Until the Last Breath
Date: 
May 17 2021
Author: 

لم أكن أتصور أن الاتصال اليومي الصباحي مع الأستاذ أحمد خليفة في ذلك النهار عبر "السكايب" للتداول في المقالات التي سنترجمها للنشرة اليومية التي نعمل عليها سوية منذ أكثر من عشر سنوات سيكون الأخير. لم يكن أي شيء في صوته أو في صورته أو في كلامه يوحي بأن هذه المكالمة ستكون الأخيرة بيننا. كالعادة سألته عن وضعه الصحي وعن العلاج الجديد ومقدار الاستجابة له، وكالعادة أجابني بجملته المعهودة المصحوبة بضحكة ساخرة: "ما في تحسن لكن ما فيه تدهور".

أكثر من عشر سنوات عملت فيها يومياً مع أحمد خليفة، تعلمت منه الكثيرعلى المستوى المهني، إذ كانت القاعدة الأساسية التي يلتزم بها في عمله في الترجمة من العبرية إلى العربية هي الأمانة للنص الأصلي، مع المحافظة على "سلاسة اللغة العربية". أحمد خليفة الذي تعلم العبرية وأتقنها خلال سنوات نضاله السياسي وفترة سجنه في السجون الإسرائيلية، كانت له معرفة باللغة العبرية تختلف عن معرفتي بها، أنا التي تعلمتُ هذه اللغة في وقت متأخر من خلال دورات تعليم اللغة العبرية التي كانت تنظمها مؤسسة الدراسات الفلسطينية في نهاية السبعينيات. كان دائماً ينصحني بالتقيد بالنص وعدم الخروج عنه، من دون زيادة ولا نقصان، أحياناً كان هذا يقيدّني ويُثقل عليّ عمل الترجمة، لكن مع الوقت اقتنعت بأن هذا ما يجعل ترجمات المؤسسة مصدراً موثوقاً به، ويمكن التعويل عليه لأمانته ودقته.

تعلمت من العمل مع الأستاذ خليفة أن أقرأ النص العبري بعيون فلسطينية، أنا اللبنانية التي نشأت وكبرت على الإيمان بعدالة القضية الفلسطينية، وقد حمل أبناء جيلي لواء الدفاع عنها ودفعوا الثمن حروباً إسرائيلية على لبنان دمرت نسيج حياة اللبنانيين لعقود. كما تعلمت منه عدم الوقوع في فخ الأسماء الكبيرة والأقلام المشهورة، والحكم على النص من خلال مضمونه. وأهم ما تعلمته منه هو فهم السياسة الخفية للدعاية الصهيونية، وإلى أي حد تتحكم الرقابة في إسرائيل بما تنشره الصحف والكم الضخم من الأمور التي تبقى خفية. على يده تدربت على التمييز بين الغث والسمين، والأهم عدم الانخداع بالسياسات المعلنة. وعندما كنت أعبّر له أحياناً عن حماستي لإمكان فوز اليسار في إسرائيل وعودة معسكر السلام والتداعيات الإيجابية لذلك على الوضع الفلسطيني وعلى الحل السياسي، كان دائماً يردد على مسمعي لا يوجد شيء اسمه تيار صهيوني متعاطف مع الفلسطينيين هناك فقط صهيونيون متشددون وأقل تشدداً. هو الذي على مدى عقود تابع وكتب عن الأحزاب الإسرائيلية التي كان يعرف حقيقتها عن ظهر قلب، ولم يكن أبداً يصدق جدية التسويات والحلول السلمية مع الفلسطينيين. كنت أقول له إنه ميال إلى التشاؤم وإن الأوضاع لا بد من أن تتبدل، وكان يحاول ألاّ يحبطني كثيراً ويتركني أستنتج بنفسي حقيقة ما يُكتب وما يُقال.

كان شديد الجدية والرصانة في عمله في النشرة، التي كانت، على الأرجح، في نظره استمراراً لعمله النضالي، فكان يجعلني أشعر بأن ما نفعله شديد الأهمية إلى درجة أنني كنت أتخيل أن المناضلين الفلسطينيين في الصفوف الأمامية مع العدو في انتظار ما ننشره كي تتوضح لهم أكثر مخططات إسرائيل ودسائسها.

خلال السنوات العشر عايشنا أحداثاً كبيرة ومؤثرة، وكانت تدور بيننا نقاشات حادة، فنتفق حيناً ونختلف أحياناً؛ أذكر منها النقاشات بشأن الربيع العربي، إذ كنت مثل معظم الناس متحمسة بصورة كبيرة لما يجري واعتبرته بداية مرحلة جديدة في تاريخ شعوب المنطقة، بينما كان الأستاذ أحمد أقل حماسة بكثير، لا بل أكثر ميلاً إلى التشاؤم. نصحني أكثر من مرة بالتريث وانتظار ما ستسفر عنه التطورات من نتائج، وكان دائماً يحاول أن يدفعني إلى رؤية ما وراء الحدث، ويحاول تحديد الأطراف المستفيدة مما يجري. لكن، وعلى الرغم من مواقفه الراديكالية كان يتمتع بقدرة كبيرة على تقبل الرأي الآخر وعدم الحكم المسبق عليه.

 بعد انفجار الرابع من آب/أغسطس 2020 في مرفأ بيروت الذي دمر أحياء كاملة في العاصمة، شعر بهول وقع الكارثة عليّ، وحاول بكل الوسائل أن يرفع من معنوياتي، وذكرني بالأهوال التي مرت علينا نحن اللبنانيين، وكيف كانت لدينا القدرة في كل مرة على تخطي الكارثة.

قضى أحمد خليفة السنوات الأخيرة من حياته في عمّان لكن قلبه وعقله كانا معنا في بيروت وفي فلسطين المحتلة ومع كل فلسطيني في أي مكان في العالم. كانت لديه شبكة واسعة وغنية من الأصدقاء والعلاقات، يتواصل معها يومياً إلكترونياً، ويتابع ويقرأ ويتشاطر ما يقرأه مع الجميع.

وعلى الرغم من التقدم في العمر والمشكلات الصحية ظل مناضلاً مراً ومدافعاً عن الحق الفلسطيني، وناقداً شرساً للأنظمة الرجعية، ومحارباً للدور الغربي في نكبة الفلسطينيين المستمرة حتى اليوم. وكان نقدياً إزاء القيادة الفلسطينية نفسها، كما أجرى أكثر من مرة نقداً ذاتياً شجاعاً لتجربته النضالية.

خلال كل السنوات التي عرفته فيها كان أحمد خليفة وفياً لمؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيته الأصلي وعائلته الثانية، والتي التزم بها في عمله أخلاقياً ومهنياً. وطوال سنوات، عَمِل بجد ودأب، وترك وراءه عشرات الكتب التي قام بترجمتها أو شارك فيها، وكان آخر ما عملنا عليه سوياً، بالإضافة إلى إصدار النشرة اليومية، إصدار سلسلة قضايا استراتيجية – وجهات نظر إسرائيلية.

في الفترة الأخيرة كنت أرجوه أن يرتاح قليلاً ويأخذ إجازة من العمل حفاظاً على صحته، لكن ابنته الدكتور هند وهو أقنعاني بأن العمل في النشرة هو متنفس كي يشعر بأنه لا يزال منتجاً ومفيداً. وهذا ما جرى، ظل يعمل حتى الرمق الأخير.

في صباح كل يوم ولدى البدء بإعداد النشرة أنسى أن أحمد خليفة قد رحل، إذ أشعر بأنه ما زال حاضراً، وأنه سيتصل في أي لحظة. برحيله خسرت معلماً وزميلاً وناصحاً وصديقاً.

بإمكانك أن ترحل قرير العين يا أحمد، فمسيرة النضال من أجل فلسطين حرة ستبقى مستمرة، وشعلة الكشف عن الحقيقة التي حملتها لن تنطفىء.

Read more