Beirut 1990: Ruin Is Almost Life
Full text: 

لتكن البداية من تلك الزيارة لبيروت خلال كانون الأول / ديسمبر 1990: شمس شتوية تغمر ساحة الشهداء المحاذية في نهايتها لِمُوَيْجات البحر الرتيبة؛ كراسٍ مبثوثة حول التمثال؛ نادل يلبّي طلبات زبائن جاؤوا مع أطفالهم لشمّة هواء وسط ديكور كأنه منبثق من عالم الفانتاستيك إذ انتصبت على أطراف الساحة وعبر الامتدادات التي يطاولها البصر، هياكل عمارات فارغة، متفاوتة الهدم، متفحمة في بعض أجزائها، مبقورة بقذائف المدافع، حيث تتهدل ركائز بعض السقوف من دون أن تلامس الأرض، وحيث تتشبث بقايا لافتات تجارية بجدران آيلة للسقوط... والصمت (كأن له صوتاً) يكتسح ما عداه.

أجوس أنا وليلى عبر الشوارع الجانبية وسط أطلال لها حيوية لا تُصدّق. ليلى تسعفها دموعها لتواجه الخراب الذي أصاب جزءاً من فضاءات طفولتها في بيروت، وأنا "الغريب" كنت مأخوذاً في تلك الوهلة الأولى بجمالية المكان وسُطوع اللحظة. كنا قبل قليل نعبر بصعوبة شوارع بيروت المختنقة بالسيارات والزمامير وبرك الماء المتخلفة عن مطر الأمس، والآن تلفّنا هذه الهدأة المفاجئة، أشبه ما تكون بمطبّ يفصلنا عن ضوضاء بيروت، والخرائب ترتدي، تحت التماعات الشمس الشتوية، بقعاً ضوئية تحيلها إلى لوحات مفصولة عن سياق التكوين. فعلاً، ذُهلت بإستتيقا الخراب، ونسيت لفترة أنني زرت هذه الساحة والمركز التجاري المحاذي لها أيام العمران قبل أن تهدّها حرب الأشقاء.

استرجعت ما قاله بروست: "ذلك التناقض اللامفهوم بين الذكرى والعدم." كان العدم، في الوهلة الأولى يبدو أمامي قائماً، مستقراً، فارداً صورته الجمالية... لكن سرعان ما أخذت حركات الذاكرة تبعث بداخلي أطياف حياة نابضة في سنة 1966، عبر ابتسامة مختزنة، أو من خلال نداء أحد الباعة في هذه الساحة، أو في أثناء لقاء أحد الأصدقاء في مقهى قريب من هنا.

كانت تلك السنة أول مرة أزور فيها بيروت للمشاركة في مؤتمر اتحاد كتّاب آسيا وأفريقيا، وكانت بيروت متلألئة في سماء الثقافة العربية من خلال ما تنشره من مؤلفات ومترجمات عن الماركسية وحركات التحرير وشعر الحداثة... كان أدونيس، آنذاك، يغازل الماركسية من خلال تسطيره بعض الأفكار الإبداعية المتمردة استكمالا ًلما أغفلَتْه آيات لينين. وتقفز إلى ذهني في الآونة ذاتها، قراءة شعرية نظمها المؤتمر للشاعر السوفياتي الشهير إيفتيشنكو الذي قدّمته الدكتورة عايدة مطرجي للجمهور برقّة جعلت الشاعر يهجم عليها مُقبّلاً إياها من دون استئذان، ولا مبالاة بتقاليد أهل سنّة بيروت المحتشمة. وفي اللقاء نفسه، كان أدونيس يلقي ترجمة بعض قصائد إيفتيشنكو الذي تميز بأدائه الآسر ولغته الروسية المُمَوْسقة.

خلال تلك الزيارة، اغتنمت الفرصة لأزور المركز التجاري وساحة الشهداء بحثاً عن المكتبات ودور النشر؛ لكن حيوية الساحة اجتذبتني فأخذت أتفرّج على السلع المهرّبة وعلى مجلات الجنس، متحاشياً وشوشات القوّادين... لكنني أبدو كمَن أُخذ على حين غرّة، كما يقال، لأن المدينة العربية التي كنت أعرفها وأدمن على زيارتها، هي القاهرة "الناصرية" التي لم تكن "مكشوفة" وواقعية وجريئة بالقدر نفسه الذي بدت لي به بيروت في زيارتي الأولى لها في سنة 1966.

في القاهرة كنت أحسّ، وخصوصاً خلال سنوات الدراسة (1955 - 1960) أنها مستغنية عن العالم، وأن على مَن يدخل إليها أن ينسى ما هو خارج عنها، لأنها توهمك أنها مكتفية بذاتها وعراقتها وسُمعتها السينمائية. لكنني في بيروت أحسست عكس ذلك: أحسسْتُني في ملتقى لجميع الرياح والأهواء والخطابات والاحتمالات... بدتْ لي بيروت فضاء للعبور ولحظة لمخاض طويل، ومختبر أفكار وموضات في حالة غليان مستمر. ذلك هو الانطباع الذي ترسّب في نفسي خلال زيارتي الأولى لبيروت في سنة 1966.

توالت الزيارات بعد ذلك (1978، 1981، 1984، 1988، 1990)، لكن بيروت خلال هذه الزيارات كانت في أتون الحرب وانعكاسات "زمن الاحتلال"، وسرعان ما تحولت في ذاكرتي من مرتع لأحلام التغيير والتجديد إلى ميدان لوأد الأحلام. لعلني أبالغ في هذا التعبير المتشائم، وعليّ أن أخفف هذه الصورة من خلال مشاهد تؤكد أن بيروت لم تتخلّ عن الحركة والحياة، ولم تكفّ عن التحريض والمقاومة حتى بعد أن اجتاحتها قوات إسرائيل المعتدية.

أحتفظ من زيارة سنة 1978 بتجربة التآلف مع طرطقات الكلاشينكوف ودويّ القنابل. تعوّدت أن أقف طويلاً على الشرفة ليلا ًلأتابع خطوط الرصاص المشتعلة في السماء، وما بين أحياء بيروت. ولا شك في أن الموت كان يحصد العشرات، ومع ذلك كنّا نخرج من البيوت ونجتاز الحواجز ونسهر في المطاعم. أذكر أن إلياس خوري كان قد أنهى كتابة مجموعته "الجبل الصغير"، وكان الموت جزءاً أساسياً في سرده من كثرة ما شاهد من معارك أودت بحياة بعض الأصدقاء. وعلى الرغم من ذلك لم يفقد قدرته على المقاومة والسخرية والمشاكسة... كان يخيّل إليّ أنه لم يعد هناك حدود للتمييز بين الحياة العادية والاستثنائية، وبين الحرب واللاحرب.

في بيت إلياس، مع محمود درويش وعز الدين قلق (الذي اغتيل في السنة نفسها في باريس) كنا نشرب ونعلق ونضحك، ولعلعة الرصاص والمدافع تشنّف الأسماع. لكنني فجأة، أجدني غريباً بينهم في بيروت المشتعلة حيث هم تعوّدوا على العيش في خطر، وأنا عاجز عن الاندماج في المشهد مهما أحاول.

عدت إلى بيروت في سنة 1981، مفتوناً بتلك المدينة الملتهبة التي تتيح لكل مواطن أن يحمل السلاح كي يعبّر عن رأيه، بدلاً من الخنوع والاستسلام لسلطة الدولة المتجبرة عندنا في المغرب أو في أي بلد عربي آخر. على الأقل - كنت أقول مع نفسي: بيروت تعيش من دون دولة متجبرة تخصي المواطنين. كنت في حالة "إسقاط" أبحث عن فضاء خالٍ من وباء "الدولة الوطنية" المتسلطة، مع أنني كنت أدرك فداحة الخسائر الناجمة عن تلك الحرب الأهلية / الطائفية. في صيف سنة 1982، ستسعفني الدموع وأنا أشاهد على الشاشة الصغيرة خروج الفلسطينيين من بيروت ثم دخول القوات الإسرائيلية المحتلة، بعد أن وقف بيغين أمام البرلمان يبرّر الاجتياح ويغلّفه بالكلمات الكبيرة: "ماذا تريدون؟ إن التردد صفة إنسانية."

ومن زيارتي لبيروت في سنة 1984، أحتفظ في ذاكرتي بفضاء صبرا وشاتيلا. لم تسمح الظروف بأن أكون مع ليلى وجان جينيه في رحلتهما إلى بيروت خلال صيف سنة 1982، لكني هذه المرة، ذهبت بصحبة ليلى لزيارة عائلات بعض الفلسطينيين. كان مناخٌ كابوسي يلف المخيمات، وتبادل النيران مستمراً بين الشرقية والغربية؛ إلّا إن أم أحمد التي فقدت زوجها وأربعة من أبنائها في مجزرة شاتيلا، وشوّه الرصاص جسد ابنتها سعاد، كانت تبتسم مرحبة وهي تستقبلنا في غرفتها المتواضعة.

فضاء بيروت، بالنسبة إليّ، هو هذا كله: البحر المتوسط الذي يعلن وجوده في صمت، والساحة الضاجّة غير بعيد بالأصوات والألوان والإغراءات ورموز الأيديولوجيات، ومنبر الشعر الحداثي الجريء، ومختبر الإبداع في حالاته القصوى. عندما تصفحت صور كتاب "بيروت الوسط التجاري" الصادر في نهاية سنة 1992، قفزت إلى ذهني تلك الخواطر التي حاصرتني في سنة 1990 عن إستتيقا الخراب: لم يكن ذلك الموت كله، وذلك الهدم كله، من دون امتدادات في الحياة. امتدادات هزتني أنا "الغريب" عن بيروت وأنا أقرأ نصوصاً متدثرة بالحداد كتبتها حنان الشيخ وإلياس خوري وهدى بركات وإسماعيل فهد إسماعيل وغادة السمان... ثم ذلك الألبوم المشتمل على لقطات بالغة الروعة، التقطها ستة مصورين عالميين استوحوا فيها ما تبقّى من أمكنة كثيراً ما صدحَت بالحياة. لعل المصورين أرادوها شهادة ضد الحرب والعنف، لكنها أيضاً من خلال تشكيلها الفني تنضح وجودا ًوحياة. أو كما كتبتْ دومنيك إده في تقديمها للألبوم: "يكاد الخراب يكون حياة، إنه الموت الذي يعيد الكرّة."

هل بعد هذه التذكرات كلها أقول مع أدونيس: "بيروت هاوية الذاكرة"؟ أقول، بالأحرى، بيروت دوما ًمستقبل الذاكرة، ذلك بأنه يصعب عليّ، وقد عرفتُ بيروت قبل الحروب، أن أسلّم بأن ما آلت إليه يعجّل في نهايتها. إن بيروت، عندما نستحضر صورتها وحيويتها ودورها الطليعي فيما مضى، تبدو ضرورة طوباوية لا غنى عنها كي يستأنف الفضاء العربي مساره. لا شيء يعوّض بيروت: لا المراكز الثقافية في المنافي، ولا دُور النشر المتحررة من الرقابة في أوروبا... تبدو بيروت ضرورية أكثر من أي وقت مضى، بتعدديتها العقائدية والفكرية وجرأتها الثورية، ومُخاصرتها للبحر والجبل... يا للمفارقة: فبيروت بماضيها المتحقق، ومآسيها المتواترة، تظل هي حلمنا لبداية الطريق نحو مستقبل ممكن وسط الخراب العربي الشامل.

Author biography: 

محمد برّادة: روائي وناقد مغربي.