أربع دورات انتخابية للكنيست الإسرئيلي جرت في غضون عامين من دون أن يتمكن المعسكر المؤيد لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو من حسمها لصالحه والحصول على أغلبية في الكنيست تخوله تشكيل ائتلاف حكومي بالتحالف مع الأحزاب الدينية المتزمنة وحزب الصهيوينة الدينية الأصولي. لكن معسكر الأحزاب المناوئة لنتنياهو لم يستطع هو أيضاَ الحصول على أغلبية 61 صوتاً المطلوبة. وهكذا وجد الإسرائيليون أنفسهم أمام المعضلة عينها التي أسفرت عنها الانتخابات الأخيرة التي جرت قبل عام. كل ذلك في رأي عدد كبير من المعلقين والمحللين الإسرائيليين بسبب تعنت نتنياهو وتمسكه بمنصبه، ورفضه إعطاء الفرصة لشخصية سياسية أخرى تحل محله.
وإذا كان كثيرون يحملون نتنياهو المسؤولية عن جر إسرائيل إلى أربع معارك انتخابية من دون حسم واضح، فإن هناك من رأى في المأزق الذي أسفرت عنه نتائج الانتخابات الأخيرة نتيجة فشل النظام الانتخابي النسبي للكنيست، واضطرار الكتل الكبيرة إلى الاعتماد على دعم أحزاب صغيرة متشددة . هذا رأي المحامي أوريال لين الذي قال: "الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات هو الكنيست نفسه الذي من واجبه ايجاد نظام انتخابي يتيح حسماً ويولد حكومة مستقرة وليس ائتلافاً يعتمد على دعم عضو أو عضوين في الكنيست"[1]
ما الذي تغير في الانتخابات الأخيرة؟
على الرغم من عدم الحسم في نتائج هذه الانتخابات، فإنها تختلف عن التي سبقتها بعدد من الأمور منها:
1- على الرغم من أن هذه الانتخابات أيضاَ كانت استفتاء على زعامة نتنياهو لكن هذه المرة فإن الانقسام لم يكن بين يمين ويسار بل بين أحزاب مؤيدة لنتنياهو وأخرى معارضة له، وهذه المرة شمل المعسكر المناوىء لنتيناهو حزبين يمينين هما حزب يمينا بزعامة نفتالي بينت (7 مقاعد) و حزب أمل جديد بزعامة جدعون ساعر الذي انشق عن الليكود متمرداً على نتنياهو وطارحاً نفسه زعامة بديلة لكنه بخلاف استطلاعات الرأي لم يفلح بنيل أكثر من 6 مقاعد، إلى جانب حزبي الوسط يوجد مستقبل برئاسة يائير لبيد (17 مقعداً) وحزب أزرق أبيض برئاسة بني غانتس (8 مقاعد)، وحزب أفيغدرو ليبرمان إسرائيل بيتنا (7 مقاعد)، مع حزب العمل (7 مقاعد) وحركة ميرتس اليسارية (6 مقاعد)، أما الأحزاب العربية فتراجع تمثليها من 15 مقعداً إلى 10 موزعة بين القائمة المشتركة(6 مقاعد) وحزب راعام [الحركة الإسلامية بزعامة منصور عباس] (4 مقاعد). تعكس المعارضة الحالية لزعامة نتنياهو استياء الجمهور اليهودي العلماني الأشكنازي في إسرائيل من نتنياهو وتحالفه مع الأحزاب الحريدية المتزمتة والأصولية اليهودية العنصرية والتي تعاني من رهاب المثلية الجنسية؛ كما أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة تراجع تأييد الليكود وسط قاعدته التقليدية من أبناء الطائفة الشرقية التي تصوت عموماً مع نتنياهو، الذين فضلوا هذه المرة عدم المشاركة في الانتخابات. فبحسب إيريس لاعال في يوم الانتخابات كانت صناديق الاقتراع في ديمونا ويروحام ونتيفوت وأوفكيم شبه خالية. "هذه المرة الناخبون صوتوا بأرجلهم".[2
2- المتغير الثاني أن هذه الانتخابات خاضتها الأحزاب بصورة منفردة من دون تحالفات انتخابية سرعان ما تنهار بعد انتهاء الانتخابات. هذه المرة "كانت الأحزاب وفيه لنفسها ولم تحاول طمس هويتها الإيديولوجة كي تحظى بتأييد الناخبين. كل الأحزاب الصغيرة التي كان هناك شك في أنها ستنجح في تجاوز نسبة الحسم- فعلت ذلك بنجاح تحديداً لأنها خاضت الانتخابات منفردة.[3] فقد خاض حزب أزرق أبيض الانتخابات منفرداً من دون التحالف مع حزب يوجد مستقبل كما في الانتخابات الماضي، وكذلك خاض حزب العمل الانتخابات في قائمة منفردة وكذلك فعلت حركة ميرتس. وهذا ما جرى مع القائمة المشتركة بعد انشقاق راعم عنها. على الرغم من ذلك استطاع حزب العمل أن يرفع تمثيله في هذه الدورة ونجحت حركة ميرتس في تخطي نسبة الحسم، لكن الثمن الأكبر للانشقاقات دفعته الأحزاب العربية التي انخفض تمثيلها من 15 مقعداً في الكنيست الـ23 إلى 10 في الكنيست الـ24.
3- انفتاح بنيامين نتنياهو على الجمهور العربي ومحاولته استمالته سواء من خلال حملات التلقيح، والجولات والزيارات التي قام بها للبلدات العربية موزعاً الوعود بتحسين الوضع المعيشي للسكان العرب ومحاربة مظاهر الجريمة والعنف المتفشية التي يعاني منهما المجتمع العربي. وكان واضحاً استغلال نتنياهو لاتفاقات تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب والسودان في انفتاحه على الناخبين العرب، بعكس حملات التحريض السابقة ضدهم التي شهدناها في الدورات السابقة. وكانت النتيجة أن تأييد المجتمع العربي لليكود ارتفع في العديد من المدن العربية مثل الناصرة وراهط وأيضاً في أم الفحم وكفرقاسم .
4- حول حزب يمينا برئاسة نفتالي بنيت، وحزب راعم برئاسة منصور عباس إلى بيضة قبان في أي ائتلاف حكومي يريد تشكيله نتنياهو أو خصمه السياسي يائير لبيد. وللمرة الأولى ربما بعد سنوات عديدة يجري الحديث علناً عن حاجة أي ائتلاف حكومي إلى تأييد حزب عربي سواء من داخل الحكومة أو من خارجها.
5- بخلاف كل التوقعات لم يكن لوباء الكورونا تأثير واضح على تصويت الناخبين. ففي رأي رئيس تحرير "هآرتس" ألوف بن :" جرى تحييد الكورونا في اعتبارات اقتراح الناخبين والناخبات في إسرائيل الذين جاؤوا إلى صناديق الاقتراع ليعبروا عن ولائهم العشائري، "مع بيبي" و"ضد بيبي".[4]
السيناريوهات المحتملة:
1- حكومة يمينية مع بينت
بعد عجز نتنياهو عن تحقيق الحسم والحصول على أغلبية 61 مقعداً فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن ما هي السيناريوهات المحتملة لتشكيل ائتلاف برئاسة نتنياهو؟
السيناريو الأول المطروح انضمام زعيم حزب يمينا إلى ائتلاف بينت على الرغم من كل التعهدات التي قطعها هذا الأخير بأنه لن يجلس في حكومة برئاسة نتنياهو. لكن بينت هو الإبن الشرعي لليمين الديني الذي في الانتخابات الأخيرة انشق إلى حزبين يمينا برئاسة بينت وحزب الصهيونية الدينية برئاسة سموتيريتش وإيتمار بن غفير من أتباع الحاخام مائير كهانا. يبدو هذا السيناريو هو الأكثر احتمالاً حتى الآن. وفي رأي أكثر من معلق من الصعب أن يقاوم بينت ضغوطات نتنياهو للانضمام إليه. كتب سامي بيرتس في "هآرتس: "بنيت يمكن أن يكون الشخص الذي سيتوج نتنياهو لكنه أيضاَ القادر على الإطاحة به اذا انضم الى معسكر خصومه. لذا فإنه في الأيام المقبلة أمام خيار استراتيجي"[5]. في حال انضم بينت إلى حكومة نتيناهو فإن مثل هذا الائتلاف ما يزال بحاجة إلى تأييد عضوي كنيست للحصول على الأغلبية. تبرز هنا إمكانيتان: الأولى فرار عدد من أعضاء حزب أمل جديد من صفوف حزبهم وعودتهم إلى أحضان بيتهم الأول الليكود؛ أما الامكانية الثانية فهي الاعتماد على تأييد حزب راعم برئاسة منصور عباس الذي على الرغم من كل كلام نتنياهو الرافض رفضاَ قاطعاً الاعتماد على حزب عربي معاد للصهيونية ، هناك من يعتقد أن نتنياهو سيتعاون معه. هذا مثلاً رأي نحميا شطرسلر في "هآرتس" الذي رأى كل كلام نتنياهو عن رفضه التعاون مع منصور عباس هو :"كذب، وتضليل، ووعود لن تتحقق." وينصح خصوم نتنياهو كلهم بالتوجه هم أيضاَ إلى التحاور مع منصور عباس إذا كان ذلك هو السبيل للاطاحة بنتنياهو .[6]
لكن التعاون مع منصور عباس لدعم الائتلاف الحكومي مرفوض بصورة قاطعة من بتسلئيل سموتريتش الذي سبق وقال الأسبوع الماضي رداً على كلام في هذا الصدد نشرته وسائل الاعلام "لن يكون هناك حكومة يمينية بالاعتماد على حزب منصور عباس لا من الداخل ولا من الخارج ولا بأي شكل من الأشكال. إن مؤيدي الارهاب الذين ينكرون وجود إسرائيل كدولة يهودية لن يكونوا شركاء شرعيين في أي حكومة. والأصوات غير المسؤولة التي صدرت في الأيام الأخيرة عن بعض عناصر اليمين وتدعم مثل هذا الاعتماد تعكس ارتباكاً خطيراً. يا أصدقاء اخرجوا هذه الفكرة من رؤوسكم لن يحدث ذلك" [7]
انفتاح اليمين الصهيوني للمرة الأولى على فكرة التعاون مع حزب القائمة العربية الموحدة لمنصور عباس ليس له دلالات انتخابية فقط، بل هو يعكس تحولاً في نظرة الأحزاب الصهيونية إلى الجمهور العربي، والانتقال من مرحلة "الاقصاء" التي مارستها هذه الأحزاب ضد التمثيل العربي في الكنيست إلى مرحلة "اندماج" الأحزاب العربية في المنظمة السياسية الإسرائيلية. وتنبأ الباحث إيلي ريخيس في مركز دايان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا، أن تكون انتخابات الكنيست الـ24 "علامة فارقة على طريق كسر محرمات مشاركة الأحزاب العربية في الائتلافات الحكومية. وأشار إلى بروز توجه براغماتي وسط الجمهور العربي في إسرائيل يميل إلى الاندماج نتيجة عدد من الأسباب منها"اختفاء الموضوع الفلسطيني كعامل له وزنه في العملية الانتخابية، وعدم وجود اهتمام عام بمسائل وطنية مثل قانون القومية، والضعف الداخلي والمزمن للسياسة العربية بسبب الانقسام الداخلي والعشائري" وتوقع أن يؤدي هذا التوجه في المدى البعيد إلى "تعزيز عملية أسرلة الجمهور العربي وظهور طبقة عربية وسطة ترى مكانها في إسرائيل وتندمج فيها من دون أن تتنازل عن هويتها الفلسطينية."[8]
حتى الآن تبدو حظوظ هذا السيناريو هي الأقوى، مع ذلك حكومة "يمينية خالصة" لن تكون أمراً سهلاً على نتنياهو الذي حتى الآن كان يتحجج بوجود أحزاب الوسط واليسار كي يتهرب من مطالب الأحزاب الدينية، ومن ضغوطات أحزاب المستوطنين التي لها أجندات متشددة من شأنها أن تحرج بنيامين نتنياهو لا سيما في ظل إدارة أميركية جديدة غير متعاطفة معه.
2- حكومة برئاسة لبيد مع معسكر خصوم نتنياهو ودعم الأحزاب العربية
هذا السيناريو بحاجة إلى كل من دعم حزب يمينا والأحزاب العربية لا سيما حزب منصور عباس. وبالفعل بدأ زعيم حزب يوجد مستقبل سلسلة لقاءات مع زعماء أحزاب المعسكر المناوىء لنتنياهو تحضيراً لائتلاف حكومي بديل إذا فشل نتنياهو في تشكيل الحكومة. المعلوم أن هذا المعسكر من دون بينت لديه 51 مقعداً، وهو بحاجة إلى تأييد عشرة أعضاء كنيست كي يحظى بالأغلبية المطلوبة. لكن عقبتين أساسيتين تقفان في وجه هذا السيناريو: إعلان نفتالي بينت علناً رفضه الانضمام إلى حكومة برئاسة لبيد؛ ومقاطعة لبيد للأحزاب الحريدية.
سيناريو اندماج بينت مع ساعر
الاندماج المشار إليه كان ممكناً أن يشكل منافساً بديلاً لحزب يوجد مستقبل لو استطاع الحزبان نيل اصوات معاً أكثر من حزب يائير لبيد (17 صوتاً)، لكن مجموع مقاعد الحزبين هو 13 ، ولا يمكنهما من أن يطرحا نفسيهما بديلاً لا عن نتنياهو ولا عن لبيد. على الرغم من أن مثل هذا الاندماج يمكن أن يشكل ائتلافاً مع الأحزاب الحريدية وحزب الصهيونية الدينية من دون الليكود. وهذا أمر يبدو الآن بعيد المنال.
انتخابات خامسة
سيناريو بدأ الحديث عنه ما أن تبين أن نتائج الانتخابات للكنيست الـ24 لم تحقق حسماً. على الرغم من الخوف التي تثيره فكرة انتخابات خامسة، فإن هناك من يرى أنه يجب عدم التردد والخوف من مثل هذه الامكانية. فكتب يوسي ملمان :" يجب ألا نخاف من انتخابات خامسة، وألا نخشى من جولة خامسة. منذ سنتين تشهد إسرائيل حرب استنزاف يخوضها رئيس الحكومة ومؤيديوه ضد الشعب والدولة. أربع مرات فشل نتنياهو في تأليف حكومة مستقرة وفاعلة. وكل ذلك يعود إلى سيطرته هو وعائلته على زمام الأمور." ويدعو الكاتب إلى الرد على حرب الاستنزاف بمثلها، والحؤول دون جولة خامسة بشرط رحيل نتنياهو."[9]
[1]- -أوريال لين: "ماذا يمكن أن نتعلم من أنماط التصويت للأحزاب المختلفة"، "معاريف"، 25/3/2021مختارات من الصحف العبرية (palestine-studies.org)
[2] - إيريس لاعال: "مقاعد لليسار في قاعدة نتنياهو"، هآرتس"، 26/3/2021
[3] - أوريال لين: مصدر سبق ذكره.
[4] - ألوف بن: "كأنه لا يوجد كورونا: الاعتبار الوحيد في الانتخابات كان مع بيبي أو ضده"، "هآرتس"، 24/3/2012مختارات من الصحف العبرية (palestine-studies.org)
[5] - سامي بيرتس: "إسرائيل تنتظر بينت"، "هآرتس"، 24/3/2012مختارات من الصحف العبرية (palestine-studies.org)
[6] - نحميا شطرسلر: "متى فهمت أن بيبي سيتعاون مع عباس"، "هآرتس"، 26/3/2021
[7] - "يديعوت أحرونوت"، 26/3/2021
[8] - إيلي ريخيس: "هل ستشكل انتخابات الكنيست الـ24 منعطفاً في اندماج العرب في السياسة الوطنية؟"، مركز دايان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا، 18/3/2021مختارات من الصحف العبرية (palestine-studies.org)
[9] - يوسي ملمان: "يجب عدم التردد من خوض حرب استنزاف"، "هآرتس"، 27/3/2021