هناك التباس لغوي في استخدام كلمة تطبيع، للحديث عن إقامة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية وثقافية بين العرب وإسرائيل، وهي ترجمة للكلمة الإنجليزية normalization، التي تعني إقامة علاقات عادية.
غير أن العرب المحدثين ينسون أو يتناسون حقيقة أنه لا يمكن فصل الكلمة عن تاريخها، فالطبع هو "السجية التي جُبل الإنسان عليها"، بحسب "لسان العرب". فهل إقامة علاقات عادية مع دولة احتلت فلسطين وشرّدت أهلها ونكبتهم، وتمارس ضدهم أعتى أشكال الاحتلال والقمع والتمييز وتنهب أرضهم، يجب أن يكون جزءاً من سجيتنا؟
وإذا تابعنا بحثنا اللغوي قليلاً، فسنجد أن أحد معاني كلمة طَبَع تكشف سر ما يجري، فيورد "لسان العرب" تفسيراً للكلمة في العبارة التالية: "طَبَع قفاه: مكّن اليد منها ضرباً."
غير أن "القاموس المحيط"، يشرح معاني الكلمة بعبارات أكثر وضوحا: "طبّع المهر: علمه الانقياد والطاعة."
من ضرب القفا إلى تعلم الانقياد والطاعة، ترتسم معنى كلمة تطبيع في ذاكرتنا اللغوية. فذاكرتنا اللغوية أكثر قدرة على الكشف عن المعاني الدقيقة للكلمات، ولا حاجة بها إلى تعمية تتولاها كلمات مترجمة غائمة المعاني.
إذا كان المعنى المقصود بكلمة تطبيع هو ترجمة لكلمة normalization ، فهذه ترجمة خطأ ويجب البحث عن كلمة أُخرى.
غير أن المسار التطبيعي المستجد الذي بدأ مع "اتفاقيات أبراهام" يأخذنا، على ما أعتقد، إلى المعنى العربي الذي وجدناه في "المحيط" و"لسان العرب"، فهذه الكلمة يجب أن تُستخدم في هذا السياق فقط، أي الانقياد والطاعة وتطبيع الأقفية.
فإذا كنا نريد أن نُبقي على استخدام كلمة تطبيع فإن علينا أن نجد لها معنى جديداً.
يحق لنا أن نسأل لماذا نتمسك بهذه الكلمة؟ أليس الأجدر بنا حذفها من القاموس، واستخدام كلمة جديدة هي التتبيع أو التبعية؟
كنت على وشك تقديم هذا الاقتراح حين فاجأني عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".
هذا الكتاب الذي يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، والذي دفع مؤلفه الحلبي حياته ثمناً له، يفتح لنا باب إعادة النظر في حياتنا الحاضرة وفي لغتنا.
الكواكبي كتب عن طبيعة الاستبداد في الزمن العثماني، وشرح علاقة الاستبداد بالاستعباد، وحلل بنية الاستبداد وفككه إلى عناصره المتعددة.
قصد المؤلف بكلمة طبْع وجمعها طبائع الجوهر والمظهر في آنٍ معاً، فالطبع في "لسان العرب" هو الخُلُق والسجية، والمؤلف لم يقل إن الاستبداد ظاهرة طبيعية، أو فطرة، وإنما قام بتحليله في أطره الاجتماعية والسياسية والفكرية والدينية، كي يدعو إلى إسقاط الاستبداد واستبداله بالحكم الديمقراطي.
هذا ما أراده الكواكبي، أمّا لماذا خلخل الرجل افتراضي المستجد عن ضرورة حذف كلمة تطبيع من قاموسنا فيعود إلى الجناس. فالطبائع تستدعي الطبيعة والتطبيع، مع أنها نقيضهما.
هل نستطيع أن نكمل كتاب الكواكبي بفصل جديد عنوانه تطبيع الاستبداد؟
لا أعتقد أن هذا المفكر والمصلح الحلبي سيكون سعيداً بالعنوان الجديد، لأننا سننسب الاستبداد إلى الطبيعة، وهذا خطأ فكري ولغوي في آنٍ معاً.
وكي لا نقع في الخطأ، لأننا تعلمنا من الكواكبي ومن تجارب شعوبنا أن الاستبداد ليس حالة طبيعية لا تُرد، فإننا سنفترض أن هناك محاولة لتطبيع الاستبداد. وهذا يتضمن افتراضاً واضحاً بأن مصير هذا التطبيع هو الفشل.
كلمة تطبيع ملائمة شرط استخدامها كتطبيع للاستبداد الذي يدمّر اليوم العالم العربي ويحيله إلى ركام. أمّا العلاقة بين أنظمة الاستبداد وإسرائيل فمن الأفضل استخدام كلمة حديثة لوصفها، إنها التتبيع. فالمستبدون اليوم يُطبَّعون (بفتح الباء) ولا يطبِّعون (بكسرها)، أي يجري استتباعهم بإرادتهم.
اقتراحي هو أن نستبدل كلمة تطبيع بكلمة تتبيع، فالتطبيع مثلما نفترض يقود إلى التتبيع، أي أن كلمة تطبيع المتداولة، والتي تُستخدم على نطاق واسع في صفوف المثقفات والمثقفين والناشطات والناشطين صارت بلا معنى.
فما يجري اليوم ليس تطبيعاً للعلاقات وليس سلاماً بين دول متعادية ومتحاربة، إذ لم يسبق أن خاضت الإمارات أو البحرين أو غيرهما من دول الخليج والمحيط حرباً مع إسرائيل، كي تصل إلى سلام وعلاقات طبيعية معها. عدا أن ما يجري علناً، بعد أعوام طويلة من العلاقات السرية، ليس علاقات طبيعية، بل هو أكثر من ذلك. إنه لجوء إلى الحماية الأميركية الإسرائيلية بشكل لا لبس فيه.
لا معنى لكلمة تطبيع مثلما يجري تداولها حالياً، فدور هذه الكلمة هو حجب الكلمة الملائمة أي التتبيع.
والتتبيع لإسرائيل وليس معها، هو جزء من دخول المشرق العربي في مرحلة كولونيالية جديدة، بعد الانهيار الشامل لمؤسسات الدول التي أوصلت إلى تفكك سياسي واجتماعي واقتصادي مخيف.
نحن نعيش اليوم في الحقبة الإسرائيلية.
سبق أن وصف المفكر السوري صادق جلال العظم المرحلة التي أعقبت حرب تشرين 1973، بالحقبة السعودية. ففي هذه الحقبة بدأ تسيّد النفط على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية العربية، وعرفت المنطقة بداية كوارثها، وغرقت في الدم والحروب الأهلية وهيمن عليها اتفاق كامب ديفيد الذي أخرج مصر من دورها الإقليمي، وكان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، واحتلال بيروت، ومذبحة شاتيلا وصبرا ذروتها. كما أن هذه المرحلة أحيت الوحش الأصولي الذي نما في الحرب الأفغانية، وترعرع على أيدي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والاستخبارات الباكستانية وبتمويل نفطي وأيديولوجي قامت به دول النفط ومحمياته. وفي هذه المرحلة أيضاً تسيّدت أنظمة الاستبداد على الشعوب العربية، وتم إخراج الفلسطينيين من معادلة السياسة العربية التي أوصلتهم إلى العزلة في الأرض المحتلة، ومهدت الطريق لاستسلام أوسلو.
المرحلة السعودية انتهت، فحجم التحديات التي يواجهها النظام السياسي العربي المترنح، وبروز العامل الإيراني بما أدخله من أشباح الصراع السنّي - الشيعي، أشعر الأنظمة بالحاجة إلى الحماية. لكن الحماية الأميركية تتراجع لأسباب جيو - استراتيجية تتعلق ببروز الصين كقوة اقتصادية دولية، وعودة روسيا التي تسعى لفكّ الحصار الأميركي المضروب عليها.
مَن يحمي أنظمة كانت شرعيتها مستمدة من القوى الخارجية؟
هنا جاءت إسرائيل لتملأ الفراغ، وبذا افتُتحت حقبة جديدة في المنطقة هي الحقبة الإسرائيلية.
وكان للحماية الإسرائيلية المفترضة ثمن فادح، هو أن يلحس حكام العرب لغتهم، ويكشفوا حقيقة علاقتهم بفلسطين، وينتهوا إلى اعتبار الصراع مجرد خلاف بين أحفاد إبراهيم، ويسلّموا بالرواية الصهيونية التي تدّعي حقاً "إلهياً" في "أرض الميعاد".
الحروب التي لم تكن
من السذاجة أن نعتقد أن الأنظمة العربية خاضت فعلاً مجموعة حروب ضد إسرائيل.
فحرب 1948 لم تكن حرباً، وإنما كانت حالة تشبهّت بالحرب من دون أن تكونها. لا أريد تبسيط الأمور، ففي الجبهة الشرقية جرت معركتان طاحنتان: معركة مدينة جنين التي حررت المدينة في سنة 1948 من الاحتلال الإسرائيلي، وخاضها الجيش العراقي إلى جانب المجاهدين الفلسطينيين، ومعركة القدس التي خاضها الفيلق العربي أي الجيش الأردني بقيادة غلوب باشا. والمعركتان كانتا رداً محدوداً على اعتداء إسرائيل على حدود اتفاق التقسيم، بين إمارة شرق الأردن وإسرائيل. وصف هاتين المعركتين بالردّ المحدود دقيق، لأن هناك مناطق أُخرى كاللطرون ومدينتَي اللد والرملة وغيرها، لم يجرِ الدفاع عنها.
الجبهة الجنوبية أي المصرية برهنت على عدم جهوزية الجيش المصري للقتال. وكان حصار الفالوجة أهم معاركها.
أمّا الجبهة الشمالية، أي سورية ولبنان، فشهدت عجزاً كاملاً توّجه انهيار جيش الإنقاذ.
السمة العامة لحرب 1948 هي أنها كانت حرب القبول بالتقسيم شرط عدم إنشاء كيان فلسطيني. أي أنها لم تكن حرباً، وإنما أدت دور الغطاء لعملية تطهير عرقي منظمة قامت بها القوات الإسرائيلية التي وُوجهت بمقاومة من الفلسطينيين ما لبثت أن تهاوت أمام التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح.
أمّا حرب 1956، فكانت عدواناً ثلاثياً على مصر شاركت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وعلى الرغم من المقاومة في مدن قناة السويس، فإن الجيش المصري لم يحارب إسرائيل، وإنما انسحب من سيناء لتفادي الوقوع في كماشة الجيوش التي هاجمت مصر من سيناء ومنطقة قناة السويس. والانتصار المصري كان نصراً سياسياً صنعه الصراع بين الاستعمارَين القديم والجديد والدور الردعي الذي قام به الاتحاد السوفياتي.
حرب حزيران 1967 كانت فضيحة برهنت أن ادعاءات الأنظمة الانقلابية بأنها بَنَت جيوشاً كانت كاذبة، إذ لم يكن هناك حرب، وإنما كان انسحاباً كارثياً وغير منظم.
الحرب الوحيدة الأولى والأخيرة كانت حرب تشرين 1973، لكنها كانت حرباً مقننة، وقاد نصف الانتصار الذي حققته إلى شيوع منطق التسليم بالتفوق الإسرائيلي: من كامب ديفيد إلى انهيار ما كان يسمّى الأمن القومي العربي.
لم تحارب الأنظمة العربية، على الرغم من الكلامولوجيا الوطنية كلها التي طبعت محاولاتها، لاكتساب شرعيتها من خطاب العداء لإسرائيل. فباستثناء حرب تشرين، كانت جميع المواجهات الكبرى شعبية قامت بها المقاومة، من حرب لبنان في سنة 1982، إلى المقاومتَين الوطنية والإسلامية في لبنان، إلى الانتفاضتَين الفلسطينيتين.
يجب وضع الأمور في نصابها الحقيقي، وتفكيك أسطورة الحروب التي خاضتها الجيوش. فهذه الجيوش بُنيت لهدف واحد هو قمع الشعوب العربية وحماية عُظامية المستبدين.
الحكاية القديمة
"اتفاقيات أبراهام" مفاجأة لم تفاجىء أحداً. فالحكاية قديمة، والعلاقات السرية بين الأنظمة العربية وإسرائيل تعود إلى القرن الماضي. كل ما في الأمر هو أن إسرائيل وأميركا الترامبية أرادتا من الأنظمة إعلان الحقيقة، فكان لهما ذلك.
هذه الحكاية القديمة لم تتكشف عناصرها كلها، لكن ما رشح منها يكفي ليسمح لنا بتقديم استنتاج فحواه أن مساهمة الأنظمة العربية في تأسيس إسرائيل ومدّها بأسباب القوة ليست مساهمة هامشية.
المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم كشف العلاقة التكاملية بين أمير شرق الأردن وإسرائيل في اللقاء الشهير بين الأمير وغولدا مئير. لكن العلاقات تعدّت الجانب العسكري لأنها طاولت موضوع تهجير اليهود العرب إلى إسرائيل. تهجير يهود اليمن والعراق والمغرب، تم في الفترة الحرجة من عمر إسرائيل. فإسرائيل التي تأسست على 78% من الأرض الفلسطينية، كانت تعاني أزمة ديموغرافية حادة. فالهجرة من أوروبا انتهت، والهجرة من الاتحاد السوفياتي كانت موصدة، فكيف يستطيع نحو 700,000 مستوطن الاستيلاء على الأرض التي طُرد منها سكانها بالقوة، وكيف يمكن للدولة أن تقوم من دون سيل جديد من المهاجرين؟
جاء الحل من طرف الأنظمة العربية، من عملية "بساط الريح" في اليمن، إلى "عزرا ونحميا"، في العراق، إلى "ياخين" في المغرب. هذا التدفق العربي لمهاجرين فقدوا كل شيء، وتم بيعهم لإسرائيل، قدم مساهمة كبرى في حل المسألة الديموغرافية، كما زود إسرائيل بيد عاملة رخيصة جرى استغلالها في قطاعات الإنتاج والزراعة، من تجفيف الحولة على أيدي اليمنيين، إلى استيطان ما عُرف باسم مدن التطوير، وغير ذلك.
لم تكن هذه الهجرات ممكنة لولا الصفقات التي عُقدت مع الأنظمة العربية المعنية. فالوكالة اليهودية أقامت علاقات مصالح مادية مع الأنظمة وصلت إلى حدود الرشوة المباشرة. لقد تم استخدام اليهود العرب من طرف الأنظمة العربية وإسرائيل كسلعة تبادلية وصلت إلى ذروتها مع المساهمة المباشرة للموساد في خطف وقتل وإخفاء جثة القائد المغربي والأممي المهدي بن بركة.
صحيح أن هذا النوع من الصفقات اقتصر على الأنظمة الملكية، لكن هذا لا يبرىء الأنظمة الانقلابية التي وقفت متفرجة، وغضّت الطرف أو سمحت بهجرة اليهود مثلما هي الحال في مصر بعد العدوان الثلاثي أو في سورية. كما أن الأمور وصلت بديكتاتور السودان جعفر النميري إلى المساهمة المباشرة في تهجير اليهود - الفلاشا.
هذا التهجير القسري الذي تم تحت ضربات إرهابية قامت بها الحركة الصهيونية له وجهان:
الوجه الأول هو مدّ الكيان الإسرائيلي بأسباب القوة.
والوجه الثاني هو إفراغ بعض المجتمعات العربية من تعدديته، كجزء من عملية تصحير متدحرجة. فمجتمعات العالم العربي كانت تعددية دائماً، وتجريدها من تعدديتها هو جزء من عملية إفقار ثقافية واجتماعية لا تزال مستمرة إلى اليوم.
ما هو أكثر أهمية من هذين الوجهين، هو المأساة الإنسانية التي حلت باليهود العرب، وهي جزء من المآسي التي صنعتها الصهيونية.
الأم تيريزا في إسرائيل
لن أدخل في تفصيلات محاكمة محمد بكري التي جاءت لتذكِّر مَن لا يريد أن يرى بأن القضاء الإسرائيلي مسخّر لخدمة الاحتلال وعصابات المستوطنين، بل سأتوقف عند تصريح الشاويش احتياط في الجيش الإسرائيلي يسرائيل كسبي، الذي وصف مشاركته في معركة تدمير مخيم جنين (نيسان / أبريل 2002) على رؤوس اللاجئين الذين صمدوا في بيوتهم فقال: "حاربنا مثل الأم تيريز."
"الأم تيريزا" الإسرائيلية كانت هناك، تمتطي جرافات D9N التي سوَّت أحياء كاملة بالأرض، والهدف كان - مثلما جاء في الأمر الصادر عن رئيس الأركان الإسرائيلي - تحويل أحياء المخيم المكتظة إلى ملعب لكرة القدم.
يا للمصادفة التي تشبه الأعجوبة! يبدو أن الجنرال الإسرائيلي كان، وسط هدير "الأباتشي" ومدفعية الدبابات، يتنبّأ بالتطبيع الذي سيقود شيخاً إماراتياً إلى محاولة شراء فريق "بيتار القدس" لكرة القدم. كأن الجنرال كان يمهد "لاتفاق أبراهام" الذي سيكون الشعب الفلسطيني أضحيته الدموية، عبر بناء ملاعب كرة القدم.
كيف خطرت الراهبة الألبانية - الهندية التي صرفت حياتها في خدمة الأطفال الفقراء، والتخفيف من آلام الناس، لهذا الشاويش الإسرائيلي؟
لا يزال بعض الإسرائيليين متمسكاً بخطاب "تنعجي" يُخفي ممارسة "ذئبية". فوسط انشغال العالم العربي بفتوقه، يجري إنجاز أحد فصول النكبة الفلسطينية المستمرة. والفصل الجديد لا يقلّ دموية عن الفصل الذي جرى في سنة 1948، لكن الفرق الوحيد هو أنه يتم ببطء وفي مدى زمني طويل يقوم فيه القضاء الإسرائيلي بدور القدر. المستعمرون في الضفة يتوسعون، وشبيبة التلال يعربدون، والجيش يحمي العربدة والتوسع.
ما تشهده الضفة هو عملية ضم شاملة. فقد سقطت حدود الباندوستانات الفلسطينية التي نشأت بعد اتفاق أوسلو، ولم يعد هناك فرق بين المناطق "أ" و"ب" و"ج"، وصار كل شيء مباحاً ومستباحاً. هناك واقع فلسطيني يتخذ اليوم شكل المأساة، ويمر وسط خمول سياسي فلسطيني شامل.
من خربة الركيز حيث أطلق لصوص مولد الكهرباء التابعين لشبيبة التلال النار على هارون أبو عرام فأصابوه بالشلل، إلى خليل حرايني في خربة سوسة الذي يواجه قرار المستوطنين بالسطو على أرضه، إلى سلفيت وقرى حاريس وكفل حاريس وبركين وكفر الديك ودير بلوط التي تجد نفسها محاصرة بالمستعمرات الصهيونية التي وصلت في توسعها إلى حقول القرى الفلسطينية، وحتى إلى بيوتها.
ووصفت مقالة إيلانا هامرمان في "هآرتس" 25 / 2 / 20020، الأمر بأنه طرد من دون باصات. والإشارة إلى الباصات تعيدنا إلى مناخات الطرد الكبير في سنة 1948.
وصف الواقع في الضفة الغربية لن يجد كلمات ملائمة، ففلسطين تعيش في مكرر نكبوي يتمثل في خنق إسرائيلي لا يكتفي بالاعتداء على السكان، بل يقتل الأشجار وينتقم من الزيتون، وفي إفلاس سياسي فلسطيني نشهد متوالياته منذ هزيمة الانتفاضة الثانية، وحصار عربي أعلن ليس تخلّي الأنظمة التابعة عن فلسطين فقط، بل عن كرامتها هي نفسها أيضاً.
الانحطاط العربي
لم يبدأ التخلي العربي عن فلسطين مع "اتفاقيات أبراهام" أو "كامب ديفيد"، وإنما بدأ منذ بداية النكبة في سنة 1948. ما يجري اليوم ليس جديداً، لكنه يحمل سمتَين مختلفتين عن الأداء العربي القديم:
السمة الأولى هي تجاوزه للتواطوء إلى التحالف. إن قراءة تاريخ دور الأنظمة العربية وتبنّيها اللفظي للخطاب الوطني المعادي لإسرائيل يشير إلى التواطوء والعجز، مع تحالفات سرية موضعية ظهرت هنا وهناك. لكننا اليوم أمام مشروع تحالف استراتيجي كشفت دولة الإمارات عن عناصره المتعددة. فبحجة مواجهة المدّ الإيراني، تجد الأنظمة نفسها أسيرة عشق مستجدّ لإسرائيل، بلغ من الضعة والإسفاف ما يثير الغثيان.
السمة الثانية هي كسره لجدار السرية. فالأنظمة، سواء تلك التي تعلن حلفاً علنياً مع إسرائيل، أو أنظمة ما تبقّى من "الممانعة" الوهمية، لم تعد تستحي. ففي الماضي سُحق تل الزعتر ولوحق الفدائيون بحجج قومية، أمّا اليوم فإن هدية اللقاحات الإسرائيلية تجري بشكل شبه علني، ومن دون الحاجة إلى تبرير.
هناك تفسير واحد لهذا الانكشاف، هو شعور النظام العربي بأنه نجح في سحق الشعوب العربية بالدم. إن حصاد هزيمة ثورات الربيع العربي سيدخل في المدونة التاريخية بصفته بداية الانحطاط والتفكك والخمول.
انحطاط النظام العربي يعمم النكبات على العالم العربي بأسره، ولعل هذا الاحتفال الكوميدي المضحك بالتطبيع هو إشارة إلى دخول العرب في زمن هولاكوي يؤدي فيه النظام دوراً مشابهاً للدور الذي قام به المغول في الزمن القديم.
لا شيء يفسر إعلانات طيران الإمارات ودعوتها إلى اكتشاف جمال الشاطىء الفلسطيني المحتل، كما لا شيء يفسر الإصرار على استيراد منتوجات المستعمرات الإسرائيلية في شمال الضفة الغربية. يقف المرء متعجباً من خفة المسؤول السوداني الذي رد على هدية وزير الاستخبارات الإسرائيلية بهدية مماثلة. الاثنان قدما ما لا يملكان: الإسرائيلي أهدى السوداني حمضيات وزيت زيتون من أرض احتلها، والسوداني أهدى الإسرائيلي بندقية أم 16 مخصصة لقمع الشعب السوداني.
فلسطين ليست وحدها
لحظة الحقيقة التي نعيشها اليوم، محزنة وتدعو إلى التأمل وإعادة النظر.
محزنة لأنها أعلنت دخول بلاد العرب في زمن التفكك والانهيار.
وتدعو إلى التفكير لأنها حررتنا من الأوهام.
انتهت اللعبة.
هل فوجئنا بأن هذه الأنظمة المستبدة هي مجرد دمى؟
هل فوجئنا بأن الأنظمة التي تقتل شعوبها وتسحقهم وتذلهم بالفقر والجوع مُعجبة بإسرائيل التي افتتحت موجة التطهير العرقي المنظّم في المشرق العربي؟
هل فوجئنا بأن المستبدين حوّلوا فلسطين إلى مجرد شعار يستطيعون من خلاله قمع شعوبهم، تارة باسم القومية أو التقدمية، وتارة أُخرى باسم الدين والدفاع عن المقدسات، بينما كانوا يتفاوضون سراً مع إسرائيل ويعقدون الصفقات معها؟
هل فوجئنا بأن الأنظمة استخدمت شعارات فلسطين من أجل بناء جيوش ليست مؤهلة للحرب، وإنما لقمع الشعوب فقط؟
هل فوجئنا بأنهم عاجزون، يسـتأسدون على شعوبهم ويتأرنبون أمام العدو؟
هل فوجئنا بأن مَن باع اليهود العرب لإسرائيل من أجل حل مشكلتها الديموغرافية، مستعد لبيع فلسطين وشعبها وأرضها لقاء وعد بالبقاء في الحكم، أو الاعتراف بسيادته على الصحراء؟
ما سبب هذا الحزن؟
هل نحزن لأنهم نزعوا أقنعتهم بأيديهم؟
هل نخاف من الحقيقة؟
يجب ألّا نحزن على الإطلاق، فقد انتهت الكذبة. شكراً يا مَن لا تتحلّون سوى بشجاعة الجبناء، شكراً لأن الزمن دار دورته وأجبركم على الإفصاح عن هوياتكم التي أخفيتموها.
والآن حُلّوا عن فلسطين، فقد حملنا جثث الأنظمة طويلاً على ظهورنا حتى تعفنت أجسادنا.
هذا الواقع التطبيعي التتبيعي يحمل في داخله خطران:
الخطر الأول ثقافي يتمثل في الدور الثقافي المتعاظم الذي أدته محميات النفط، مستغلة إنجازات الاستبداد في تدمير وتهميش المراكز الثقافية في المشرق: بيروت والقاهرة ودمشق وبغداد.
دور دويلات النفط المتعاظم ليس ناجماً عن قوتها، فهي في أكثريتها ليست دولاً، وإنما مجرد شركات مملوكة من الأسر الحاكمة. وهي تتصرف بهذا الشكل الفج والوقح لأنها شبه خالية، فمواطنوها لا يشكلون سوى نسبة ضئيلة من سكانها، لذا تتطبع في حفلة تنكرية مثيرة لم يشهد لها تاريخ العرب، قديمه وحديثه، مثيلاً.
هذا كله لا يجعل منها خطراً أو ظاهرة تستحق الالتفات، لولا لعبتها الجهنمية في الثقافة والإعلام.
الإعلام العربي مصادَر من زمان، أمّا تدجين الثقافة فاقتضى بذل جهود كبيرة: معارض كتب؛ جوائز أدبية؛ ندوات ثقافية؛ متاحف دولية؛ جامعات غربية؛ مهرجانات سينمائية؛ معارض فنية؛ وغير ذلك.
هنا يكمن الخطر، وهنا يكمن التحدي، إذ لم يسبق أن امتُهنت الثقافة مثلما تُمتهن اليوم، ولم يسبق أن أُهينت الفكرة العربية بهذا الشكل الفج والغبي والوقح.
يعتقدون أن الثقافة سلعة يمكن شراؤها، وأن تطبيعهم سيفرض تطبيعاً عربياً شاملاً على المستوى الثقافي.
والخطر الثاني اقتصادي، فالمركزية المالية لدبي، وخصوصاً بعد انهيار بيروت وتفجير مينائها، تسمح لها بأن تؤدي دور الوسيط بين رؤوس الأموال العربية وإسرائيل.
هل يقودنا هذا الواقع إلى الاستنتاج أن فلسطين صارت يتيمة ووحيدة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي؟
الجواب هو نعم ولا.
نعم، إذا بقي التكلس السياسي الفلسطيني على حاله، لأن هذا التكلس سيقود إلى "تلحيد" متدرج ونهائي لسلطات الأمر الواقع في الأراضي المحتلة. و"التلحيد"، نسبة إلى العميل أنطوان لحد، سيكون واقعياً وليس إرادياً. فحين تتخلى القيادات الفلسطينية عن مهماتها في حماية الشعب وقيادة نضاله في التصدي لعصابات المستوطنين، تصير جزءاً وظيفياً من منظومة الاحتلال، مهما تكن الشعارات التي ترفعها.
ولا، لأن فلسطين التي تقاوم وتدافع عن البقاء، ستجد نفسها في مكانها الطبيعي إلى جانب الشعوب العربية في نضالها ضد الاستبداد ومن أجل الحرية.
فلسطين تعود اليوم إلى حضنها العربي، فمأساتها ونكباتها هي جزء من مآسي الشعوب العربية ونكباتها.
مكان فلسطين هو في جميع السجون العربية من تدمر إلى الجفر إلى أبو غريب إلى أبو زعبل إلى تزمامارت إلى آخر ما لا آخر له...
مكان فلسطين هو في ميدان التحرير في القاهرة وساحة الساعة في حمص، وجسد البو عزيزي المحترق ثورةً في سيدي بو سعيد، وساحة الشهداء في بيروت، وساحات الجزائر والخرطوم، وجميع مدن العرب التي ثارت بحثاً عن حريتها.
صارت فلسطين وطناً سليباً لأن أوطان العرب كلها سُلبت من شعوبها، ومعركة فلسطين من أجل حريتها هي جزء من معركة الشعوب العربية من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية.
لا نخاف على فلسطين إلّا من أمر واحد، هو أن يسود قياداتِها الهرمة منطقُ الواقعي الذي قاد إلى فضيحة الحكم الذاتي الذي لا حكم له ولا ذات. احذروا، فالواقعية لا تعني اليوم سوى الواقعة؛ أي الكارثة.
فلسطين أيضاً تنتظر ربيعها كي تخرج من التطويق الإسرائيلي والاختناق في حضن أنظمة الاستبداد العربية، فترسم من جديد طريق حريتها. الأسرى الفلسطينيون يشكلون اليوم كتلة الأحرار الوحيدة في وطن سجين ومهدد ويتعرض للإذلال اليومي، ولا يقف إلى جانبهم سوى رفاق باسل الأعرج الذين يقتحمون السماء.
درس الكواكبي
في كتابه "طبائع الاستبداد" قدم عبد الرحمن الكواكبي تعريفه للاستبداد، فكتب: "لو كان الاستبداد رجلاً وأراد أن يحتسب بنسبه لقال: أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضرّ وخالي الذل وابنتي الحاجة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب."
المسألة تكمن هنا، في الاستبداد الذي يسعى لتطبيع العرب، أي تدجينهم وتحويلهم إلى عبيد لمجموعة من المستبدين.
قراءة ما يسمى تطبيعاً لا علاقة لإسرائيل به إلّا بصفتها حامية الاستبداد ومحمية منه.
مرحلة التطبيع التي نعيشها من المحيط إلى الخليج، هي تطبيع الشعوب العربية أي فرض الانقياد والطاعة عليها.
أمّا شعارات الحداثة والتكنولوجيا والرفاهية الآتية فوق الدبابات الإسرائيلية، فليست أكثر من القناع الأخير الذي أسقطه أصحابه بأيديهم بعدما وجدوا أنفسهم بلا حول ولا لغة.
الخديعة التي تجري محاولة تسويقها لن تكون سوى الباب الأخير قبل وضع الأمور في نصابها.
لو كان الكواكبي بيننا اليوم لرفع أصبع الاتهام في وجه الوحش الإسرائيلي الذي يتغطى بالعباءة العربية.