Ahmad Was a Fighter before He Became an Intellectual
Date: 
May 18 2021
Author: 

رحل أحمد خليفة الإنسان، المفكر، المناضل، الضارب جذره في أعماق أم الفحم وحيفا والقدس. عاش أحمد فلسطين وعاشت فيه، في عقله وضميره ودمه، انتماءً و نضالاً، عملاً وعلماً، عطاءً ووفاء .

كرّس أحمد حياته لفلسطين، حلمه وبوصلته إلى دربه وداره، أحمد الذي قال فيه الأديب المناضل مروان عبد العال: "المؤسس الذي حفر تجربته بأحلامه، من الحركة إلى الجبهة، من الطلقة النقية التي لا تخطىء الهدف، ومن سر القلم وأشياء صامتة لم تُكتب على أوراق النضال والاعتقال والصمود والتعلم والمثابرة ".

كانت جذور إيمانه وثقته بشعبه الصامد المكافح وعدالة قضيته فلسطين، كل فلسطين، عميقة عمق التاريخ، لم تزعزعها خيبة حكام وقيادات كاريكاتورية، ولا طول قمع الاحتلال وفاشيته؛ وكما قال فيه رفيقه عادل سمارة: "كان أحمد في الأصل فدائياً قبل أن يصبح مفكراً."

قدم الاحتلال أحمد إلى المحكمة العسكرية الرئيسية في اللد، وروى أحمد ورفاقه أنه رفض طلب المحكمة بأن يعين محامياً، ولا أن تعين له المحكمة محامياً، وأصر على الدفاع هو شخصياً عن نفسه، فوضع أحمد المحكمة في قفص الاتهام وهو يحاكم الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وشعبها، ولم يثنِه تهديد المحكمة بطرده من قاعتها التي لم يرَ فيها أكثر من لجنة عسكرية، قاطع أحمد المحكمة مرفوع القامة، وكتب أسعد عبد الرحمن في "أوراق سجين" ما قاله أحمد لقضاة ومحكمة الاحتلال:

"افعلوا ما يحلو لكم! إنني لا أعترف بكم ولا بشرعية ما تقومون به، وأعتبر نفسي واقفاً أمام لجنة عسكرية !"

أحمد قرأ التاريخ قديماً وحديثاً ويعيه جيداً: الاحتلال ومن لفّ لفّه إلى الزوال، إلى مزابل التاريخ، طال الزمن أم قصر .

بهذا رسم أحمد نهجاً للتعامل مع الاحتلال ومحاكمه، ولا سيما أنه كان أول مَن قُدّم إلى المحكمة التي حكمت عليه بالسجن عامين، عقاباً على موقفه هذا بعدم الاعتراف بالاحتلال ومحاكِمه، فوضعته الاستخبارات في السجن الانفرادي (الذي يسمى"x" ) أكثر من ستين يوماً في سجن الرملة، نُقل بعدها إلى سجن الدامون قرب مدينة حيفا شمال فلسطين.

عرفت أحمد اسماً كاتباً في إعلام حركة القوميين العرب قبل الاحتلال، والتقيته شخصياً في محلات أصواف خليفة لوالده عبد الوهاب خليفة في منتصف شارع صلاح الدين وسوق حارة النصارى، والتي يزيد عدد فروعها عن ٢٠ فرعاً في مدن الضفتين.

مثّل أحمد ورفاقه ممن رحلوا، تيسير قبعة وعبد الله العجرمي، شعبهم وقضيتهم بكل شجاعة ووعي ناضج وإقدام وصمود أمام جنرالات الاحتلال مرات عديدة في لقاءات فرضها التحقيق العسكري في معسكر صرفند العسكري للتحقيق السياسي كان جنرالات الاحتلال في آخرها لا يلوون على شيء يقولونه سوى ما تقوله قوة رتبهم وبزاتهم وثقافتهم العنصرية، تماماً كما كان آخر التحقيقات الأمنية العنيفة.

عرفتُ أحمد في الاعتقال في فترة 1967-1968 في مركز الشرطة والتحقيق بالمسكوبية وفي معسكر التحقيق العسكري في صرفند، قائداً عالي القامة، متزناً بعقل نيّر ووعي متقدم بالقضية وما يدور حولها محلياً وإقليمياً وعالمياً. بوعيه أفحم أعداءه في أوكارهم وفرض احترامه عليهم، وخرج مرفوع الهامة .

جئت هنا لأبقى هنا

في أيام الاعتقالات الأولى، وأيضاً الأولى في صفوف المقاومة، قال رفيق لأحمد: البعض اعتُقلوا والبعض هرب وخرج إلى الضفة الشرقية، وبقيت أنت .. والاحتلال سيطاردك.. فلمَ لا تخرج؟ سمع أحمد جيداً ما قاله رفيقه وأجابه بلغة وموقف اليقين: لن أخرج، بقيت هنا لأنني جئت لأبقى هنا لا لأخرج.. شعبي هنا ولست أفضل منه.. سأبقى ولن أخرج .

عايشت أحمد الإنسان في سجن الرملة سنة 1969، طيباً، متواضعاً، منظماً، هادئاً، بفكر لا يحده قيد ولا جدران، ولا زمان ولا مكان، وقلب حيّ ينبض بحب الحياة لثقته بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة .

 أنجز أحمد جيداً تعلُّم اللغة العبرية الرسمية في معتقل الرملة، فكان علَماً مفكراً وباحثاً ومترجماً موثوقاً به في مركز الأبحاث الفلسطيني ومؤسسة الدراسات الفلسطينية ومجلس أمناء وإدارة مؤسسة الدراسات وغيرها من مجلات وصحف الثورة الفلسطينية إلى يوم رحيله. كان حريصاً على التفاعل مع الشباب في الأسر من أبناء البلدة القديمة من القدس، عمالها وطلابها، ويصغي باحترام وتقدير إلى أفكارهم وآرائهم وتجاربهم في الحياة، ولا يخفي إعجابه وتقديره لهذا الموقف أو ذاك، وكان أكبرهم سناً.

من شهادات رفاق أحمد في الأسر

كان حريصاً على الوقت والعطاء للمعتقلين من حوله كعادته أينما وُجد، وكثيراً ما أوصى في أحاديثه وتفاعله في المعتقل مع شباب الجبهة الشعبية ممن لديهم تجربة في صفوف حركة القوميين العرب بضرورة احتضان الشباب ورعايتهم، وعياً وتثقيفاً، واجتماعياً وتنظيمياً، وفي هذا الاتجاه سارت الأمور وتجلت بتشكيل منظمات الجبهة في الأسر التي أصبحت بمثابة مدارس كوادر رائدة قدّرها أحمد واعتز بها، ولم يتردد في الحث على توثيق تجاربها بقوله: أنتم صنعتم التجربة، أنتم الأحقّ في كتابتها وتوثيقها. غادر السجن وترك فيه قيماً ووعياً وسلوكاً كان محل محبة وتقدير مَن عايشوه .

وهنا لا يسعني إلّا أن أقتطف مما يقوله رفاق أحمد في السجن بعد أكثر من خمسين عاماً على لقائه ومعرفتهم به في سجن الرملة، ورحل من دون أن يتكرر اللقاء :

قال سليم: في أثناء إضرابنا في سجن الرملة ضد العمل في الشبك العسكري في بداية 1969 عاقبت إدارة السجن الأسرى بوضعهم في الزنازين، وكنت يومها أنا وأحمد في الزنزانة معاً، وكانت إدارة السجن تقوم بحشو الأنبوب بقوة في الفم ثم في الأنف بحجة التغذية الطبية، وهو ما سبّب يوماً نزيفاً في أنفي وحلقي، في هذه الأثناء لاحظ أحمد صليباً معقوفاً مرسوماً على حائط الزنزانة، فاقترح عليّ أن أمسحه، قلت له: أنت ترى كيف يعاملوننا وماذا فعلوا بنا، وقد أشرت إلى الدم الذي ينزف من أنفي وفمي.

فقال أحمد: نحن ولا مرة تحالفنا مع الشيطان لننتصر على عدونا .

ويضيف سليم: وفيما بعد واليوم أكثر أعرف صحة موقف الرفيق أحمد وبُعد نظره واتزان تفكيره .

وأردف سليم قائلاً: مضى أكثر من خمسين عاماً من دون أن يرى أحدنا الآخر، لكنني لم ولن أنسى أحمد الموقف، إنه حقاً قائد، كان كلامه توعية وتربية، إذ كان يقول: لسنا نحن فقط ثواراً، أيضاً هؤلاء ثوار- الأسرى والفصائل في سجن الرملة- إنهم مناضلون، ولو كان لديك ملاحظات أو انتقادات لقيادتهم .

أمّا علي فقال: كان أحمد أنسيكلوبيديا، موسوعة معلومات، فعندما يتحدث لا تملك إلّا أن تصغي إليه. كانت يداه أيضاً تتحدثان من دون أن تبتعدا عن بعضها البعض، كان يتحدث معنا كإخوته الصغار، وكانت إدارة السجن بطاقمها تحسب له حساباً وتحترمه. كان كلام أحمد موزوناً .

ويقول خضر: حديثه ينم عن عمق ورزانة في التفكير، حديثه وطريقته في الحديث تعطيك انطباعاً أنه قائد، وحتى لو لم يتحدث، فمن طريقة تعامله تشعر بأنك أمام قائد.

أمّا عوني فقال: باختصار أحمد فهمان وأخلاقه عالية. ويضيف:

نُقلت يوماً مع آخرين من قسم الموقوفين إلى قسم المحكومين في الأشهر الأولى لاعتقالي، حيث كان أحمد هناك في الزنزانة رقم 7، وكنت إلى جانبه في وجبة غداء السجن يوم السبت، أي طعام اليهود المتدينين - حمين، وهو عبارة عن فاصوليا جافة مع عدد من حبات البطاطا التي تغلي في القدر على النار نحو 24 ساعة – الوجبة التي يمقتها كل الأسرى، بل المساجين عموماً، رأيت أحمد وأنا أعرف أي مستوى ميسور تعيشه أسرته، كان يأكل وقد خلط كل ما في الصينية ببعضه: الفاصوليا ومخلل الملفوف والبنجر الحلو المفروم، فسألته ما بك يا أحمد؟ أجاب: إسمع يعقوب، الأكل في السجن لا للتذوق ولا للشم ولا للمتعة، إنه فقط لملء المعدة، ولا خيار لنا غير ذلك كي لا تكون صحتنا، وهي أساسية في صمودنا، تحت رحمة الاحتلال .

غادر أحمد السجن ولم نلتقِ إلاّ صدفة بعد 27 عاماً، إذ التقينا كما ذكر عزيزي عادل سمارة قبل ٢٠ عاماً، ومن خلال أخيه الذي يعمل في لندن وتعرّفت إليه بالصدفة عندما سأل أحد أعضاء جمعية لفتا العربية للعمل الخيري في عمّان عن معلومة فأُعطيَ رقم هاتفي فاتصل بي وسألته عمّا إذا كان يعرف أحمد خليفة فأجابني بأنه أخوه، فقلت مازحاً لن أجيب عن سؤالك حتى تعطيني رقم هاتفه، ففعل وقال: أنا الآن عنده في عمّان، وكنت حينها هناك، ومباشرة أوصلني قريبي إلى بيت أحمد.

كان اللقاء حاراً، وأيّ لقاء.. عرفت أحمد مباشرة وقد رأيته ضيفاً خبيراً في السياسة، وفي الشؤون الفلسطينية، وفي الاقتصاد، ويتحدث عبر الفضائيات أكثر من مرة. وجدت أحمد إياه بطيبته ونبل مشاعره، ولم يغب أحد من رفاقه عن السؤال، وكذلك القدس والأحوال بصورة عامة. رأيت فرحتي باللقاء في عينيه وقسمات وجهه وهو يطير ظمآناً من سؤال إلى آخر، وسألني هل وثّقتم التجربة، إنها فكرة تراودني دوماً، أنتم مَن عاشها وأحق بكتابتها، هنا ذكّرني أحمد بتوصيته لنا في لقائه في رام الله قبل ٢٠ عاماً.

وكتب الرفيق عادل سمارة يقول: "التقيناه أنا وبشير الخيري وعبد اللطيف غيث، ومما قاله: لقد حاولنا، ولكن علينا النجاح في نقل تجربتنا إلى أولادنا كي يعلموا بأننا حاولنا ".

ولا أنكر أن ما أحاوله اليوم ليس بعيداً عمّا تمنّاه .

عرّفني أحمد بعائلته وزوجته الطيبة المتواضعة المضيافة مثله .

يومها أخبرته بمشروع كتاب يوثّق الموروث المعماري التاريخي لقرية لفتا، وإننا نتطلع إلى أن تقوم مؤسسة الدراسات الفلسطينة بإصداره، المؤسسة التي كان أحمد أحد أعلامها ومترجمي إصداراتها، فشجعني ورحّب بالفكرة كثيراً وقال أنا بالانتظار، ولا تنسى تجربتكم .

زرت أحمد في بيته في حزيران/يونيو 2018، وآخر زيارة كانت في تشرين الثاني/نوفمبر 2019؛ أحمد إياه الذي يعيش قضايا وهموم شعبه والذي كان يقول: شعبنا يعاني كثيراً ومعاناته مزدوجة جرّاء الاحتلال والتشريد، وجرّاء قيادة متفردة فقدت البوصلة، هي وسلطتها في وادٍ، والناس الذين يدفعون الثمن يوماً بيوم في وادٍ آخر .

 يومها سألت أحمد: منذ وقت طويل لم نَرَك ولم تتحدث في الإعلام، فقال: كثيرون وجّهوا إليّ تلك الملاحظة والسؤال، وما يجري في البلد لا سابق له، والسقوط لا قرار له، وإعلام السلطة كإعلام الأنظمة، والإعلام المأجور يحوله إلى إنجازات وانتصارات .

قلت له إحكِ ليسمع الناس صوتاً آخر، رأياً آخر، فكرة أُخرى، فالناس تحترم رأيك وتقدّره، وتنوير الناس ضروري ومطلوب. فتأمل أحمد ولم يُضِف شيئاً.

  لم يَطُل ذلك اللقاء وكان أحمد يشكو من إزعاج البروستات ليلاً ونهاراً، فودعني وقريبي وكأن شيئاً في داخله ووجهه ولسانه يقول: سلّم على الجميع، آمل أن نلتقي...

أحزنني ذلك الوداع، وقد ذكّرني بوداع تيسير قبعة بعد لقاء جمعنا بعد 23 عاماً في عمّان، عندما خرج معي وبكى بكاء حاراً أبكاني وهو يقول: "أنّى لنا أن يرى أحدنا الآخر، هيهات أن نلتقي ثانية."

أحزنني وداع أحمد وقد طال الوقت ونحن نسلّم وهو يسلّم على الرفاق وعلى القدس، كان لسانه يحكي وعيناه تحكي ووجهه يحكي، في المرتين السابقتين ودّعني بابتسامة ملء وجهه وهو يقول: إياك أن تكون في عمّان من دون أن أدري ومن دون أن أراك، ولسان حالي يقول له: اطمئن يا أبا خليفة - كما اعتدنا مخاطبته في الأسر - عرفت باب داركم حياكم الله .

رحل أحمد خليفة ولم نلتقِ، كما رحل قبله العديد من رفاق الأسر وهم كثر، تحضرني الآن ذكرى أبو ناصر كمال النمري، وتيسير قبعة، وإسحق مراغة أبو الثائر، وأحمد صندوقة أبو كفاح، وأبو لؤي نجاح عليان؛ كلهم رحلوا ولم نلتقِ، رحلوا بأجسادهم وتركوا لنا نهجاً في الوفاء والعطاء والثبات على المبدأ، وكما قال في وداعك رفيقك عبد الله :

"فلتبقَ ذكراه خالدة ومنارة للأجيال القادمة."

وقول رفيقك مروان عبد العال :

 ترحل حين يستبد بك الانتظار.. لكن ستظل حاضراً نقرأ فيك إنساناً ودوداً وابتسامة متفائلة وبصمة خالدة، قد أودعتها لنا في إرثك العظيم.. نلقي عليك وعلى روحك السلام.

Read more