأقضية. وكاد يتم له ما أراد، لكن عيل صبره وهو ينتظر صدور الأمر بتعيينه فسافر إلى باريس «وهو لا يعرف أحداً فيها.» ثم عاد إلى الآستانة، وأخذ يتردد على مجالس السيد جمال الدين الأفغاني صديق عمه يوسف. وكان الأفغاني وعمه يوسف تحت رقابة مشددة من جانب أجهزة الأمن العثمانية. فلمّا اشتدت الرقابة على روحي نفسه «هجر البلاد العثمانية» إلى فرنسا، ودخل مدرسة العلوم السياسية في باريس وأتم دروسه في ثلاثة أعوام، ثم التحق بـ «السوربون» ودرس فيها فلسفة العلوم الإسلامية والآداب الشرقية. أمّا أهم الأساتذة الفرنسيين الذين يذكر المترجم فضلهم عليه، فهم ألبير ڤاندال (Albert Vandal) المحاضر في «المسألة الشرقية»، و«شيخ التاريخ السياسي» ألبير سورل (Albert Sorel)، ووزير المعارف المسيو ألفريد رامبو (Alfred Rambaud)، والمستشرق اللغوي هارتويغ ديرانبورغ  (Hartwig Derenbourg)، والإحصائي إميل ليفاسور (Emile Levasseur).

وعند نهاية دراساته الجامعية بدأت المرحلة الثالثة من سيرة المترجم، وهي مرحلة عمله الأكاديمي. فقد عُيّن مدرساً في معهد اللغات الشرقية (Ecole Speciale des langues orientales) في باريس، وأخذ يلقي  المحاضرات («قونفرانس»)[16] بالعربية بحضور كبار المستشرقين. ولعله من أوائل من فعل ذلك في المعهد من العرب، ودخل عضواً في مؤتمر المستشرقين الذي عُقد في باريس سنة 1897، وعرض فيه «إحصائيات من العالم الإسلامي.»

وتبدأ المرحلة الرابعة من سيرة المترجم بعودته إلى الآستانة سنة 1898، إذ صدرت الإرادة السنية بتعيينه «قنصلاً جنرالاً» في مدينة بوردو، «فرحبت به حكومة الجمهورية الفرنساوية ووضعت ثقتها فيه وكانت رفضت الكثيرين من الذين عُينوا قبله لتلك القنصلية.»[17] وانتُخب لاحقاً رئيساً لجمعية القناصل في تلك المدينة وعددهم ستة وأربعون، فكان ينوب عنهم في الاحتفالات التي يتعذر وجودهم فيها جميعاً ويستقبل رئيس الجمهورية وكبار الوزراء والعلماء عند مرورهم ببوردو. وتزوج وهو في بوردو من سيدة فرنسية هي هرمانس بنسول (Hermance Painsol) أنجب منها وحيداً سمّاه يحيى.[18]

ولمّا أُقيم المعرض البحري العام في بوردو سنة 1907 لمضي مئة سنة على إيجاد البواخر كان روحي من المشاركين في إقامته وأهدته بلدية بوردو وإدارة المعهد «تذكاراً جميلاً»،[19] ومنحته «الحكومة الفرنساوية نيشان (نخلة المعارف) (Ordre des palmes academique) الذهبية ووسام (الليجيون دونور) (Légion d’honneur). وكان في أثناء ذلك ينشر المقالات الوافية في بعض المجلات العلمية.... ويغفل إمضاءه منها أو يذكر فيها اسم المقدسي.» أمّا أهم الصحف التي نشرت له فهي: «الأهرام»، و«المؤيد»، و«طرابلس الشام»، ومجلة «الهلال»، ومجلة «المنار». ويعلق جرجي زيدان على ذلك بقوله: «وكان القراء قبل أن عرفوا اسمه يعجبون بعلمه وفضله ويسألوننا عن حقيقة اسمه، ولم يكن يأذن لنا بإذاعة ذلك لأنه كان قنصلاً جنرالاً للدولة العلية في بوردو بفرنسا. ومع اعتدال لهجته وتجنبه الطعن والقرص فقد كان يخاف تأويل أقواله ولا تطاوعه حميته على السكوت ففضل كتمان اسمه.[20]

وما كاد الدستور العثماني يُعلَن سنة 1908 حتى رجع روحي إلى القدس «مسقط رأسه والدار التي قضى فيها أيام صباه»،[21] ليبدأ المرحلة الخامسة والأخيرة من سيرته. وانتخبه أهل القدس نائباً عنهم في البرلمان في السنة ذاتها وأعادوا انتخابه سنة 1912، وفي هذه السنة انتخبه المجلس ذاته نائباً لرئيسه. وتابع روحي خلال هذه السنين نشاطات الحركة الصهيونية في الآستانة وفي فلسطين، وراقبها عن كثب. ومما لا شك فيه أنه تداول أمرها مراراً وتكراراً مع عمه يوسف ضياء، فالأخير هو العربي الأول الذي تصدّى مباشرة في حينه لهيرتسل، إذ إنه أرسل رسالة طويلة بالفرنسية في ربيع سنة 1899 إلى حاخام فرنسا الأكبر تسادوك كاهن (Zadoc Kahn)[22] يحذّر فيها من استمرار هيرتسل في سياسته ومن عواقبها الخطرة. وكان تسادوك كاهن من أقرب المقربين إلى هيرتسل ومن الأوائل الذين اتصل بهم الأخير عند البدء بدعوته،[23] فما كان من الحاخام إلاّ أن أحال الرسالة على هيرتسل الذي أجاب عليها في 19 آذار/مارس برسالة موجهة إلى يوسف ضياء هي الفريدة في نوعها إلى شخصية فلسطينية أو عثمانية. وقال هيرتسل، فيما قال في رسالته هذه، ما معناه أنه إذا كان عرب فلسطين يعارضون الصهيونية فهم الخاسرون لأن الصهيونية ستتحول إلى بلاد غير فلسطين، وبذلك سيحرم العرب أنفسهم من مكاسبها!!![24]

وتصدى روحي للصهيونية خارج مجلس النواب كما في داخله.[25] ففي مقابلة مع جريدة «هتسفي» («الظبي») الصادرة بالعبرية في القدس في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر 1909 «عبّر عن مقاومته المبدئية للحركة الصهيونية ونشاطها الاستيطاني في فلسطين. وحذّر من أن استمرار النشاط الصهيوني والاستيطان المكثف قد يؤدي في المستقبل إلى طرد العرب، أهالي البلد الأصليين، من بلدهم: (لسنا مدينين لكم بشيء فقد فتحنا هذه البلاد من البيزنطيين وليس منكم).»[26]

ويسجل المؤرخ الإسرائيلي أهارون كوهين (Aharon Cohen)[27] أنه في ربيع سنة 1911 وخلال مناقشة الموازنة في البرلمان العثماني تصدى نائبا القدس روحي الخالدي وسعيد الحسيني للنشاط الصهيوني في فلسطين منبهَيْن إلى أن «الييشوف» (Yishuv)، أي المجتمع اليهودي في فلسطين، «أصبح لديه تنظيم داخلي محكم، وأن المستعمرات اليهودية تتمتع بحكم ذاتي لا دور لمسؤول رسمي فيه، وأن اليهود قد أسسوا منظمات تقوم بتدريب أعضائها ليصبحوا قابلين للنشاطات العسكرية، وأضافا أنه أصبح لليهود في فلسطين مدارس خاصة بهم، ونشيد وطني، وأن علماً ذا لونين (الأبيض والأزرق) غدا شعار الصهيونية يحملونه جهاراً في المواكب، وأنه أصبح لديهم طوابع بريدية عليها صور زعمائهم. وعرض النائبان على البرلمان نماذج من طوابع الصندوق القومي اليهودي (Jewish National Trust) تظهر صورتي هيرتسل وماكس نورداو (Max Nordau). وأضافا أن هذه الشواهد تثبت بمجموعها أن غايات الحركة الصهيونية إنما هي غايات سياسية. وللدلالة على ذلك عرضا على البرلمان كراساً بعنوان (برنامجنا) (Our Program) تأليف الزعيمين الصهيونيين أوسيشكين (Ussishkin)[28] وجاكوبوس كان (Jacobus Kann)، وصرّح روحي الخالدي خلال النقاش في البرلمان أنه يميز بين (اليهودية) و(الصهيونية) فهو لا يضمر أمراً تجاه الأولى غير أن الصهيونيين في معظمهم مواطنون روس ويحتفظون بجنسيتهم الروسية الأجنبية، وهم بالتالي يهددون السكان العرب في فلسطين والدولة العثمانية.»

وبالنسبة إلى كيفية إجراء انتخابات بلدية القدس حينذاك كانت الهيئة الناخبة (Electoral College) مؤلفة من 174 ناخباً على الشكل التالي: 140 من المسلمين، و30 من المسيحيين، و4 من اليهود.[29]

أمّا آثار روحي القلمية المنشورة فأهمها[30] (1) «المقدمة في المسألة الشرقية منذ نشأتها الأولى إلى الربع الثاني من القرن الثامن عشر» السابق ذكرها، والمحتمل أن تاريخها سنة 1897 أو سنة 1898؛ (2) «فيكتور هوجو وعلم الأدب عند الإفرنج والعرب» (القاهرة: دار الهلال، 1912)؛ (3) «رسالة في سرعة انتشار الدين المحمدي وفي أقسام العالم الإسلامي»، محاضرة ألقاها في باريس سنة 1896 ونشرتها جريدة «طرابلس الشام» في كتاب من 65 صفحة؛ (4) «الانقلاب العثماني»، و«تركيا الفتاة»، مقالتان نشرتهما «الهلال» سنة 1908؛ (5) «حكمة التاريخ»، مقالة نشرتها من دون توقيع جريدة «طرابلس الشام» سنة 1903، ولمّا بلغت الآستانة صدر الأمر بتعطيلها؛[31] (6) «الكيمياء عند العرب»، طبعته دار المعارف في مصر سنة 1938ا.[32]

ومن الشواهد ما يدل على أن المترجم بدأ كتابة المخطوطة التي نحن في صددها وهو لا يزال في بوردو، وأنه استمر في تنقيح الكتاب والإضافة إليه إلى ما قبل وفاته بقليل. وكانت وفاته عن 49 عاماً في الآستانة في 6 آب/أغسطس 1913، بعد إصابته بحمى التيفوئيد التي لم تمهله سوى أربعة أيام. رحمه الله.

* * *

ولعل أفضل المراجع بالعربية التي يمكن أن يعود إليها القارئ للتعرف على آثار المترجم ومؤلفاته، هما مقال للدكتورة خيرية قاسمية بعنوان «روحي الخالدي، 1864 - 1913» (نابلس: الدار الوطنية للترجمة والطباعة والنشر والتوزيع، 1996)، والبحث الذي وضعه الدكتور ناصر الدين الأسد بعنوان «محمد روحي الخالدي: رائد البحث التاريخي الحديث في فلسطين» (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1970). غير أن الأسد لم يذكر دراسة المترجم عن الصهيونية لأنه لم يتسنَّ له الاطلاع عليها.

أمّا أهم المصادر الأجنبية عنه فهي: 

(1)  Alexander Scholch, Palestine in Transformation, 1856 – 1882: Studies in Social, and Political Development (Washington D.C.: IPS, 1993).

(2)  Emanuel Beska, “The Anti-Zionist Attitudes and Activities of Ruhi al-Khalidi,” in Arabic & Islamic Studies in Honour of Ján Pauliny, edited by Zuzana Gazakova and Jaroslav Drobny (Bratislava: Comenius University in Bratislava, 2016).

(3)  Neville J. Mandel,The Arabs and Zionism Before World War I (California: University of California Press, 1976).

(4)  Jonathan Marc Gribetz, Defining Neighbors: Religion, Race and the Early Zionist-Arab Encounter (New Jersey: Princeton University Press, 2014).

 

(ج) ترجمة نجيب الخوري نصّار

ولد نجيب نصّار في قرية عين عنوب في قضاء عاليه سنة 1867، «أو ما يقارب ذلك التاريخ»،[33] وكان له خمسة إخوة وثلاث أخوات.

تعلم في مدرسة القرية ثم في مدرسة الشويفات - الآن كلية شويفات الدولية - وبعدها انتقل إلى الجامعة الأميركية في بيروت «حيث بقي فيها لمدة سنة أو سنتين.»

وبعد ذلك «وجد المجال للعمل في لبنان ضيقاً فانتقل إلى فلسطين أسوة بكثير من اللبنانيين»، واستقر هناك في مدينة طبرية وعمل في الزراعة. وذكر أيضاً أنه عمل صيدلياً في المستشفى الإسكتلندي فيها.

 

نجيب الخوري نصار (1867 - 1948)

 

غلاف رسالة نجيب نصار

 

وفي أثناء وجوده في طبرية كان يجتمع ببعض السياح الذين يزورون «البلاد (الأرض المقدسة/Holy Land) وكان أحد السياح الأميركيين في ذلك الحين يعنى بأخبار الشرق الأوسط فتحدث مع والدي عن السياسة الصهيونية وأهدافها في فلسطين خاصة والبلاد العربية عامة ولكي يؤكد على معلوماته لوالدي أرسل له بعض الكتب التي تبحث في السياسة الصهيونية وأهدافها فأخذ والدي حينئذ يراسل بعض الصحف العربية في دمشق وإستانبول وكانت تلك الصحف تنشر بعض رسائله وتهمل البعض الآخر.»

في سنة 1908 «انتقل إلى حيفا بعد بيع أملاكه في لبنان وأصدر جريدة (الكرمل) هناك واشترى لها مطبعة وبدأ يكتب عن الصهيونية.»

وفي سنة 1914 «عند بدء الحرب العالمية الأولى تحالف الألمان مع الأتراك الذين كانوا يحكمون بلادنا فكتب والدي في جريدة (الكرمل) يحذّر الدولة العثمانية بأنها لا تملك أسطولاً يستطيع حماية شواطئها الواسعة من هجوم بحري يقوم به الحلفاء فغضب عليه الألمان والأتراك وأرادوا تقديمه إلى (الديوان العرفي) أي المحكمة العسكرية فهرب وتشرد في حوران.»

وفي سنة 1918 «عندما شدد الأتراك على أقاربه وأصدقائه وبدأوا ينفونهم إلى الأناضول في تركيا اضطر إلى الاستسلام فحوكم في دمشق وعاليه وبرئ وعُرض عليه أن يرئس تحرير جريدة حكومية في دمشق فاعتذر»، وعاد إلى فلسطين واستوطن الناصرة لبضعة أعوام ثم انتقل إلى مدينة حيفا بعد احتلال الإنكليز لفلسطين واستأنف إصدار «الكرمل». وفي سنة 1927 تزوج نصّار من ساذج بنت الشيخ بديع الله بهائي من مدينة عكا وكانت زوجته الثانية ومحررة في جريدته مسؤولة عن تحرير الصفحة النسائية فيها. وتُعتبر ساذج من أوائل الفلسطينيات اللواتي عملن في مهنة الصحافة، والأولى التي تدخل السجن بهذه الصفة في عهد الاحتلال البريطاني. وقامت ساذج في الثلاثينيات بإصدار صحيفة مستقلة تحت مسمى «رسالة الكرمل» تُعنى بالقضايا النسائية.[34] وكان نصّار «يقاوم في كتاباته السياسة الإنكليزية تجاه عرب فلسطين»، ونتيجة ذلك كانت حكومة فلسطين توقف إصدار الجريدة فترات محدودة. وفي سنة 1943 «أقفلت الحكومة ترخيص إصدار (الكرمل)»، فتقاعد عن العمل وكان له من العمر ما يقارب الـ 78 عاماً.

ويروي السيد شفيق في رسالته إليّ عن والده أن الأخير كان يقول «بيعوا كل شيء لليهود إلاّ الأرض ولا تشتروا شيئاً إلاّ الأرض»، وأنه كان يحذر «من تمكين اليهود الاستيلاء على الشواطئ» ويقول: «إذا تمكنوا من ذلك استطاعوا محاصرة الداخل ومن العسير جداً طردهم من الشواطئ»، رحمه الله.

توفي الأستاذ نصّار في آذار/مارس 1948[35] في مدينة الناصرة مخلفاً أربعة صبيان وابنة واحدة، وكان له من العمر «80 أو 82 عاماً»، ودفن في مقبرة المدينة الأرثوذكسية، رحمه الله.

(د) نصّار والصهيونية

تتألف رسالة نصّار في الصهيونية من 64 صفحة، منها ما مجموعه نحو 9 صفحات من تأليفه، والباقي منقول عن «الموسوعة اليهودية». وهذا المنقول ثلثه الأول[36] أقرب إلى الإيجاز (paraphrase) منه إلى الترجمة، بينما الثلثان الآخران مترجمان وسبع صفحات من مجموع التسع صفحات التي من تأليفه ترد متصلة في ذيل المقال المترجم،[37] بينما تتخلل شذرات من الصفحتين الباقيتين الثلث الأول الموجز.[38]

كان نصّار انتقائياً فيما ترجم، أي أن ترجمته لم تكن متصلة، وأنه ترجم ما اختاره من مقال الموسوعة فهو يقفز حيناً عن فقرة أو أكثر وحيناً عن صفحة أو أكثر، لكنه كان دقيقاً أميناً في ترجمة ما اختاره للترجمة.

 

الصفحة الخارجية الأولى لـ "الموسوعة اليهودية"

 

بداية رسالة نجيب نصار عن الصهيونية

 

إحدى صفحات الموسوعة بالإنكليزية تظهر انتقائية نجيب نصار في الترجمة

 

ويشكل الثلث الأول الموجز من رسالة نصّار الخلفية التاريخية للثلثين الآخرين المترجمين اللذين تتصدرهما النبذة عن تيودور هيرتسل (الفصل 7)[39] إذ تبدأ الترجمة وتمتد إلى الفصل 35 كما يتبيّن من الأحرف المائلة. وتعطيك العناوين في قائمة المحتويات لهذا الكتاب نظرة عامة شاملة للموضوعات التي اختارها نصّار للترجمة؛ فهو الذي وضع هذه العناوين التي لم ترد في الموسوعة أصلاً.

ووضع نصّار أيضاً للثلث الأول (الخلفية التاريخية) من نصه الموجز عن الموسوعة العناوين التالية: 1) تعريف الصهيونية؛ 2) العودة والاعتقاد؛[40] 3) العودة والتاريخ؛ 4) تولد الصهيونية الحديثة؛ 5) نمو الحركة؛ 6) الأنتيسمتزم.[41] وتعطيك هذه العناوين أيضاً فكرة عن محتوى الموسوعة وما نقله نصّار عنها في الثلث الأول من رسالته. ولم نُدخل هذه العناوين في قائمة محتويات هذا الكتاب لأن ما نقله الخالدي عن هذا الثلث الأول اقتصر على شذرات متقطعة أشرنا إليها بالأحرف المائلة.

وإليكم خلاصة لما قاله نصّار عن الصهيونية في الصفحات التسع من تأليفه:[42]

يستخلص نصّار من الموسوعة أن الحركة الصهيونية «حركة عظيمة تشغل أفكار وقلوب عموم اليهود في أقطار العالم كله وأن القائمين عليها من أقدر رجال العالم»، وهي مؤسسة على «قواعد صحيحة تكفل انضمام اليهود إليها»، والمال «موجود بكثرة» لديها. وقد استطاعت أن تجري مفاوضات مع دول كبرى من أمثال بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة.

ونقلاً عن الموسوعة يشبّه نصّار هيئات «الجمعية الصهيونية» بالحكومات الديمقراطية من حيث «أن مؤتمراتها تقوم مقام البرلمانات»، بينما تقارب هيئة صهيونية أُخرى «الهيئة الإجرائية» (أي السلطة التنفيذية)، وتشرف الجمعية على إدارة مالية و«إدارة معارف وتهذيب» وإدارة بريد ومصارف تجارية وصناعية و«جمعيات جمناستيكية لتقوية العضل والتدريب على حركات الجندية»، ولها راية وفروع رئيسية في أكثر عواصم العالم.

ويؤكد نصّار، في تعليقاته على مقال الموسوعة، أن الحركة الصهيونية إنما أُسست على «أسس عنصرية ولغاية سياسية» مع محافظتها على «التقاليد الدينية»، وأن قول «أكابر اليهود بأنهم يسعون إلى ملجأ مؤمن بعدالة الدولة العثمانية» إن هو إلاّ من باب «التمويه والتضليل»؛ ذلك بأنهم إنما يهدفون إلى «إعادة تمثيل دور أجدادهم القديم يوم خرجوا من مصر ليستولوا على البلاد ويهلكوا الحرث والنسل.»

ويضيف نصّار «أن اليهود يسخرون منا بقولهم أنهم يحبون العثمانية ويريدون أن يتفيّأوا بظل الهلال»، بل هم «يريدون الانتفاع بجهلنا والاستفادة من خمولنا ليستولوا على بلادنا وموارد رزقنا ويتمموا مقررات التاريخ»، ويؤسسوا «وطناً خاصاً». ولو كان الأمر كما يقولون «لكنا نرى العثمانية تتجلّى في كل مظهر من مظاهرهم ولكن ما نراه من أفعالهم لا ينطبق على أقوالهم البتة.»

ينقل نصّار عن الموسوعة قولها «إن أساس فكرة عودة اليهود إلى فلسطين ترتكز على عدة أقوال وردت في الكتاب المقدس»، وتذكر الموسوعة المزامير المعنية فتورد مظانها. ويعلق نصّار على مزمار إشعيا 11: 14 إن يهوذا وإفرايم «ينقضّان على أكتاف الفلسطينيين غرباً وينهبون بني المشرق معاً. يكون على أدوم ومؤاب (شرقي الأردن) امتداد يدهما».. يعلق بقوله محذّراً: «يستدل اليهود من هذا القول على أن عددهم يكون كثيراً حتى لا تعود تسعهم فلسطين فيمتدون إلى لبنان وإلى ما وراء الأردن ولذلك تراهم يضيفون كلمة سوريا إلى فلسطين وفي بعض الأحيان تركيا آسيا والشرق كما سترى.» ويضيف نصّار: «سنكتفي بهذه الشواهد من الإنسيكلوبيديا والأنبياء لأننا لو قصدنا جمع كل الأقوال التي يتخذها اليهود دليلاً على عودتهم إلى سوريا وفلسطين لاستغرقت مجلداً ضخماً.»

ويستطرد نصّار بالقول إننا «ما كنا أبداً نعارض الاستعمار الصهيوني» [ويقصد بـ «الاستعمار» أساليب الزراعة الحديثة] لو كان «مجرداً من الغاية السياسية» ولو كان اليهود يرضون «بغير فلسطين وسوريا مهجراً وأن يعيشوا متفرقين بين العثمانيين.» ويضيف أنه من العجيب «كيف يطالبنا قوم موسى بالمساواة بينما هم يعملون على تخصيص أنفسهم عنا بمحاولة طردنا عن وطننا.» ويعود نصّار إلى «تظاهر» اليهود «بالميل للعثمانية»، فيستخلص منه أنهم إنما «يحتالون ليستفيدوا من جميع الظروف»؛ ذلك بأنهم «يميلون مع السياسة كيف مالت ليستفيدوا من جميع الظروف.»

أمّا «الأنتيسمتزم» (antisemitism) أي اللاسامية ومنبعها فيحسم صاحبنا الأمر بقوله بإيجاز ناجز «إن الأنتيسمتزم نتيجة السمتزم (Semitism)» ويعني بالأخيرة «نعرتهم»، ومنها أنه «لا يجوز إعطاء الجزية لملك غير يهودي»، وأن اليهودي «لا يشتري شيئاً عند أخيه من غيره.» ويقرأ نصّار بين سطور الموسوعة اليهودية أن هذه النعرة والمبادئ القومية لدى اليهود أخذت تطفو بعد أن «نالوا حريتهم» في «البلاد العريقة بالمدنية والراغبة في منح الحرية والمساواة»، بحيث لم تلبث هذه البلاد والشعوب التي صارت «حيّة وما عادت تغترّ بالأقوال» أن أخذت «تنفر» منهم «وتجاهر بمضاداتهم»؛ فلولا «ظهور اليهودية [السمتزم] في الشعب اليهودي لما ظهر ضدها في أوروبا.» وكانت حصيلة ذلك أن اليهود أخذوا يحولون أنظارهم إلينا «وعلموا أننا نعلق آمالاً كبيرة على المواعيد [أي الوعود] فوضعوا على رؤوس ألسنتهم حلاوة.»

أمّا الدولة العثمانية وموقفها من الصهيونية فقد كان الدافع المباشر لنصّار إلى كتابة رسالته عن الصهيونية، كما أسلفنا، ما دار من نقاش في مجلس المبعوثان في الآستانة عن الصهيونية، وخصوصاً ما ورد على لسان الصدر الأعظم حقي باشا عنها رداً على انتقادات وتحذيرات وجهت إليه في هذا الصدد من نواب أعضاء في المجلس من العرب، وعلى رأسهم صاحبنا روحي، وذيول ذلك وأصدائه في الصحافة العثمانية.

ويبدو أن أكثر ما استهوله نصّار مما قاله حقي باشا، إضافة إلى وصفه الصهيونية بأنها «رواية» وأن القائمين عليها «أفراد مهوسون»، هو أن التدابير التي اتخذتها الدولة لضبط الهجرة اليهودية إلى فلسطين سارية المفعول وفعّالة، وأن الدول المسيحية الكبرى ستقف في وجه الصهيونية لحرصها على سلامة الأماكن المسيحية المقدسة في القدس، وأن صحيفة «طنين» كبرى الصحف الصادرة بالتركية تناغمت مع مواقف الباشا بل «وجهت التهم لمن يحذّر من الصهيونية.»

ويبدو أن نصّار كان يتوقع أن ينجم عن النقاش بشأن الصهيونية في مجلس المبعوثان تأليف لجنة برلمانية «لسبر أغوار الحركة»، فلم يحدث شيء من ذلك، الأمر الذي زاد في استنكاره. وأضاف نصّار محذراً منذراً بأن الموسوعة اليهودية أشارت إلى أن «نوال حكومات البلقان حريتها» [أي استقلالها عن الدولة العثمانية] كان السبب في «نشاط آمال اليهود» لينتهي إلى التساؤل: «هل تحول الحكومة العثمانية وشعبها دون تحقيق أماني الصهيونية أم نتركهم يعملون غير مبالين ومعللين أنفسنا بأن حركتهم وهمية؟»

لا يفوت نصّار أن يشير إلى أن ثمة عثمانيين «يجعلون أنفسهم آلة بيد المستعمرين فيعيرونهم أسماءهم لمشترى الأراضي»، لكنه يضيف: «لنا على ذلك أدلة قوية لا يناسب ذكرها مراعاة للأحوال الحاضرة.»

وعلى الرغم مما أورده نصّار عن قوة الصهيونية ومؤسساتها، وسعة انتشارها، وخطورة أهدافها، فهو يؤكد «أن لنا جامعة عثمانية وراية تخفق فوق رؤوسنا»، وأنه «علاوة عن الشؤون الاجتماعية والسياسية» هناك خلافة «تضم إلينا شعائر 250 مليوناً من المسلمين غير العثمانيين.. فكلمتنا إذن قوية.»

ومما يلفت كل الإلفات أن صاحبنا لم يخفِ إعجابه بزعيم الصهيونية هيرتسل من حيث تفانيه وصلابة إرادته ووضوح رؤيته وثباته ومثابرته ونجاحه في «جمع كلمة شعب مشتت ليس له حكومة وجعله يتخذ خطة الهجوم»، مردفاً ذلك بقوله: «عندنا كثيرون كهيرتسل ولكن يعوزهم معرفتهم قدر نفوسهم وشجاعة أدبية ليخطوا الخطوة الأولى.»

 

صفحتان داخليتان من رسالة نجيب نصار

 

صفحتان داخليتان أخريان من رسالة نجيب نصار

 

ملاحظات نجيب نصار على "الموسوعة اليهودية"

 

(هـ) الخالدي والصهيونية

تتألف مخطوطة روحي من ثلاثة أثلاث رئيسية، أولها مقدمة تسبر أغوار الصهيونية الدينية وعلاقة اليهود بالأمم الوثنية والمسيحية، وكذلك علاقتهم بالعرب قبل الإسلام وبعده وبالممالك الإسلامية، نهايةً بالدولة العثمانية. ويتابع روحي عبر العصور في مقدمته بروز القومية اليهودية أو انحسارها انعكاساً لقوة المجتمع اليهودي أو ضعفه في فلسطين أو الشتات قياساً بالدول المعاصرة أو الحاكمة ونزعة اليهود إلى «التشبه» (assimilation) بالشعوب المضيفة أو عزوفهم عنه والميل إلى القومية ودوافع كل من الاتجاهين ودور اللاسامية في كل ذلك. وتمتد المقدمة من الفصل (1) إلى الفصل (8) وتتخللها شذرات متقطعة، وأحياناً صفحة أو أكثر مقتبسة من مقال الموسوعة اليهودية بترجمة نصّار.

أمّا الثلث الثاني فمعظمه مقتبس من الموسوعة بإيجاز، أو ترجمه نصّار، وتتخلله فقرات وأحياناً عدة صفحات من تأليف روحي من خواطر وتعليقات على مادة الموسوعة. ويمتد هذا الثلث من الفصل (8) إلى الفصل (36). ويمتد الثلث الأخير من الفصل (37) إلى آخر المخطوطة، وهو كله من تأليف روحي وجلّه يُعنى بالمستعمرات اليهودية وبتحقيقات روحي الميدانية في شأنها.

وعلى الرغم من إدراك روحي كل الإدراك لعمق الجذور الدينية للصهيونية القديمة والحديثة فإنه يميز عن قناعة تامة بين اليهودية والصهيونية. وهذا التمييز القاطع هو، في رأينا، مفتاح فهم نظرة صاحبنا إلى الصهيونية. أمّا أسباب هذه القناعة فمتعددة:

بعضها عقدي وروحي ليبرالي و«وضعي» (positivist) الفلسفة من ناحية، ومسلم مؤمن من ناحية أُخرى. وإيمانه يحمله للإشادة بعدالة الإسلام الذي «ساوى بين الذميين وجعل لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»، على الرغم مما ورد في القرآن الكريم من أن اليهود «أشد الناس عداوة للمسلمين.» وليس من قبيل المصادفة أن يستشهد روحي، في هذا الصدد، بقول عبد الله بن رواحة ليهود خيبر «والله لا يحملني بغضي إياكم على أن لا أعدل عليكم.»[43]

 


الغلاف الخارجي للمجلد الأول من مخطوطة روحي الخالدي

 

الغلاف الخارجي للمجلد الثاني من مخطوطة روحي الخالدي

 

وبعضها بيئي؛ فمحلة باب السلسلة العائلية في القدس القديمة، مسقط رأسه، مطلّة على حيّ المغاربة ويسكن في جواره يهود متدينون من التبعية العثمانية منذ عقود يعرفهم صاحبنا عن كثب، فهم يعتبرون الصهيونية بدعة والصهيونيين كفّاراً، وهم على خلاف مزمن مع المهاجرين الصهيونيين الجدد من روسيا من ذوي الطموحات السياسية الذين يحافظون على جنسيتهم الروسية، والذين ندد بهم روحي في البرلمان العثماني كل التنديد.

وبعضها قائم على تجربته الحياتية في فرنسا التي دامت نحو أربعة عشر عاماً (من سنة 1893 لغاية سنة 1908) أمضى نحو خمسة منها في باريس والباقي في بوردو، عاصر خلالها قضية درايفوس (Dreyfus) الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي الذي أدين ظلماً بتهمة الخيانة العظمى سنة 1894 ولم يُبرّأ إلاّ سنة 1906؛ وهي القضية، كما هو معلوم، التي أشعلت لهيب الصهيونية في ذهن هيرتسل العلماني.

تعرّف روحي، خلال إقامته الطويلة بفرنسا، على المجتمع الفرنسي وتغلغل فيه وتولّد لديه انطباع راسخ عن الجوالي اليهودية فيها وتوجهها غير المشروط نحو التشبه (assimilation)، على الرغم من قضية درايفوس. فهو يسجل تسجيل المطّلع والممارس عن كثب: «أصبح التفريق بين اليهود والمسيحيين.... من الأمور المتعذرة لمشابهتهم في اللباس وحضورهم سواء في الأندية والمراسح والمجتمعات وأكلهم في المطاعم العمومية غير مبالين بانتهاك المحرمات في شريعتهم وربما عاشر الغريب أحدهم مدة طويلة وهو لا يدري إن كان مسيحياً أو يهودياً.... وكثر زواج اليهودية الجميلة أو الغنية بمسيحي والمسيحية بيهودي متنصر.»[44]

 

فهرست محتويات المجلد الأول للمخطوطة بيد روحي الخالدي

 

ومع ذلك فاللافت هو تحليل روحي الديني للرابط بين اليهودية والصهيونية الذي يسلط الضوء عليه، فالذي يتلو كتب العهد القديم بحسب قوله «لا يجد فيها شيئاً من أخبار نعيم الجنة ولا عذاب جهنم الواردة في القرآن الكريم ولا من أخبار الحياة الأبدية وملكوت السماوات الواردة في الإنجيل الشريف»، وإنما جميع ما ورد في كتب العهد القديم «من الترغيب والترهيب والتشويق والإنذار والوعد والوعيد إنما هو منحصر في صهيون» والشقاء في «خرابها والجلاء عنها وحكم الغير لها»، ولم يزل «الإسرائيليون يندبون سبي بابل.... فأظهر أُسَراءُ بابل من التلهف والتحسر على صهيون وأورشليم ما لا مزيد عليه ولم تبلغ أمة من الأمم شأوهم في التحسر على أوطانهم.» وفي الكتابات التلمودية «ما يشير إلى عودة الأشياء القديمة إلى سابق حالها.. وقد تكهن أحبار اليهود مراراً في تحديد ذلك الزمن.» وقد تجلت آمال الصهيونيين كذلك في آداب اليهود الشعرية النثرية، ولا سيما ما كان منها بالعبرية.

ولم تفلح اليهودية في الانتشار بين شعوب العالم بسبب فقدان «الاستعداد» لديها لأن تكون «ديانة لعموم بني الإنسان»، ذلك بأن اليهودية «بعيدة عن تلك الصفة العمومية الإنسانية الموجودة في الإسلام والنصرانية ولها صفة خاصة قومية لأنها تختص بأمة منتخبة وبشعب خاص فوق جميع الشعوب.»[45]

يعير روحي أهمية عظمى للفيلسوف الألماني اليهودي موزس مندلسون (Moses Mendelssohn) (1729 - 1786) الذي ابتدع مخرجاً مشرفاً لليهود الذين يعانون جرّاء اللاسامية في الممالك المسيحية. ومندلسون هذا لا يأتي ذكره فيما ترجمه نصّار عن مقال «الموسوعة اليهودية». غير أن روحي على حق في اهتمامه بمندلسون كل هذا الاهتمام؛ فالموسوعة إياها، في مقال طويل آخر خُصص لمندلسون،[46] تصفه بـ «موسى الثالث/Moses Third[47]". وتذهب إلى القول إن كتابه عن اليهودية «غيّر مجرى التاريخ» («epoch making»). أمّا عنوان كتابه بالألمانية فهو Jerusalem oder über Religiöse Macht، ترجمه روحي إلى العربية بـ «القدس أو اليهودية والقوة الدينية.»

 

صفحة داخلية من المجلد الأول للمخطوطة بيد روحي الخالدي

 

يلخّص روحي نظرية مندلسون بأنها «نظرية اليهودية الجديدة وخلاصتها تفريق الاعتقاد الديني الذي لم يزل حياً عن التقاليد التاريخية التي تلاشت شيئاً فشيئاً وأوشكت أن تنقرض وتزول بالكلية. وبتعبير آخر تفريق الدين عن القومية. فنظرية مندلسون هي عبارة عن أن القومية اليهودية لا وجود لها بعد ذلك أبداً وأن اليهودية ما هي إلاّ اعتقاد واعتراف ديني وأن يهود أوروبا لا وطن لهم إلاّ البلاد التي ولدوا فيها. وهم كباقي سكان تلك البلاد المسيحيين.»[48]

ويستطرد روحي عن نظرية مندلسون: «اعترف بهذه النظرية وصدّق عليها جمهور الحاخامين والربانين وأجمعت أمتهم على قبولها وسمّوا هذا الإجماع باصطلاح شريعتهم (أسقامه) (ascama)[49] ومعناه إجماع الأمة. فقبولهم لهذه النظرية لم يكن سياسياً فقط وإنما كان دينياً وشرعياً.»

وليس بالغريب أن يهمل كاتب مقال الموسوعة عن الصهيونية، كما أشير أعلاه، ذكرَ مندلسون؛ فالأول هو ريتشارد غوتهيل  (Richard Gottheil) الأستاذ الجامعي الأميركي والبريطاني المولد الذي كان من غلاة الصهيونيين الأميركيين (توفي سنة 1936).[50]

ويتابع روحي أنه «نتج عن هذه النظرية في بروسيا وجميع حكومات ألمانيا إلغاء الضريبة الشخصية التي كانت موضوعة على اليهود خاصةً ومساواتهم في جميع الضرائب ببقية أهالي المملكة المسيحيين وكذا إلغاء الجوازات والشهادات المكلفين بأخذها وإبرازها حين السفر.... وغير ذلك من القوانين والأنظمة الاستثنائية الخاصة بهم.»[51]

ويعتبر روحي أن الثورة الفرنسية («الانقلاب الكبير») جاءت لتتمم هذه الإصلاحات وتتوجها، إذ وضع الانقلاب «قانون حقوق البشر ونشر لواء الحرية والمساواة والإخاء فزال الضغط والاضطهاد عن اليهود في جميع ممالك أوروبا الغربية وأصبحوا مساوين في الحقوق أفراد الأمة المنسوبين إليها وارتقوا لأعلى مراتب الدولة والوظائف العسكرية وتشبهوا بالأمم المتمدنة المولودين بين أفرادها في الملبس وجميع الحركات والسكنات الظاهرة ونسوا أو تناسوا قوميتهم وآدابهم القديمة وصرفوا النظر عن صهيون وعن الرجوع إلى فلسطين وتأسيس حكومتهم فيها.»[52]

إزاء ما تقدم كيف يفسر روحي ظهور الصهيونية الحديثة؟ يعزو روحي هذا الظهور إلى عاملين رئيسيين: تنامي اللاسامية، و«انتباه الشعور القومي» بصورة عامة في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

والملاحَظ أن هذا التفسير ورد في ترجمة نصّار،[53] وهو تفسير ذو درجة من الصواب والسداد لاقى كما يبدو التقبل والاستحسان لدى روحي لمطابقته لقناعاته ومطالعاته، ولعل العكس هو الصحيح أيضاً.

أمّا اللاسامية فلا يفوت روحي أن يشير إلى مواردها في المسيحية ذاتها، إذ يشيد «بالحكمة البالغة فيما ورد في القرآن الكريم وما (قتلوه وما صلبوه)....».[54] كما يستفيض في سرد ما عاناه اليهود سابقاً عبر القرون جرّاء الذلة والمسكنة والاضطهاد والتشريد في الممالك المسيحية بدءاً بالإمبراطور قسطنطين (306م - 327م) وعبوراً بمحاكم التفتيش ونهايةً بأواخر القرن التاسع عشر، وذلك خلافاً لما لاقوه من العدالة والتعايش والتسامح في الممالك الإسلامية المعاصرة.

أمّا اللاسامية فقد أطلّت برأسها من جديد، بحسب روحي، في روسيا حيث توقفت الحركة التشبيهية في أعقاب اغتيال القيصر إسكندر الثاني سنة 1881. وتلا الاغتيال تدابير تعسفية تجاه اليهود على يد وزير الداخلية القيصري أغناتيف، بما في ذلك إجلاء 600,000 يهودي من «روسيا المقدسة» وحصرهم في بقاع معزولة مخصصة لهم، «كما يوضع المصابون بالأمراض السارية في المحجر الصحي.»[55] وهو تشبيه يبعد الخالدي نفسه عنه للتو ويعزوه إلى الروس أنفسهم. وفرض أغناتيف ومن خلفه القيود الاستبدادية والضرائب التمييزية القهرية التي رافقتها تعديات وهجمات قاتلة (pogroms) متصاعدة بتغاضي السلطات وتشجيعها، الأمر الذي دفع بعض اليهود إلى «ترك مذهبهم التلمودي تخلصاً من الإهانات.... وبعضهم عزم على المهاجرة.... ولكن إلى أين؟»[56]

وأمّا انتباه الشعور القومي فمورده الأصيل «عصر الانقلاب الكبير الفرنساوي» ذلك بأنه ولّد فيهم «رغبتهم في الحرية القومية.... [و] شوقاً للاتحاد القومي والحياة المشتركة وإعادة مجد بني إسرائيل القديم الذي أطنبت بذكره كتبهم الدينية.»[57] وازداد شعورهم في هذا الاتجاه بعدما شاهدوا قيام سويسرا وهنغاريا وغيرهما «فانتبه اليهود من رقادهم الطويل وقالوا ما لنا لا نكون أمة كأمم البلقان ونحن أكثر عدداً من البلغار.... وبيدنا ثروات الدول المتمدنة ومطبوعاتها وهما اللولبان اللذان تدور عليهما رحى السياسة.[58]

لم يكتفِ الخالدي بما ذكر نصّار عن هيرتسل نقلاً عن الموسوعة، لكنه لجأ مباشرة إلى رسالة هيرتسل «الدولة اليهودية» (Der Judenstaat) ليسجل أن «أول سطور» هذه الرسالة «تشعر بالأسباب التي قادت هيرتسل إلى وضع نظريته»، إذ قال: «المسألة اليهودية موجودة وليست هي بمسألة دينية ولا اجتماعية وإنما هي مسألة قومية..» ويستطرد أنه يتضح من كلام هيرتسل «أن العامل الوحيد للحركة الصهيونية أو بالحري لفكر الدولة اليهودية إنما هو الأنتيسمتزم الأوروبي وموضوع الحركة إيجاد ملجأ لليهود يتخلصون به من المسكنة الأدبية والمادية ومن الذلة والاحتقار.... وليس لإظهار نبوة المسيح المنتظر.. ولا لتحقيق الكهانات الواردة في الكتب المقدسة.»

أمّا ما حوّل نظر هيرتسل إلى فلسطين فهو رغبته في استمالة الجمعيات الصهيونية المعروفة باسم «محبي صهيون» (شوفيفي زيون) التي أخذت تنتشر في أوروبا الشرقية في أعقاب تفاقم اللاسامية في روسيا، فقبول هيرتسل بجعل «المملكة اليهودية في فلسطين» إنما نشأ عن «سياسته العملية إرضاء للصهيونيين ولم ينشأ عن نظريته السياسية.»

وعلى الرغم من حادثة درايفوس في فرنسا فقد ظل اليهود في أوروبا الغربية «يتشبهون بسكان المملكة المنسوبين إليها ويمتزجون بهم...» غير أن زعماء جمعيات «شوفيفي زيون» في روسيا ورومانيا «قاموا بدعاية واسعة النطاق وأوجدوا جمعيات كثيرة للتبشير والوعظ والترغيب في النظرية الصهيونية»، حتى غدت هذه الجمعيات «محيط الدائرة التي تقوم في وسطها القومية اليهودية.» وكان يهود أوروبا الشرقية «مهيئين للانخداع.. متأملين بهذا الأمل (أي الدولة اليهودية في فلسطين) البعيد والوهم الباطل بخلاف يهود أوروبا الغربية الذين.... تشبهوا بالأمم المحيطة بهم من الفرنساويين والألمان والطليان والإنكليز.»

لم تكن لدى روحي أية أوهام عن غايات الصهيونية وأهدافها، ولا عن وفرة مواردها وتنوع أساليبها، ولا كانت لديه أوهام عن نقاط الضعف في المؤسسة العثمانية الحاكمة، إنْ في عاصمتها الآستانة أو في أجهزتها التنفيذية في فلسطين. ومع ذلك لم يرَ في الصهيونية من موقعه سنة 1913 ذاك الخطر المحيق المقبل ولو بعد حين.

يلخص روحي الاستراتيجيا الصهيونية في فلسطين على النحو التالي: «قال الصهيونيون: لا ينبغي أن نؤجل الدولة اليهودية إلى أن نستولي على الأراضي المقدسة بالاتفاق مع تركيا ومعاونة الدول الأوروبية وإنما يجب أن نعلن على الفور وجود الدولة اليهودية وأن نجعل مركز حكومتها في إحدى المدن الأوروبية.... وندير شؤونها السياسية ونسعى في استعمار فلسطين رويداً رويداً فعقدوا مؤتمرهم في بازل.... وما زالوا سائرين في هذا الاستعمار التدريجي يترقبون الفرص للحصول على الاستعمار الكبير كشراء غور بيسان أو أخذ امتياز باستعمار وادي الأردن وإرواء ما على جانبيه من الأراضي الواسعة والسهول الخصبة التي تضاهي أرض مصر ووادي النيل واستعمار قضاء بئر السبع إلى الحدود المصرية وشبه جزيرة سيناء.»

يدرك الخالدي كل الإدراك ما للصهيونية من قدرات مالية وتنظيمية، مشيراً إلى أن هيرتسل كان قد هدف في رسالته «الدولة اليهودية» إلى إنشاء «شركة عظيمة» على غرار شركة الهند البريطانية (India Company) التي استعمرت الهند بدءاً بالقرن الثامن عشر. وكان من أولى المؤسسات الصهيونية، فعلاً، البنك اليهودي الاستعماري ( Jewish Colonial Trust) الذي أُسس برأس مال قدره مليونان من الجنيهات، ومركزه لندن. وجعل هذا البنك له فروعاً في كل من الآستانة والقدس ويافا وبيروت تسمى بأسماء متنوعة؛ فهو في الآستانة «أنغلو - ليفانتين»، وفي القدس «أنغلو - بالستين»، «وكثيراً من أهل البلاد المسلمين والمسيحيين وضعوا نقودهم في (الأنغلو - بالستين) وهم لا يدرون شيئاً من أحواله ولا غاياته السياسية ويحسبونه من المصارف المالية التي لا علاقة لها بالمسائل السياسية.» أمّا في الآستانة ذاتها «فيعين مصرف (الأنغلو - ليفانتين) جريدة (جون تورك) الصادرة بالإفرنسية بمبلغ 150,000 فرنك في السنة....» وقد «أصبحت إدارتها ومطبعتها في دار عظيمة في جادة التقسيم.... تعطى فيها الضيافات لأشهر رجال السياسة وزارها غير واحد من الصدور العظام والوزراء الفخام.... وكافأوا [الصهيونيون] مَن خدمهم من الكتّاب.... ورشوا من روّج مطالبهم.»

ويتعدى الخالدي التعميم في توجيه اللوم إلى زوّار جريدة «جون تورك» ليقول: «وممن زارهم حقي باشا[59] وحسن حلمي باشا.... وكبار المشتغلين بالمالية والآداب وتمكنوا [الصهيونيون] بذلك من استجلاب قلوب الذين بيدهم الحل والعقد.» وهاك ما قاله عن بعض رجال المابين في صدد زيارة هيرتسل للسلطان عبد الحميد: «رجال المابين على ما نعهدهم من البساطة والجهل وحب الثروة والغنى فلا يكاد أحدهم يسمع بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة حتى يطير قلبه فرحاً ويعمى بصره وبصيرته عن حب الوطن ومصلحة الإسلام.»

أمّا في فلسطين فيقوم روحي بجولة، والأرجح بأكثر من جولة واحدة، على المستعمرات اليهودية بصفته نائباً عن القدس لتقصّي كيفية انتقال ملكية الأراضي العربية إليها، وللتعرّف على هوية المالك والشاري والوسيط فيما يجري من المعاملات، وعلى دور مسؤولي المتصرفية في ذلك كله. ويجري لهذا الغرض العديد من المقابلات مع المزارعين المعنيين المالكين ومع سكان القرى المجاورة ليكتشف وجود شبكة واسعة ضالعة في تفادي القوانين المرعية والالتفاف عليها على رأسها المتصرف نفسه،[60] وقوامها موظفون مدنيون وأمنيون (بوليس) تحت إمرته وعملاء للمستعمرات أتقنت أساليب التزوير والخداع والقسر والرشوة على حساب المزارع العربي.

ولا يخفي روحي إعجابه بالعديد من النشاطات اليهودية الحديثة في فلسطين، فهو يشير مثلاً إلى «صندوق الإقراض» التابع لمؤسسة «الأيكا» لإقراض اليهود المحتاجين لئلا يلتجئوا إلى المرابين الذين يقرضون بالأرباح الباهظة،[61] ويشير إلى «حارة العملة» في ظاهر القدس «حيث تمنح الدور لأصحاب الدكاكين والحرف من اليهود ويدفع الساكنون قيمة الدار مقسّطة ثم يمتلكونها ويصبحون أصحاب ملك في القدس.»[62] ولا يفوت روحي الإشادة بـ «معصرة الخمر» في مستعمرة «عيون قارة» التي أسسها البارون إدموند دو روتشيلد ويعتبرها، وهو الخبير المقيم طويلاً ببوردو، أنها «تفوق معصرة شاتو لافيت (Chateau Laffite) بأرض ميدوك (Médoc) من فرنسا.»

ومع هذا وذاك فصاحبنا يبدو غير مستشعر بالخطر المحيق الرابض عن كثب، فكيف كان ذلك؟؟

تعددت الاعتبارات التي تفاعلت في تقويم روحي للصهيونية من منطلق موقعه في العقد الأول وأوائل العقد الثاني من القرن الماضي لعل أهمها التالية:

أساساً نظرة روحي إلى الأمور بتأثير أجواء السوربون الأكاديمية تبدو أنها استقرائية (inductive) أكثر منها استدلائية (deductive)؛ فهو يقيم وزناً وأي وزن للإحصاءات فتراه يشير إلى أن عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين من روسيا وأوروبا الشرقية عدد نزير لا يتعدى الـ 2000[63] مهاجر سنوياً، وأن المهاجرين يحتفظون في معظمهم بجنسيتهم الروسية. أمّا المستعمرات فعلى الرغم من تعددها (30 مستعمرة)[64] فإن مجموع سكانها لا يتعدى 8000[65] نسمة. وهو يقرأ كلاً مما نشرته جريدة «لو موند» (Monde Le) وجريدة «جون تورك» (Jeune Turk ) الفرنسيتان في 19 آب/أغسطس 1911 عن المؤتمر الصهيوني العاشر المعقود في بازل، ويركز على ما نقلته الصحيفتان على لسان الزعيم الصهيوني كاتسنلسن (Katzenelson). وكان هذا قد «تلا رابورطاً مفصَّلاً وإحصائيات عديدة يستفاد منها أن اليهود المهاجرين في مدة الخمس والعشرين سنة الأخيرة يبلغ عددهم 2,200,000 نسمة، منهم 1,800,000 نسمة من روسيا هاجروا إلى (الممالك المتحدة الأميركية) [يقصد الولايات المتحدة]، و400,000 إلى بقية البلاد.... فإذا استمرت المهاجرة على هذا النمط تمكن عموم اليهود من المهاجرة في جيل أو في بطن واحد من الزمن.» وأضاف كاتسنلسن أن «أضعف المهاجرات وأشقاها هي الهجرة إلى فلسطين.» ثم أحصى كاتسنلسن عدد المهاجرين إلى فلسطين «فوجدهم نحو ألفي مهاجر في السنة بل وتأسف من عدم زيادتهم على هذا العدد.»

رافق هذا الاعتبارَ أهميةً قناعةُ روحي بأن نظرية مندلسون ما زالت سائدة في دول أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية على الرغم من حادثة درايفوس وتفاقم اللاسامية في روسيا، وخصوصاً أنها، أي نظرية مندلسون، ترسي على إجماع الحاخامين وأحبارهم (أسقامه)، وهو إجماع تعزز في ذهنه ببرقيات الشجب والتنديد الشديد بالصهيونية، والتي كان يتلقاها بانتظام، بصفته نائب رئيس مجلس النواب العثماني، من كبار حاخامي اليهود وأحبارهم في الدولة. ومما ربما وطّد هذا الاعتبار في ذهن صاحبنا هو الجدول الذي نشرته «الموسوعة اليهودية» بترجمة نصّار للجمعيات الصهيونية القديمة والحديثة إلى حين عقد المؤتمر الصهيوني الثاني سنة 1898؛ ذلك بأن هذا الجدول يبيّن أنه بينما كان، تباعاً، في كل من روسيا وهنغاريا ورومانيا 373 و260 و127 جمعية صهيونية، لم يكن تباعاً في كل من إنكلترا وألمانيا وإيطاليا سوى 26، و25 و21 جمعية، بينما كان تباعاً عدد الجمعيات في كل من فرنسا وبلجيكا والدانمارك 3 و2 و1 فقط. ويعلق روحي على هذه الإحصاءات بقوله: «يتضح من ذلك أن أوروبا الشرقية وأعني روسيا وأوستريا وهنغاريا ورومانيا هي التي تشكل القسم الأعظم من العساكر الصهيونية.. وأمّا أوروبا الغربية فلم تشترك إلاّ بعدد قليل جداً ساعد على تأليفه مهاجرو روسيا ولهستان [يعني بولونيا] ورومانيا.» ويضيف: «فهذا الإحصاء يصور لنا خريطة الأنتيسمتزم في أوروبا ويرينا تفاوت درجاته فالبلاد التي سادت فيها المساواة في الحقوق المدنية والسياسية لم تنتشر فيها.»

وثمة اعتبار ثالث رئيسي استحوذ على روحي هو موقف كل من أكبر الجمعيات اليهودية العاملة في الساحة الفلسطينية من الصهيونية، وهما جمعية الأليانس الفرنسية وجمعية الـ «الأيكا» (ICA) برئاسة البارون دو هيرش المشرفة على معظم المستعمرات، بما فيها المستعمرات التي أسسها البارون روتشيلد، فكلاهما أعلن مضادته للصهيونية وأثبت صدق موقفه عملياً وليس لفظاً فقط، إذ رفضت الأليانس إلحاح الجمعية الصهيونية عليها لإحلال اللغة العبرية محل الفرنسية في مدارسها، بينما كان دو هيرش الراعي الأكبر للحركة «التريتوريالية» (Territorialist) التي كانت تدعم الهجرة الجماعية من أوروبا الشرقية إلى الأرجنتين والقارة الأميركية بعيداً عن شواطئ فلسطين.

وثمة اعتبار رابع رئيسي أدى دوره في تقييم روحي للصهيونية ولخطورتها على الدولة العثمانية، ولعله الأهم في نظره، وهو عدم اقتناعه بقدرتها أصلاً على إقامة كيان سياسي مستقل لافتقار القومية اليهودية المتمثلة في الصهيونية من منظار سنة 1913 إلى مقومات مثل هذا الكيان. ويسوق روحي عدة أدلة على ذلك:

منها أن الزراعة من مقومات أي دولة تريد الحياة، بينما يتنافى العمل الزراعي ومشاقه مع الجبلة اليهودية لأسباب تراثية وتاريخية تعود إلى الشروط الإعجازية للزراعة المنصوص عليها في المشنه التلمودية، وإلى اللاسامية الغربية والنظام الإقطاعي الأوروبي الذي حرم اليهود ملكية الأرض. ويُستدل على النفور اليهودي المستمر من العمل الزراعي من أن خريجي المدرسة الزراعية اليهودية الكبرى «نيتر» (من أعمال يافا) من اليهود يتجهون، في معظمهم، بعد تخرجهم نحو المهن الحرة وليس إلى الزراعة التي تخصصوا بها.[66] كما أنه يستشهد بما حدث في المستعمرات التي أسسها البارون روتشيلد، ذلك بأنه عندما زارها وجد وكلاءه يبذرون ويسرفون والمستعمرون يعيشون على نفقته عيشة «الترفه والقَصْف» وكان روتشيلد ينتظر «أن يرى.... فلاحين خشنت أيديهم من حراثة الأرض وتمزقت أذيالهم من قلع شوكها»، فغضب لذلك غضباً شديداً وعهد للتو بإدارة مستعمراته إلى جمعية «الأيكا» التي يشرف عليها البارون هيرش «التريتوريالي» (Territorialist).[67]

ومنها غياب اللغة الواحدة الرابطة حجر الزاوية لأي قومية فاعلة، فالعبرية «لسان ميت اندرس قبل ميلاد عيسى عليه السلام لأن ألسنة اليهود اليوم تختلف باختلاف ممالكهم من إسبانية وجاركونية وألمانية وغيرها من ألسنة البلاد المتشتتين فيها.»[68] ومع أن لغة المؤتمرات الصهيونية الرسمية هي العبرية فأكثر الحضور «لا يفهم هذا اللسان.... ولذا كانوا يتذاكرون ويخطبون بالألمانية.[69]

ومنها صناعية المشروع الصهيوني لأنه قائم على غير «ناموس العمران الطبيعي».[70] فصاحبنا ينظر إلى تجربة البارون هيرش الضخمة في الأرجنتين لإنشاء المستعمرات الزراعية «إنشاءً مصطنعاً غير طبيعي.... فجلّ ما فعله.... بعد تكبد تلك المصروفات وتحمل تلك المشاق إنما هو إعاشة 1200 عائلة أو عشرة آلاف شخص وهذا لا يذكر بالنسبة لليهود الباقين في روسيا ويربو عددهم على أربعة ملايين.»[71]

وإلى هذا وذاك «فإيجاد وطن صغير لليهود والمحافظة على هذا الوطن من ذوي المطامع الكبيرة ودوام بقائه وارتقائه في الزراعة والصناعة والتجارة وجميع المسائل الاقتصادية بين الدول الكبيرة لمن أصعب الأمور والدليل على ذلك الأمم الصغيرة التي أوجدها القرن التاسع عشر وجعل لها حياة مستقلة فهي تقاسي ألم البقاء ومستقبلها غير مؤمن.»

ويستطرد: «أيمكن لليهود أن يدّعوا بأن لهم حظاً أوفر ورابطة أقوى وسياسة أتم من الصرب واليونان الذين لم يضيعوا تقاليدهم الملّية ولم يتشتتوا.... [و] استمروا بعد فتح بلادهم ماكثين بأرضهم حافظين للسانهم وقوميتهم وهم مع ذلك في ضيق شديد.... تتحكم النمسا بقوتها على الصرب.... وتطالب الدول الأوروبية اليونان بديونها.... وتهددها غير مكترثة بما كان لها قديماً من العلم والحضارة؟»[72]

وبعد، فما رأي صاحبنا في موقف دولته من الصهيونية؟؟ بعض الجواب وصلنا في نقده اللاذع لخساسة بعض رجال المابين تجاه الإغراءات المالية الصهيونية،[73] ولارتياد بعض كبار رجال الدولة، بمن فيهم الصدر الأعظم، لجريدة «جون تورك» الصهيونية في حي التقسيم في الآستانة، كما وصلنا أيضاً في تحقيقاته البوليسية في تصرفات متصرف القدس رشيد بك راي وسعيه الحثيث لفضح شبكة المافيا من الموظفين برئاسته الضالعة في نقل ملكية الأراضي من أيدي الفلاحين العرب إلى المؤسسات الصهيونية بالقسر والزور والتحريف.[74]

غير أن صاحبنا عثماني الولاء يسير على خطى عمه يوسف وأسلافه ولا يرى تناقضاً بين العثمانية والمعارضة مهما اشتدت الأخيرة؛ فيوسف كان زعيماً للمعارضة في البرلمان الأول سنة 1877 ونفي من الآستانة مع زملائه بسببها ولم يتخلّ قط عن عثمانيته. وروحي كذلك كان معتداً بانتسابه إلى حزب الاتحاد والترقي ويرى في سنة 1908، سنة «الحرية»، نهاية العهد الحميدي الفاسد وفجر عهد إصلاحي جديد وإن كان لا يزال تشوبه الشوائب. فالدولة، كدولة ضاربة في التاريخ كما هي حال الدولة العثمانية، استشعرت مبكراً مخاطر الحركة الصهيونية الكامنة، ووجوب درئها عن طريق تقييد هجرة اليهود الروس وتحديد مدة إقامة مَنْ يفد منهم على الديار الفلسطينية، وتحريم انتقال ملكية الأرض إلى أيد غير عثمانية، وسنّت التشريعات المتعاقبة في هذا السبيل.[75] لكن العبرة طبعاً في التنفيذ، وهذا ما يكرس روحي الجهود لتحقيقه في تحرياته.

توفي صاحبنا في 6 آب/أغسطس 1913 من دون أن ينهي مخطوطته، بل وهو في خضمّ تحقيقاته الميدانية وقبل أن يتسنى له أن يعرض نتائجها على زملائه ورؤسائه في مجلس النواب. توفي وهو على يقين تام بوجاهة الاعتبارات التي أسلفنا وبسداد بصره وبصيرته، فأعفاه سبحانه الرحمن الرحيم من ذوق هول ما تلى. ذلك بأنه خلال سنوات يقل عددها عن عدد أنامل يده اليمنى الكاتبة سينهار المجتمع الدولي الذي ولد ونشأ وترعرع فيه وسيختفي في جحيم الحرب الكونية التي ستتفتح أبوابها على مصاريعها في آب/أغسطس 1914 بعد عام واحد من وفاته لا أكثر.

فأنّى له أن يعلم بأنه خلال هذه السنوات القلّة ستسقط قياصرة كل من بطرسبرغ وبرلين وفيينا وسيصحبهم سلطانه، بل ستسقط الآستانة ويُحتل مسقط رأسه ذاته؟ وأنّى له أن يعلم بأن بني عدنان سيعلنون الجهاد على خليفتهم تحت راية شرفاء آل البيت؟؟ وأنّى له أن يعلم بأن بريطانيا العظمى، ذات «أكبر المطامع»، ستجعل الكيان الصهيوني «الصناعي» حجر زاوية هيمنتها على مشرقنا العربي، وستحيي اللغة العبرية «الميّتة» بجعلها لغة رسمية في قلب موطنه؟؟ وأنّى له أن يعلم بأن الولايات المتحدة الأميركية سترعى الوطن القومي اليهودي في فلسطين رعاية الأم الحنون باسم أسمى المبادئ الإنسانية الغربية، وستُسقط في آن ستاراً حديدياً على شواطئها للحيلولة دون الهجرة اليهودية الجماعية إليها من شرق أوروبا؟؟ وأنّى له أن يعلم بأن الزعامة الصهيونية ستتواطأ مع كل من لندن وواشنطن لإبعاد هذه الهجرة الجماعية اليهودية عنهما وتوجيهها نحو بلادنا فلسطين؟؟[76]

وأخيراً وليس آخراً فالشكر يهدى إلى الأخت مي حلواني مساعدتي الرئيسية طوال سني عملي أميناً لسر المؤسسة لقيامها بطباعة مسودات هذا الكتاب أولاً وثانياً وثالثاً بالدقة والهمة اللتين اشتهرت بهما وإلى الأخ الباحث في قسم الدراسات العثمانية في جامعة هارفرد في الولايات المتحدة السيد همّة طشكمور لمساعداته القيمة لي في تحرير هذا الكتاب.

 

[1]    إضافة إلى العنوان أعلاه يرد في صفحة الغلاف اسم المؤلف "نجيب الخوري نصّار" وصفته "صاحب جريدة الكرمل، حيفا سوريا" وسعر النسخة "ثمن النسخة بشلك واحد" والمطبعة "الإدارة بشارع دير الروم حيفا" لا تاريخ.

[2]    انتُخب روحي نائباً عن القدس سنة 1908 - انظر سيرته، ص XXXVI – XXVII؛ انظر أيضاً: Aharon Cohen, Israel & the Arab World (New York: Funk & Wagnalls Co., 1970), p. 79.

[3]    نجيب الخوري نصّار، "الصهيونية: ..."، ص 2.

[4]    المصدر نفسه.

[5]    انظر الكتاب التكريمي، ص 68.

[6]      الفصل (37) تأليف روحي؛ مادة الملاحق (ص 155 – 160) تأليف روحي أيضاً جعلناها "ملاحق".

[7]    انظر أدناه، ص 36 – 54.

[8]    انظر أعلاه، ص XXII.

[9]    انظر أعلاه، ص XIX، XXII.

[10]   انظر قائمة المحتويات، الفصل (42) والفصل(41).

[11]   اعتمدنا في هذه الترجمة على عادل مناع، "أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني، 1800 – 1918" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1995)، وعلى "مقدمة المؤلف" في: روحي الخالدي، "المقدمة في المسألة الشرقية" (القدس: مطبعة مدرسة الأيتام الإسلامية، لا. ت.).

[12]   انظر: «مقدمة المؤلف في: الخالدي، "المقدمة في المسألة الشرقية، مصدر سبق ذكره.

[13]   المصدر نفسه.

[14]   المصدر نفسه.

[15]   انظر سيرة يوسف ضياء في: منّاع، مصدر سبق ذكره، ص 146-151.

[16]   المصدر نفسه.

[17]   المصدر نفسه.

[18]   توفي يحيى في بوردو سنة 1942. أمّا أرملة روحي فتوفيت في بوردو سنة 1943.

[19]   مناع، مصدر سبق ذكره.

[20]   المصدر نفسه، ص 153 – 154.

[21]   مقدمة المؤلف.

[22]   انظر: وليد الخالدي، "قبل الشتات: التاريخ المصور للشعب الفلسطيني، 1876 – 1948" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2006)، ص 41.

[23]   المصدر نفسه.

[24]   Encyclopedia of Zionism & Israel, vol. II, p. 650.

[25]   انظر أدناه، ص XXXIV.

[26]   مناع، مصدر سبق ذكره، ص 154.

[27]   Cohen, op. cit., p. 79.

[28]   انظر ما يقوله روحي عن أوسيشكين و"برنامجه" ص 94، 112 أدناه.

[29]   Cohen, op. cit., p. 70.

[30]   منّاع، مصدر سبق ذكره، ص 155 – 156.

[31]   المصدر نفسه.

[32]   المصدر نفسه.

[33]   نقلاً عن رسالة تكرم السيد شفيق نصّار ابن الأستاذ نجيب بإرسالها إلينا مشكوراً سنة 1980، رداً على رسالة استفسار منا. والاقتباسات جميعها من هذه الرسالة. ولقد أضفنا إلى ما ورد فيها ما استقيناه من مصادر أُخرى.

[34]   نقلاً عن: امتياز النحال زعرب، "فلسطينيات: وجوه نسائية فلسطينية معاصرة" (غزة: دار الجندي للنشر والتوزيع، 27/2/2013).

[35]   هذا هو تاريخ وفاته بحسب رسالة ابنه شفيق، غير أن تاريخ وفاته وفق Wikipedia  كان 28 كانون الأول/ديسمبر 1947.

[36]   رسالة نصّار في الصهيونية، ص 2 – 18.

[37]   المصدر نفسه، ص 57 – 64.

[38]   المصدر نفسه، ص 12، 16 – 17، 44، 48، 51.

[39]   انظر قائمة المحتويات أعلاه.

[40]   يعني بـ "العودة" "عودة" اليهود إلى فلسطين.

[41]   انظر رسالة نصّار، ص 2 – 8.

[42]   انظر المصدر نفسه، 2 – 3، 12، 17، 58 – 63.

[43]   انظر أدناه، ص 48.

[44]   انظر أدناه، ص 60.

[45]   انظر أدناه، ص 44.

[46]   The Jewish Encyclopedia, vol. VIII, p. 479.

[47]   تقديرنا أن "موسى الثاني" هو ابن ميمون.

[48]   انظر أدناه، ص 53.

[49]   تعرّف "الموسوعة اليهودية" هذا المصطلح بأنه "التسمية الخاصة التي يعطيها يهود إسبانيا والبرتغال للقوانين السارية في إدارتهم الداخلية"

(internal administration).

[50]   Encyclopedia of Zionism and Israel, vol. 1, p. 404.

[51]   انظر أدناه، ص 54.

[52]   انظر الصفحة نفسها.

[53]   انظر أدناه، ص LIX.

[54]   الآية 157 في سورة النساء.

[55]   انظر أدناه، ص 62.

[56]   انظر أدناه، ص 67 – 68.

[57]   انظر أدناه، ص 3.

[58]   انظر أدناه، ص 2.

[59]   الصدر الأعظم؛ انظر أعلاه، ص XXII،  XLVI وأدناه ص LXVI.

[60]   انظر أدناه، ص LXVII - LXVI والملحق الثالث.

[61]   انظر أدناه، ص 137.

[62]   انظر أدناه، ص 137 – 138.

[63]   انظر أدناه، ص 5.

[64]   انظر أدناه، ص 5.

[65]   انظر أدناه، ص 5.

[66]   انظر أدناه، ص 120.

[67]   انظر أدناه، ص 123.

[68]   انظر أدناه، ص 97.

[69]   انظر أدناه، ص 152.

[70]   انظر أدناه، ص 72.

[71]   انظر أدناه، ص 72.

[72]   انظر أدناه، ص 98.

[73]   انظر أعلاه، ص LXII.

[74]   انظر أعلاه، ص LXII.

[75]   انظر إشارة روحي إلى "الورقة الحمراء" أدناه، ص 71، 86.

[76]   سن الكونغرس الأميركي سنة 1917، وهي سنة صدور وعد بلفور، تشريعاً يجعل الإلمام بالقراءة والكتابة (literacy) شرطاً للهجرة إلى الولايات المتحدة. وقصد هذا الشرط مواربة الحد من الهجرة الجماعية اليهودية من أوروبا الشرقية والهجرة الإيطالية الكاثوليكية من أوروبا الجنوبية حيث كانت الأمّية (illiteracy) متفشية في المهاجرين من الناحيتين. وفي سنة 1922 صدر عن الكونغرس الأميركي قرار من مجلسيه بتأييد وعد بلفور أعقبه قانون سنة 1924 سنّه الكونغرس عرف بـ  "قانون جونسون 1924"(Johnson Act 1924)  وضع حداً كلياً للهجرة الجماعية من كل من أوروبا الشرقية وأوروبا الجنوبية، وهو قانون ظل ساري المفعول حتى سنة 1964، أي إلى ما بعد مضي عقد ونصف عقد على قيام الدولة اليهودية على أنقاض المجتمع العربي الفلسطيني سنة النكبة 1948.

ABOUT THE AUTHOR

Walid Khalidi is an Oxford University-educated Palestinian historian who has written extensively on the Palestinian exodus. He is a co-founder of the Institute for Palestine Studies and was its General Secretary until 2016. Khalidi's first teaching post was at Oxford, a position he resigned from in 1956 in protest at the British invasion of Suez. He was Professor of Political Studies at the American University of Beirut until 1982, and thereafter a research fellow at the Harvard Center for International Affairs. He has also taught at Princeton University. He is a Fellow of the American Academy of Arts and Sciences. He has been influential in scholarship, institutional development, and diplomacy. His academic work has played a key role in shaping both Palestinian and broader Arab reactions to the question of Palestine. His numerous publications include:

From Haven to Conquest: Readings in Zionism and the Palestine Problem until 1948 (Institute for Palestine Studies, 1971)

Conflict and Violence in Lebanon: Confrontation in the Middle East (Harvard University Press, 1983)

Before Their Diaspora: A Photographic History of the Palestinians1876-1948 (Institute for Palestine Studies, 1984)

All That Remains: The Palestinian Villages Occupied and Depopulated by Israel in 1948 (Institute for Palestine Studies, 1992)

- Palestine Reborn (I. B. Tauris, 1992)

The Ownership of the U.S. Embassy Site in Jerusalem (Institute for Palestine Studies, 2000)

Read Other Chapters from Zionism or the Zionist Question: The First Academic Study on Zionism in Arabic