Home Quarantine between Human Agency and Digital "Dumping"
Full text: 

مع انتشار نزعة التقدم التكنولوجي في القرن الحادي والعشرين، والتي تتجلى في انفجار الثورة المعلوماتية، والخوارزميات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي، أصبح الغزو الرقمي لعالمنا أحد الملامح الجوهرية التي تشكل نمط الحياة اليومية، وشكل العلاقات الإنسانية. كما أصبحت سيطرة الأعداد المهولة لتطبيقات الهواتف الذكية، مع وتيرة التسارع الإلكتروني الحالي، والهوس بـ "نتفلكس"، والهستيريا بألعاب الفيديو، والبيوت المبنية بواسطة تقنية ثلاثية الأبعاد (3D)، ونمو الشركات الريادية الإلكترونية، جميعها أشبه بـ "فرانكنشتاين"[1] رقمي يحتل حياتنا مثل رقاقات إلكترونية تخترق جلدنا، وتجتاح حمضنا النووي، ثم تحرّكنا كدمى خرساء استسلمت لصانعها. ومع نشوء روبوتات الويب، مثل "أليكسا" و"سيري"، والتي أحدثت تغيّراً في روتين حياتنا اليومي وكيفية اختبارنا للعالم من حولنا، وأضحت تخبرنا أبسط الأمور مثل "كم عدد الغرامات المتوفرة في كوب واحد من الحليب"، أصبح التوجه نحو الحتمية التكنولوجية، وأثرها في إحداث تغيير جوهري في حياتنا يتخذ صدقية وشيوعاً متزايدَين. إن الزمن الذي نعيشه حالياً، هو الزمن الذي يتزايد فيه التطور التكنولوجي باطراد لامتناهٍ، حتى يكاد يصبح غير قابل للتحكم فيه، وهو ما يُعرف بنظرية "التفرد" (singularity) في الاصطلاح العلمي. وبالتالي، أصبحت الفاعلية الإنسانية (human agency) مهددة وسط الإيمان المتزايد بسيناريو اقترابنا إلى عصر ما بعد الإنسانية - والمقصود بمفهوم الفاعلية الإنسانية هنا، هو قدرتنا كأفراد على التحكم والسيطرة على حياتنا واتخاذ القرارت بحرّية.

ومع الانتشار العالمي لوباء كورونا، وتطبيق سياسة الحجر المنزلي في معظم مدن العالم، أُدخلنا في الفضاء الرقمي "اللامحدود"، بعد أن أصبحنا مجبرين على حشر أجسادنا داخل المنازل، وإمضاء ساعات يومنا كلها بين العمل، والتعلم والترفيه "أونلاين".

أجسادنا ونظرية هايديغر عن "الوجود في العالم"

إن حجْر أجسادنا داخل الأماكن التي نسكنها، يستدعي استرجاع تأملات هايديغر بشأن ماهية الوجود في العالم، الأمر الذي سيقدم لنا فهماً أفضل لانخراط أجسادنا في العالم الخارجي، علاوة على توضيح أثر هذا الإجراء في الفاعلية الإنسانية للفرد، وفي تغير علاقتنا مع العالم الرقمي. إن تأملات هايديغر عن الوجود في العالم، لا تختزل الشيء بوجوده أو عدمه فحسب، بل تذهب أيضاً إلى خطوة أبعد، لتشرح أن كينونة الأشياء تتسم بـ "النشاط الوجودي"، وهو ما يعني أن العالم ليس نظاماً قائماً بشكل مجرد، وإنما يشمل مجموعة (أو شبكة) من التدخلات يمكن الإشارة إليها بـ "شمولية التدخلات" مثلما وصفها هايديغر (Wheeler 2018). وقد قدم هايديغر مثال المطرقة لشرح مقصده في كتاب "الكينونة والزمان" (Temporality and Temporalizing)، موضحاً أن المطرقة تنخرط في فعل "الطرق"، فتسرّع وظيفية الشيء الذي تطرقه، وبالنتيجة تساهم في تقديم خدمة ما، وهي حماية الإنسان من الطقس السيىء مثلاً، من خلال مساعدته في عملية بناء ملجأ ما.

يستطرد ميشال ويلر في شرحه لفلسفة هايديغر، بأن هذه العملية التي تؤدي بها المطرقة وظيفتها هي أشبه بـ "الشبكة"، فعندما "يبدأ الشخص بتتبّع مسار شبكة التدخلات، فإنه سيصطدم بشكل حتمي بتدخلات أُخرى كثيرة." بكلمات أُخرى، يمكن القول إن هذه العملية تشبه التفاعل التسلسلي في تأثير الدومينو (domino effect)، إذ إن التدخلات في عملية واحدة تؤدي بالضرورة إلى مجموعة أُخرى من التدخلات، وبالتالي فإن دفع أول حجر من أحجار الدومينو المصطفة بعضها إلى جانب بعض، سيؤدي بطبيعة الحال إلى دفع بقية الأحجار وانهيارها. وبالتالي، فإن عملية الطَّرْق لا تُختزل في فعل الطرق وحده، بل إنها أوسع من ذلك، وتشمل أفعالاً أُخرى، مثل: إزالة المسامير، وتفكيك الخزائن، وربما تستدعي النقل إلى مكان سكن جديد. يلخص ويلر نتيجة هذه التدخلات بأنها "شبكة متكاملة واسعة النطاق ذات أهمية مقترنة ومترابطة."

والسؤال المهم هنا هو: ماذا لو أردنا تطبيق فكرة شبكة التدخلات على كيفية وجود أجسادنا في العالم، والتمعن لاحقاً في معنى هذا الوجود في زمن كورونا؟ لنتخيل مثلاً أن ثمة فتاة اسمها "عبير"، ولنحاول رسم سيناريو لأنشطتها اليومية في الحالة الطبيعية قبل انتشار الوباء. عبير هذه، أمّ، أنهت عملها، وتحتاج إلى الرجوع إلى منزلها، ومن أجل التحرك من مكان عملها إلى مكان سكنها، تغادر مكان العمل، ثم تتوقف عند الصراف الآلي لسحب النقود. تمرّ لبعض الوقت في وسط السوق لشراء الأكل لعائلتها، ثم تستخدم المواصلات العامة، وأخيراً تمشي نحو المنزل. يستطيع الفرد عند تتبّع هذا المسار، ملاحظة تتابع فعل واحد بفعل آخر، ليشكل شبكة حتمية من التدخلات. ومن الجدير ملاحظته هنا، أنه ومن أجل العمل بشكل طبيعي في هذه الفضاءات، فإن نشاط وجود عبير فيها هو نشاط ذو طبيعة "جماعية"، أي أن انخراطها الجسدي مع العالم الخارجي، يتضمن بالضرورة الاصطدام بحشود جماعية، كنتيجة حتمية لتحركاتها، وذلك سواء في المواصلات العامة، أو في مكان العمل، أو في السوق، أو قريباً من البنك. وبالتالي، تصبح شبكة التدخلات لدى عبير حتمية، لأنها تستلزم التوجه نحو مسار من شأنه أن يشكل سلسلة من الأحداث المتتالية بحيث إن التحرك من "أ" إلى "د" يستلزم تشابكاً حتميّاً مع "ب" و"ج".

أمّا الآن وبعد معرفة كيفية عمل النشاط الجسدي للإنسان، يتوجب علينا أن نعرف علاقة ذلك بانتشار وباء الكورونا. وللأسف، فإن هذا النمط السائد للنشاط الإنساني، والذي يأخذ شكله من خلال التجمعات المحتشدة، يتطابق مع النمط نفسه الذي ينتشر به وباء كورونا، وهو نمط ذو طابع جماعي أيضاً، إذ يمكن لشخص أن ينقل العدوى إلى شخص آخر ربما ينقل بدوره إلى شخص آخر مرتبط به، وهذا الأخير قد ينقل العدوى إلى شخص آخر، وهلمّ جرّاً. ولعل نموذج المريضة رقم 31 في كوريا الجنوبية هو أفضل مثال لتقريب فكرة نقل العدوى.

"المريضة رقم 31"

نشر موقع رويترز غرافيكس في 20 آذار / مارس 2020 مقالة يوضّح فيها كيف انتشر الفيروس في كوريا الجنوبية، مفصّلاً كيف وصل عدد المصابين إلى 5000 مصاب. وعند تتبع مسار وتحركات المواطنين، تبيّن أن الفيروس انتشر بواسطة مريضة واحدة، هي المريضة رقم 31. وفي هذه المقالة تُعرّف المريضة رقم 31 في كوريا الجنوبية بأنها المسؤولة عن إصابة أغلبية حالات الكورونا في البلد.

لكن كيف انتشرت العدوى؟

ذهبت المريضة إلى الكنيسة، ثم ذهب أعضاء الكنيسة إلى حضور جنازة، ثم عاد أعضاء الكنيسة إلى منازلهم. وأكثر من 80% من حالات الفيروس في البلد تُعزى اليوم إلى هذه المريضة.

إذا ما أردنا التغاضي عن الجانب السيىء من نمط الانتشار هذا، والذي يتجسد في عدوى الآخرين بسهولة وسرعة شديدتين، فإن هذا النمط يشير إلى الطريقة الشيقة التي يعمل بها الفيروس. فقد سافر الفيروس من المنزل، إلى الكنيسة، إلى الجنازة، ثم عاد إلى المنزل، فتضخم أثر الانتشار، كأثر الدوائر التي تتشكل في الماء عند إلقاء حجر في البحيرة، الأمر الذي يوضح بجلاء شبكة التدخلات هنا. وبالتالي، إذا ما أردنا التفكير في منطق هذا العمل بشكل معكوس لحماية الأفراد من الإصابة، فإن الأمر يستلزم أن يبقى الفرد بعيداً عن هذه الشبكة من التدخلات، أي أن يصبح منعزلاً عنها؛ فإذا لم تخرج المريضة من المنزل، فإنها لن تتسبب بنقل العدوى إلى الأشخاص الذين ذهبوا إلى الكنيسة، والذين بدورهم لن ينقلوا العدوى إلى الأشخاص الموجودين في الجنازة، وهؤلاء بدورهم لن ينقلوها إلى عائلاتهم عندما يعودوا إلى منازلهم في آخر النهار، وبالتالي يتم احتواء الفيروس!

الفاعلية الإنسانية وسط أزمة الوباء

إن نمط انتشار وباء كورونا، يعني أن على الناس أن يذهبوا عكس نهج وجودهم الطبيعي في العالم، وأن يحتجزوا أجسادهم داخل منازلهم، من أجل البقاء في قيد الحياة وإنقاذ حياتهم وحياة الآخرين. وبالتالي، امتلأت وسائل الإعلام كلها بأوصاف تشير إلى نوع من التحديد، مثل: "احتواء" الانتشار، أو "تقليص" النشاط، أو "تقليل" وتيرة العمل، في حقبة من الزمان تراهن على لامحدودية تسارع التقدم التكنواوجي في تغيير العالم من حولنا. لكننا أصبحنا الآن نعيش في زمن وباء يُطلب فيه من الناس المكوث في المنزل. إنه الزمان الذي يقدم فيه أجدادنا نصائحهم من تجاربهم في أزمات ماضية، والذي يعود فيه العلماء إلى كتب التاريخ، ليبحثوا في مرجعيات أوبئة قديمة. فعلى الرغم من جميع التطور الذي وصلنا إليه، فإنه زمن ما زال يُعتبر فيه الماضي مرجعاً، كأنها دعوة إلى التذاكي على آلة الزمن، والتباطؤ في وتيرة حياتنا.

بهذا التجاوب مع الأزمة، لن تنقذنا هذه المرة الشركات العالمية، كما لن تنقذنا أرباح أغنياء العالم. لن تنقذنا سياسات الفايسبوك، ولا قوانين غوغل، ولا تطبيقات سامسونغ. سينقذنا قرار البشر فيما سيفعلون بأجسادهم، وستنقذنا قدرة الناس على السيطرة على أنشطتهم، وتحركاتهم وقراراتهم. في هذه الأزمة، سيتذكر البشر لأول مرة منذ فترة بعيدة، وربما منذ أن أُسقطت كلمة "ذكاء" من البشر، ونُسبت إلى الهواتف والماكينات! أنهم فاعلون نشيطون في مواجهة مشكلة ما.

نعم، نصبح نحن البشر منقذي البشرية، نصبح الأبطال! ومع أن ذلك بدا غير واقعي قبل بضعة أسابيع، حين كانت الرأسمالية هي الآمر والناهي، إلّا إن الأمر لم يعد هكذا الآن، كما لم تعد كذلك أيضاً السيكولوجيا النيوليبرالية التي تقوم بالحكم على قيمة الفرد بشعارات أنانية مثل "المال هو الأهم"، أو "الفرد بلا قيمة إذا لم يكن لديه وظيفة". أمّا الآن، فإن هذا الوباء يغير من غطرسة المنطق الرأسمالي، ويقول للفرد بشكل مباشر: "أنت تمتلك قيمة لأنك إذا تحركت من منزلك، فإنك ستنقل العدوى إلى الجميع. وبالتالي، مهما تعتقد أنك بلا قيمة، فإنك لست كذلك، لأنك إذا بقيت داخل منزلك، فسيكون لديك قيمة تكفي لوقف انتشار الفيروس عند الرقم 31. بهذا القدر أنت ذو قيمة، وبهذا القدر أنت ذو قرار، وبهذا القدر أنت بطل."

العلاقة المركّبة بين العالم المادي والرقمي

أظهرت هذه الأزمة أن انخراط البشر ما بين العالم المادي والرقمي، هو انخراط معقد ومُركّب يشبه مَن يقف على ناصية حبل رفيع على حدود فضاء مفصلي. إن إنقاذ كوكبنا بسيطرتنا على أجسادنا، لا يعني أن انخراطنا الرقمي في العالم لم يكن يسيطر على حياتنا من قبل، بل إن درجات انغماسنا في الفضاء الرقمي كانت قد وصلت إلى ذروات قصوى، قبل أن تذكّرنا هذه الأزمة بحتمية ماديتنا، كفاعلين ناشطين نتحدى تحوّلنا الممنهج إلى فاعلين رقميين في عالم محكوم بنزعة "التسارع" كمعيار للتطور البشري.

في الوقت نفسه، وللمفارقة، وبما أننا الآن محتجزون إلى أجل غير مسمى، فإننا عدنا إلى فضائنا الرقمي، لكن هذه المرة "بشكل متواصل". فمنذ إعلان الحجر، تدفقت من صندوق "باندورا"[2] كميات مهولة من منشورات الصحة والسلامة والدورات المجانية عبر الإنترنت، ومن الفيديوهات التعليمية والنقاشات عبر "الويبينار" (webinar) والموارد التثقيفية والكتب والمسرحيات المجانية، والتي لا تستطيع أي قدرة تصفح عادية استيعابها. بالمختصر، نحن الآن مرغمون على أن نتحول إلى جهابذة ومتحاذقين في عالم الإنترنت، فنرى الآن معلمين لا يكادون يعرفون كيف يستخدمون أجهزة هواتفهم، وقد اضطروا إلى تعلّم تطبيقات معينة، من أجل تقديم المحاضرة في الفضاء الرقمي. كذلك نرى أصدقاء يعيدون تفعيل حساباتهم في الفايسبوك، كما نلاحظ أن الأصدقاء غير الفاعلين أيضاً، أصبحوا يضخون صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بأخبار وتحديثات بشكل مستمر. نحن إذاً مرميون في فضاء رقمي رحب، فضاء تحول إلى ملعبنا الجديد، أو بالأحرى إلى "بيتنا الجديد".

عاد الإيمان بالفاعلية الإنسانية،

لكن نشأ نوع جديد من "الإلقاء" الرقمي

إن النقلة الاضطرارية و"الكلية" من العالم المادي الخارجي إلى الشاشات الرقمية، هي نقلة أفضل ما يمكن وصفها بأنها غطسة في العالم الرقمي، إذ إننا نجد أنفسنا في هذا العزل كأننا أُلقينا بشكل مباغت في فضاء الإنترنت. وهذا التغيير المفاجىء يستدعي العودة مجدداً إلى توجه هايديغر بشأن الوجود في العالم، ومراجعة مفهوم "الإلقاء" (thrownness) الذي أشار إليه في فلسفة الوجود. يشرح هايديغر في هذا الطرح أنه تم إلقاء الإنسان في العالم من غير موافقته، فقد "جئنا إلى الوجود من دون قبولنا ورضانا، كما أننا لم نتسبب بوجودنا، ولم نضع أسس قدومنا إلى العالم، ولا نمتلك سلطاناً على وجودنا." بالتالي، يخلص هايديغر إلى أن البشر وجدوا أنفسهم "مقذوفين إلى الحياة"، وهو حدث جرى في الماضي بشكل حتمي، وتم تحديده قبل مجيئهم (Withy 2011, p. 17).

تقوم أماندا لاغركفست في مقالتها "الإعلام الوجودي: نحو تنظير الإلقاء الرقمي" بإسقاط مفهوم هذا "الإلقاء" إلى الحيز الرقمي. وعلى الأرجح، فإن مفهوم "الإلقاء الرقمي" كان قد حدث قبل الأزمة الحالية، نظراً إلى عدم قدرتنا على فصل التجربة الرقمية عن حياتنا في القرن الحادي والعشرين، إذ توضح لاغركفست كيف أننا مقذوفون بالقوة إلى العالم الرقمي. وإذا كان هناك فترة أكثر إلحاحاً للحديث عن هذا الإلقاء، فإنها ستكون الآن في زمن كورونا، فإن كان لدينا قليل من الخيار الشخصي المتبقي للتحكم في حياتنا الرقمية قبل الأزمة، فإننا سنجد أنفسنا الآن من دون أي خيارات، ذلك بأن مجرد الحاجة الأساسية إلى الاستمرار في كسب قوت رزقنا، يتطلب وجودنا على الإنترنت باستمرار من أجل البقاء في قيد الحياة. إذاً نحن في هذه الأزمة نغرق أكثر وأكثر في الفضاء الرقمي، للتعويض عن الغياب المادي في حياتنا، وبالتالي فإننا نتحول إلى "أجساد آلية" (device bodies) بحسب تعبير لاغركفست (Lagerkvist 2017)، ونؤدي دورنا في تقديم ذواتنا على الإنترنت.

توضح لاغركفست كيف أننا نقوم باتخاذ المسؤولية عن حياتنا في الفضاء الرقمي في أوقات الأزمة: "في حالات الإلقاء التام، وهي ما وصفها كارل جاسبرز في الظروف المحدودة مثل الموت الفجائي، والفقد، والصراع، والمعاناة والشعور بالذنب، يقوم الفرد بتحمل مسؤولية حياته وإعطائها شكلاً ما" (Lagerkvist 2017, p. 6). وهذا الأمر يعني أنه مع الإلقاء الرقمي التام جرّاء هذه الأزمة، تحوّل الإنترنت إلى حيز نُظهر من خلاله مسؤوليتنا في التعامل مع هكذا أزمة، إذ أصبح الإنترنت الحيز الذي تُعقد فيه اجتماعات الموظفين على تطبيق زوم (Zoom)، ويقدم فيه المعلمون حصصهم، كما يتم تقديم جميع وسائل الترفيه على مستوى عالٍ، مثل تقديم حصص الموسيقى، واللياقة البدنية، ودورات المسرح عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي التي هي المكان الذي تُعقد فيه النقاشات والورشات، وتُطلَق فيه أنشطة التضامن والحملات. أخيراً، يتحول هذا الحيز إلى مكان لصنع المعنى وسط الأزمة، فهو المكان الذي نفكر ونتأمل فيه عن وجودنا في أزمة مفاجئة وغير مسبوقة.

في هذا "البيت الجديد"، نحاول أن نصنع معنى للأزمة، وأن نفهمها، ونقوم بطرح أسئلة عديدة في الفضاء الرقمي: هل هذه الأزمة هي الوضع القائم؟ هل ستكون هذه الأزمة "الوضع القائم الجديد"؟ هل كنا أصلاً نعيش في أزمة من دون أن ندرك ذلك؟ هل جلبناها لأنفسنا أم وجدنا أنفسنا فيها وقد تم إلقاؤنا إليها؟

يوضح هايديغر عند الإسهاب في الحديث عن مفهوم الإلقاء، أن فكرة الإلقاء تحمل معها نوعاً من الظرفية أو الوضعية(situatedness) ، فعندما تكون مُلقى، فهذا يعني أنك "ملقى في ظرف أو وضع معين" (Withy 2011)، أي أننا في الحجر القائم نجد أنفسنا في وضع من الظرفية أُلقيت فيه البشرية كلها في أزمة الوباء. لكن هايديغر لم يناقش الظرفية بمعزل عن عملية "فهم المعنى" بشكل منطقي (sense making)، فالظرفية تكون مصحوبة بعملية فهم المعنى من الظرف، أي أن الإنسان يفهم المعنى من أمر ما، وهو في سياق أو ظرف ما. انطلاقاً من هذا الارتباط بين الظرفية وفهم المعنى في فلسفة الإلقاء، شاع العديد من التوجهات التي حاولت أن تشكل فهماً منطقياً لهذا الظرف الطارىء الذي وجدنا أنفسنا فيه: فرجال الدين ارتأوا أن هذه الأزمة هي دعوة للبشر إلى مرحلة من تطهير النفس من الذنوب في رحلة الإنسان على الأرض، أمّا ناشطو التغيير الاجتماعي، فوجدوا في هذه الأزمة فرصة للتأمل الفردي والجماعي، مطالبين باستغلالها لإحداث تغييرات جذرية في النظام الرأسمالي القائم، بينما رأى فيها ناشطو التغيير المناخي، دعوة كي يصبح فعل "الثورة" هو السياسة المعتمدة التي ترتكز عليها استراتيجيات حملاتهم. وأخيراً رأى العديد من الأفراد وناشطي المجتمع المدني في هذا الظرف دعوة إلى أن نكون أكثر رعاية وحناناً تجاه بعضنا البعض عبر إطلاق مبادرات صغيرة من التكاتف والتضامن المجتمعي.

في المحصلة، كثّفت هذه الأزمة من مفهوم "الفردية الشبكية" (networked individualism)، وهو المصطلح الذي تطور مع غزو وسائل التواصل الرقمي وثورة المعلومات لحياتنا، والذي يشير إلى تغير شكل تنظيم المجتمع من مجموعات منتسبة إلى انتماءات معينة (كالعائلة أو المؤسسة)، إلى مجتمع مترابط عبر أفراد في شبكات ذات بُنية مفككة ومتوزعة في عدة أماكن من العالم. ومع انتشار منصات التواصل الاجتماعي، أصبح الفرد متصلاً بالعالم أكثر من أي وقت مضى، من خلال ما أتاحته هذه المنصات للفرد من إمكان التواصل عبر تطبيقات كثيرة، مثل الواتساب، والفايسبوك، والمسينجر، والإنستغرام، والتي سهّلت انخراطه في عشرات المجموعات والصفحات السياسية والاجتماعية والترفيهية، وانضمامه إلى مساحة للنقاش والتواصل. وفي الوقت ذاته، يجد الفرد نفسه مع شبكة لا يعرفها تماماً، ويشعر معها بنوع من الاغتراب وعدم التواصل "الحقيقي" مع الجماعة، الأمر الذي أدى إلى تعميق شعوره بالوحدة في الحيّز الرقمي، لكن الفرق هو أننا جميعنا نشعر بها في الوقت نفسه، لذلك كثير ما يرافق هذا المفهوم فكرة أننا "وحيدون معاً". إلّا إن المفارقة تكمن في أن النقلة المفصلية في نظام العالم جرّاء الأزمة، سلطت الضوء على فكرة الشبكة أكثر من الفردية، وعلى فكرة أننا معاً في هذه المحنة، أكثر من فكرة شعورنا بالوحدة في عالم الإنترنت. بالتالي، ربما يمكن قراءة هذا التغير في كونه تعزيزاً لفكرة "الخلاص الجماعي"، وللأيديولوجيا الاشتراكية في الوجود الجماعي.

إلى متى يمكننا احتمال هذا "الغوص الرقمي"؟

على الرغم من الأثر البنّاء والمفيد لهذه الممارسات الرقمية، والتي يمكن القول إنها ساهمت في تعزيز مفهوم "الحتمية التكنولوجية" للإنترنت، فإن ثمة أسئلة تبرز، مثل: إلى متى يستطيع الناس تحمّل فكرة انتزاعهم من أسلوب وجودهم الطبيعي في الحياة؟ إلى أي مدى يمكن للرقمي "أن يعوض" عن المادي؟ إلى أي مدى يمكننا الاستمرار في هذا النهج المعيشي؟ إلى أي مدى نستطيع تحمّل انسلاخنا عن انخراط أجسادنا المعتاد في العالم... وبالمختصر، إلى أي مدى نستطيع العيش من دون شبكة من التدخلات؟

أعتقد أن التناقض في هذا الإلقاء إلى العالم الرقمي، هو أنه على الرغم من رحابته، فإنه محدود. وفي توضيحها لفلسفة هايديغر في الوجود، تقول ويثي: "أن تكون إنساناً يعني أن تكون حراً، تلقائياً، متجاوزاً(transcendent) ، ومحدوداً في الوقت نفسه" (Withy 2011, p. 2). وفي هذا الشأن، أعتقد أن الوصف ينطبق أيضاً على الفضاء الرقمي الذي على الرغم من أنه "يبدو" من دون حدود، ولامتناهياً (Lagerkvist 2017)، فإنه لا يزال محدوداً. فإذا كانت أغلبية الأنشطة الإنسانية اليومية قابلة لأن تتحول إلى الحيز الرقمي، إلّا إنه لا يمكن لكل شيء أن يتحول في هذا الاتجاه، وهذا لا يتعلق فقط بالجانب التقني لإمكان تطبيق النشاط، وإنما يُعزى إلى سبب أهمّ، وهو انعدام "الحيوية". فإذا كانت اجتماعات الأصدقاء على برنامج "زوم"، والعروض المنفردة والجماعية للفنانين، والفيديوهات اليومية للطبخ وممارسة الرياضة والرقص، جميعها توفر نوعاً من "الحرية"، و"التلقائية"، و"التجاوز"، إلّا إنها محدودة في أنها لا تستطيع تقديم "حيوية" الحقيقي. وفي النهاية، فإن فائض الحياة الذي يحدث في الفضاء الرقمي، يُنهك لذة الحياة الحقيقية، وهذا الفائض المهول بدأ يتحول إلى عبء صعب الاحتمال!

 

المراجع:

Belk, Russell W. (October 2013). “Extended Self in Digital world”. Journal of Consumer Research, vol. 40, issue 3, pp. 477-500. 

Lagerkvist, Amanda (January 2017). “Existential Media: Toward a Theorization of Digital Thrownness”. New Media & Society, vol. 19, issue 1, pp. 96-110.

The Korean Clusters: How Coronavirus Cases Exploded in South Korean Churches and Hospitals”. “Reuters”, March 20/3/2020.

Wheeler, Michael (2018). “Martin Heidegger”. “The Stanford Encyclopedia of Philosophy”.

Withy, Katherine (June 2011). “Situation and Limitation: Making Sense of Heidegger on Thrownness”. European Journal of Philosophy, vol. 22, issue 1, pp. 61-81.

 

المصادر:

[1] فرانكنشتاين هي رواية تتحدث عن عالِم شاب صنع مخلوقاً غريباً في تجربة علمية غير تقليدية لكنه تحول لاحقاً إلى وحش جلب المأساة إلى حياته. وقد اقترن اسم المخلوق الوحش بالعالِم الذي صنعه حتى أصبح اسم "فرانكنشتاين" يُستخدم في كثير من الأحيان للإشارة إلى الوحش نفسه.

[2] بحسب رواية الميثولوجيا اليونانية، فإن باندورا هي امرأة اقتادها فضولها إلى فتح صندوق لم يكن من المفترض فتحه، الأمر الذي تسبب لاحقاً بخروج جميع شرور الدنيا منه. وفي رواية لاحقة، يقول البعض إن الصندوق كان مليئاً بكثير من النعم للبشرية ما لم يخطىء البشر، لكن فضولهم لفتح الصندوق قتلهم.

Author biography: 

ريم شريدة: كاتبة فلسطينية من القدس.