وثيقتان متبادلتان بين الشيخ سليم الرفاعي زعيم الطريقة الرفاعية في عناتا وبيت المقدس ومحمد أبو جرار في جبل نابلس سنة 1834 تلقيان الضوء على دور الرفاعيين في قيادة ثورة الفلاحين ضد جيوش إبراهيم باشا خلال اجتياحه سورية وفلسطين في العقد الثالث من القرن التاسع عشر. [1]
أدت الطريقة الصوفية دوراً مهماً في تعبئة أرياف فلسطين خلال الاحتلال المصري لسورية، وفي مقارعة عساكر محمد علي باشا، وخصوصاً في منطقة الرملة والقدس والخليل، والمعروف أن الرفاعية أصبحت لاحقاً ركناً من أركان تثبيت شرعية السلطنة العثمانية وسياساتها المناهضة للإصلاح الدستوري، وصلت إلى ذروتها في فترة ولاية مستشار السلطان الشيخ أبو الهدى الصيادي، وهو من زعامات الطريقة الرفاعية وكانت علاقته وطيدة بالسلطان عبد الحميد. ومن المعروف أن هذه العلاقة أدت دوراً مهماً في تعبئة المعارضة الاتحادية للجماهير ضد ما سُمّيَ حينذاك "المشايخ الرجعية"، وضد ما اعتبره الاتحاديون هيمنة الطغمة العربية على سياسات الباب العالي وتبرير عبد الحميد لمعارضة الدستور. وقد نجحت هذه التعبئة في النهاية بإطاحة النظام الاستبدادي خلال الثورة الدستورية في سنة 1908 والمحاولة الارتدادية للجيش السلطاني سنة 1909.[2]
في ربيع 1834 احتدم الصراع بين النظام الجديد الذي فرضه إبراهيم باشا على سكان جنوب سورية وأريافها، ثم اندلعت الثورة في منطقة القدس في أيار/مايو من العام نفسه نتيجة محاولة إبراهيم باشا فرض التجنيد الإجباري على الفلاحين لأجل غير محدود، ومضاعفة الضرائب المحصَّلة من أهالي القدس وأشرافها. ففي 25 نيسان/أبريل 1834 جمع الباشا زعماء منطقة نابلس والقدس وفرض تجنيد واحد من كل خمسة مسلمين في سن البلوغ، بدءاً بـ 200 رجل من بيت المقدس، و3500 من سناجق القدس ونابلس، و500 رجل من الخليل.[3]
بعد اندلاع التمرد في أرياف القدس وجبل الخليل امتدت الثورة إلى نابلس وغزة والجليل في أيار/مايو 1834. وساعد أهالي سلوان وعناتا في اقتحام أسوار مدينة القدس ودحر الحامية العثمانية، وهو ما أدى إلى انسحاب جمال باشا إلى منطقة يافا والرملة.[4]
يشير محمد أبو جرار في رسالته إلى الشيخ سليم الرفاعي في عناتا إلى تخاذُل زعماء أبو غوش والرملة واللد وتحالفهم مع إبراهيم باشا ضد الفلاحين، ثم يقول: "من ناحية تربّصنا بعساكر إبراهيم المصري إحنا مش مهزومين لا منه ولا من عساكره. وعند بيت عور الفوقا لاقيناه وسدّ رجالنا في وجه عساكره الدرب ومنعناه من الوصول للراس (يقصد رأس العين) عند الغروب... بعد أن وقعوا في باب الواد مع الثوار ورجال القرى فأخذوا منهم خيول كثير وزاد محمل على جمال." ويضيف: "أهل اللد والرملة الله يخزيهم ويخزي أفعالهم اللي ما همّهم غير المال. أمّا شيوخ البدو ورجالهم... حياهم الله هم ديماً أشداء (بعكس) مشايخ البلاد اللي خافوا من الحشاش الخاين (يقصد الباشا) وطوّ روس عشايرهم وقبايلهم." [5]
على الرغم من هزيمة إبراهيم باشا الأولية في القدس والخليل، فإن الجيش المصري استطاع أن يدمر الثوار في رأس العين بعد وصول 15.000 عسكري مصري بقيادة الخديوي محمد علي إلى ميناء يافا في أواخر حزيران/يونيو 1834، ومطاردة الثوار في القدس والخليل ونابلس والكرك، ثم تعيين الشيخ جبر أبو غوش، حليف الباشا، متسلماً جديداً للقدس، ومعاقبة قادة الثوار بالإعدام والنفي. ثم بدأ بتدمير القرى والبلدات التي بادرت إلى دعم الثورة، من ضمنها قرية عناتا. إلاّ إن الحركة الرفاعية حافظت على نموها وامتدادها بعد عودة العثمانيين إلى السلطة سنة 1841، وأصبحت ركناً أساسياً للدعوة الخلافية وسلطة خلافة عبد الحميد الثاني.
أما بالنسبة لشتيمة الجرار لإهالي اللد والرملة في الرسالة ("الله يخزيهم") فيبدو أنها تعود إلى فترة بداية العصيان عندما كانت الرملة مركز تجمع الجيش المصري. ففي صيف سنة ١٨٣٤ امتدت الثورة لتشمل أرياف الساحل الفلسطيني، وعندما وصل جيش محمد علي الى يافا بحرا في حزيران بدأ بمعاقبة الذين تعاونوا مع الثوار ومن ضمنهم تم إعدام متسلمي الرملة واللد ومشايخ قرى يافا.
هاتان الوثيقتان من أوراق عائلة الرفاعي التي تقوم مؤسسة الدراسات حالياً بتنظيمها ورقمنتها وأرشفتها. ويمكن للقارئ المهتم أن يطلع قريباً عليهما في الأرشيف الإلكتروني للتاريخ الاجتماعي في فلسطين.
من أوراق أرشيف التاريخ الاجتماعي في مؤسسة الدراسات الفلسطينية
الوثيقة الرفاعية الاولى – من محمد ابو جرار الى سليم الرفاعي
حضرة الشيخ أبو علي الرفاعي اعزه الله
من ناحية الناس الذين مشوا مع ابراهيم باشا أنّا نعرفهم أنهم يريدوا الجاه والوجه من قلة أصلهم وفصلهم وكانوا على الدوام مثل ما أنا وانت نعرفهم وما كان لهم لا راس ولا ساس. ولا واحد (حضر منهم؟) هم وكل جماعتهم وكل من لم لمّهم. ولكن حتى يكون الامر في ايدينا (...) ولازم من كل واحد فينا يعلم انه مطلوب منه يدير ظهره لهم (للأبد؟)
ومن ناحية تربصنا بعساكر ابراهيم المصري احنا مش مهزومين لا منه ولا من عساكره (.) وعند بيت عور الفوقا لاقيناه وسدوا رجالنا في خروجه وجه عساكره الدرب ومنعناه من الوصول للراس (راس العين؟) عند الغروب وكان حاصل لهم صعوبات بعد ما وقعو في باب الواد مع الثوار ورجال القرى (القدس؟) فأخذوا منهم خيول (...) كثير وزاد محّمل على جمال. أهل اللد وأهل الرملة الله يخزيهم ويخزي أفعالهم اللّي ما همهم غير المال. أما شيوخ البدو ورجالهم فهم بدهم شوباش لعروسهم (لروسهم؟) حياهم الله هم دايما أشداء (؟) وما هو لازم (ياخذو؟) البدو بفعال سليمان الجرب وفعاله لأنه مثل مشايخ كل (؟) البلاد اللي (؟) خافو من الحشاش الخاين وطّو روس عشايرهم وقبايلهم. واصلك من طرفي واحد من المعدودين اللي بتعرفهم وهو اللي بحمل (يحمل) هذا المكتوب (الكابأ لحفا؟) عن تل عاصور اللي احنا فيه وإذا تكرمت احضر مع الرجل لأنا نريد نعقد تمور (؟) جديد بين بعضنا حتى نقوم على يد واحدة ورجل واحد..
المخلص
محمد أبو جرار
[1] راجع موقع الأرشيف
[2] B. Abu-Manneh, "Sultan Abdulhamid II and Shaikh Abulhuda Al-Sayyadi," Middle Eastern Studies, vol. 15, no. 2 (May 1979), pp. 131-153.
[3] Judith Rood, "Time the Peasants Entered Jerusalem: The revolt against Ibrahim Pasha in the Islamic court sources," The Jerusalem Quarterly, no. 27 (summer 2005), pp. 30-37.
انظر أيضاً:
عادل مناع، "لواء القدس في أواسط العهد العثماني: الإدارة والمجتمع منذ أواسط القرن الثامن عشر حتى حملة محمد علي باشا سنة 1831" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2008).
[4] المصدرنفسه، ص 32-34.
[5] يزيد الرفاعي، "رسالة مخطوطة من الشيخ محمد أبو جرار إلى الشيخ سليم الرفاعي في عناتا" (رام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، أرشيف التاريخ الاجتماعي، من دون تاريخ).