يتناول كتاب "المحرقة والنكبة" حدثَين مؤلمين وصادمين بصورة هائلة في التاريخين اليهودي والفلسطيني هما المحرقة والنكبة، وهذان الحدثان المتفاوتان بطبيعتهما وشدتهما يحملان تأثيرات محورية في تشكل التاريخ والوعي والهوية لدى الشعبين. فمن جهة، أدت المحرقة دوراً رئيسياً في صوغ الهوية اليهودية، ولا سيما منذ أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، في كل من إسرائيل والعالم، بينما شغلت النكبة وتبعاتها المتواصلة، من جهة أُخرى، مكاناً مهماً في الهويتين الفلسطينية والعربية منذ سنة 1948.[1]
ولا تنعكس النكبة في عيون الفلسطينيين بصفتها هزيمتهم وتطهيرهم العرقي في فلسطين[2] وفقدان وطنهم فحسب، كما أنها ليست فقط معادلاً حصرياً لتحوّل الفلسطينيين إلى شعب غالباً ما يعيش كلاجىء خارج أرضه، أو كأقلية مجزأة تعيش على أرضها تحت وطأة الاحتلال، بل إنها تمثّل أيضاً تدمير مئات القرى والأحياء الحضرية، إلى جانب إتلاف النسيج الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي للشعب الفلسطيني. وتركت النكبة كذلك بصمتها على التطور الحديث للثقافة والمجتمع والوعي الوطني الفلسطيني، إذ أصابته بتشوّه عنيف يتعذر إصلاحه،[3] ولا تزال تترك آثارها عميقاً في استعمار فلسطين المستمر إلى وقتنا الحاضر، عبر تبنّي رزمة من الممارسات والسياسات الاستعمارية، كإنشاء المستعمرات اليهودية، والاستيلاء غير الشرعي على الأراضي، وفرض الحصار على غزة، وإخلاء القرى الفلسطينية.[4]
على الضفة الأُخرى، تُفصح المحرقة عن إبادة جماعية بالغة القسوة، فقد قتل الألمان وأطراف أُخرى خلالها ما بين خمسة ملايين ونصف إلى ستة ملايين يهودي في أثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك جرّاء ممارسات تنوعت بين الملاحقات القاسية، وإطلاق النار، وأفران الغاز. وفي الفترة نفسها، تعرّض الملايين من أبناء المجتمعات المستهدَفة والجماعات الإثنية للإبادة، مثل الروما والسنتي (Roma and Sinti) غجر وسط أوروبا، والبولنديين، والمثليين جنسياً، والشيوعيين، وأسرى الحرب من السوفيات، والمنشقين السياسيين، والمعاقين. وقد انتهت المحرقة بهزيمة ألمانيا النازية في سنة 1945، بَيد أن صفحتها القاسية لم تُطوَ، إذ أحدث وقوعها وذاكرتها وتداعياتها انقلاباً ملحوظاً أصاب مسار التاريخ والوعي اليهوديين بصورة عامة، وفي غضون فترة زمنية خاطفة، جرى تدمير ثقافة غنية على نطاق واسع.[5] وعوضاً عن المركز اليهودي الرئيسي في أوروبا، استُحدث مركزان يهوديان آخران، أحدهما في فلسطين (التي أنشئت عليها دولة إسرائيل لاحقاً في سنة 1948)، والآخر في الولايات المتحدة.
لم تبدأ جولات الصراع بين العرب واليهود في منتصف القرن العشرين، وهي الفترة التي وقعت فيها كل من النكبة والمحرقة، وإنما اشتعلت شرارتها في أواخر القرن التاسع عشر، تزامناً مع تأسيس الحركة الصهيونية ونشوء الاستيطان اليهودي الحديث في فلسطين.[6] ومع ذلك، ليس ثمة شك في أن أحداث الثلاثينيات والأربعينيات كتبت مصيراً جديداً للمجموعتين ووعيهما بنفسيهما والصراع بينهما كذلك. صحيح أن المحرقة، أو النكبة، ليستا الصورة الكلية للهوية اليهودية، أو الفلسطينية، في أوائل القرن الحادي والعشرين، إلّا إنهما تحتلان موقعاً مركزياً في الهوية الجمعية للشعبين ووعيهما، بل ربما تُعتبران من المكونات الحاسمة لهما.[7] فالمحرقة بالنسبة إلى اليهود، والنكبة إلى الفلسطينيين (والعديد من العرب)، هما ما أطلق عليه المؤرخ ألون كونفينو "الماضي التأسيسي"، أو ما أطلق عليه عالم النفس الاجتماعي فاميك فولكان (Vamik Volkan) "الصدمات المنتقاة"،[8] إذ ينغرس بُعد الكارثة والصدمة في قلب تينك الهويتين الوطنيتين، ليؤدي دوراً محورياً فيهما، ذلك بأن الرواية الوطنية تتمحور حول أشكال الضحية والخسارة بدرجة كبيرة.
تُعتبر الروايتان الوطنيتان الصهيونية والفلسطينية المتداولتان مختلفتين تماماً، على الرغم من اشتراكهما في عناصر أساسية على نحو لافت للنظر، فكل واحدة منهما - إلى جانب تبنّيها الكارثة التأسيسية – تقوم على النفي المتزامن والقوي (الصريح والضمني) لكارثة الآخر،[9] وهو نفي يعمل كسمة شائعة تجمعهما. ووفقاً لهذا المعنى، تقوم الروايتان على مبدأ التعارض / التضاد الثنائي بينهما، كإحدى سمات السيميائية البنيوية، فكل طرف يحمل قناعة بأنه الضحية الحصرية الحاضرة في مسرح التاريخ، بينما يتنكر لمعاناة الطرف الآخر أو يسخّف منها بهدف برهنة صحة ادعائه.[10] وفي هذا السياق، لم يألُ العديد من اليهود في إسرائيل والخارج جهداً في صوغ استراتيجيات متنوعة لإنكار النكبة الفلسطينية: على سبيل المثال، أقرّ البرلمان الإسرائيلي "قانون النكبة" في سنة 2011، والذي خوّل وزارة المال الإسرائيلية قطعَ التمويل عن المؤسسات الإسرائيلية التي تحيي ذكرى النكبة؛ وهذه الأخيرة بالنسبة إلى كثيرين، وربما لدى معظم اليهود، ليست سيرورة مرئية أو حدثاً موجوداً بالمطلق ، بل إن كتيّباً نشرته الحركة السياسية اليمينية الإسرائيلية "إم ترتسو" (إن أردتم)، حمل عنوان "النكبة الهراء"،[11] وفيه يدّعي مؤلفوه أن المسؤولية الكاملة عن المصير المرير الذي قاساه الفلسطينيون قبل حرب 1948 وفي أثنائها وبعدها، تقع على عاتقهم هم أنفسهم، وعلى عاتق الدول العربية، وقد وصل الكتيب إلى أبعد من ذلك حين نفى وجود الفلسطينيين كشعب؛[12] كما يدّعي آخرون أن أحداثاً كالنكبة هي ذات طابع روتيني في سياق النضالات الوطنية، لكنها بكل تأكيد لا تقارن بالهمجية المفرطة، وربما غير المسبوقة، للمحرقة.
وفي المقابل، يرى كثيرون من الفلسطينيين أنفسهم عاجزين عن الاعتراف بالمحرقة والمعاناة التي قاساها اليهود، بل إن بعضهم يفضّل إدارة ظهره للقضية،[13] أو تحجيم أهميتها، أو حتى إنكارها تماماً، متصوراً أن آلة الدعاية الصهيونية القوية برعت في اختراعها.[14] وفي حالات أُخرى كثيرة، فإن الفلسطينيين وغيرهم من العرب، حين يقرّون بالواقع التاريخي للمحرقة، فإنهم إنما يقرّون بها كحقيقة تاريخية صرفة، ومن هذا المنظور، ينظرون إلى المحرقة بعين عدم استحقاقها أي تعاطف مع اليهود، أو بعدم ارتباطها بظروفهم ومصيرهم. وفي أحيان أُخرى، يرونها مجرد حيلة متعمدة لصرف النظر عن معاناتهم، أو كحدث أنتجهم كضحايا أساسيين له. وهكذا، فإن المحرقة والنكبة، كروايتين وطنيتين مهيمنتين، ترسخان الهويات الحصرية داخل المجموعتين، إذ تتنافس كل مجموعة على تصوير كارثتها بعين من الفرادة المفضية إلى تسفيه كارثة الآخر أو حتى إنكارها.
وفي الواقع، ترتبط هاتان الروايتان الوطنيتان بروايتين أعظم كثيراً تبنّتهما الثقافة العالمية المعاصرة. ففي مقالة نُشرت في سنة 2000، رأى المؤرخ تشارلز ماير أن ثمة روايتين متعارضتين تطورتا في نهاية القرن العشرين لتفسير مآلات القرن المنصرم والحداثة بصورة عامة، وأن الكوارث تحضر في قلب تينك الروايتين، وإن تفاوتت طبيعتها بدرجة كبيرة،[15] وأن الروايتين تتسمان بالتناقض الشديد بينهما، بل بمعاداة إحداهما للأُخرى وتنافسهما كذلك: إحداهما رواية المحرقة، والأُخرى رواية ما بعد الاستعمار.
إنه لمن المفارقة، بحسب ماير، أن تمثل رواية المحرقة قصة التقدم: فأوروبا الحديثة تمضي قدماً في تحقيق قيم الإنسانية، والتنوير، والتقدم، والعقلانية، مشيحة بوجهها عن إرثها المظلم، ومتغلبة على غرائزها البربرية. ووفقاً لهذه القصة، تظهر الدولة الديمقراطية الليبرالية الغربية، المحتكمة دستورياً إلى مبادىء حقوق الإنسان والحقوق المدنية، كأكثر التجليات السياسية تتويجاً للقيم الإنسانية الغربية.[16] ولهذا، فإن هذه الرواية تصور المحرقة كانحراف كارثي عن سكة الحداثة الأوروبية، بل كسقطة أفضت إلى الانغماس في البربرية، وهو خطر لا يزال يطارد أوروبا إذا ما سُمح للقوى الرجعية بالظهور والانتشار مرة أُخرى. نخلص هنا بوضوح، إلى أن أوروبا ستبقى بمعزل عن عودة التجارب الكارثية، كالمحرقة، ما دامت تتبنّى القيم الديمقراطية الليبرالية، وتعزز المجتمع المدني، وتخفف من حدة الاتجاهات السياسية الراديكالية. هذه هي الروح التي دفعت أوروبا بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، إلى الاتحاد سياسياً واقتصادياً، وربما نشهد اليوم الأزمة العميقة لهذه الرواية.
على النقيض من ذلك، تحمل قصة ما بعد الاستعمار أهمية أكبر، فهي تبيّن كيف أن الكارثة ما زالت منغرسة في قلب الدولة الديمقراطية الليبرالية وفكر التنوير الحديث. ونتيجة للخطاب العقلاني الحديث، انخرطت الدول الديمقراطية والغرب بصورة عامة في ممارسات عنف جماعي، واستغلال مريع، إلى جانب سياسات إخضاع وقمع وتعذيب وعنصرية، الأمر الذي يشير إلى أن الدولة الديمقراطية الليبرالية، وثقافة التنوير، ليستا بمعزل عن ممارسة مثل هذه الجرائم التي يبتغي الغرب إدخالها إلى دائرة النسيان، بل التنصل من مسؤوليتها. وفي الحقيقة، تنبع الكارثة تحديداً من خطاب التنوير في أوروبا الحديثة، وبالتالي هي الرواية التاريخية الأكثر أهمية ومعارضة، فهي لا تمثل الانحراف الذي يوجب على أوروبا الخشية منه، وإنما هي الشيطان الكامن في صميم الحضارة الغربية الليبرالية الديمقراطية الحديثة التي ارتكبت جرائم سياسية مروعة، ولا تزال تمارسها.
وطبعاً، بالكاد يمكن التوقع أن الروايتين كلتيهما كفيلتان باستيعاب جميع مفاصل التصورات العالمية للماضي، فهما في الواقع اختزال لاتجاهات أكثر تعقيداً. وعلى الرغم من ذلك، فإن ثمة قسطاً وجيهاً من الصحة يحمله طرح ماير، وهو نقطة انطلاق مفيدة للنقاش الحالي. ومثلما ناقشت لويز بيت لحم، وبرهن عمر كامل على نحو مقنع ومستفيض، فإن هاتين الروايتين ستواجهان مصيراً من الاصطدام بينهما حين تُستدعى مسألة فلسطين / إسرائيل، ذلك بأن الرواية الوطنية الفلسطينية تُبنى ضمن الإطار الأوسع للرواية الفوقية المناهضة للاستعمار.[17] فالرواية الوطنية الفلسطينية ترى في الصهيونية، بالدرجة الأولى وفي معظم الحالات، استعماراً استيطانياً حصراً، وفي دولة إسرائيل آخر معاقل الأنظمة الاستعمارية التي استطاعت بفعل ظروف تاريخية محددة مثل المحرقة، التنصل من عملية إنهاء الاستعمار التي اختبرتها بقية دول العالم. لقد وُلدت الصهيونية من رحم الخطيئة الاستعمارية لإعلان بلفور في سنة 1917، وواظبت على اقتراف جميع جرائم الاستعمار الاستيطاني التي تسعى، بطبيعتها وجوهرها، سراً أو علانية، بوعي أو من دونه، للاستيلاء على أراضي السكان الأصلانيين الذين تعرّضوا للطرد، أو حتى للقضاء عليهم.[18]
تُعتبر النكبة في هذه الرواية، مثالاً آخر (وإن كان طويلاً) لجرائم الاستعمار الاستيطاني الأوروبي، في الوقت الذي ساهمت ذاكرة المحرقة في تعزيز التحالف بين الصهيونية والعالم الغربي، والذي أفضى بدوره إلى نزع ملكية الفلسطينيين. وعلى الرغم من خبوّ نجم الخطاب الاستعماري الاستيطاني للرواية الفلسطينية في التسعينيات، والذي يُعزى، بين جملة أمور أُخرى، إلى توقيع اتفاق أوسلو، ونهاية الحرب الباردة، فإنه استعاد بعضاً من الزخم في العقود الأخيرة، يرجع جزئياً إلى تأسيس مجال أكاديمي جديد يسمى الدراسات الاستعمارية الاستيطانية.[19]
وفي المقابل، تختلف الرواية الصهيونية اليهودية تماماً عن النكبة، فهي ترتكز في بنائها إلى الرواية الفوقية عن المحرقة التي أضحت، بدرجة كبيرة، السردية المركزية للغرب برمّته.[20] وتشدد هذه الرواية الفوقية على أن اليهود احتلوا مرتبة الضحايا الأساسيين للنازيين، كتجلٍّ لأكثر أعمال الشر تطرفاً ورعباً في التاريخ الحديث. فقد حلّ القتل الجماعي لليهود تتويجاً لمعاداة السامية الأشد قسوة، والتي مثلت ثمرة التاريخ الطويل من كراهية اليهود في أوروبا المسيحية. وتمخضت عن هذه الكراهية النازية ذات الحدود اللانهائية والوهمية تجاه اليهود – الذين حُمّلوا المسؤولية عن حدوث جميع نوائب العالم وعلله - جرائم إبادة جماعية ممنهجة وشاملة تفتقر إلى أي أساس عقلاني (حتى إن البعض وصفها بكونها منافية).[21] ووفقاً للرواية اليهودية السائدة، فإنه لا نظير لمثل هذا السلوك في تاريخ البشرية على الإطلاق.
وبحسب وجهة النظر الصهيونية، فقد أكد مثل هذه الأحداث الحاجة الماسة إلى دولة يهودية، وهو ما منح الصهيونية تبريراً مقنعاً، فنهض الشعب اليهودي، لاحقاً وبأعجوبة تقريباً، كطائر الفينيق من بين الرماد، منطلقاً من جديد ومباشرة بعد المحرقة، في بناء وطن قومي في فلسطين، على الرغم من المعارضة "غير الأخلاقية" المزعومة لسكان البلد الفلسطينيين والعالم العربي بأسره. واستحال تعبير "من المحرقة إلى الولادة" (meSho’ah le-tekumah) إلى شعار مؤسساتي للوعي الصهيوني، ولا يزال ماثلاً على هذا النحو حتى يومنا هذا. لقد كان إنشاء دولة إسرائيل، في إطار هذه الرواية، أمراً حتمياً ومشروعاً بالنسبة إلى ضحايا النازية، وإلى العالم بأسره - وبالتأكيد إلى المجتمع الأوروبي المسيحي الذي يتحمل مسؤولية كراهية اليهود والمحرقة كذلك، إذ بدا ملزَماً بتقديم دعمه كجزء من تعهّده بالتعويض بعد الحرب العالمية الثانية.
إن الروايتين الوطنيتين المركزيتين لليهود والفلسطينيين روايتان متعارضتان بحد ذاتهما، لكنهما تخدمان في الآن نفسه كنقطة مركزية على صعيد الصدام العالمي بين الروايتين الفوقيتين اللتين عرضناهما. ومثلما أشار عمر كامل مؤخراً، فإن هاتين الروايتين بشكلهما الحالي تبدوان متناقضتين إلى درجة يتعذّر فيها جسرهما.[22]
يهدف هذا الكتاب إلى التحدي أو التخفيف من حدة الثنائية التي تنطوي عليها هاتان الروايتان الرئيسيتان، ساعياً لتجاوز الحدود الثنائية التي تفرضها هاتان الروايتان القوميتان على التاريخ والذاكرة والهوية، بغية التأمل في الروايتين معاً. إننا نقدّم هنا سجلاً آخر للتاريخ والذاكرة؛ سجلاً يحتفي بفرادة كل حدث وظروفه وتبعاته، وكذلك اختلافاته، لكنه يجمع بين الأحداث في إطار تاريخي ومفاهيمي مشترك قادر على معالجة كلتا الروايتين. كذلك نقترح بناءً وإعراباً مختلفَين تماماً للتاريخ والذاكرة، تكون بموجبهما الصيغة المركّبة: "المحرقة والنكبة"، أو "النكبة والمحرقة"، ذات مغزى تاريخي وثقافي وسياسي.
نقصد بالبناء والإعراب الإشارة إلى ترتيب الكلمات والمصطلحات والمفاهيم وضبطها ونشرها كبُنى خطابية تشكل وتحدد آفاق المعنى والخيال وتمثلاتها ومظاهرها الرمزية والمادية. ففي الخطاب المهيمن وصيغته، يُنظر إلى المحرقة والنكبة كصدمات وذكريات غير متناسبة، أمّا في البناء الجديد الذي نقترحه، فتُعتبران متناسبتين، ويُعتبر ارتباطهما على الصعد السياسية والتاريخية والأخلاقية مفيداً ومنتجاً. وبعبارات سيميائية، نحن نرغب في الدفع في اتجاه خطاب تاريخي وسياسي تكون فيه علاقات هاتين الدلالتين دالّة على بعضها البعض عوضاً عن أن تكون مجازية: لا تقمع إحداهما الأُخرى، ولا تنكران بعضهما، بل تعقّل كل منهما الثانية، كجزء من أي قول تاريخي ذي معنى.
وفي اعتقادنا، فإن الرؤية الثنائية الحصرية التي تطرحها الروايات القومية والوطنية التقليدية، الضاربة جذورها عميقاً في تشكيل الهويات الوطنية المتعارضة لليهود والفلسطينيين، وعلى الرغم من قوتها الجبارة في تأدية ذلك، إلّا إنها رؤية متصدعة تاريخياً وضارة أخلاقياً وسياسياً. وبالتالي، سعينا لتجاوز مثل هذه الصيغة الوطنية الحصرية –على المستوى الرمزي للروايات الوطنية والتاريخية، من ناحية، لكن أيضاً (وليس أقل أهمية) على المستوى السياسي - الأخلاقي المتعلق بإحقاق الحقوق الفردية والجماعية لكلا الشعبين من ناحية أُخرى. إن هذا الكتاب، وبالاستعارة من كلمات والتر بنيامين، يهدف إلى "دفع التاريخ بعكس التيار."[23] ومع أن كلمات بنيامين أضحت مبتذلة بدرجة ما، إلّا إنها ملائمة تماماً لمثل هذه الحالة، وتقدم وصفاً دقيقاً لما سعينا لفعله في هذا الكتاب.
وقبل عرض الإطار التاريخي والمفاهيمي للإعراب البديل الذي نقترحه، نودّ معالجة بعض الصعوبات الأساسية الكامنة في أي محاولة للنظر في النكبة والمحرقة معاً.
الصعوبات
يمثل بحث هذه الموضوعات الصادمة والتأسيسية ضمن إطار النظام الوطني الإقصائي، وتحت الظروف الراهنة التي يطغى عليها العداء وعدم التماثل، مهمة عسيرة للغاية لأن الشعبين لا يزالان، وبصورة مباشرة، يقاسيان الصدمات التي خلّفتها المحرقة والنكبة. فهما ما زالا يشكلان جرحاً مفتوحاً لم يلتئم، وأي محاولة لإعادة تشكيلهما على نحو غير اعتيادي سيولّد ردات أفعال متطرفة.[24]
ثمة عدة عوامل إضافية تُبقي البحث في مثل هذه السياقات عسيراً. فالمحرقة، فعلاً، ما زالت تُعتبر حدثاً ينطوي على أبعاد هائلة في التاريخ الحديث، بل يذهب كثيرون إلى أبعد من ذلك بالادعاء أنها حدث فريد أو لم يسبق له نظير.[25] لقد باتت المحرقة لدى اليهود وأجزاء كبيرة من العالم الغربي بمثابة الرمز المطلق للشر والإجرام البشري،[26] كما يرى البعض أنها حدث يمثل "ذاكرة عالمية" ومرجعاً معيارياً للجرائم ضد الإنسانية.[27] وأكثر من ذلك، تنظر الأغلبية العظمى من اليهود الإسرائيليين إلى المحرقة بعين ذرائعية، فيعتبرونها كارثة تبرر موقفهم الصهيوني إزاء إنشاء الدولة القومية اليهودية في فلسطين. ففي أعقاب الحرب، ساد بين اليهود، بمَن فيهم الناجون من المحرقة، شعور يقضي بضرورة تحقيق سيادة صلدة تظللهم في أعقاب المحرقة.[28]
إن إي إنكار للمحرقة أو أبعادها، أو التفوه بتعبيرات معادية للسامية من طرف المفكرين والقادة العرب والفلسطينيين (بما في ذلك، مثلاً، نشر بروتوكولات حكماء صهيون)، أو رفض الوجود السيادي لليهود بحد ذاته، يولّد بين كثير من اليهود غضباً جديراً بالاعتبار، وقلقاً وجودياً يعيد إلى الذاكرة تلك الأحداث المروعة. ولهذا، فإن أي مناقشة عن المحرقة ومقارنتها بحدث آخر، ولا سيما النكبة، عرضة لأن يعتبرها العديد من اليهود اتجاهاً اختزالياً لا نكهة له، بل تسخيفاً مريباً للمسألة من الناحيتين الأخلاقية والسياسية.[29]
وعلى الرغم من ذلك، فإن اليهود، في معظمهم، يعيشون تحت ظروف تاريخية مختلفة تماماً، وأفضل إذا ما قورنت بثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته،[30] غير أن الناجين من المحرقة لا يزالون حتماً يحملون في أجسادهم وأرواحهم ندوب صدمة المحرقة المريعة. ومع ذلك، يعيش اليهود راهناً حقبة مختلفة على نحو لافت للنظر: فإسرائيل دولة قوية وراسخة تتمتع بإنجازات معقولة، وتمتلك ترسانة أسلحة نووية، كما يشكل اليهود إحدى أكثر الجماعات الإثنية نجاحاً في الولايات المتحدة، وما من وجود لمعاداة السامية بالشكل الذي كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية، على الأقل في أوروبا والولايات المتحدة، وعلى الرغم من التحذيرات القاتمة من "معاداة السامية الجديدة" التي هي أقرب ما يكون إلى معاداة السامية في أوروبا ما بين الحربين.[31] ولذلك، فإن اليهود كأفراد ومجموعة منظمة ضمن مؤسسة جماعية (مثلاً، دولة إسرائيل) أبعد ما يكونون عن كونهم وكلاء تاريخيين عاجزين ومغلوبين على أمرهم، مثلما تجسدت صورتهم في الحقبة النازية.
على النقيض من ذلك، يعيش معظم الفلسطينيين في أوضاع حياتية بائسة تتمثل في انعدام الاستقلال والسيادة، والمعاناة جرّاء الاحتلال، والتجزئة، والسلب، وغياب الحقوق. وفي معرض الإشارة إلى المركزية التأسيسية للنكبة في السياسة الفلسطينية، والمجتمع، والذاكرة الجمعية، يدّعي أحمد سعدي أن النكبة أصبحت لدى الفلسطينيين ما أطلق عليها المؤرخ الفرنسي بيار نورا "أماكن الذاكرة" (les lieux de mémoire).[32] فقد أضحت النكبة واقعاً راهناً مستمراً بصورة جلية، إذ لا تزال تبعاتها، وكذلك الأفكار والممارسات الاستعمارية الإقصائية التي تفصح عنها، تتكشف وتُنشر شيئاً فشيئاً، بل تؤثر في الحياة الفلسطينية المعاصرة،[33] كما أن عواقبها من المعاناة والوهن السياسي تمسّ تقريباً الحياة اليومية لكل فرد وعائلة فلسطينية، وكذلك حياة الجماعة الفلسطينية عامة.[34]
إن التباين العميق في سياق هذين الحدثين يجعل المناقشة المشتركة مشحونة للغاية؛ فالفلسطينيون لا يتحملون أي مسؤولية عن المحرقة التي وقعت في أوروبا،[35] في حين أن الصهيونية ودولة إسرائيل ولّدتا بشكل كامل أحداث النكبة وانخرطتا فيها، إذ تسببت الجماعات الصهيونية العسكرية، ثم الجيش الإسرائيلي، بالدمار الفلسطيني في خضم المواجهة التي اندلعت خلال الفترة 1947 - 1948، والتي تجسدت، بين ظواهر أُخرى، في طرد العديد من الفلسطينيين أو نزوحهم، الأمر الذي أسفر عن تحوّل 750,000 منهم إلى لاجئين وقفت دولة إسرائيل منذ انقضاء الحرب سدّاً منيعاً في وجه عودتهم.[36] وأقرّت إسرائيل أيضاً قانون أملاك الغائبين الذي قضى بمصادرة جميع الأراضي والأملاك التي تركها اللاجئون خلفهم، وفرضت الحكم العسكري على المواطنين الفلسطينيين منذ سنة 1948 حتى سنة 1966؛ ولا يزال هؤلاء المواطنون يعانون جرّاء التمييز إلى يومنا هذا.[37] وأحكمت دولة إسرائيل كذلك سلطتها على الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة منذ سنة 1967، عبر نظام احتلالي تمييزي وقمعي يحرم الفلسطينيين من معظم حقوقهم الفردية والجماعية، وبذا تقع المسؤولية الأساسية عن وقوع الكارثة وسياسات التجزئة والمعاناة الفلسطينية على عاتق الصهيونية ودولة إسرائيل. وهكذا، فإن الأحداث الفعلية في سياق فلسطين / إسرائيل تنتج موقعيات سياسية وأخلاقية مختلفة لكل من اليهود والفلسطينيين، ويبدو عسيراً للغاية في مثل هذا السياق المتباين إجراء حوار بين الطرفين قائم على مبدأ الشراكة والتكافؤ.
علاوة على ذلك، وظفت الصهيونية ودولة إسرائيل المحرقة توظيفاً سياسياً باعثاً على التهكم بغرض التنصل من مسؤوليتها إزاء الفلسطينيين، وحرمانهم من حقوقهم الجماعية والفردية.[38] وفي الواقع قام باحثون مثل عديت زرتال، وموشيه تسوكرمان، وأبراهام بورغ وآخرين، باستكشاف هذا الاستخدام الذرائعي للمحرقة على نحو نقدي.[39]
في ضوء ما ذُكر أعلاه، يبدو الأكثر صعوبة اقتراح لغة بديلة للتاريخ على نحو لا يكون فيه بناء الذاكرة والمعاناة وإعرابهما قائمَين على هويات حصرية وعدائية وعنيفة، وإنما خلافاً لذلك سيكونان مساهمَين في إنشاء روايات وطنية بنّاءة أكثر تعقيداً من الناحيتين التاريخية والسياسية، أو حتى الأخلاقية. وهنا، نود اقتراح ثلاثة سجلات: ثقافية، وتاريخية، وسياسية – أخلاقية، تمثل معاً قاعدة لبناء وإعراب جديدين للتاريخ والذاكرة والهوية، وتكون مؤهلة لتحقيق شكل من أشكال المشاركة، وعقد محادثة بين الروايتين تتسم بالتوتر، لكنها ذات طابع منتج في نهاية المطاف. ومثلما ذكرنا آنفاً، فإننا نموضع هذه السجلات المتداخلة ضمن اتجاهات أكبر تعمل على تخفيف حدة التناقض بين رواية المحرقة، ورواية ما بعد الاستعمار. وفي نهاية هذا الفصل التمهيدي، نطرح رؤية فحواها أن مثل هذا الإعراب ربما يرسي حجر الأساس للغة المصالحة التاريخية بين الشعبين، وهي لغة ثنائية القومية مبنية على مبادىء الأخلاق والمساواة، وتحمل إمكان إنهاء الاستعمار، عبر تحويل وتفكيك الامتيازات الاستعمارية اليهودية الراهنة، ووضع حد للهيمنة.
السجل الثقافي: ترحيل الصور والرموز
انغمس الخطاب المناهض للاستعمار في خمسينيات القرن الماضي في الذكريات الحية للمحرقة، وهو ما أطلق عليه ميخائيل روثبرغ الطريقة المتعددة الاتجاهات،[40] وقد حدث مثل هذا الأمر باكراً في تاريخ فلسطين / إسرائيل، لكن على نحو متصل بأحداث سنة 1948. ففي الأعوام التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والمحرقة، شعر كثير من اليهود، وبقوة، بوجود صلة شديدة بين الحدثين، باعتبارهما متقاربين جداً في التوقيت، وجزءاً من كيان واحد على صعيد الصور التاريخية والأخلاقية. فمن جهة، كانت النازية قد أصبحت نموذجاً معيارياً للشر، ومجازاً قوياً عن السلوك المهلك الجامح في أثناء الحرب،[41] ومن جهة أُخرى، أحيت مسألة اللاجئين العرب في سنة 1948 صورة اللاجىء المطارد التي حملها اليهود معهم من أوروبا، سواء حدث ذلك على نحو عابر وعرضي، أو بوعي أو من دونه. وبما أن لغة الرموز كانت لا تزال طاغية منذ الحرب العالمية الثانية ومنذ المحرقة، فيبدو أنها "هاجرت" بشكل طبيعي من أوروبا إلى الشرق الأوسط.
وهنا، تحضر غولدا مئير كأحد أهم الأمثلة لما ذُكر أعلاه. فمئير كانت في الواقع قبل سنة 1948، إحدى أهم قيادات الصقور في فترة الاستيطان اليهودي (الييشوف)، وفي 6 أيار / مايو 1948، وبعد زيارة أجرتها لحيفا العربية، عقب أيام قليلة من احتلالها وطرد السكان العرب ونزوحهم عنها، كتبت مئير إلى الهيئة التنفيذية للوكالة اليهودية أن "ثمة منازل تُركت فيها القهوة وأرغفة الخبز على الطاولة، ولم يكن في استطاعتي تجنّب (التفكير) في أن ما رأيته كان مطابقاً لصورة عدة بلدات يهودية (أي في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية)."[42] لقد كان طرد الفلسطينيين مثار نقاش حاد بين أوساط حزب مبام، وهو حزب صهيوني يساري كان جزءاً من تشكيلة أول حكومة للدولة برئاسة ديفيد بن - غوريون. فمثلاً، كتب إليعازر براي (بيري لاحقاً)، رئيس التحرير لصحيفة "عل همشمار" اليومية التابعة لحزب مبام: "تسللت إلى أذهان أفضل رفاقنا فكرة أنه ربما نستطيع سياسياً تحقيق تجمّعنا في أرض إسرائيل من خلال الهتلرية النازية."[43]
ففي أعقاب الأعمال الوحشية التي اقترفها الجيش الإسرائيلي خلال عملية "حيرام" التي اجتاح بموجبها الجليل الأعلى المركزي، شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنة تحقيق تتألف من ثلاثة أشخاص. وفي اجتماع لمجلس الوزراء المصغر في 17 تشرين الثاني / نوفمبر 1948، قال أهارون سيسلنج ممثل مبام، والذي كان مقتنعاً بأن مؤسستَي الجيش والدفاع تراوغان: "لم أستطع النوم طوال الليل... هذا أمر يحدد شخصية الأمة... لقد ارتكب اليهود أعمالاً نازية أيضاً."[44]
امتد مثل هذه الصور إلى الحيز العام، وظل حاضراً حتى خمسينيات القرن الماضي، وعكس شعوراً فحواه أن مأساة اللاجئين الفلسطينيين تشكل مرآة جديرة بالملاحظة تعكس تماماً محنة اليهود الأوروبيين. وقد عبّر يهوشوع رادلر فيلدمان (المعروف باسمه الأدبي رابي بنيامين) عن وجهة النظر هذه في سنة 1956 ضمن مقالة له بالعبرية تحمل عنوان: "إلى أخينا المتسلل"، نُشرت في مجلة حركة إيحود الصهيونية المنادية بثنائية القومية.[45] فهذه المقالة تمثل نداء وهمياً يعتقد الكاتب بضرورة توجيهه إلى الفلسطينيين الذين سعوا للعودة إلى بيوتهم وقراهم، غالباً بهدف استعادة الأملاك التي تركوها خلفهم. لقد أُطلق على هؤلاء في المعجم الإسرائيلي تعبير (مِسْتَنِنِيم)، أي "المتسللين"، واعتُبروا تهديداً أمنياً، وتم التعامل معهم على نحو قاسٍ وصارم كجزء من جهود الدولة للحيلولة دون عودة اللاجئين إلى بلداتهم وأراضيهم.[46]
غير أن رادلر فيلدمان دعا إلى معاملة هؤلاء "المتسللين" كإخوة والسماح لهم بالعودة إلى منازلهم، حتى إنه طلب من الإسرائيليين مد يد المساعدة على صعيد إعادة إدماجهم. ويبدو مثيراً ملاحظة السجل الدلالي الذي وظفه المؤلف، معلناً: "يجب ألّا يُطلق عليك بعد الآن تعبير (متسلل)، وإنما (صاعد)، لأنك اعتليتَ الخلاص من دون دراية، والذي حملك بدوره على أجنحته." ومن خلال استخدام هذا التصريح، قَلَب رادلر فيلدمان فضاء خطابياً صهيونياً كاملاً رأساً على عقب، فالصاعدون (مَعَفيليم) ضمن الاصطلاح الصهيوني هم في المقام الأول الناجون من المحرقة، الذين وصلوا إلى فلسطين قادمين من أوروبا عقب نهاية الحرب، على الرغم من المنع المنصوص عليه في قانون الانتداب البريطاني. ولهذا، اعتُبرت هجرة هؤلاء غير شرعية، واحتلوا موقعاً مركزياً في الروح الصهيونية الساعية للنضال من أجل الدولة. لقد ساهمت السفن التي كانت تحمل "الصاعدين" (مَعَفيليم) في خدمة الحركة الصهيونية، مُظهرة عبرها عدالة قضيتها والقيود القاسية واللا - إنسانية المفروضة على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، إذ كيف للمرء أن يحول دون وصول الناجين من المحرقة إلى وطنهم الجديد؟ إن تعبير "الصاعد" (مَعَفيل)، وربما أكثر من أي تعبير آخر، يحمل وفقاً للخطاب الصهيوني، تبريراً للصهيونية ذاتها ولإنشاء دولة إسرائيل، أكان ذلك على الصعيد الداخلي أم الخارجي. وقد تموضع رادلر فيلدمان ضمن هذا السياق الخطابي، مقترحاً توسيع نطاق هذا المصطلح المشحون بشدة، والذي أُطلق حصراً في السابق على الناجين من المحرقة الذين وصلوا إلى شواطىء فلسطين، ليمتد إلى اللاجىء الفلسطيني الساعي للعودة إلى منزله بعد النكبة، كي يحظى صعوده بالخلاص التام، الأمر الذي شكّل تحولاً خطابياً عمل على تنحية الخلاص الحصري للصهيونية جانباً، والذي كان قد تحقق على حساب الدمار الفلسطيني.
لم تقتصر هذه الصور على دوائر سياسية مغلقة أو منشورات صهيونية يسارية راديكالية، بل شكلت أيضاً لغة المجال العام والخيال الشعبي بعد الحرب. فمثلاً، وبعد احتلال الجيش الإسرائيلي يافا واللد والرملة، تركز وجود السكان العرب المتبقين في مناطق محددة ومسيجة بالأسلاك الشائكة تتبع حكم القادة العسكريين، وكان كل من العرب واليهود يطلقون عادة تعبير "غيتو" على هذه المناطق.[47] وتغلغل مثل هذه الصور في قلب المخيال الأدبي أيضاً، وهنا يبرز ما تناوله مؤخراً غالي دروكر بارعام، عن كتاب: "في قرية مهجورة" لمندل مان، الذي كُتب بلغة الييديش، ونُشر باللغة العبرية في سنة 1956، كأحد الأمثلة لذلك. فالمؤلف يستكشف الأواصر العميقة التي تجمع المحرقة بالنكبة عبر اقتفاء قصة مجموعة من الناجين من المحرقة، استوطنت قلب قرية عربية مهجورة تسمى "تل المسجد".[48]
ويبرز أيضاً الأديبان سميلانسكي يزهار وأفوت يشورون كأكثر شاهدَين شهرة على هذه الظاهرة، إذ يُعتبر كل منهما حجر أساس في معمار الأدب العبري الحديث. فرواية "أيام صِقلغ" (1958)،[49] التي نال يزهار بموجبها جائزة إسرائيل، وهي الجائزة الثقافية الأرفع في إسرائيل، تعدّ أعظم ما أُبدع من وجهة نظر صهيونية عن حرب 1948. غير أن عملَين آخرين من أعماله، وهما: "السجين" (1948)، و"خربة خزعة" (1949)، يرسمان صورة مختلفة تماماً عن الحرب. ففي "السجين" يروي يزهار قصة أسير فلسطيني بريء أُسر على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي، واستُجوب بشكل عنيف بغرض انتزاع معلومات ليست في حيازته، بينما يعمد في قصة "خربة خزعة" إلى وصف الطرد الوحشي للفلسطينيين من قريتهم. ويستخدم يزهار في كلتا الحكايتين لغة تخلق توازياً جلياً بين العرب والضحايا اليهود في المحرقة من جهة، وبين الجنود الإسرائيليين والألمان من جهة أُخرى.[50]
وربما تُعتبر قصيدة أفوت يشورون ("فيسح هكوخيم") "عيد الفصح في الكهوف" (Passover on Caves) المنشورة في سنة 1952، أهم تعبير عن هذه الظاهرة التي يناقشها أُمري بن يهودا في هذا الكتاب. فعلى خلاف يزهار المولود في رحوفوت، هاجر يشورون وحيداً إلى فلسطين من بولندا / أوكرانيا في سنة 1925، وبمجرد أن حطّت قدماه أرض فلسطين، قطع علاقاته بأسرته التي قُتل جميع أفرادها في المحرقة لاحقاً. وقد ظل هذا التمزق يطارد يشورون طوال حياته، ويُشبع أسلوبه الفريد في الكتابة بمفردات عبرية وييديشية وعربية، محولاً إياها إلى لغة شعرية جديدة تنضح ببناء وإعراب جديدين للغة العبرية. ويربط يشورون ضمنياً في هذه القصيدة، وعلى نحو جلي، بين دمار اليهود الأوروبيين ودمار السكان العرب في فلسطين، لتثير القصيدة حينها عاصفة كبيرة من الجدل. وفي سنة 1958 نشر يشورون قصيدة أُخرى بعنوان "التفكير" أوضحت موقفه، وتتضمن الأسطر التالية: "محرقة يهود أوروبا ومحرقة عرب أرض إسرائيل هما وجه واحد لمحرقة الشعب اليهودي، وكل منهما يحدق مباشرة في وجه الآخر. هذه هي كلماتي." لم تُكتب من قبل باللغة العبرية كلمات ذات صدى وأقوى عن هذه الموضوع، وبحسب حنّان حيفر ومايكل غلوزمان، فإن التزاماً عميقاً بالتعاطف حدد الأساس الأخلاقي لموقف يشورون، والذي مثّل بحسب الأخير أسلوب تعبير مستقى من الأخلاق اليهودية التقليدية في الشتات.[51]
ومع ذلك، نود التشديد على أن جميع التصريحات التي استشهدنا بها لا تعبّر عن الرغبة في تحمّل المسؤولية السياسية والأخلاقية عن النكبة، وعواقبها المأسوية الواقعة على الفلسطينيين، أو حتى تبنّي وجهة نظر نقدية إزاء الممارسات الإسرائيلية العنيفة في سنة 1948، بل إنها تمثل طيفاً واسعاً للغاية من المواقف الأخلاقية والسياسية، بدءاً بيهوشوع رادلر فيلدمان وأفوت يشورون، اللذين سعيا لتحميل اليهود مسؤولية النكبة، واتخذا تعبيرات شعرية أو سياسية كاملة، مروراً بيزهار الذي كان عضواً في الكنيست لعدة سنوات (1949 - 1967) ممثلاً عن حزب العمل الحاكم، وكان يسكنه شعور بالذنب أكثر من كونه إيحاء بتطهير نرجسي للعواطف، وصولاً إلى غولدا مئير التي كانت تفتقد شعور يزهار بالذنب؛ فهي بالكاد عبّرت عن صدمتها الأولية تجاه بعض الأشياء التي شاهدتها بأمّ عينيها في حيفا المحتلة حديثاً. غير أن القاسم المشترك بين هذه التصريحات كلها يتمثل في الظاهرة الثقافية التي رُبطت عبرها (على المستوى اللغوي على الأقل) الدلائل المتعلقة بالمحرقة والحرب العالمية الثانية، على أرضية واقع سنة 1948 - 1949 في فلسطين / إسرائيل، الأمر الذي يخلق أو يعبّر عن فضاء مشترك يصل الحدثين أحدهما بالآخر، أو حتى يرسم أوجه التماثل بينهما، كأحد أشكال الذاكرة المتعددة الاتجاهات. ومثلما تقترح يوخي فيشر في مشاركتها في هذا الكتاب، فإن مثل هذا الخطاب الذي ربط حدسياً بين المحرقة والنكبة، وتدفَّق مباشرة من روح الزمن (مدركاً تماماً العنف، والطرد، والنزوح الذي أعقب الحرب العالمية الثانية)، كان شائعاً في أوساط اليهود الإسرائيليين في الخسمينيات، لكنه ما لبث أن أخذ يتلاشى في العقود اللاحقة بشكل كبير.[52] وفي المقابل، بدأ مثل هذا الخطاب يلمع نجمه في أوساط المثقفين الفلسطينيين منذ ستينيات القرن الماضي.[53]
تحلل هنيدة غانم، في مقالتها المتضمنة في هذا الكتاب، قصيدة راشد حسين القابعة غالباً في طي النسيان "الحب والغيتو" (1963)، والتي تتسم بالروعة، وهي قصيدة تتعامل مع "الحوار" بين المحرقة والنكبة. غير أن المثال الأكثر شهرة يعود إلى رواية "عائد إلى حيفا" (1969)، التي كتبها غسان كنفاني، أحد أبرز الكتّاب الفلسطينيين في عصره، وعضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والذي اغتيل على يد عملاء الاستخبارات الإسرائيلية في بيروت. لقد جمع كنفاني في روايته بين عائلتين: إحداهما من الناجين من المحرقة، والأُخرى عائلة من اللاجئين الفلسطينيين، والقصة هي عن زوجين فلسطينيين من رام الله يذهبان بعد حرب 1967 وإزالة الحدود بين الضفة الغربية وإسرائيل، لزيارة منزلهما الذي نزحا عنه في حيفا في سنة 1948، فيجدان أن البيت تسكنه امرأة يهودية مسنّة جاءت من أوروبا برفقة زوجها في أعقاب المحرقة، بعدما استولت سلطة الدولة الجديدة على المنزل. أدخلت المرأة اليهودية المالكَين السابقين إلى المنزل حيث دار بينهم حوار متشنج تخللته عبارات متعاطفة، وناقش فيه الزوجان مسألة ملكية المنزل (وموضوع الملكية بصورة عامة) والحقوق التاريخية. وفي أثناء الحوار، بدأت تتكشف حقيقة أُخرى: أخذ الزوجان اليهوديان الطفل الذي تركه الزوجان الفلسطينيان خلفهما عندما نزحا عن المدينة خلال القتال، وقاما بتربيته، وقد أصبح جندياً في الجيش الإسرائيلي، وسيخوض صراعاً مباشراً مع الهوية الفلسطينية لوالديه البيولوجيين. تصل الرواية إلى طريق مسدود، وتُختم بلسان الأب سعيد الذي يعلن أن الحرب وحدها قادرة على حل الموقف، ويعرب عن أمله بانضمام ابنه الآخر إلى صفوف حركة التحرير الفلسطينية.
تنتهي هذه الرواية القصيرة، المرتكزة على القصة التوراتية لحكم سليمان (سفر الملوك الأول، الإصحاح 3، الآيات 16 - 28)، وعلى المسرحية الشهيرة لبرتولد بريخت "دائرة الطباشير القوقازية" (1948)، بطريق مسدود وبتأكيد وجوب وقوع الحرب مجدداً، ومع ذلك، فإن الرواية نفسها تمنح كلا الطرفين صوتاً إنسانياً. وحقاً إذا كان الطفل الذي تتشاركه العائلتان هو تعبير مجازي عن فلسطين، فإن مشكلات الأبوة والملكية التي أثيرت في الرواية – مثلما في مسرحية بريخت - أبعد ما تكون عن البساطة. إنها قصة الإنسانية والعدالة والتعاطف تحديداً، وهي الخصال التي أظهرها المؤلف لكلا الجانبين، لكنها تضيء أيضاً على تعذّر فضّ النزاع، إذ إننا لسنا أمام طرف عادل وآخر غير عادل، وإنما بين مأساتين بشريتين وتاريخيتين لم تُحلّا، الأمر الذي يفسر وجوب حمل الجانب الفلسطيني السلاح لاستعادة ما سُرق منه. إن خاتمة القصة مأسوية وعنيفة، مع أن الرواية نفسها تطرح رؤية معقدة ومتشابكة للتاريخين.
ثمة مثقف آخر ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالحركة الوطنية الفلسطينية، وأحد الذين ساهموا في هذا الكتاب، وقد عالج بشكل مكثف في أعماله التقارب بين المحرقة والنكبة، وهو الأديب اللبناني إلياس خوري. وهذا التقارب يشكل الثيمة الرئيسية لروايته "باب الشمس"[54] التي نُشرت باللغة العربية في سنة 1998 في الذكرى الخمسين للنكبة ونشأة دولة إسرائيل، والتي ارتكزت على قصص عديدة جمعها خوري من اللاجئين في مخيمات لبنان، وتناولت النكبة وتجربة اللجوء لدى سكان الجليل الفلسطينيين. يطرح الكتاب رواية وطنية بديلة من الرواية الشعبية للنضال الفلسطيني، وهي رواية تتشظى إلى الصدمة وتعددية الأصوات، ولا تركز على البطولة الثورية، بقدر إضاءتها على واقع الهزيمة والصدمة. يشير خوري إلى المحرقة اليهودية عبر شخصية سيدة يهودية هاجرت من ألمانيا إلى فلسطين، ووقعت في حب فلسطيني مسلم، لتتحول إلى الإسلام بغرض الزواج منه. انتقل الزوجان لاحقاً إلى غزة حيث قضيا حياتهما، غير أن المرأة تعود إلى جذورها اليهودية، وهي على فراش الموت، وتوصي بدفنها في مقبرة يهودية في ألمانيا، كما تجمع الرواية بين ممثلين عن كلتا العائلتين في إثر هذا النزاع. سنعود لاحقاً إلى "باب الشمس"، لكن تجدر الإشارة إلى أحدث أعمال خوري "أولاد الغيتو - اسمي آدم"، والتي نُشرت باللغة العربية في سنة 2016، وبالعبرية في سنة 2018،[55] وقد ناقشها رائف زريق،[56] ويهودا شنهاف، ورفقة أبو رميلة في هذا الكتاب. تسلط هذه الرواية الضوء على مواضع التقاطع اللغوي بين المحرقة والنكبة، وتروي قصة النكبة في اللد والمذبحة التي ارتُكبت هناك، عبر انعكاسهما في اللغة والمصطلحات المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقصة المحرقة اليهودية. وإلى جانب الشخصيات الأدبية التي ناقشناها أعلاه، قد نضيف الشاعر الفلسطيني محمود درويش وأدباء مثل سوزان أبو الهوى وربعي المدهون الذين عالجوا العلاقة المتصلبة التي تجمع المأساتين إحداهما بالأُخرى.[57]
أمّا إدوارد سعيد فيؤكد العلاقة المعقدة بين التاريخين والنسيج الضيق للذاكرتين الصادمتين، حتى إنه يذهب بعيداً في اقتراح مقاربة تمكّننا من تجاوز العنف المحتوم الذي أشار إليه كنفاني. لقد وضع سعيد، في عدد من أعماله، وخصوصاً "مسألة فلسطين" (1979)، و"فرويد وغير الأوروبيين" (2003)، إطاراً مفاهيمياً لمثل هذا الفكر المشترك. فعلى سبيل المثال، جاء في كتابه "مسألة فلسطين":
كان حظ [الفلسطينيين] سيئاً بصورة لافتة جداً لافتقارهم إلى الوضعية الجيدة لمقاومة الغزو الاستعماري لوطنهم، والمرتبط – وفقاً للاصطلاحات الأخلاقية والدولية – بأكثر الخصوم تعقيداً على المستوى الأخلاقي، وهم اليهود الذين يحملون تاريخاً طويلاً من الملاحقة والترويع. لقد جرى تخفيف الخطيئة المطلقة للاستعمار الاستيطاني بشكل كبير، بل ربما تبديدها، عندما يتعلق الأمر ببقاء يهودي متوهج الإيمان يستخدم الاستعمار الاستيطاني لتصويب مصيره.[58]
تُعتبر مناقشة سعيد كتاب "فرويد وغير الأوروبيين" مثالاً للتطور الأكثر اكتمالاً لمحاولته معالجة الصدمتين، إذ أقدم على مناقشة الهوية اليهودية المعقدة لسيغموند فرويد مثلما تظهر في عمله الأخير والمثير للجدل، "موسى والتوحيد"، والذي كتبه في ثلاثينيات القرن الماضي ونُشر قبل وفاته بفترة قصيرة في منفاه في لندن في سنة 1939. فمن جهة، يشير سعيد إلى الاستشراق والمركزية اليهودية الأوروبية لفرويد ورغبته في تعريف هويته كجزء لا يتجزأ من أوروبا، بينما يلاحظ من جهة أُخرى، إصرار فرويد على تشكيل جذور التاريخ اليهودي انطلاقاً من "الآخر" المتجسد في شخصية موسى المصري – وذلك تحديداً في ضوء الصعود النازي إلى السلطة في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي واضطهاد اليهود (بما يشمل فرويد نفسه، الذي بالكاد استطاع الهرب مع عائلته من فيينا إلى إنجلترا في سنة 1938 عقب الغزو النازي للنمسا). فوفقاً لقراءة فرويد، تنطلق بدايات اليهودية من خارج نفسها، وبالتالي تتسبب بضعضعضة كبيرة للثنائية المنسوجة بين الداخل والخارج في الهوية اليهودية (وهي ثنائية تميل إلى الهيمنة على الهويات القومية، وخصوصاً في أوقات الصراع). وهذا طبعاً ينطوي على تداعيات بعيدة المدى بما يتعلق بالعلاقات بين اليهود والفلسطينيين في فلسطين / إسرائيل.
يجمع سعيد، من خلال قراءته لفرويد، بين روايتين فوقيتين أوروبيتين: رواية الاستعمار الأوروبي عامة، والاستعمار الاستيطاني خاصة، ورواية المحرقة ومعاداة السامية الأوروبية. وفي رأينا، فإن مناقشة التقارب بين هذين الإطارين المفاهيميين توفر الإطار الحتمي والأكثر ملاءمة للخطاب المشترك بشأن المحرقة والنكبة، كما أن استكشاف السياق الأوسع للعنف السياسي الحديث الناشىء عن التقاء القومية والإمبريالية والاستشراق والاستعمار يؤمّن أرضية تاريخية مثمرة تمكّننا من فهم العلاقة المعقدة التي تجمع المحرقة بالنكبة.
السجل التاريخي العالمي: المحرقة والإطار الاستعماري
لاحظت أناهيد الحردان ما يلي: "أضحت النكبة مستساغة باللغة الإنجليزية، فقط بعدما أقرّ بها (المؤرخون الجدد) الإسرائيليون، الذين اقتصرت معرفتهم (الجديدة) على تبيان ما قام به المثقفون، والمؤرخون، والقادة السياسيون، والناشطون العرب منذ سنة 1948، بشأن جملة علاقات القوة الاستعمارية."[59] وفي الواقع، كثيراً ما جادل المثقفون والقادة السياسيون الفلسطينيون والعرب منذ نشأة الصهيونية في فلسطين بضرورة وجوب فهمها ومعاملتها ضمن سياق المشروع الاستعماري والإمبريالي، إذ لا يمكن فهم الاستيطان الصهيوني في فلسطين، إلى جانب تأسيس دولة إسرائيل والممارسات العنيفة التي توظفها، خارج إطار سياق الاستعمار الاستيطاني الأوروبي.[60]
لقد ارتبطت الصهيونية على نحو وثيق بالإمبريالية البريطانية وتأثرت بها كثيراً، وكذلك بالإمبريالية الفرنسية في الشرق الأوسط بدرجة ما، إذ استمدت كثيراً من اصطلاحاتها من معجم المستشرقين والاستعمار (مثلاً، تأسيس مستعمرات أوروبية يفترض بها نشر التقدم - أكان اشتراكياً أو رأسمالياً - في منطقة يتصوّرها المخيال الأوروبي على أنها متخلفة). كما أنه يمكن تفسير أساليب السيطرة والقمع والطرد والتدمير التي وظفتها دولة إسرائيل لاحقاً، إلى جانب سلب الأراضي ونهبها، ضمن سياق الاستعمار الاستيطاني الأوروبي على نحو كبير.[61] فالإمبريالية الأوروبية عامة، والاستعمار الاستيطاني خاصة، يوفر إطاراً مرجعياً ضرورياً ومهماً لفهم الصهيونية ونضالها ضد سكان فلسطين العرب الأصلانيين.
ومع ذلك، لا يمكن للإطار الذي يطرحه النموذج الاستعماري أن يكون بمثابة الإطار الحصري والشامل لمجمل أوجه النزاع العربي - الإسرائيلي وتطوره، بل يجب دراسة الصهيونية ودولة إسرائيل في سياق التاريخ الداخلي لأوروبا، حين بدأت "المسألة اليهودية" تتحول إلى مبعث قلق حقيقي في شتى أرجاء القارة، في أواخر القرن التاسع عشر، حتى النصف الأول من القرن العشرين، حين تطورت ونمت بشدة. وساهم ظهور القومية الحديثة - وتداعيات تفكك النظام القديم القائم على إمبراطوريات عظمى متعددة الإثنيات والأجناس، وإنشاء دول قومية جديدة - في ضعضعة قدرة اليهود على نحو ملحوظ على البقاء في قارة قطنوها على مدار ألف سنة، وإن لم يكن ذلك دائماً في ظل ظروف جيدة. فكثيراً ما سعت الدول القومية لفرض أقصى مدى من التجانس الداخلي، في الوقت الذي كان يصوَّر اليهود على نحو متزايد كعنصر مختلف ومعضلة، حتى عندما بذل كثيرون منهم قصارى جهدهم للاندماج. ففي ألمانيا، استطاع اليهود، وبشكل يتخطى أي مكان آخر في أوروبا، إحراز قدر من التحرر، لكنهم قوبلوا في نهاية المطاف بسياسة نبذ تحققت بأكثر الطرق إجراماً،[62] إذ كان جزء معتبر من السكان الألمان يرفض اعتبار اليهود جزءاً لا يتجزأ من "الشعب الألماني" أو"الكيان السياسي الألماني"، وذلك حتى قبل تقلّد النازيين سدة الحكم. فخلال تشكيل الدولة الألمانية الحديثة، التي بلغت أوجها في سنة 1871، أصبح "اليهودي" هو الآخر الذي أتاح للألمان تعريف هويتهم كضد له.[63] وجرت عمليات مماثلة لذلك في كل من بولندا ورومانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وفرنسا، وغيرها من الدول الأُخرى في القارة،[64] على الرغم من تباينها على نطاق واسع في طبيعتها وشدتها، نظراً إلى الاختلافات السياسية والتاريخية، بَيد أن هذه النزعات عبّرت عن نفسها بأشكال عنيفة.
طرحت الصهيونية حلّها الخاص لـ "المشكلة اليهودية" التي اعتُبرت قضية ملحّة عايشها كل يهودي بصورة ملموسة، وفي المقابل، قُدّمت حلول سياسية أُخرى، تنافست بدورها على جذب قلوب الجماهير اليهودية في كل من أوروبا الشرقية والغربية. إلّا إن المحرقة غيرت المشهد كلياً، إذ اعتبر كثير من الناجين، بجانب يهود آخرين ونسبة معتبرة من الرأي العام الغربي، أن جميع الحلول الشتاتية أخفقت، في حين ظفرت الصهيونية وحدها كأيديولوجيا رابحة. لقد رغب كثيرون من الناجين في إنشاء دولة خاصة بهم، وفي تحقيق قوة سياسية وعسكرية مستقلة تتمثل في دولة قومية يهودية، بينما سعى آخرون لتجنب الحرب فقط.[65]
بتحديد أكبر، حُلّت مشكلة اللاجئين التي ابتُليت بها أوروبا بعد الحرب، بشكل كبير، من بوابة العودة إلى الوطن، إذ عاد ملايين اللاجئين إلى أوطانهم الأم، غير أن مئات الآلاف من اللاجئين اليهود، ومعظمهم من أوروبا الشرقية، رفضوا العودة إلى أوطانهم الأم، لأن معاداة السامية ما زالت مستمرة في أماكن كثيرة بعد الحرب. وغالباً ما قوبل الناجون العائدون إلى أوطانهم بسلوكيات عدائية صريحة، بل بمجازر إثنية كتلك التي حدثت في كيليس، في بولندا، في تموز / يوليو 1946، والتي راح ضحيتها 42 يهودياً. نتيجة ذلك، حزم العديد من اليهود أمتعتهم وغادورا أوروبا، وتجمعوا في مخيمات النازحين في ألمانيا، على نحو أدام مشكلة اللجوء واعترض سبيل الانتعاش الأوروبي، الأمر الذي خلق ضغطاً سياسياً حقيقياً لإيجاد حل لليهود خارج أوروبا، في فترة لم تكن الدول في جميع أنحاء العالم تتطلع إلى استيعاب لاجئين في كنفها. لذلك، بدا الحل الصهيوني حلاً معقولاً لمشكلة اللاجئين اليهود في أوروبا في فترة ما بعد الحرب، وربما مثّل هذا دافعاً إلى إصدار قرار الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947، والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وأُخرى عربية.[66] عارض العرب خطة التقسيم - التي رأوها داعمة للاستعمار الصهيوني والتدخل الإمبريالي في الشرق الأوسط العربي - كما عارضوا على نحو خاص منحَها اليهود أكثر من نصف الأراضي على الرغم من كونهم يشكلون أقلية سكانية في فلسطين.[67] وفي النهاية، أفضى رفض استعمار فلسطين وتقسيمها، علاوة على العنف الذي اندلع قبل خطة التقسيم وبعدها، إلى إقامة دولة إسرائيل وحلول النكبة الفلسطينية.
تأسيساً على ما سبق، يجب النظر إلى الصراع العربي - الإسرائيلي، مثلما ذكرنا آنفاً، كموقع تصطدم فيه المحرقة بتواريخ ما بعد كولونيالية، بل تتحد معها.
لكن ثمة ما هو أكثر من ذلك. فروايات المحرقة والاستعمار الأوروبي ترتبط ارتباطاً تاريخياً عميقاً، ووحده المنظور العالمي للعنف السياسي الذي مورس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعلى مدار القرن العشرين، يستطيع طرح سياق ملائم لذلك. وقد رسخت المعرفة التاريخية، وعلى نحو مقنع وطوال العقدين الماضيين، تلك المقاربة عن طريق صوغ أواصر وثيقة بين العنف النازي الراديكالي والعنف الاستعماري والإمبريالي من ناحية، وعبر ربط هذا العنف النازي بعنف الحركات الوطنية والدولة القومية من ناحية أُخرى.[68]
في مطلع سنة 1942، كتب كارل كورش، الفيلسوف الماركسي الألماني الذي فر إلى الولايات المتحدة في سنة 1933: "حداثة السياسة الشمولية... هي ببساطة أن النازيين طبقوا على الشعوب الأوروبية (المتحضرة) الأساليب التي كثيراً ما جرى تخصيصها لـ (السكان الأصلانيين) أو (المتوحشين) الذين يعيشون خارج ما يسمى الحضارة."[69] وأبدى إيميه سيزار فكرة مماثلة، مجادلاً في سنة 1955 أن ما كان يميز هتلر أنه "طبق على أوروبا إجراءات استعمارية كانت قد كُتبت حينها لسكان الجزائر العرب، و(مهمّشي) (coolies) الهند، و(زنوج) أفريقيا."[70]
وتمكنت حنة أرندت في كتابها أصول التوتاليتارية (1951) من وصف هذه العلاقة بين العنف الاستعماري - الإمبريالي والحل النهائي بصورة منهجية، وهو ما حُسب لها السبق فيه، وبات كتابها هذا هو المؤلّف الثالث الذي يستشكف "الجذور" الإمبريالية للنازية.[71] وقد تم بشكل كبير تجاهل اتجاه البحث هذا، غير أنه مع أواخر التسعينيات، عاد ليحتل مكاناً مركزياً، إذ في الواقع، يبدو عسيراً عدم ملاحظة الأثر المباشر للعنف العنصري الذي نما في السياقات الاستعمارية، في تطور الأيديولوجيات والممارسات الإجرامية في أثناء حقبة المحرقة.
وكأي حدث تاريخي، فإن الحل النهائي المتمثل في إبادة يهود أوروبا، يحمل بعض السمات المحددة والفريدة، وهو من دون شك نتج من إصرار النازية المعادية للسامية على القضاء على جميع اليهود في أوروبا، كما أنه شكّل جزءاً من العنف الراديكالي الذي وظفته ألمانيا النازية في الأراضي الشرقية التي احتلتها، والتي رأت بوضوح أنها أراضٍ استعمارية تمكنت من حيازتها في أثناء عملية التوسع الإمبراطوري بحثاً عن "حيز حيوي" (Lebensraum) للشعب الألماني "الآري العرق". وقد اندلع العنف النازي شرقاً مباشرة فور إحكام القوات الألمانية سيطرتها على بولندا، حين طُرد اليهود والبولنديون بغرض استيعاب الألمان "العائدين" من أجزاء أُخرى من أوروبا، وتموضعت في قلب هذه الخطة سياسة إنشاء مستعمرات ألمانية على مدار الشرق، وصولاً إلى جبال الأورال. ووفقاً لعملية الاستعمار هذه، جرى التخطيط لإبادة عشرات الملايين من السلاف، إمّا قتلاً، وإمّا جوعاً، بل أيضاً لاندثار شعوب برمّتها من على وجه البسيطة. وقارن هتلر مشروعه بمشروع الاستيطان الأوروبي في أميركا الشمالية، والذي قضى بدوره على الأعراق المحلية "الدونية"، مقيماً على أنقاضها حضارة متقدمة ومزدهرة. هذه هي الشروط التي رأى هتلر بعدستها الاستعمار الألماني في أوروبا الشرقية.[72]
نذكر مثالاً واحداً في هذا السياق، فخلال الفترة الممتدة من صيف سنة 1941 حتى ربيع سنة 1942، وهي الفترة التي بدأ فيها الحل النهائي يتبلور، أولاً في أوروبا الشرقية، ثم في الغرب على نحو متدرج، قُتل أكثر من ثلاثة ملايين أسير حرب سوفياتي، أو جرى تجويعهم حتى الموت.
هذه المعاملة الإجرامية كان أساسها التصور النازي للحملة الشرقية، كحرب إبادة أيديولوجية واستعمارية، وكذلك النظرة العنصرية إلى الشعوب السلافية على أنها "دون البشر" (untermenschen). ومن هذا المنطلق باتت الجمعية العامة للأمم المتحدة مبرّرة في تعريفها للمحرقة كحدث "نتج منه مقتل ثلث الشعب اليهودي، إلى جانب أعداد لا تُحصى من أفراد الأقليات الأُخرى."[73]
وقد تناول الباحثون الذين درسوا الصلات التي تجمع بين حالات شتى من الإبادة الجماعية الاستعمارية وبين الحل النهائي، هذا السياق المهم، كما تناولوا الجوانب الفريدة لبعض الظواهر ذات الصلة.[74] وكأي سياق ينطوي على علاقات سببية، فإن السياق الاستعماري بمفرده لا يُعتبر كافياً للدراسة والتحليل، الأمر الذي يوجب ربطه بعوامل أُخرى، لكنه من دون شك يُعدّ أحد أهم هذه العوامل.
وإذا ما نظرنا إلى مثل هذا التوسع الاستعماري لإمبراطورية ما، من منظور أوروبي أو عالمي رحب، مبنيّ على قومية عنصرية (völkisch) قوية أو وعي إثني وطني، ويضم في طياته عمليات طرد جماعي - يصل أحياناً إلى حد التطهير العرقي أو حتى الإبادة الفعلية - فيمكن القول إن مثل هذا التوسع كان قد جرى تحقيقه على يد شعوب أُخرى، في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، والحصيلة كانت عدة ضحايا من اليهود وغيرهم.
تُعتبر حالة المجر، مثلما صورها راز سيغال مؤخراً، مهمة ومثمرة، فقد خطت المجر القومية التي كثيراً ما حلمت بـ "المجر الكبير"، خطى ألمانيا نفسها التي حلمت أيضاً بـ "الإمبراطورية الألمانية الكبرى"، وإن حملت أبعاداً أكثر اعتدالاً. وكجزء من هذا الطموح الإمبراطوري، أحكمت المجر قبضتها على روثينيا الكارباتية (Carpathian Ruthenia) التي كانت آنذاك جزءاً من تشيكوسلوفاكيا، وكانت منطقة حدودية تعيش فيها أقلية إثنية مجرية، الأمر الذي حثّ على ممارسة سياسات متنوعة من التمييز والاضطهاد والطرد، وصولاً إلى سياسات قتل استهدفت الجماعات غير المجرية، بمَن فيها اليهود. فغالباً ما شكلت هذه الجماعات تهديداً، حتى إنها شُملت في السياق ذاته مع اليهود –كالغجر الذين يُعتبرون مثالاً حياً لذلك. ولهذا، هدفت الدولة إلى إزالة الجماعات غير المجرية، وتحويل المنطقة ديموغرافياً إلى أغلبية مجرية، بَيد أن هذه السياسة، ولعدة عوامل، حققت نجاحاً محدوداً للغاية. وحين غزت ألمانيا المجر في آذار/ مارس 1944، وطالبت بترحيل جميع اليهود المجريين إلى معسكرات الاعتقال في أوشفيتز، أُتيحت للدولة المجرية "فرصة ذهبية" كان لزاماً عليها اقتناصها لتخليص نفسها من يهودها كلهم، والذين صُوّروا كعائق يحول دون تحقيق تجانس الدولة المجرية، ولا سيما في المناطق الحدودية. ولهذا، وافق المجريون بمحض إرادتهم على الطلب الألماني، وليس نتيجة الضغط الألماني، وإنما لأنهم اعتبروا هذا الأمر ضمن مصلحتهم الوطنية، فتكفّلوا بشكل كامل بتجميع اليهود وسوقهم وترحيلهم إلى معبر كاسا (Kassa) الحدودي حيث سلّموهم إلى الألمان المسيطرين على القطارات التي ستقلّهم إلى أوشفيتز، وتجدر الإشارة إلى أن أغلبية لا يستهان بها من المرحّلين كانت من المناطق الحدودية. وفي مثل هذه الحالة، التقت السياسات الاستعمارية المجرية والإمبريالية بالأيديولوجيات المعادية للسامية، ليتمخض عنها عنف متعدد الطبقات ضد اليهود والأقليات الأُخرى، من أجل خلق دولة قومية "عظيمة" متجانسة. وهكذا، تحالفت هذه الديناميات مع المطالبة النازية بطرد اليهود.[75]
امتدت موجات الصدمة الناتجة من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي العنيف، والتي ارتبطت بمطامح الدول القومية في التجانس العرقي - الديني والهيمنة الإمبريالية، إلى ما هو أبعد من أوروبا. وكان لحنّة أرندت السبق في تناول هذه الظاهرة، إذ ربطت العنف النازي ضد اليهود بإطار الدولة القومية المشغولة دوماً بتحديد مَن ينتمي إليها، ومَن يجب إقصاؤه، وبالتالي، فإن الأقليات تحولت إلى "مشكلة" تستلزم حلاً عاجلاً. وهنا، يجدر الاستشهاد بأرندت بشأن هذه المسألة:
إن حل هتلر للمسألة اليهودية، بجميع مراحله، وأوّلها تصوير اليهود كأقلية غير معترف بها في ألمانيا، ثم سوقهم عبر الحدود كأشخاص عديمي الجنسية، وانتهاء بإعادة تجميعهم مجدداً من كل مكان لشحنهم إلى معسكرات الإبادة، قدّم لبقية العالم برهاناً دامغاً على كيفية "تصفية" جميع المشكلات المتصلة بالأقليات وعديمي الجنسية. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، باتت المسألة اليهودية التي كثيراً ما اعتُبرت المعضلة الوحيدة المستعصى حلّها، محلولة بالفعل – وأساساً عبر الأراضي المستعمرة أو التي جرى الاستيلاء عليها – بَيد أن هذا لم يشكل حلاً لمشكلة الأقليات أو عديمي الجنسية. بل على العكس من ذلك، وعلى غرار جميع الأحداث الأُخرى في عصرنا الراهن، فإن حل المسألة اليهودية أفرز فئة جديدة من اللاجئين العرب، رفعت عدد عديمي الجنسية ومجرّدي الحقوق بنحو 700,000 أو 800,000 شخص. وما حدث في فلسطين تكرر لاحقاً في الهند، لكن على نطاق واسع ضم ملايين البشر، فمنذ معاهدتَي السلام لسنتَي 1919 و1920، رأى اللاجئون وعديمو الجنسية أنفسهم لعنة على جميع الدول المقامة حديثاً على هيئة الدولة القومية.[76]
ثمة اختلافات هائلة بين إبادة اليهود وترحيل الشعوب والتطهير العرقي، في الوسائل التي اتّبعتها الحركات القومية الحديثة والدول القومية، والتي أشبعت فيها رغبتها الأساسية في تحقيق التجانس العرقي، لكن ثمة ديمومة مفاهيمية وتاريخية تربط بين هذه الوسائل، سواء صيغت وفقاً لاصطلاحات العرق، أو الدين، أو الثقافة، أو الأصل الإثني. فقد تحوّل اللاجىء الذي يُعتبر ضحية رغبة الدولة القومية في تحقيق التجانس، إلى رمز بائس محروم من حقوقه في ظل هذه النزعة السياسية الوحشية، وهي نزعة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوسع الاستعماري الذي يُعدّ أيضاً إحدى الميزات النموذجية التي يتسم بها كثير من الدول القومية الحديثة.
وبهذا المعنى، ومع أن النكبة تمثل حدثاً فريداً من نوعه، إلّا إنها تنتمي إلى التاريخ الحديث والعالمي نفسه للإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي تمثل المحرقة (حدث فريد كذلك) جزءاً منه – وربما الجزء الأكثر قسوة ووحشية، كما أن النكبة مثلت العاقبة المحتومة المتعذر تجنبها، كونها نتاجاً لالتقاء مقوّمَين جوهريين للصهيونية هما الإثنية القومية الشوفينية والاستعمار الاستيطاني. فقد تطلّب تعزيز إثنية قومية حصرية وفرض أغلبية يهودية والسيطرة على فلسطين، من طرف تيارات صهيونية رئيسية، ودولة إسرائيل لاحقاً، استخدام سياسات وممارسات استعمارية إقصائية، سعت بشكل محموم لنزع العروبة عن فلسطين وتطهيرها عرقياً، وهي التي غالباً ما حملت صبغة عربية على مدار مئات الأعوام. ووفقاً للاصطلاحات التاريخية، فإن الحدثين اللذين يحمل أحدهما اختلافاً جذرياً عن الآخر، وتحديداً في مدى الإجرام الذي ينطويان عليه (من دون أن يشكل هذا الوجه الحصري للاختلاف) – يستوجب النظر إليهما على الأقل جزئياً ضمن إطار عالمي مشترك للعنف ناتج بدوره من قومية قوية متصلة بأيديولوجيا وسياسات إمبريالية واستعمارية.[77] وبطبيعة الحال، يتعذر على هذا الإطار السياقي تفسير جميع هذه الأحداث، مثلما يتعذر عليه تفسير حالات أُخرى عديدة من التطهير العرقي الكامل أو الجزئي والإبادة الجماعية المتعلقة به. غير أنه في الوقت نفسه، يبدو صعباً فهم مثل هذه الأحداث - بما يشمل المحرقة والنكبة - من دون إطار سياقي أوسع يربطها، وهو ما ربما يشكل صميم البناء التاريخي الجديد الذي نقترحه في هذا الكتاب، والذي عمل مارك ليفين على تفصيله في مقالته ضمن هذا الكتاب، على الرغم من تخفيفه من الجوانب الإمبريالية والاستعمارية.
يطرح الإعراب والبناء الجديدان للتاريخ والذاكرة جوانب أخلاقية وسياسية مهمة، نود أن نختتم بها هذه المقدمة، وهي جوانب تتعلق بأخلاقيات الاضطراب المرتبطة بمفاهيم الصدمة، الأمر الذي سيجعلنا منفتحين على الأهمية السياسية للإطار الخطابي الذي نود اقتراحه. وكنقطة خروج من هذه المناقشة، فإننا سنستخدم مقطعاً من رواية إلياس خوري "باب الشمس".
السجل الأخلاقي والسياسي: أخلاقيات الاضطراب
يروي إلياس خوري في "باب الشمس"[78] الكارثة الفلسطينية. وفي خضم إحدى مناجاة الراوي خليل (مونولوجاته)، فإنه يوجّه سؤالاً إلى يونس، أحد أبطال النضال الفلسطيني وهو على فراش موته، فاقداً للوعي، في أحد مستشفيات مخيمات اللاجئين في بيروت:
لكن قل لي، ماذا فعلت الحركة الوطنية [الفلسطينية] المتمركزة في المدن، ماذا غير الاضطرابات والتظاهرات ضد الهجرة اليهودية؟
أنا لا أقول إنكم لم تكونوا على حقّ، لكن في تلك الأيام، حين كان الوحش النازي يقوم بإبادة اليهود في أوروبا، ماذا كنتم تعرفون عن العالم؟
لن أقول، لا، لا تخف، فأنا أؤمن مثلك بأن هذه البلاد يجب أن تكون لأهلها، وأنه لا وجود لأي مبرر أخلاقي أو سياسي أو إنساني أو ديني يسمح بطرد شعب كامل من بلاده، وتحويل بقاياه إلى مواطنين من الدرجة الثانية [....] ولكن قُل لي، ألم تروا في وجوه هؤلاء الذين سيقوا إلى الذبح شيئاً يشبه وجوهكم؟
لا تقل لي إنك لم تكن تعلم، ولا تقل ما ذنبي؟
أنت وأنا وكل الناس في كل الكرة الأرضية، كان يجب أن يعلموا ولا يسكتوا، ويمنعوا ذلك الوحش من افتراس ضحاياه بتلك الطريقة البربرية التي لا سابق لها [...] لأن ذلك الموت كان يعني موت الإنسان فينا.[79]
قد يشكل هذا المقطع المهم مفتاحاً للقضية المطروحة أمامنا،[80] إذ إنه يفصح عن الجوانب الإشكالية لتناول المحرقة والنكبة في سياق واحد، فضلاً عن القلق الذي يثيره، والذي يتمحور حول العدالة المطلقة الآنفة الذكر، والتي يتشاركها كل من اليهود والفلسطينيين. فالنكبة تؤكد ضرورة تحقيق العدالة السياسية للفلسطينيين، بينما تدعم المحرقة حالياً المطالبة المطلقة لكثير من اليهود بالعدالة. غير أن الرغبة في استدخال كارثة كل طرف في صلب الرواية الوطنية للطرف الآخر، وفي إنشاء بناء وإعراب تاريخيين جديدين مشتركين، لا تفترض ضمناً تفكيك المبرر الجوهري للرواية الوطنية، أو، بكلمات الراوي في "باب الشمس"، والذي يشير إلى المنظور الفلسطيني: إن الاعتراف بالمحرقة لا يقوّض حق الفلسطينيين في العدالة نتيجة الظلم الذي أُلحق بهم، أو يشكك في "أن هذه البلاد يجب أن تكون لأهلها."[81]
فالراوي يدرك أن مراعاة أصل اليهود الذين جاءوا إلى فلسطين لا تنتقص من حق الفلسطينيين بالمطالبة بعدالتهم، كما أن هذه المسألة لا تفترض ضمناً أن هذه الأمور كانت بالضرورة ستكون مختلفة لو أخذ الفلسطينيون بعين الاعتبار سبب وصول اليهود إلى فلسطين. بعبارات أُخرى، فإن هذا التعاطف تجاه اليهود ضحايا للمحرقة لا يرقى إلى درجة التماهي التام معهم ومع وجهة نظرهم، بل إنه يحافظ على آخرية (otherness) أحدهما تجاه الآخر، ولا يمحو الاختلاف أيضاً. لكن ثمة دعوة إلى الإقرار بمحنة اللاجئين اليهود، من طرف الراوي ذاته وإلياس خوري أيضاً، ويعود هذا إلى سببين: الاول يُعزى إلى نوع من التماثل، إذ يسأل خليل: "ألم تروا في وجوه هؤلاء الذين سيقوا إلى الذبح شيئاً يشبه وجوهكم"، والثاني يتمحور حول الالتزام الأخلاقي الذي يشكل مدخلاً إلى التاريخ: "لأن ذلك الموت، كان يعني موت الإنسان فينا." وبينما يستمر الراوي في الإشارة إلى عواقب فشل الحركة الوطنية الفلسطينية في الإقرار بهذا "الموت للإنسانية"، يقول: "كنتم خارج التاريخ، فصرتم ضحيته الثانية."[82] يدعو الراوي الفلسطينيين، إذاً، إلى خطوة مزدوجة: الاعتراف بأنفسهم كمختلفين عن الآخر اليهودي، تزامناً مع التماهي مع معاناته. وفي الواقع، ربما تكون هذه الفكرة المحددة عن التعاطف مثمرة للغاية في سياقنا هنا.
أشارت لين هانت، في كتابها المؤثر "اختراع حقوق الإنسان" (2007)، إلى أن صعود الرواية الأوروبية الحديثة، ورواجها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أديا دوراً حاسماً في ظهور أخلاقيات حقوق الإنسان وسياساته ونشرها.[83] فقد تمكنت الشعوب، عبر هذه الروايات، من ممارسة قدرتها على التعاطف، والتي استلزمت منها إبداء التعاطف تجاه شخصيات بعيدة عنها بأسلوب حياتها الخاصة، أو حتى تجاه الجماعات الإثنية والدينية، والنظر إليها ككائنات بشرية مثلما هي فعلاً. إن كتابنا لا يركز على حقوق الإنسان بحد ذاته، لكن يبدو أن المفهوم الخاص والمعقد للتعاطف يحتل مكاناً مركزياً في صوغ الأهمية الأخلاقية والسياسية لمشروعنا، والتي نجحت رواية خوري في الإشارة إليها، على الرغم من أن التعاطف بمفرده لا يُعتبر كافياً أو شاملاً.
وباقتفاء عمل حنّان حيفر،[84] نسعى لمزيد من التداول بشأن فكرة راوي "باب الشمس" المتمحورة حول الآخرية والتعاطف المرتبطين بالنكبة والمحرقة، وذلك عبر مفهوم "التعاطف المضطرب" (empathic unsettlement) الذي صاغه دومينيك لاكابرا في مناقشته المطولة للصدمة والمحرقة.[85] فهذا المفهوم يربط بشكل وثيق ومقنع بين الذاكرة والأخلاقيات والتاريخ والصدمة، وبطريقة نراها منسجمة مع فكرة التعاطف التي نتشاركها مع خوري.[86] وقبل توضيحنا طبيعة فائدة التعاطف المضطرب، يجب الإشارة إلى أنه باستخدامنا مفاهيم التحليل النفسي للاكابرا، فإننا لا نسعى لإخضاع رواية الصراع للحقل النفسي أو لقضايا ذات طابع تعاطفي. فعلى غرار لاكابرا[87] الذي يصرّح أنه لا يستخدم هذه المفاهيم بالطريقة التقليدية، فإننا نحاول اشتقاق بنية نظرية من هذا العالم المفاهيمي تسهّل فهم الواقع السياسي وتحليله.
يرسم لاكابرا علاقة تضادية ما بين التعاطف والتعاطف المضطرب وبين التماثل التام، قائلاً: "يوجد خلط مغلوط بين التعاطف أو التقمص العاطفي (empathy) وبين التماثل (identification)، أو بين التعاطف والانصهار (fusion) بالآخر... وعلى النقيض من هذا الإطار المرجعي الشامل، يتوجب فهم التقمص العاطفي في ضوء علاقة عاطفية، أو ارتباط مع الآخر المعترف به والمقدّرة آخريته."[88] وتنبع سياسة التماثل من تصورات خطرة للتشابه العالمي الذي يسعى للتجانس واستئصال الاختلاف،[89] وتعمل وفقاً لأحد مستويي الاستحواذ أو الإخضاع، ففي حال تنفيذها، يُخضع الفردُ الآخرَ لمفاهيمه الخاصة، أو يُخضع نفسه لمفاهيم الآخر. وبذا، يمكن القول إن سياسة التماثل تكون محكومة دوماً بدوافع نرجسية، وتشير إلى نوع من الوهم ربما يكون عدوانياً وعنيفاً.[90]
يعي راوي "باب الشمس" التصورات الخطرة بشأن التشابه العالمي (universal likeness) أو التماثل المطلق (sameness)، رافضاً هذا الشكل من التماثل. فهو يرفض التخلي عن وجهة نظره إزاء العدو، حتى عندما تعرّض الأخير لصدمة قوية في هيئة محرقة، غير أن هذا لم يحُل دون إيجاده بضعة أوجه تشابه بينه وبين اليهودي: "ألم تروا في وجوه هؤلاء الذين سيقوا إلى الذبح شيئاً يشبه وجوهكم؟" لكن ما أهمية هذا الاعتراف؟ وكيف يمكن أن يترك وقعاً وتأثيراً؟ وماذا يعني ذلك؟ لا يمنحنا الراوي إجابة فورية أو حتمية على هذه الأسئلة، بل تبقى الإجابة مرهونة بعامل الوقت،[91] الأمر الذي يزعزع أساس رواية محكمة للغاية.
يشير ما سبق إلى كيفية مساهمة التعاطف المضطرب في تقويض المعنى. فخلافاً لسياسة التماثل الساعية لطمس المسافة بين الذات والآخر، يستدعي التعاطف المضطرب سلكَ الذات مسارَين متعاكسين في آن واحد، مثلما فعل الراوي عند خوري. فمن جهة، يُقرّ التعاطف المضطرب بالآخرية الأساسية المتأصلة في الفرد الذي يقاسي الصدمة، كتجربة بليغة تتخطى المجموعات الراهنة من الرموز والصور الاجتماعية،[92] بينما من جهة أُخرى، وعلى الرغم من الإقرار بالآخرية الراديكالية والتي يتعذر استئصالها عند أولئك الذين عانوا صدمة ما، فإن مبدأ التعاطف المضطرب يدعو إلى إبداء التعاطف تجاههم. وهكذا، فإن أخلاقيات الصدمة هي أخلاقيات الاضطراب التي تجبرنا على إبداء تعاطفنا تجاه الآخرين، تزامناً مع وعينا التام بآخريتهم، وتحثّنا في الوقت نفسه على الإقرار بمكوّن الصدمة الذي يعطّل أو يمنع أي بنية أو رواية أو علاقة من بلوغ درجة الكلية والانغلاق.[93] كما يشير لاكابرا:
يشكل التعاطف المضطرب، على أقل تقدير، عائقاً أمام إقفال الخطاب أو الأماكن التي يُهدم فيها الانسجام أو السمو الروحاني بسبب الأحداث المتطرفة التي نسعى من خلالها لتحقيق الطمأنينة أو الفائدة... لكنه يتضمن تأثيراً في النفس، وربما يُعرّضها عاطفياً للاضطراب، إن لم يكن للصدمة الثانوية التي لا يستوجب تبجيلها أو التركيز عليها، بل معالجتها بطريقة تسعى لأن تكون مسؤولة إدراكياً وأخلاقياً، ومنفتحة كذلك على تحديات الآمال الطوباوية.[94]
لا يمكن التنبّؤ أو معرفة أشكال وتداعيات التعاطف المضطرب، اللازمة لمعالجة الأحداث الصادمة، بل إن دورها يتمثل تحديداً في إحداث التشويش والاضطراب، كما أنها تنبع من الخشية من أي نوع من الانغلاق الذي يتطلع إليه أي خطاب سياسي، والذي يُعدّ بحد ذاته نذير المنطق الفاشي.[95]
يُعتبر الاضطراب الكلمة المفتاحية في هذا السياق، إذ إنه يتموضع بين القطبين اللذين يولّدان الصدمة: فالاضطراب لا يفكك الخطاب تماماً (كحقل من الفروقات)، كما أنه لا يعزز المعارضة الثنائية، بل يقدّم إلى فضائنا الخطابي "الآخريةَ" المتعذر هضمها، والذي ينبع من التزام أخلاقي تجاه أولئك الذين تعرّضوا للصدمة، لكنه لا يصاغ بالضرورة فوراً. وعلى هذا النحو، فإن التعاطف المضطرب يخلخل ويقوّض باستمرار كل "رواية إعتاق" (redeeming narrative) تقدم سروراً كئيباً تعويضاً عن المعاناة،[96] الأمر الذي يُنتج قيمته السياسية الجديرة بالاعتبار. ويمكن للمرء أن يقول إن هذا المنحى يجبرنا على أخذ آخرية الآخر على محمل الجد، فهو يقبع في منطقة وسطى بين التماثل التام الذي يستحوذ على الآخر، أو الذي يتطلب الخضوع لمفاهيم "الذات"، وبين الاغتراب التام الذي يولّد مجالاً يغيب فيه التواصل ويحضر فيه ما تمليه القوة فقط. ولا يجري إدراك التماثل المحدود الذي يمثل جزءاً من التعاطف المضطرب، حصراً ضمن سياق مواجهة الشخص الذي عانى الصدمة، كشخص يكابد الألم فحسب، بل في المقام الأول كـ "آخر" يوجد في جوهر تجربته شيء يتجاوز معالم رمزية وسياسية تدّعي تمثيله، الأمر الذي يحوّله إلى رمز وتجلّ من تجليات الالتزام الأخلاقي الشديد إزاء الآخرية الراديكالية.
يمثل ما سبق المطلب الدقيق الذي يطلبه راوي "باب الشمس" من محاوِره حين يسأله: "ألم تروا في وجوه هؤلاء الذين سيقوا إلى الذبح شيئاً يشبه وجوهكم؟" فهذا النوع من الشراكة التعاطفية لا يقود إلى الاستحواذ أو الإخضاع، ولا ينتج منه بالضرورة أو على الفور نتائج عملية، بَيد أنه يخلق نوعاً من الاضطراب، ويمنع الإقفال المنسجم للرواية، ويجعلها تتكشف على إمكانات جديدة (إن كانت لا تزال غير متوقعة).
تشكل هذه الشراكة التعاطفية مكوناً أساسياً في العمل من خلال الصدمات، إذ تجابه اتجاهاً يقضي بفرض رواية وطنية خلاصية في حالات الصدمة الجماعية الهائلة التي ترى في الآخر كبش فداء، فتقضي عليه بشكل عنيف. وفي مثل هذه الحالات، "قد تصبح الأحداث الماضية الصادمة وقوداً تشعل أكثر المآسي الإنسانية فظاعة"، وفقاً لتحذير فاميك فولكان.[97] ولهذا، يُعتبر التطرق إلى الرواية الوطنية المحكومة بالصدمة الشديدة الاضطراب، أمراً أساسياً، على غرار حالات الروايات الوطنية الفلسطينية والإسرائيلية المهيمنة. ونحن بوضوح لا نقترح إمكان حل الصراع عبر التعاطف المضطرب، وإنما نقترح خلخلة السرد التاريخي لهذه الصدمات من أجل فرض الروايات الوطنية الخلاصية التقليدية.
يتناول خوري بحسّ نقدي مثل هذه الروايات في عدة أجزاء من "باب الشمس". فمثلاً، يوجه الراوي تحذيراً فحواه: "يجب أن لا نرى أنفسنا في مرآتهم فقط، لأنهم (الصهيونيون) سجناء حكاية واحدة، كأن الحكاية تختصرهم وتجمّدهم. أرجوك [....] يجب أن لا نصير حكاية واحدة [....] صدّقني، فهذا هو الطريق الوحيد كي لا نجمد ونموت."[98] وفي الواقع، يبدو أن العديد من اليهود والفلسطينيين هم أسرى لمثل هذه الرواية الإقصائية المميتة والصادمة، والمنغلقة على نفسها، والتي يخلخلها ويقوّضها التعاطف المضطرب. إن الاضطراب والتعاطف المضطرب هما في قلب بنائنا وإعرابنا الجديدين التاريخيين، لكن هنا تكمن أيضاً حالة من عدم التماثل.
إن قصة خوري المتقنة قدمت لنا صيغة المطالبة بتحقيق التعاطف المضطرب، لكن يمكننا المجادلة بأن هذه المطالبة تنطبق بشكل أكبر على الجانب اليهودي، نظراً إلى كونه الجانب الأقوى الذي اقترفت يداه النكبة. وتمثل الرواية الخطابية "من المحرقة إلى النهوض" رواية حصرية مُحكمة وخلاصية، وتقود بالضرورة إلى العنف، الأمر الذي يستوجب خلخلتها من بوابة التعاطف المضطرب الإلزامي. ويجب طرح الدعوة التي يوجهها خوري إلى الفلسطينيين، بإلحاح أكبر على اليهود، إذ يتعين على الأخيرين التحديق في وجوه اللاجئين الفلسطينيين وسلالاتهم الذين طُردوا أو حُرموا من العودة، بعد عقود من الإنكار الاستعماري، والنفي، والمحو، وعدم الاعتراف. كما يتوجب عليهم التحديق في وجوه المتبقين في فلسطين ودولة إسرائيل، والذين لا يزال يعيشون في ظل مستويات متنوعة من التمييز والقمع، كي يروا فيهم الآخرين الراديكاليين للصهيونية، وليشاهدوا فيهم انعكاساً لتاريخهم، وكي يبحثوا عن وسيلة للإقرار بالمعاناة التي ألحقوها بهم. ويجب عليهم أيضاً أن يجدوا طريقة تخلخل روايتهم من خلال التعاطف المنطوي على التناقض تجاه ضحاياهم أنفسهم، الفلسطينيين (اللاجئين وغير اللاجئين)، وأن يرووا الرواية ليس "من المحرقة إلى النهوض"، وإنما من "المحرقة، والنهوض، والنكبة" التي هي أيضاً عنوان كتاب ليائير أورون.[99] هذا هو التحدي الأخلاقي الذي يطرحه التعاطف المضطرب أمام الطرف اليهودي.
التعاطف المضطرب وثنائية القومية
انطلاقاً ممّا سبق، فإن "التعاطف المضطرب" يحوّل "الآخرية" من مشكلة يجب التخلص منها إلى تحدّ أخلاقي وعاطفي، الأمر الذي يستدعي نوعاً من العمل المتناقض، أي التعاطف تحديداً مع ذاك العنصر الغريب الصادم والمتعذر هضمه لدى الآخرية الراديكالية. فالتعاطف المضطرب يمكّن هذه الآخرية الصادمة والخارجة من البُنى السياسية والاجتماعية والخطابية، من جعل الروايات المحتومة أكثر مرونة، بطريقة غير استبدادية وعبر شكل متناقض من التماثل، كما يعزز الانكشاف على إمكانات بنيوية جديدة تسعى للحدّ من احتمالية توالد الصدمات. ووفقاً لدومينيك لاكابرا، فإن التعاطف المضطرب يسعى لتجنّب موقفين متطرفين، كردّ على الآخرية المدمرة والمتطرفة التي تتجاوز البُنى السياسية الخطابية ومجموعة الصور القائمة، وكل موقف من هذين الموقفين هو بمثابة غواية تترصد مواجهة الفرد أو الموضوع الجمعي للآخرية المزعزعة للصدمة.
إن إحدى ردات الفعل القصوى المحتملة هذه هي التصديق أو إضفاء الشرعية على الثنائيات غير القابلة للجسر والتحصين الشديد لها، وتُعتبر الصرامة الاستثنائية والافتقار إلى المرونة بمثابة استجابة سائدة للصدمة. ويتجلى هذا في الحالة اليهودية - الفلسطينية من طرف النظام السياسي السائد حالياً، وذلك فيما يتعلق بالعلاقات اليهودية - الفلسطينية التي تفاقم من حدة الانقسام بين اليهودي الإسرائيلي والعربي الفلسطيني، كهويتين قوميتين تؤسس كل منهما نفسَها على مبدأ رفض الهوية الأُخرى. وهكذا، فإنهما تحافظان على نفسيهما كهويتين سياسيتين وثقافيتين عاجزتين حتى عن إنشاء المجال المشترك الجزئي والشعور بـ "نحن". فبحسب لاكابرا، يُعتبر مثل هذه الثنائيات خطراً للغاية، فعن المحرقة، يقول: "أعتقد أن المعارضة الثنائية مرتبطة بشكل وثيق بآلية كبش الفداء، فعملية كبش الفداء تحاول توليد تضاد ثنائي بحت بين ذات (متماثلة ذاتياً) وأُخرى (مختلفة تماماً)، وهكذا يصبح الآخر (دعنا نقول في سياق المحرقة، اليهودي) مختلفاً تماماً عن النازي، إذ إن كل ما يسبب القلق للنازي إنما ينعكس على الآخر، بحيث نحظى بانقسام صرف: آري / يهودي - وطبعاً ما من شيء مشترك على الإطلاق."[100]
في الوقت نفسه، يسعى التعاطف المضطرب لتفادي تهاوي التمايزات كلها لما - بعد الصدمة إلى مزيج واحد غير متمايز، ولذلك، نعتقد أن ترجمة التعاطف المضطرب إلى مفاهيم سياسية، من شأنها أن تنتج تفكيراً على أسس ثنائية القومية كمبدأ أخلاقي وسياسي (مبدأ لا يتمظهر بالضرورة في دولة ثنائية القومية، وإنما في بُنى سياسية أُخرى أيضاً)؛ تفكيراً لا يرفض وجود جماعتين منفصلتين، مهما تتنوّعا داخلياً، بل يرفض قبول مقولة إن إزالة واستبعاد إحداهما من طرف الأُخرى يوفر الحل الوحيد للتجربة الصادمة لواحدة من الجماعتَين، ولمواجهة الجماعة الأُخرى للصدمة. وخلافاً لذلك، فإن أخلاقيات الصدمة والاضطراب التي نقترحها تدعو إلى جعل الثنائيات الوطنية أكثر مرونة من دون تفكيكها كلياً. وفي الواقع، تبنّى خوري نفسه موقفاً مستنداً إلى هذه الأسس، ففي مقابلة أجراها مع الناقد الثقافي الإسرائيلي يارون مور، قال: "آمل بأن تتحقق دولة ثنائية القومية في فلسطين وإسرائيل"، موسّعاً هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك، دافعاً في اتجاه تعددية القومية التي من شأنها أن تشمل المنطقة بأسرها.[101]
في الختام، لنكن أكثر تحديداً في شأن ثنائية القومية المقترحة، ولنوظف بإيجاز معناها فيما يتعلق بمفاهيم متعددة لها، إذ ثمة روايات متعددة تموضع نفسها، وبشكل غير مباشر، كثنائية القومية، ويدعو معظمها إلى دولة واحدة.[102] وبينما تشترك هذه الروايات ظاهرياً في رؤية ثنائية القومية، فإنها غالباً ما ترتدي على نحو مفرط ثوباً مدنياً ليبرالياً لا "يتضمن إدراكاً وبنية أصيلة ثنائية القومية"، مثل الاتفاقيات التوافقية أو المبنية على التكافؤ، والتي تعترف بالحقوق الإثنية - الوطنية الجماعية، بما يتضمن حقّ تقرير المصير لكل من العرب واليهود الإسرائيليين،[103] بل إن هذه الروايات عوضاً عن ذلك، تأخذ شكل الليبرالية الدستورية (لمى أبو عودة)، والتعددية الثقافية الليبرالية (تيودورا تودوروفا). وبالنسبة إلى العديد من أنصار خيار الدولة الواحدة، فإن التحول عن نموذج الدولتين يستدعي بالضرورة التخلي عن القومية ونموذج الدولة القومية برمّته. وهكذا، يرفض العديد من روايات ثنائية القومية، وبشدة، الانتماءات الوطنية الضاربة بجذورها عميقاً عند الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين على حد سواء. ويبدو واضحاً أن الهويتين القوميتين الإسرائيلية اليهودية والفلسطينية – مثلما هي حال جميع الهويات الوطنية والقومية – هما نتاج اختراع وخيال سياسيين، كما هي المخاطر السياسية ومخاطر القومية. وفي معرض تجاوز صدى الهويات الوطنية والقومية، أو المبالغة في تقدير سهولة إيجاد تعبير مدني، فإن ما يتفاداه أنصار ثنائية القومية الشكلية، في نهاية المطاف، هو السؤال الصعب بشأن الهويتين الوطنيتين العنيدتين، الإسرائيلية والفلسطينية، والحقوق الجماعية.
وبينما تحمل ثنائية القومية النابعة من قراءتنا للتعاطف المضطرب، بعض أوجه التشابه مع رواية أُخرى محددة عن ثنائية القومية (على سبيل المثال، تركيز كل من سعيد وبتلر على اللاجىء، وتشخيصهما الحقائق على أرض الواقع في إسرائيل / فلسطين)،[104] فإنها لا تزال مختلفة بشكل جدير بالاعتبار. فخلافاً لسعيد والباحثين الآخرين الذين يرسمون خطاً متساوياً بين ثنائية القومية والدولة ثنائية القومية، وينظرون إلى الأخيرة بصفتها الإطار النهائي الإداري والمؤسساتي والحاكم، فإن ثنائية القومية التي نقترحها يمكن تحقيقها في إطار العديد من الترتيبات المؤسساتية. وبشكل أكثر تحديداً، يمكن لأشكال متنوعة من الأنظمة الحاكمة، مثل الفدرالية، والكونفدرالية، وبنية الدولة الموازية، والسيادة المشتركة، ودولة ثنائية القومية، أو بنية تعاونية واسعة النطاق تتشابك بين دولتين، أن تدرك وتحترم الحقوق الوطنية والقومية للمساواة، وكذلك الحقوق الفردية والجماعية للعرب واليهود في فلسطين / إسرائيل. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن العديدين من مؤيدي ثنائية القومية غالباً ما ينتقدون الليبرالية، فإن ثنائية قوميتهم الشكلية تبدو كأنها تواجه خطر التهاوي إلى ترتيبات ليبرالية كلاسيكية، لأنها عادة ما تقود إلى "نظام ما بعد وطني / قومي" من شأنه "القضاء على جميع أشكال التمييز على أساس الإثنية والعرق والدين."[105] وتبدو هذه الدولة المدنية ما بعد القومية أقرب إلى الليبرالية الكلاسيكية في تجاهل الاختلاف أو الاستحكام المفرط بالقانون وزعزعة التمايز والتعددية، أكثر من كونها ثنائية القومية المبنية على المساواة.[106]
إن ثنائية القومية التي نقترحها، والمشار إليها بـ "التعاطف المضطرب"، تسمح باستقرار أنطولوجي يفوق ما تقترحه ثنائية القومية الشكلية. وبعبارات أُخرى، فإن هذه الثنائية التي اقترحناها تؤيد شكلاً رفيعاً من الجماعاتية (communitarianism)[107] يعترف بالدور الذي تؤديه الإثنية والقومية في إسرائيل / فلسطين، بل إن روايتنا، وعلى نحو أدق، تعترف بالحق في تقرير المصير القومي لكلتا المجموعتين القوميتين، مع تشديدها على عدم وجوب إحقاق هذا الحق في شكل دولة إثنية حصرية. كما تشدد ثنائية القومية المستندة إلى المساواة على رؤية لعلاقات قريبة تقوم على انتماء مشترك مبني على أسس أخلاقيات التكافؤ والعيش المشترك (parity and cohabitation)، وهو نموذج يوفر موارد غنية لمشروع استئصال الاستعمار المستمر في إسرائيل / فلسطين. وبينما تستوعب ثنائية القومية المبنية على المساواة الانتماءات الوطنية المتجذرة بعمق عند الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين على حد سواء، فإنها ترفض الامتيازات الاستعمارية اليهودية، وكذلك ادعاءات السيادة اليهودية الحصرية على فلسطين التاريخية، الأمر الذي ينطوي بالضرورة على تفكيك البُنى الاستعمارية للسلطة، وإعادة تعريفها على أسس تعويضية وشاملة ومتكافئة.
في الواقع، يتقاطع تركيزنا على درجة معينة من الاستقرار الأنطولوجي مع محاججة لاكابرا القاضية بأن "التفكيك لا يطمس أو يقوّض جميع التمايزات، وإنما يتركك مع مشكلة التمايزات التي تُعتبر أكثر صعوبة وضرورة لتفصيلها، نظراً إلى عدم إمكان اعتمادك على ثنائيات بسيطة... فالتفكيك ليس تضاداً ثنائياً محضاً، بل ينطوي على مفهوم الاختلاف، لكنه ليس باختلاف محض أو كلي."[108] ومثلما هي الحال بشأن فكرتنا عن ثنائية القومية، فإن أخلاقيات لاكابرا تسعى للوقوف على أرضية تتوسط الفصل التام من جهة، وطمس جميع التمايزات (الإثنية والمجتمعية) من جهة أُخرى، فهو يقول: "إن تفكيك التضاد الثنائي لا يسبب تلقائياً زواله أو فقدان دوره المستحكم غالباً في الواقع الاجتماعي والسياسي"،[109] وهذا صحيح، ولا سيما في الصراعات الاستعمارية المستعصية كالصراع في فلسطين / إسرائيل. وكذلك، فإن محاولتنا في هذه المقدمة تتمثل في اقتراح طريقة للتداول والتفكير المشترك بشأن ذاكرتَي الصدمة لكل من المحرقة والنكبة، ونحن نهدف إلى القيام بذلك من دون الخلط بين الحدثين، لكن من دون فصلهما تماماً أيضاً، كما لو أن ما من علاقة تجمعهما.
لا تستدعي المناقشة المشتركة للمحرقة والنكبة، والمسترشدة بالسياقَين المحلي والعالمي ومتطلبات أخلاقيات الاضطراب وآثارها، تداولاً علنياً واسعاً يعضّد من الفضائل المدنية للتسامح، والتبادلية، والشرعية المتبادلة، والانخراط النشط في الشؤون العامة فحسب، بل تؤدي إلى سياسة ديمقراطية تصادمية تستوجب حلولاً وسطية وتحالفات قد تتجاوز الخطوط الإثنية والقومية أيضاً، الأمر الذي يمهد الطريق أمام التفكير الإبداعي وتحدي النماذج القائمة. وانطلاقاً من هذا الموقف، نود أن نرسي حجر الأساس للبناء والإعراب الجديدين للذاكرة والتاريخ والسياسة في إسرائيل / فلسطين. ويبدو هذا ضرورياً في ضوء سيادة أنظمة السيطرة، وهيمنة الروايات المؤسسة النموذجية، وتحريم الروايات الأُخرى المختلفة وطغيان الإبستمولوجيات تحديداً، فنحن نرى في هذا الكتاب عملاً جماعياً يساهم، ولو بصورة متواضعة، في تحديد مواقع اللقاء الممكنة لصوغ إعراب تاريخي وسياسي بديل، واستئصال الاستعمار، وتحقيق الكيان الديمقراطي العربي اليهودي المشترك.
* هذا عنوان مقدمة كتاب باللغة الإنجليزية:
Bashir Bashir and Amos Goldberg, eds., “Introduction: The Holocaust and the Nakba: A New Syntax of History, Memory, and Political Thought”, in: The Holocaust and the Nakba: A New Grammar of Trauma and History (New York: Columbia University Press, 2019), pp. 1-42.
وقد ارتأينا ترجمة كلمة syntax بكلمة "إعراب" التي تتضمن النحو.
ترجمة: نبيه بشير.
المصادر:
[1] تطورت فكرة الكتاب الحالي في أعقاب صدور كتاب سابق نشرناه بالعبرية تحت رعاية معهد فان لير في القدس، وأثار آنذاك جدلاً عاماً حاداً في إسرائيل. انظر: بشير بشير وعاموس غولدبيرغ (محرران)، "المحرقة والنكبة: الذاكرة، الهوية القومية، والشراكة اليهودية – العربية" (بالعبرية)، (تل أبيب: معهد فان لير وهكيبوتس هميئوحاد، 2015). لكن الكتاب الحالي يختلف كثيراً عن الكتاب الصادر بالعبرية، في تركيزه وإطار تحليله، وكذلك في المساهمين فيه.
[2] عاين بعض الباحثين النكبة بصفتها تطهيراً عرقياً، انظر على سبيل المثال: إيلان بابِهْ، "التطهير العرقي في فلسطين"، ترجمة أحمد خليفة (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2007)؛ نور الدين مصالحة، "طرد الفلسطينيين: مفهوم (الترانسفير) في الفكر والتخطيط الصهيونيين، 1882 – 1948" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1992). وقد أثارت هذه المعاينة نقداً لاذعاً، مثل نقد سيث فرانتسمان الذي رفض منظور التطهير العرقي، وتنكّر للقيمة الأكاديمية لكتاب بابِهْ. انظر:
Seth Frantzman, “Review of The Ethnic Cleansing of Palestine, by Ilan Pappé”, Middle East Quarterly, vol. 15, no. 2 (Spring 2008), pp. 70–75.
وقد سعى البعض، مؤخراً، لمعاينة حيثيات سنة 1948 فلسطينياً من خلال منظور كوني، وعبر الدراسة التاريخية الحديثة المقارنة بشأن التطهير العرقي والتهجير القسري، وابتعد عن ملامسة المسائل الإشكالية وتوجيه الاتهامات. ويعاين الباحثان ريتشارد باسيل وكلوديا هاك حيثيات سنة 1948 عبر منظور تاريخ النزوح القسري في العصر الحديث، ويجادلان أن من شأن مفهوم هذا النزوح "أن يؤدي دوراً وصفياً وتفسيرياً من النوع الذي نادراً ما تؤكده المقاربات التحليلية التي يوفرها منظورا (الإبادة الجماعية) و(التطهير العرقي)، أو لا يمكنها تأييده بتاتاً." انظر:
Richard Bessel and Claudia Haake, eds., “Forced Removal in the Modern World”, in: Removing Peoples: Forced Removal in the Modern World (Oxford: Oxford University Press, 2009), p. 5.
أمّا ألون كونفينو فيعاين حيثيات سنة 1948 عبر منظور التاريخ المعاصر الكوني للنزوح القسري، ويجادل بأفضلية هذا المنظور قياساً بمنظور التطهير العرقي على الصعيدين المنهجي والنقاشي العام، ذلك بأن مفهوم التطهير العرقي يرتبط في وقتنا الحاضر بأجواء تقديم لوائح الاتهام أمام المحاكم الجنائية الدولية والملاحقات، الأمر الذي يقوّض النقاش ويفضي كردة فعل إلى الإنكار. انظر:
Alon Confino, “Miracles and Snow in Palestine and Israel: Tantura, a History of 1948”, Israel Studies, vol. 17, no. 2 (Summer 2012), pp. 25–61.
[3] بشأن مركزية النكبة في الهوية الفلسطينية والقومية، انظر:
Ahmad H. Sa’di, “Catastrophe, Memory, and Identity: Al-Nakbah as a Component of Palestinian Identity”, Israel Studies, vol. 7, no. 2 (Summer 2002), pp. 175–198; Rashid Khalidi, Palestinian Identity: The Construction of Modern National Consciousness (New York: Columbia University Press, 1997), pp 177–210; Yezid Sayigh, Armed Struggle and the Search for State: The Palestinian National Movement, 1949-1993 (Oxford: Oxford University Press, 1999), pp. 25–57; Baruch Kimmerling and Joel S. Migdal, The Palestinian People: A History (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 2003), pp. 214–239; Nur Masalha, “60 Years after the Nakba: Historical Truth, Collective Memory and Ethical Obligations”, Kyoto Bulletin of Islamic Area Studies, vol. 3, no. 1 (July 2009), pp. 37–88; Ahmad H. Sa’di and Lila Abu-Lughod, eds., Nakba: Palestine, 1948, and the Claims of Memory (New York: Columbia University Press, 2007).
وانظر أيضاً: مصطفى كبها (محرر)، "نحو صياغة رواية تاريخية للنكبة: الإشكاليات والتحديات" (حيفا: مدى الكرمل / المركز العربي للدراسات الاجتماعية والتطبيقية، 2006).
[4] ظهر تعبير "النكبة" في الكتابات الفلسطينية للتدليل على معنيين مركزيين سيُستخدمان في هذا الكتاب بصفتهما مترادفين: (1) الكارثة الواقعة في سنة 1948؛ (2) الاستعمار والاحتلال المستمران لفلسطين، واللذان وصلا إلى ذروتهما في كارثة 1948.
[5] من الواضح أنه لا يزال في أوروبا مجتمعات يهودية مهمة وحيوية، لكنها لا تشبه بشيء العالم اليهودي الغني والنابض بالحياة، الذي وُجد قبل الحرب العالمية الأولى، ولا سيما في أوروبا الشرقية والوسطى.
[6] وفقاً لهيلل كوهين، فإن سنة 1929 تُعتبر حاسمة من ناحية تصاعد النضال العنيف في فلسطين. انظر: هليل كوهين، "هبّة البراق 1929: سنة الصدع بين العرب واليهود"، ترجمة سليم سلامة (رام الله: مدار / المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2018).
Hillel Cohen, Year Zero of the Arab-Israeli Conflict (Waltham, Massachusetts: Brandeis University Press, 2015).
[7] في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وصف عالم الاجتماع الإسرائيلي تشارلز ليبمان المحرقة كمكون مركزي لما أطلق عليه الدين المدني لدولة إسرائيل. للاطلاع على أحدث النقاشات بشأن هذه المسألة، انظر: ليات ستير - ليفني، "دع التل التذكاري يتذكر" (بالعبرية)، (تل أبيب: ريسلنغ، 2017). وعن مكانة المحرقة في الولايات المتحدة، انظر:
Peter Novick, The Holocaust in American Life (Boston: Houghton Mifflin, 1999).
[8] Alon Confino, Foundational Pasts: The Holocaust as Historical Understanding (New York: Cambridge University Press, 2012); Vamik Volkan, “Chosen Trauma: Unresolved Mourning”, in: Bloodlines: From Ethnic Pride to Ethnic Terrorism (New York: Farrar, Strauss and Giroux, 1997), pp. 36–49.
وانظر أيضاً ما تقوله جاكلين روز في:
Jacqueline Rose, “Response to Edward Said”, in: Edward W. Said, Freud and the Non-European (London: Verso, 2003), p. 75:
"يقترح فرويد (بشكل أساسي في الطوطم والتابو وموسى والتوحيد) أن ما يشترك فيه الناس هو الصدمة، وهي وفقاً للاقتباس الوارد في كتاب سعيد، "بدايات: القصد والمنهج": (معرفة مدمرة للغاية لا يمكن للمرء أن يتحملها في نظر نفسه، وفقط يمكن تحمّلها بمقدار قليل كموضوع في بحث التحليل النفسي)."
[9] اعترف إدوارد سعيد بالأدوار المهيمنة الراهنة لكل من اليهود والفلسطينيين، ورفض بشكل قاطع كونهم "خصوماً لتاريخ بعضهم البعض." انظر:
Said, Freud and the Non-European, op. cit., p. 55.
[10] "كل رواية وطنية مبنية بطريقة ما على نفي أساسي لرواية الآخر." انظر:
Nadim N. Rouhana and Daniel Bar-Tal, “Psychological Dynamics of Intractable Ethnonational Conflicts: The Israeli-Palestinian Case”, American Psychologist, vol. 53, no. 7 (July 1998), p. 763.
وانظر أيضاً:
Ilan Gur-Ze’ev and Ilan Pappé, “Beyond the Destruction of the Other’s Collective Memory: Blueprints for a Palestinian/Israeli Dialogue”, Theory, Culture & Society, vol. 20, issue 1 (February 2003), pp. 93–108; Ilan Gur-Ze’ev, “The Production of Self and the Destruction of the Other’s Memory and Identity in Israeli/Palestinian Education on the Holocaust/Nakbah”, Studies in Philosophy and Education, vol. 20, no. 3 (May 2001), pp. 255–266.
[11] Erez Tadmor and Erel Segal, Nakba-Nonsense: The Booklet that Fights for the Truth (Kfar Adumim: Im Tirtzu, 2011).
[12] لمعرفة مزيد بشأن كفاح الفلسطينيين ضد الإنكار والنفي وعدم الاعتراف، انظر:
Beshara Doumani, “Palestine versus the Palestinians? The Iron Laws and the Ironies of a People Denied”, Journal of Palestine Studies, vol. XXXVI, no. 4 (Summer 2007), pp. 49–64.
[13] على سبيل المثال، فإن السلسلة المكونة من أربعة أجزاء، والتي بثّتها شبكة الجزيرة الإنجليزية بشأن النكبة، لم تذكر المحرقة ولا مرة واحدة. انظر: سلسلة "النكبة"، كتابة وإخراج روان الضامن، بُثّت لأول مرة في سنة 2008، في الرابط الإلكتروني.
[14] انظر على سبيل المثال:
Meir Litvak and Esther Webman, From Empathy to Denial: Arab Responses to the Holocaust (New York: Columbia University Press, 2009); Samira Alayan, “The Holocaust in Palestinian Textbooks: Differences and Similarities in Israel and Palestine”, Comparative Education Review, vol. 60, no. 1 (February 2016), pp. 80–104.
[15] Charles S. Maier, “Consigning the Twentieth Century to History
Alternative Narratives for the Modern Era”, American Historical Review, vol. 105, no. 3 (June 2000), pp. 807–831.
[16] بشأن مثل هذه الاتجاهات في التصورات الشعبية والتأريخية الألمانية، انظر:
Konrad H. Jarausch and Michael Geyer, Shattered Past: Reconstructing German Histories (Princeton, New Jersey: Princeton University Press, 2003).
[17] Louise Bethlehem, “Genres of Identification: Holocaust Testimony and Postcolonial Witness”, in: Marking Evil: Holocaust Memory in the Global Age, edited by Amos Goldberg and Haim Hazan (New York: Berghahn, 2015), p. 173; Omar Kamil, Der Holocaust im Arabischen Gedächtnis: Eine Diskursgeschichte 1945–1967 (Göttingen: Vandenhoeck and Ruprecht, 2012).
[18] فايز صايغ، "الاستعمار الصهيوني في فلسطين" (بيروت: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1956). وأيضاً:
Jamil Hilal, “Imperialism and Settler Colonialism in West Asia: Israel and the Arab Palestinian Struggle”, Utafi, vol. 1, no. 1 (1976), pp. 51–70; Edward Said, The Question of Palestine (New York: Vintage, 1980); Joseph Massad, “The Persistence of the Palestinian Question”, Cultural Critique, vol. 59 (Winter 2005), pp. 1–23.
[19] Omar Jabary Salamanca et al., “Past is Present: Settler Colonialism in Palestine”, Settler Colonial Studies, vol. 2, issue 1 (2012), pp. 1–8; Rachel Busbridge, “Israel-Palestine and the Settler Colonial ‘Turn’: From Interpretation to Decolonization”, Theory, Culture & Society, vol. 35, issue 1 (January 2018), pp. 95–115; Nadim N. Rouhana and Areej Sabbagh-Khoury, “Settler Colonial Citizenship: Conceptualizing the Relationship Between Israel and its Palestinian Citizens”, Settler Colonial Studies, vol. 5, issue 3 (2015), pp. 205–225; Mansour Nasasra, “The Ongoing Judaisation of the Naqab and the Struggle for Recognizing the Indigenous Rights of the Arab Bedouin People”, Settler Colonial Studies, vol. 2, issue 1 (2012), pp. 81–107; Raef Zreik, “When Does a Settler Become a Native? (With Apologies to Mamdani)”, Constellations, vol. 23, no. 3 (September 2016), pp. 351–364; John Collins, Global Palestine (New York: Columbia University Press, 2011); Darryl Li, “Translator's Preface: A Note on Settler Colonialism”, Journal of Palestine Studies, vol. XLV, no. 1 (Autumn 2015), pp. 69–76; Leila Farsakh, “Palestinian Economic Development: Paradigm Shifts since the First Intifada”, Journal of Palestine Studies, vol. XLV, no. 2 (Winter 2016), pp. 55–71; Linda Tabar, “Disrupting Development, Reclaiming Solidarity: The Anti-Politics of Humanitarianism”, Journal of Palestine Studies, vol. XLV, no. 4 (Summer 2016), pp. 16–31; Bashir Bashir and Rachel Busbridge, “The Politics of Decolonisation and Bi-Nationalism in Israel/Palestine”, Political Studies, vol. 67, issue 2 (May 2019), pp. 388-405.
[20] بشأن عولمة المحرقة، انظر:
Daniel Levy and Natan Sznaider, The Holocaust and Memory in the Global Age (Philadelphia: Temple University Press, 2006); Goldberg and Hazan, Marking Evil…, op. cit.; Jeffrey C. Alexander, “On the Social Construction of Moral Universals: The ‘Holocaust’ from Mass Murder to Trauma Drama”, European Journal of Social Theory, vol. 5, no. 1 (February 2002), pp. 5–85; Tony Judt, Postwar: A History of Europe since 1945 (New York: Penguin, 2005).
وبينما كنا نعمل على هذا الكتاب، أعلن رئيس الحكومة الفرنسية، إيمانويل ماكرون، في حفل لإحياء ذكرى المحرقة، أن معاداة الصهيونية هي شكل جديد من معاداة السامية. انظر الخبر في موقع 48: "ماكرون: معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية"، في الرابط الإلكتروني.
وراجع أيضاً:
Barak Ravid, “Macron: Anti-Zionism is a Reinvented Form of Antisemitism”, Haaretz, July 16, 2017.
وانظر كذلك تعريف التحالف الدولي لذكرى المحرقة لمعاداة السامية، والذي يتميز بانحياز قوي إلى الصهيونية، في الرابط الإلكتروني.
[21] انظر:
Dan Diner, Beyond the Conceivable: Studies on Germany, Nazism, and the Holocaust (Berkeley, California: University of California Press, 2000), pp 117–137.
[22] انظر على سبيل المثال:
Kamil, Der Holocaust…, op. cit., p. 141.
وتتمثل وجهة نظره الخاصة في أن الروايتين كلتيهما يجب الاعتراف بهما، لكن عليهما أن يبقيا منفصلتين. والجدير في هذا السياق أن نذكر الكتاب الرائد الذي يسعى لاستشكاف الأبعاد الأخلاقية للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي من طرف علماء المحرقة، انظر:
Leonard Grob and John K. Roth, eds., Anguished Hope: Holocaust Scholars Confront the Palestinian-Israeli Conflict (Michigan: Wim. B. Eerdmans, 2008).
[23] Walter Benjamin, “Theses on the Philosophy of History”, in: Illuminations: Essays and Reflections, edited by Hannah Arendt, translated by Harry Zohn (New York: Schocken, 1968), p. 257.
[24] على سبيل المثال، أثارت مجادلة تيموثي سنايدر بشأن إعادة صوغ المحرقة ضمن التاريخ الكارثي لأوروبا الشرقية في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، جدلاً حاداً. انظر:
Timothy D. Snyder, Bloodlands: Europe between Hitler and Stalin (New York: Basic Books, 2010); John Connelly et al., “Review Forum: Timothy Snyder, Bloodlands: Europe between Hitler and Stalin”, Journal of Genocide Research, vol. 13, issue 3 (2011), pp. 313–352.
[25] انظر على سبيل المثال:
Steven Katz, Historicism, the Holocaust, and Zionism: Critical Studies in Modern Jewish Thought and History (New York: New York University Press, 1992), pp. 162–192; Yehuda Bauer, Rethinking the Holocaust (New Haven, Connecticut: Yale University Press, 2000), pp. 14–38; Saul Friedländer, Memory, History, and the Extermination of the Jews of Europe (Bloomington: Indiana University Press, 1993), p. 113.
وقد ناقش آخرون موضوع تطبيق أنموذج (باراديم) التفرد / عدم الأسبقية على المحرقة. انظر على سبيل المثال:
Daniel Blatman, “Holocaust Scholarship: Towards a Post-Uniqueness Era”, Journal of Genocide Research, vol. 17, issue 1 (2015), p. 21–43; Dan Stone, “The Historiography of Genocide: Beyond ‘Uniqueness’ and Ethnic Competition”, Rethinking History, vol. 8, no. 1 (2004), pp. 127–142.
[26] انظر الهامش رقم 16.
[27] انظر على سبيل المثال:
Avishai Margalit, The Ethics of Memory (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 2002); John Torpey, Making Whole What Has Been Smashed: On Reparation Politics (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 2006); Elazar Barkan, The Guilt of Nations: Restitution and Negotiating Historical Injustices (New York: Norton, 2000).
ووفقاً لكارين فيرك، فإن هذه الاستثنائية بالتحديد في موضعة المحرقة كمقياس لـ "الذاكرة العالمية" هي التي تحجب ذاكرة النكبة. انظر:
Karin Fierke, “Who is My Neighbor? Memories of the Holocaust/al Nakba and a Global Ethic of Care”, European Journal of International Relations, vol. 20, issue 3 (September 2014), pp. 787–809.
[28] انظر على سبيل المثال:
Zeev W. Mankowitz, Life between Memory and Hope: The Survivors of the Holocaust in Occupied Germany (Cambridge: Cambridge University Press, 2002); Hagit Lavsky, New Beginnings: Holocaust Survivors in Bergen-Belsen and the British Zone in Germany, 1945–1950 (Detroit, Michigan: Wayne State University Press, 2002).
وللاطلاع على رؤية مغايرة، انظر:
Idith Zertal, From Catastrophe to Power: Holocaust Survivors and the Emergence of Israel (Berkeley, California: University of California Press, 1998).
[29] خلال منتصف وأواخر ثمانينيات القرن الماضي، ظهرت مؤسسة Historikerstreit الألمانية، التي أحاطت بقضية مقارنة المحرقة وتسفيهها. انظر على سبيل المثال:
Richard J. Evans, In Hitler’s Shadow: West German Historians and the Attempt to Escape from the Nazi Past (New York: Pantheon, 1989); Martin Broszat and Saul Friedländer, “A Controversy about the Historicization of National Socialism”, Yad Vashem Studies, vol. 19 (1988), pp. 1–47.
ومنذ ذلك الوقت ما زال هذا النقاش مستمراً بأشكال وسياقات متنوعة، وإحدى هذه الجولات الأخيرة كانت بين إسرائيل شارني و"مجلة أبحاث الإبادة الجماعية". انظر:
Israel W. Charny, “Holocaust Minimization, Anti-Israel Themes, and Antisemitism: Bias at the Journal of Genocide Research”, Journal for the Study of Antisemitism, vol. 7 (2016), pp. 1–28; Amos Goldberg et al., “Israel Charny’s Attack on the Journal of Genocide Research and its Authors: A Response”, Genocide Studies and Prevention, vol. 10, no. 2 (2016), pp. 3–22.
[30] Yehuda Bauer, The Jewish Emergence from Powerlessness (Toronto: University of Toronto Press, 1979).
[31] إن مسألة متى وبأي معنى ينتهي الحدث الصادم تُعدّ مسألة معقدة ومثيرة للجدل، لكنها من ناحية مفاهيمية مازالت تُعتبر مسألة لم يُستكمل استكشافها بعد. وفي الحقيقة، فإن الغوص في هذه القضية المعقدة فيما يتعلق بالإبادات الجماعية هو خارج نطاق هذا الفصل. للاطلاع على أدبيات مرتبطة بهذه المسألة، انظر:
Jens Meierhenrich, “How Genocides End: An Analytical Framework”, unpublished paper, Harvard University, May 5, 2008; Francois Furet, Interpreting the French Revolution (Cambridge: Cambridge University Press; Paris: Maison des Sciences de l’Homme, 1981), pp. 1–79; Yehuda Elkana, “The Need to Forget”, Haaretz, May 2, 1988; Marianne Hirsch, The Generation of Postmemory: Writing and Visual Culture after the Holocaust (New York: Columbia University Press, 2012).
[32] Ahmad H. Sa’di, “Remembering al-Nakba in a Time of Amnesia: On Silence, Dislocation and Time”, Interventions: International Journal of Postcolonial Studies, vol. 10, issue 3 (November 2008), pp. 381–399.
[33] راجع الأعمال المذكورة في الهامشَين رقم 2 و18 أعلاه. ولمزيد بشأن التمييز بين الظلم التاريخي والظلم المستمر، انظر:
Jeff Spinner-Halev, “From Historical to Enduring Injustice”, Political Theory, vol. 35, no. 5 (October 2007), pp. 574–597.
[34] للاطلاع على التأثير المستمر للنكبة في اللاجئين الفلسطينيين في سورية، انظر على سبيل المثال:
Anaheed al-Hardan, Palestinians in Syria: Nakba Memories of Shattered Communities (New York: Columbia University Press, 2016).
[35] تظهر في هذا السياق حتماً مسألة الروابط ما بين المفتي الحاج أمين الحسيني والنازيين، وهي مسألة يمكن اعتبارها وصمة عار أخلاقية وخطأ سياسياً يستحقان الإدانة القوية. انظر: عزمي بشارة، "العرب والمحرقة: تحليل العلاقة الإشكالية" (بالعبرية)، "زمانيم"، المجلد 13، العدد 53 (1995)، ص 54 - 71. غير أن هذه المسألة لم تحظَ بتأثير في السياسة النازية إزاء اليهود، ولا في التنفيذ الفظيع لهذه السياسة، بل يمكن اعتبارها مسألة رمزية مهمة، على الرغم من أنها لا تحمل أهمية تاريخية فيما يتعلق بالحل النهائي. مع ذلك، ومثلما لاحظ بيتر نوفيك في: Novic, The Holocaust in American Life, op. cit., p. 158، فإن المفتي مُنح تدوينة في موسوعة المحرقة، نشرها ياد فشيم وحرّرها إسرائيل غوتمان، واحتلت ضعف المساحة التي احتلها كل من غوبلز وغورينغ. فهناك عدد من الأعمال كُتب عن موقف العالم العربي والحركة الوطنية الفلسطينية إزاء المحرقة، وكثير منها توصّل إلى استنتاجات معاكسة تقريباً. انظر:
Gilbert Achcar, The Arabs and the Holocaust: The Arab-Israeli War of Narratives, translated by G. M. Goshgarian (New York: Metropolitan, 2010); Litvak and Webman, From Empathy to Denial…, op. cit.; Jeffrey Herf, Nazi Propaganda for the Arab World (New Haven, Connecticut: Yale University Press, 2009).
[36] تستمر هذه الحالة على الرغم من القرار رقم 194 (الفقرة 11) للجمعية العامة للأمم المتحدة.
[37] انظر على سبيل المثال:
As’ad Ghanem, The Palestinian-Arab Minority in Israel, 1948–2000 (New York: SUNY Press, 2001).
وانظر أيضاً: عادل مناع، "نكبة وبقاء" (بالعبرية)، (تل أبيب: معهد فان لير وهكيبوتس هميئوحاد، 2017)؛ موقع "عدالة" / المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، وخصوصاً قاعدة بيانات القوانين التمييزية في إسرائيل، في الرابط الإلكتروني.
[38] انظر أيضاً، خطاباً إذاعياً أدلى به محمود درويش في الذكرى الخمسين للنكبة، في الرابط الإلكتروني.
وكذلك:
Edward Said, “Israel-Palestine: A Third Way”, Le Monde diplomatique (September 1998).
[39] Idith Zertal, Israel’s Holocaust and the Politics of Nationhood, translated by Chaya Galai (Cambridge: Cambridge University Press, 2005); Moshe Zuckermann, Zweierlei Holocaust: Der Holocaust in den politischen Kulturen Israels und Deutschlands (Göttingen: Wallstein, 1988); Avraham Burg, The Holocaust is Over: We Must Rise from its Ashes (New York: Palgrave Macmillan, 2008).
وللاطلاع على الاستخدام الفاعل للمحرقة في السياق الأميركي، انظر:
Novick, The Holocaust in American Life, op. cit.; Norman Finkelstein, The Holocaust Industry (London: Verso, 2001).
[40] Michael Rothberg, Multidirectional Memory: Remembering the Holocaust in the Age of Colonization (Stanford, California: Stanford University Press, 2009).
[41] انظر:
Alexander, “On the Social Construction of Moral Universals…”, op. cit.
[42] انظر:
Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem Revisited (Cambridge: Cambridge University Press, 2004), p. 310.
[43] مقتبس في:
Benny Morris, 1948 and After: Israel and the Palestinians (Oxford: Clarendon, 1990), pp. 50-51.
[44] مقتبس في: Ibid., p. 488.
[45] Rabbi Binyamin, “To Our Infiltrator Brother”, Ner, vol. 7, no. 7 (March 1956), (in Hebrew).
[46] انظر:
Benny Morris, Israel’s Border Wars, 1949–1956: Arab Infiltration, Israeli Retaliation, and the Count-down to the Suez War (Oxford: Oxford University Press, 1993).
[47] انظر:
Daniel Monterescu, “The Ghettoization of Israel’s ‘Mixed Cities’,” +972 Magazine, December 5, 2015.
وأيضاً:
Daniel Monterescu, Jaffa: Shared and Shattered (Bloomington: Indiana University Press, 2015), pp. 40, 112–113, 135.
وراجع كذلك الفصل الذي كتبته يوخي فيشر (Yochi Fischer) في هذا الكتاب.
[48] منديل مان، "في قرية مهجورة"، (بالعبرية)، ترجمها عن الييديشية إلياهو شافير (تل أبيب: هكيبوتس هميئوحاد، 1956) ؛ غالي دروكر بارعام، "في صوتهم وفي لغتهم"، (بالعبرية)، في "إسرائيل في عيون الناجين من المحرقة"، تحرير داليا عوفر (القدس: ياد فاشيم، 2015)، ص 353 - 382. و"تل المسجد" هو اسم وهمي لقرية فلسطينية مهجورة.
[49] صقلغ بلدة فلسطينية غير يهودية تقع في منطقة جنوبي الخليل بين القدس والنقب، ووفقاً للرواية التوراتية، فإن داود لجأ إليها بسبب ملاحقة شاؤول له لقتله، وكان أخيش ملك الفلسطينيين قد منحها له. واللافت أن أخيش ورعاياه كانوا في خضم حرب مع الإسرائيليين في تلك الفترة، وقد شارك فيها جند داود إلى جانب الملك أخيش (انظر: سفر صموئيل الأول، الإصحاح 27: 6؛ الإصحاح 30: 1، 14، 26).
[50] Smilansky Yizhar, “The Prisoner”, translated by V. C. Rycus, in: Sleepwalkers and Other Stories: The Arab in Hebrew Fiction, edited by Ehud Ben-Ezer (Boulder, Colorado: Lynne Rienner Publishers, 1999), pp. 57–72; Smilansky Yizhar, Khirbet Khizeh, translated by Nicholas de Lange and Yacob Dweck (Jerusalem: Ibis, 2008); Gil Anidjar, The Jew, the Arab: A History of the Enemy (Stanford, California: Stanford University Press, 2003), pp. 113–149.
[51]أفوت يشورون، "فيسح هكوخيم"، في "أفوت يشورون: كل شيراف"، تحرير بنيامين هارشاف وهيليت يشورون (تل أبيب: هكيبوتس هميئوحاد، 1995)، المجلد 1، ص 81 - 84 (بالعبرية)؛ أفوت يشورون، "منطق"، في المصدر نفسه، ص 104. وانظر أيضاً:
Hannan Hever, “‘The Two Gaze Directly into One Another’s Face’: Avot Yeshurun Between the Nakba and the Shoah—An Israeli Perspective”, in: “History and Responsibility: Hebrew Literature Facing 1948”, special issue, Jewish Social Studies, vol. 18, no. 3 (Spring/Summer 2012), pp. 153–163; Michael Gluzman, The Politics of Canonicity: Lines of Resistance in Modernist Hebrew Poetry (Stanford, California: Stanford University Press, 2003), pp. 157–159.
[52] الاستثناءات البارزة لهذا الاتجاه تشمل كتّاباً مثل يورام كانيوك ويشاياهو ليبويتز.
[53] عقب حرب 1967، اتّبع المثقفون في العالم العربي، مثل مصطفى الحسيني وصادق جلال العظم وإلياس مرقص، الذين تأثروا كثيراً بالمستشرق الماركسي اليهودي الفرنسي ماكسيم رودنسون، خطوطاً مشابهة. انظر:
Kamil, Der Holocaust…, op. cit., pp. 127-166.
[54] إلياس خوري، "باب الشمس" (بيروت: دار الآداب، 1998). وضمن هذا السياق انظر أيضاً:
Amos Goldberg, “Narrative, Testimony, and Trauma: The Nakba and the Holocaust in Elias Khoury’s Gate of the Sun”, Interventions: International Journal of Postcolonial Studies, vol. 18, issue 3 (February 2016), pp. 335–358.
وللاطلاع على قراءة مضيئة على رواية خوري في سياق شبيه للغاية بنقاشنا، انظر:
Jacqueline Rose, Proust among the Nations: From Dreyfus to the Middle East (Chicago, Illinois: University of Chicago Press, 2011), pp. 183–188.
[55] إلياس خوري، "أولاد الغيتو: اسمي آدم" (بيروت: دار الآداب، 2016).
[56] انظر أيضاً: رائف زريق، "كيف يتكلم الصمت ويصمت الكلام"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 107 (صيف 2016)، ص 189 - 198.
[57] انظر: ربعي المدهون، "مصائر: كونشرتو الهولوكست والنكبة" (بيروت: مؤسسة الدراسات العربية؛ حيفا: مكتبة كل شيء، 2015)؛ سوزان أبو الهوى، "بينما ينام العالم"، ترجمة سامية شنان تميمي (الدوحة: دار بلومزيري – مؤسسة قطر للنشر، 2012).
[58] انظر:
Said, The Question of Palestine, op. cit., p. 119.
[59] Anaheed al-Hardan, “Al-Nakbah in Arab Thought: The Transformation of a Concept”, Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East, vol. 35, no. 3 (December 2015), p. 623.
[60] انظر:
Zreik, “When Does a Settler Become a Native?...”, op. cit.; Derek Penslar, “Is Zionism a Colonial Movement?”, in: Israel in History: The Jewish State in Comparative Perspective (London: Routledge, 2006), pp. 90–111.
[61] راجع: فرانز فانون، "معذبو الأرض" (بيروت: دار الطليعة، 1963). وانظر كذلك:
Maxime Rodinson, Israel: A Colonial-Settler State? translated by David Thorstad (London: Pathfinder, 1973); Patrick Wolfe, “Settler Colonialism and the Elimination of the Native”, Journal of Genocide Research, vol. 8, issue 4 (2006), pp. 387–409; Patrick Wolfe, “New Jews for Old: Settler State Formation and the Impossibility of Zionism: In Memory of Edward W. Said”, Arena Journal, vol. 37/38 (September 2012), pp. 285–321; Lorenzo Veracini, “The Other Shift: Settler Colonialism, Israel, and the Occupation”, Journal of Palestine Studies, vol. XLII, no. 2 (Winter 2013), pp. 26–42.
[62] انظر على سبيل المثال:
Moshe Zimmermann, Deutsche gegen Deutsche: Das Schiksal der Juden 1938–1945 (Berlin: Aufbau, 2008).
[63] بشأن اليهود والعملية الألمانية لبناء الأمة، انظر:
Shulamit Volkov, Germans, Jews, and Antisemites: Trials in Emancipation (Cambridge: Cambridge University Press, 2006).
[64] الأدبيات بشأن هذه القضايا واسعة ومتنوعة للغاية، لكننا سنذكر فقط نصّين أضحيا في وقتنا الراهن مصدرين أساسيين مهيمنين:
Arthur Hertzberg, The French Enlightenment and the Jews: The Origins of Modern Anti-Semitism (New York: Columbia University Press, 1990); Shmuel Almog, Nationalism & Antisemitism in Modern Europe, 1815–1945 (Oxford: Pergamon, 1990).
[65] طبعاً، كان ثمة مَن رأى الحل في الشيوعية أو في الديمقراطية الغربية، وفي أغلب الأحيان في الهجرة إلى أميركا. وتؤكد عديت زرتال أن القادة الصهيونيين استغلوا، في حالات كثيرة، الناجين من المحرقة، لا بل وصل بهم الأمر إلى إساءة معاملتهم، لمصلحة النضال الصهيوني. انظر:
Idith Zertal, From Catastrophe to Power: Holocaust Survivors and the Emergence of Israel (Berkeley, California: University of California Press, 1998).
ومع ذلك، فإن عديدين من الناجين، إن لم يكن أكثرهم، متعاطفون بطريقة أو بأُخرى مع المشروع الصهيوني.
[66] يجب أن نضيف إلى هذا عوامل أُخرى عديدة: عملية إنهاء الاستعمار في بريطانيا العظمى بعد الحرب؛ تأثير اللوبي اليهودي في الرئيس ترومان؛ دعم الاتحاد السوفياتي لخطة التقسيم؛ وغير ذلك. انظر على سبيل المثال:
Arieh Kochavi, Post-Holocaust Politics: Britain, The United States, and Jewish Refugees, 1945–1948 (Chapel Hill: University of North Carolina Press, 2001).
[67] Walid Khalidi, “Revisiting the UNGA Partition Resolution”, Journal of Palestine Studies, vol. XXVII, no. 1 (Autumn 1997), pp. 5–21.
[68] لمزيد من اللمحات العامة، انظر:
Anthony Dirk Moses, ed., Empire, Colony, Genocide: Conquest, Occupation, and Subaltern Resistance in World History (New York: Berghahn, 2008); Anthony Dirk Moses, “Conceptual Blockages and Definitional Dilemmas in the ‘Racial Century’: Genocides of Indigenous Peoples and the Holocaust”, Patterns of Prejudice, vol. 36, no. 4 (2002), pp. 7–36; Omer Bartov and Eric D. Weitz, Shatterzone of Empires: Coexistence and Violence in the German, Habsburg, Russian, and Ottoman Borderlands (Bloomington: Indiana University Press, 2013); Enzo Traverso, The Origins of the Final Solution, translated by Janet Lloyd (New York: New Press, 2003); Roberta Pergher et al., “The Holocaust: A Colonial Genocide? A Scholars’ Forum”, Dapim: Studies on the Holocaust, vol. 27, no. 1 (2013), pp. 40–73.
[69]Karl Korsch, “Notes on History: The Ambiguities of Totalitarian Ideologies”, New Essays, vol. 6, no. 2 (Fall 1942), p. 3.
وهو مقتبس في: Traverso, The Origins…, op. cit., p. 50.
[70] Aimé Césaire, Discourse on Colonialism, translated by Joan Pinkham (New York: Monthly Review Press, 2000), p. 36.
وللاستفاضة بشأن هذه الأفكار، انظر:
Anthony Dirk Moses, “Colonialism”, in: The Oxford Handbook of Holocaust Studies, edited by Peter Hayes and John K. Roth (Oxford: Oxford University Press, 2010), pp. 68–80.
[71] انظر: حنّة أرندت، "أصول التوتاليتارية"، ترجمة أنطوان أبو زيد (بيروت: دار الساقي، 1993). وكذلك النسخة الإنجليزية:
Hannah Arendt, The Origins of Totalitarianism (Cleveland: Meridian, 1962).
[72] Mark Mazower, Hitler’s Empire: Nazi Rule in Occupied Europe (London: The Penguin Press, 2008); Wendy Lower, Nazi Empire Building and the Holocaust in the Ukraine (Chapel Hill: University of North Carolina Press, 2005); Journal of Genocide Research, vol. 19, issue 1 (2017), a special issue dedicated to this topic; Christian Gerlach, The Extermination of the European Jews (Cambridge: Cambridge University Press, 2016).
وجدير بالذكر مدى تأثير القوانين العنصرية الأميركية في قوانين نورمبرغ النازية. راجع:
James Q. Whitman, Hitler’s American Model (Princeton, New Jersey: Princeton University Press, 2017).
[73] قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 60/7, A/RES/60/7 (1 تشرين الثاني / نوفمبر 2005)، بشأن اعتبار يوم 27 كانون الثاني / يناير يوماً دولياً سنوياً لإحياء ذكرى ضحايا المحرقة. وهذا الموضوع يقع خارج نطاق هذه المقدمة، إلّا إن العلاقة بين منهج "القتل الرحيم" النازي وبين قتل اليهود والرومانيين وغيرهم يتم تناولها على نطاق واسع في الأدبيات.
[74] انظر الأعمال المشار إليها في الهوامش رقم 65، 68، 69.
[75] Raz Segal, Genocide in the Carpathians: War, Social Breakdown, and Mass Violence (Stanford, California: Stanford University Press, 2016).
[76] انظر: Arendt, Origins of Totalitarianism, p. 290.
وراجع أيضاً:
Bessel and Haake, Removing Peoples, op. cit.; Mark Levene, Genocide in the Age of the Nation-State (London: Tauris, 2005); Michael Mann, The Dark Side of Democracy: Explaining Ethnic Cleansing (Cambridge: Cambridge University Press, 2005); Benjamin Lieberman, “ ‘Ethnic Cleansing’ versus Genocide?” in: The Oxford Handbook of Genocide Studies, edited by Donald Bloxham and Anthony Dirk Moses (Oxford: Oxford University Press, 2010), pp. 42–60.
[77] Donald Bloxham, The Final Solution: A Genocide (Oxford: Oxford University Press, 2009); Mark Levene, The Crisis of Genocide: The European Rimlands, 1912–1953 (Oxford: Oxford University Press, 2013), 2 vols.
[78] بعد وقت قصير من نشرها، باتت رواية "باب الشمس" الملحمية معروفة كإحدى الروائع الأدبية في كل من الأدب الفلسطيني والعربي. انظر على سبيل المثال:
Adina Hoffman, “Recollecting the Palestinian Past”, Raritan, vol. 26, no. 2 (Fall 2006), pp. 52–61.
[79] انظر: خوري، "باب الشمس"، مصدر سبق ذكره، ص 291.
[80] يربط ليتفاك وويبمان هذا النوع من المحاججات باتجاه جديد في الخطابات العربية والفلسطينية التي تنتقد "التصورات العربية السائدة بشأن المحرقة"، وتدعو إلى "اعتراف لا لبس فيه بمعاناة الشعب اليهودي، والذي سيقود في نهاية المطاف إلى الاعتراف بالمأساة الفلسطينية وتسهيل المصالحة." انظر:
Litvak and Webman, From Empathy to Denial…, op. cit., pp. 309-311.
[81] هذه الكلمات لها صدى في مقالة كتبها الأديب المصري الشهير طه حسين في سنة 1946، والذي خلال رحلته من مصر إلى بيروت، رأى مشهداً "مفجعاً" للاجئين يهود يركبون السفينة في ميناء حيفا، فصوّره بحساسية وتعاطف كبيرين: "كان بعضهم يحمل في نفسه الإرادة للعيش التي تشعل في قلوب أفراده التعيسة الأمل واليأس، الرضا والمرارة، السرور والألم [....] وكانوا يفتشون في فلسطين عن الأمن والدفاع"؛ لكن حسين يضيف أن "سكان فلسطين لم يُسألوا عن ذلك، ولم يُطلب منهم حماية هؤلاء اللاجئين"، وبالتالي يجب السعي لحل مشكلات هؤلاء اللاجئين في مكان آخر (مقتبس في: Kamil, Der Holocaust…, op. cit., p. 176).
[82] خوري، "باب الشمس"، مصدر سبق ذكره، ص 291.
[83] Lynn Hunt, Inventing Human Rights: A History (New York: Norton, 2007).
[84] Hannan Hever, “The Post-Zionist Condition”, Critical Inquiry, vol. 38, no. 3 (Spring 2012), pp. 630–648.
[85] Dominick LaCapra, Writing History, Writing Trauma (Baltimore, Maryland: John Hopkins University Press, 2001).
وقد وجدنا مقاربة لاكابرا مفيدة للغاية لهذه المقدمة، مع أن كثيرين من مفكّري ما بعد البنائية، مثل دريدا، وليوتار، وليفيناس، وأغامبين، وفيلمان، وغيرهم كثير، ناقشوا هذه القضايا الأخلاقية ونوعها بطول وعمق هائلين. وللاطلاع على ملخص قصير ومريح، راجع الكتاب التالي، وتحديداً الجزء الأول منه:
Robert Eaglestone, The Holocaust and the Postmodern (Oxford: Oxford University Press 2004).
[86] إن "عدم الاستقرار العاطفي" ليس الاعتبار الوحيد أو المحاولة الوحيدة التي تسعى للتنظير لـ "الآخرية" على نحو بنّاء كتحدّ عاطفي وأخلاقي، عوضاً عن كونه مشكلة يجب التخلص منها. وقد حاول ليفيناس وأدورنو وعدة أشخاص آخرين تقديم ارتباط بنّاء مع "الآخرية" كجزء من تكوين الشخصية والهوية، غير أن تناول هذه المحاولات وفحصها بشكل نقدي يُعتبران خارج نطاق هذه المقدمة.
[87] LaCapra, Writing History…, op. cit., p. 141.
[88] Ibid., p. 212.
[89] Zygmunt Bauman, Postmodernity and its Discontents (New York: New York University Press, 1997), pp. 5–16.
[90] Sigmund Freud, “Totem and Taboo”, in: Totem and Taboo and Other Works: The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud, vol. 13, edited by James Strachey (London: Hogarth, 1955), p. 13; Jacques Lacan, “The Mirror Stage as Formative of the Function of the I as Revealed in Psychoanalytic Experience”, in: Ecrits: A Selection, translated by Alan Sheridan (New York: Norton, 1977), pp. 1–7.
[91] تعود هذه الثيمة لتظهر مجدداً كثيمة مهيمنة في نهاية رواية "باب الشمس".
[92] انظر على سبيل المثال:
LaCapra, Writing History…, op. cit., pp. 90-94.
[93] جرى كثير من النقاش النظري بشأن أخلاقيات وشاعرية الصدمة والشهادة والتمثيل، وبشأن أدب المحرقة ووثائقيتها وتمثيلاتها الفنية. فالأدبيات عن هذه القضايا واسعة، وتتضمن كتابات لـ: بريمو ليفي؛ جاك دريدا؛ جان فرنسوا ليوتار؛ جورجيو أغامبين؛ شوشانا فيلمان؛ وغيرهم كثير، ومناقشتنا لخوري تستند على نطاق واسع إلى هذه الأدبيات. للاطلاع على دراسة شاملة ومحدّثة بشأن "الشاهد"، راجع:
Michal Givoni, The Care of the Witness: A Contemporary History of Testimony in Crises (Cambridge: Cambridge University Press, 2016).
[94] LaCapra, Writing History…, op. cit., p. 41.
[95] يتناول سول فريدلندر هذه الظاهرة في نقاش لأخلاقيات الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار، فيقول: "إن السعي للشمولية والإجماع، في نظر ليوتار، يُعتبر أساس المؤسسة الفاشية." انظر:
Saul Friedländer, ed., “Introduction” to: Probing the Limits of Representation (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 1992), p. 5.
[96] انظر:
Amos Goldberg, “The Victim’s Voice and Melodramatic Aesthetics in History”, History and Theory, vol. 48, no. 3 (October 2009), pp. 220–237.
[97] Vamik D. Volkan, “Transgenerational Transmissions and Chosen Traumas: An Aspect of Large-Group Identity”, Group Analysis, vol. 34, no. 1 (March 2001), p. 95.
[98] خوري، "باب الشمس"، مصدر سبق ذكره، ص 292.
[99] Yair Auron, The Holocaust, Rebirth, and the Nakba: Memory and Contemporary Israeli-Arab Relations (Lanham, Maryland: Lexington Press, 2017).
[100] LaCapra, Writing History…, op. cit., p. 149.
[101] انظر مقابلة ليرون مور مع إلياس خوري في الرابط الإلكتروني.
ولمزيد بشأن الجذور الثقافية والتاريخية لهذه المقاربة الإقليمية التي تستفيد من التنوع الثقافي لبلاد الشام، انظر على سبيل المثال:
Ammiel Alcalay, After Jews and Arabs: Remaking Levantine Culture (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1993).
[102] راجع على سبيل المثال:
Said, Edward. “Truth and Reconciliation”, “Al-Ahram Weekly Online”, issue no. 412 (January 14–20, 1999); Said, Edward. “The Only Alternative”, “Al-Ahram Weekly Online”, issue no. 523 (March 1–7, 2001); Lama Abu-Odeh, “The Case for Binationalism: Why One State-Liberal and Constitutionalist-May Be the Key to Peace in the Middle East”, “Boston Review”, December 1, 2001; Teodora Todorova, “Reframing Bi-Nationalism in Palestine-Israel as a Process of Settler Decolonisation”, Antipode, vol. 47, no. 5 (November 2015), pp. 1367–1387; Judith Butler, Parting Ways: Jewishness and the Critique of Zionism (New York: Columbia University Press, 2012).
[103] Tamar Hermann, “The Bi-National Idea in Israel/Palestine: Past and Present”, Nations and Nationalism, vol. 11, no. 3 (July 2005), pp. 384–385.
[104] تحدثنا عن ذلك بتفصيل في:
Bashir Bashir and Amos Goldberg, “Deliberating the Holocaust and the Nakba: Disruptive Empathy and Binationalism in Israel/Palestine”, Journal of Genocide Research, vol. 16, issue 1 (2014), pp. 77–99.
[105] Butler, Parting Ways…, op. cit., pp. 16, 208.
[106] للاطلاع على مسح مفيد فيما يتعلق بالنقاش بشأن الدولة الواحدة، بما يشمل الرؤى الثنائية القومية، انظر:
Bashir Bashir, “The Strengths and Weaknesses of Integrative Solutions for the Israeli-Palestinian Conflict”, The Middle East Journal, vol. 70, no. 4 (Autumn 2016), pp. 560–578; Leila Farsakh, “The One-State Solution and the Israeli-Palestinian Conflict: Palestinian Challenges and Prospects”, The Middle East Journal, vol. 65, no. 1 (Winter 2011), pp. 55–71.
وللاطلاع على النقد الموجه إلى ثنائية القومية، وخصوصاً لافتقارها إلى البرنامج، راجع:
Salim Tamari, “The Dubious Lure of Binationalism”, Journal of Palestine Studies, vol. XXX, no. 1 (Autumn 2000), pp. 83–87.
وقامت جوديث بتلر في مقالة لها في سنة 2016، بتقديم رؤى ثنائية القومية، ومسحتها بشكل مستفيض وعلى نحو أكثر دقة من دراساتها السابقة. انظر:
Judith Butler, “Versions of Binationalism in Said and Buber”, in: Conflicting Humanities, edited by Rosi Braidotti and Paul Gilroy (London: Bloomsbury, 2016), pp. 185–210.
[107] يراد من وراء تعبير "جماعاتية" (كترجمة للتعبير Communitarianism) وصف النزعات المحلية والجماعية المعاصرة. وقد برز هذا المفهوم أساساً في الربع الأخير من القرن العشرين، في سياق الجدل الثقافي الذي أثارته نظرية المفكر الأميركي جون رولز عن العدالة لفردانيتها المفرطة، وذلك وفقاً لبعض المنتقدين الذين اعتبروا أن إغفال القيم التي توفرها الروابط والعلاقات الاجتماعية والمجتمع المدني، من شأنه سلخ مفهوم العدالة عن أبعاده الاجتماعية، وإضعاف قدرة الأفراد ورغبتهم في المشاركة في القضايا العامة، وشعورهم بالمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية.
[108] LaCapra, Writing History…, op. cit., p. 150.
[109] Ibid.