The State of the Land of Israel and the Rolling "Status Quo"
Full text: 

في الذكرى العاشرة لإقامة دولة إسرائيل، نشر الكاتب والصحافي الإسرائيلي حجاي آشد في صحيفة "دفار" مقالة بعنوان "استمرار حرب الاستقلال بطرق أُخرى" كتب فيها مستلهماً عنوانها من مقولة المنظّر الحربي والعسكري البروسي كلاوزوفيتش (1780 - 1831)، أن الحرب هي استمرار للسياسة بطرق أُخرى، قائلاً: "من المقبول القول اليوم إن إسرائيل تريد الحفاظ على الستاتوس كو، لكن قبل ذلك كان عليها أن تحققه وتحصّنه، وفقط بعد ذلك كان علينا أن نمنع أي تغيير عليه."[1]

لكن ما هو الستاتوس كو (Status quo)[2] الذي تريد إسرائيل المحافظة عليه؟ كيف يُبنى ويتشكل ويصان؟ ومتى وكيف يتحول؟ وما هي العلاقة بين الستاتوس كو ومبدأ التوسع المستمر للمستعمرة، وما هي علاقته بالتطبيع مع المحيط العربي؟ هذه بعض الأسئلة التي سأحاول متابعتها واستكشافها في هذه المقالة من أجل مفهمة العلاقة بين المبدأ الاستعماري التوسعي لإسرائيل واتفاقيات التطبيع بصفتها انتصاراً لهذا المبدأ، وتأسيساً لإسرائيل كـ "إمبراطورية" حامية في المحيط العربي. إن الادعاء الأساسي هنا هو أن إسرائيل تعاملت مع "الستاتوس كو" بصفته تخوماً للتوسع والانتشار، وأن هذا التوسع اعتمد مبدأ فرض متحرك للوقائع على الأرض وتثبيتها والانطلاق منها. وضمن ذلك فإن توقيع اتفاقيات التطبيع العربية هو الاعتراف بالمبدأ التوسعي أولاً، وبدور إسرائيل كإمبراطورية حامية تتعامل مع محيطها وفق مبدأ القوة والحماية ثانياً.

 ما هو الستاتوس كو؟

يعني مصطلح "الستاتوس كو" (Status quo) "الوضع القائم كما هو عليه"، وهو مشتق في الأصل من اللاتينية من (status quo ante bellum)، والتي تعني حرفياً "الوضع الذي كان موجوداً قبل الحرب"، إذ تاريخياً كان يتم استخدام هذا التعبير للمطالبة بعد انتهاء الحرب، بإعادة الوضع إلى سابقه بحيث لا يتمكن أي طرف من الربح. بعد ذلك، تدحرج الاستخدام وتحور وصار يُستخدم في القرن التاسع عشر بصيغته المقتصرة على "ستاتوس كو" للإشارة إلى "الوضع الراهن"،[3] وبات يحمل دلالة جديدة تحيل إلى ميزة "الوضع الراهن" المرتبطة بالاستقرار وتجنّب المخاطر التي يمكن أن تفرضها التغييرات الجذرية. وضمن هذا السياق، فإن قدرة جهة ما على تثبيت "الستاتوس كو" الذي تريده من دون توافق مع الأطراف التي يمسّها هو انعكاس لعلاقات القوة القائمة، ولقدرة هذه الدولة على فرض تصوراتها وتثبيتها، وذلك بغضّ النظر عن المحاذير والقوانين والأعراف الدولية.

في الخطاب الإسرائيلي الدارج يُستخدم مصطلح "الستاتوس كو" بشكل مكثف، ويمكن اعتباره جزءاً من الشيفرات الجمعية التي تحمل دلالات عميقة وتاريخية لها علاقة بمجالَين أساسيين: المجال الأول يرتبط بالبعد الداخلي، أي بنظم علاقات الدين والدولة والحريديم والعلمانيين، بينما يرتبط المجال الخارجي الإقليمي بحدود الدولة وتحديد مناطق النفوذ والسيطرة والسيادة الإسرائيلية. وقد بدأ استخدام المصطلح تاريخياً في المجالَين بشكل متوازٍ في الأعوام الأولى لإقامة إسرائيل، وأصبح لاحقاً مصطلحاً مفتاحياً يُستخدم للإشارة إلى طبيعة الدولة وهويتها كديمقراطية ويهودية من جهة، وإلى سياساتها الإقليمية من جهة أُخرى. أمّا على صعيد داخلي هوياتي، فإن استخدام المصطلع يعود إلى الرسالة التي أرسلها بن - غوريون في سنة 1947، حين كان رئيس الوكالة اليهودية، إلى رئيس حزب أغودات يسرائيل المتزمت دينياً يتسحاق مئير لفين، من أجل ضمان موافقته على إقامة دولة إسرائيل، وفيها وضع بن - غوريون عملياً أسس النظام الاجتماعي التوافقي بين العلمانيين والحريديم في الدولة التي ستقام، والذي تم بموجبه تحديد موقف الدولة المقبلة تجاه قضايا تتعلق بقدسية السبت والتعليم المستقل للحريديم وقوانين الأحوال الشخصية، علاوة على قضايا الكشروت (الحلال). وأُطلق على هذه الرسالة لاحقاً اسم رسالة الستاتوس كو، وأصبحت بمثابة مرجعية لنظم العلاقات بين الدين والدولة وبين الحريديم والعلمانيين، وعادة ما يشار إلى محاولات تغيير الوضع من حيث إنهاء الاستقلال الذاتي في سلك التعليم للحريديم، أو فرض التجنيد عليهم، بالمعارضة الجذرية بصفتهما إخلالاً برسالة الستاتوس كو لبن- غوريون.

على الصعيد الخارجي الإقليمي الذي سنركز عليه هنا، استُخدم مصطلح الستاتوس كو في المرحلة الأولى لإقامة إسرائيل للإشارة إلى فرض مجموعة من الأسس المناقضة لقرار التقسيم والقرارات الدولية اللاحقة وتحويلها إلى ثوابت سياسية ودبلوماسية لإسرائيل، وذلك في ثلاثة مجالات هي القدس والحدود واللاجئون. ولاحقاً بعد احتلال 1967، جرى الانطلاق من هذه الأسس من أجل توسيع مركبات الستاتوس كو بشكل متدرج ومستمر عبر سياسة فرض الوقائع على الأرض وتحويلها إلى ثوابت السياسة الإسرائيلية، وتشمل هذه المركّبات ضمّ القدس الشرقية وإعلان القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل وضم الجولان السوري ونقل السكان اليهود إلى الأرض المحتلة منذ سنة 1967 وإقامة المستعمرات وتوسعها المستمر، ثم اعتبار الأغوار بمثابة حدود الدولة الشرقية، الأمر الذي يعني أن "الستاتوس كو" الإسرائيلي يشكل أداة سياسية استعمارية مبنية على مبدأ التوسع المستمر واحتلال المواقع الجديدة. ويأتي توقيع "اتفاقيات أبراهام" في هذا المسار، والتي جاءت في أحلك لحظات المسألة الفلسطينية ومساعي حسمها وإنهائها إسرائيلياً، بمثابة اعتراف رسمي بانتصار المنظور الإسرائيلي وفكرة المبدأ التوسعي.

 سيرورة تشكيل الستاتوس كو بعد النكبة

يسرد آشد في مقالته المشار إليها أعلاه، سيرورة تشكيل "الستاتوس كو" إسرائيلياً في العقد الأول لإقامة إسرائيل، وذلك من خلال عمل هذه الأخيرة على تثبيت ثلاث نقاط استراتيجية أساسية وإزاحتها بالتدريج من النقاش على الرغم من تعارضها مع القرارات الدولية، بما فيها قرار التقسيم الذي شكل ركيزة إقامة إسرائيل، وعلى الرغم من الرفض والاستنكار الدوليين لسياسات إسرائيل. ترتبط النقطة الأولى بتثبيت خطوط الهدنة باعتبارها حدود الدولة مكان خطوط قرار التقسيم التي وُضعت في القرار رقم 181، بينما تتعلق الثانية بفرض القدس عاصمة لإسرائيل مع أن مكانتها في قرار التقسيم محددة كمنطقة تحت "الحكم الدولي" (Corpus Separatum)، وأخيراً، تصدير حل مشكلة اللاجئين إلى خارج حدود إسرائيل عبر رفض عودتهم. ويشير آشد إلى أن المعركة الدبلوماسية التي خاضتها إسرائيل لتشييد الستاتوس كو نجحت في تحقيق أهدافها وتثبيت رؤيتها.

أصدر بن - غوريون بصفته "وزير الدفاع" لدولة إسرائيل التي أُعلنت في 15 / 5 / 1948، ومباشرة بعد انتهاء المعارك في القدس، منشوراً يضم خريطة توضيحية أعلن بموجبها تطبيق القانون الإسرائيلي على القدس ومحيطها اللذين سيطرت عليهما القوات اليهودية. وجاء في المنشور[4] في بنده الأول:

مصطلح "منطقة مسيطَر عليها" يعني المنطقة التي تضم معظم مدينة القدس، أي جزءاً من محيطها الغربي ومداخلها والطرق التي تربط القدس بالساحل، وهذا كله ضمن الخط الأحمر الذي تم وضع علامة عليه في خريطة أرض إسرائيل الممهورة بتوقيعي، والتي تحمل تاريخ اليوم، 2 آب / أغسطس 1948، أو ضمن خريطة تأتي مكانها وتكون موقّعة من جانبي، ومعلّمة مثلها. وفي بنده الثاني أعلن: قانون دولة إسرائيل يطبّق على هذه المنطقة المسيطَر عليها، وهو ما يعني فعلياً ضمّ القدس إلى الدولة العبرية المقامة.

وفي المنشور رقم 2 عيّن بن - غوريون دوف يوسف حاكماً عسكرياً للمدينة.

وفي 4 شباط / فبراير 1949، وبقرار حكومي، أُلغي الحكم العسكري على المدينة وأصبحت القدس تحت القانون الإسرائيلي العام، الأمر الذي شكّل عملياً ضمها رسمياً إلى الدولة. وقوبل هذا القرار بترحيب عام من الإعلام والصحافة الإسرائيليَّين وباستنكار ورفض دوليين، وفي 9 كانون الأول / ديسمبر 1949 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 303[5] الذي هدف إلى "إعادة تأكيد وضع القدس تحت نظام دولي دائم" وفق ما جاء في قرار التقسيم، والذي جاء في بنده الأول: "وجوب وضع القدس في ظل نظام دولي دائم"، وفي بنده الثاني: "يُنشأ في مدينة القدس كيان منفصل تحت حكم دولي خاص تقوم على إدارته الأمم المتحدة." وحدد في بنده الثالث: "وتضم مدينة القدس بلدية القدس الحالية، بالإضافة إلى القرى والبلدات المحيطة بها، بحيث تكون أبو ديس أقصاها شرقاً، وبيت لحم أقصاها جنوباً، وعين كارم أقصاها غرباً (بما في ذلك أيضاً المنطقة المبنية في موتسا)، وتكون شعفاط أقصاها شمالاً، وذلك كما هو مبيّن في مسودة الخريطة المرفقة." وتبنّت الجمعية العامة هذا القرار، في جلستها العامة رقم 275، بـ 38 صوتاً في مقابل 14 وامتناع 7.[6] وعلى خلفية هذا القرار، أجرت الحكومة الإسرائيلية نقاشاً خاصاً أعلن فيه بن -غوريون: "لا أولي أهمية كبيرة لقرار الأمم المتحدة. ربما أكون مخطئاً [....] لكنني لا أرى كيف يمكن أن يطبقوه"، مضيفاً: "الحكومة ستستمر في نقل وزاراتها ومكاتبها إلى القدس، وقريباً سينتقل الكنيست إلى هناك."[7] وفي 13 كانون الأول / ديسمبر 1949 أُعلنت "القدس عاصمة إسرائيل"، ونُقل في 14 كانون الأول / ديسمبر 1949 مكتب رئيس الحكومة إليها، وبعد تسعة أيام من ذلك عُقد اجتماع للكنيست في المدينة. واستمرت إسرائيل في نقل مقارّها إلى القدس لتثبيت مكانتها كعاصمة الدولة اليهودية، ففي 12 تموز / يوليو 1953 قامت بنقل مقر وزارة الخارجية، وهو ما قوبل كغيره من الإجراءات بالرفض، وأصدرت الولايات المتحدة بياناً أعربت فيه عن أسفها على هذه الخطوة، مشيرة إلى أن ذلك سيؤدي إلى إحراج الأمم المتحدة التي تتحمل مسؤولية أساسية في تحديد الوضع المستقبلي للقدس، وانتهى البيان بـ: "لقد بلّغنا حكومة إسرائيل أننا لا ننوي نقل سفارتنا إلى القدس."[8]

كان هذا آخر نداء خجول من الولايات المتحدة لإسرائيل يطالبها بعدم القيام بخطوات أحادية لتغيير مكانة القدس. ومع أنه لم يطرأ دولياً أي تغيير على مكانة القدس، فإن إسرائيل حوّلتها إلى عاصمتها، وباتت تستقبل الزوار الدوليين في مقارّها في القدس كي تعمّد من خلال الممارسة موقفها من القدس. وبالتدريج، لم تعد الدول الكبرى تصدر بيانات تستنكر هذا التحويل، بينما نجحت إسرائيل، وبصورة متدرجة، في إسقاط مكانة القدس بجزئها الغربي عن طاولة النقاش، كما استطاعت النقش في العقل العالمي خطوط "الستاتوس كو" الذي حددته.

في عملية تثبيت الستاتوس كو خالفت إسرائيل قرار التقسيم الذي جاء في البند "ج" منه: "يعتبر مجلس الأمن كل محاولة لتغيير التسوية التي ينطوي عليها هذا القرار بالقوة تهديداً للسلام، أو خرقاً له، أو عملاً عدوانياً، وذلك بحسب المادة 39 من الميثاق."[9] وتجاهلت إسرائيل القرار رقم 303، كما تجاهلت القرار رقم 194 الذي صدر في 11 / 12 / 1948، والمتعلق باللاجئين وعودتهم، فقد جاء في الفقرة 11 منه أن الجمعية العامة "تقرر وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وكذلك عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادىء القانون الدولي والعدالة، بحيث يعوّض عن ذلك الفقدان أو الخسارة أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة"، لتضع بذلك أساس النقطة الثالثة من الستاتوس كو مثلما أشار إليها آشد.

تم بناء الستاتوس كو في شأن تصدير قضية اللاجئين من خلال تشديد سياسات منع عودة اللاجئين عبر الحدود بقوة السلاح، واستكمال هدم قراهم ومصادرة أملاكهم في الداخل وتحويلها إلى سلطة حارس أملاك الغائبين أولاً، ثم توزيعها وفق الحاجات لبناء وتسيير الدولة ثانياً. وضمت هذه الخطوات مروحة واسعة من الممارسات بينها: نقل المهاجرين المستعمرين اليهود إلى البيوت العربية وإسكانهم فيها؛ زراعة الغابات على أنقاض خرائب القرى المهدمة؛ استكمال هدم القرى لمنع أي عودة.

وفي خضم انشغال الخطاب الدولي بمسألة اللاجئين ومكانة القدس التي كان الفاتيكان والدول الكاثوليكية، وليس فقط العربية والإسلامية، من أكثر المعارضين لتحويلها إلى عاصمة لإسرائيل، كانت هذه الأخيرة تثبت حدود خطوط الهدنة كحدودهاعلى أنها أمر واقع (De Facto)، فشرعت تبني وتزرع وتقيم المستعمرات ضمن حدودها باعتبارها حدوداً نهائية حتى اللحظة!

مياه كثيرة جرت منذ ذاك الوقت، فقد ترسخت مكانة إسرائيل بصفتها دولة حليفة للغرب، وخصوصاً لفرنسا في الخمسينيات حين شاركت في العدوان الثلاثي على مصر إلى جانب بريطانيا وفرنسا، وتحولت من دولة تحدد حدودها وتتمترس وراء ستاتوس كو تحدده إلى جزء من شبكة تحالف دولي يشكل أيضاً عمقاً استراتيجياً للدفاع عن مواقفها والوقوف إلى جانبها باستمرار. وفي حقل القوة الذي يتميز بالاستقطاب بين النظام الشيوعي والغربي ومع ثقل مشاعر الذنب الغربية تجاه اليهود بعد المحرقة، تحوّل الخطاب بشأن فلسطين سريعاً إلى جزء من صراعات القوة الدولية، وانتقل بخفة من إقرار التقسيم إلى حل الصراع وفق تقبّل لخطوط الستاتوس كو الإسرائيلية. وهكذا أصبحت خطوط التقسيم بحكم الأمر الواقع هي حدود إسرائيل المعترف بها والقدس عاصمتها، أمّا مسألة العودة واللاجئين فصارت جزءاً من خطابات طقوسية دولية تتبخر آثارها مع انتهائها.

 سنة 1967 تجسد إعادة تشكيل الستاتوس كو وفق المبدأ التوسعي

بعد ثلاثة أعوام من الاحتلال في سنة 1967، كتب بن - غوريون "بعد توقيع اتفاقيات وقف إطلاق النار [يقصد في سنة 1949] قلت إننا كنا مستعدين لأن نوقّع مع العرب اتفاق سلام لمئة عام مقبلة على أساس الستاتوس كو."[10] الستاتوس كو الذي قصده بن - غوريون تحوّل بعد الاحتلال إلى نقطة انطلاق يتم منها التوسع في اتجاه مساحات جديدة يتم "احتلالها" واستدماجها في مركباته. وقد مرت عملية توسيع الستاتوس كو وإعادة تشييده من خلال إزاحة مركز النقاش والخطاب بالتدريج إلى "مسألة الاحتلال" وتطبيق القرارات الجديدة التي صُكت كقرارَي رقم 242 و338. ولم يقتصر هذا الأمر على الخطاب الدولي فقط، بل تسلل بصورة متدرجة ومثابرة أيضاً إلى الخطاب العربي ثم الفلسطيني. فتحت وطأة الشرط الجيو - سياسي والاحتلال والهزيمة القاسية للدول العربية، تحوّل الخطاب الدبلوماسي من أسئلة العودة والقدس وحدود التقسيم إلى مبدأ جديد هو "الأرض في مقابل السلام"، والذي تم اشتقاقه من نصّ القرار رقم242، الذي اعتبر "انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من أراضٍ احتلتها في النزاع الأخير" أحد المبادىء المطلوب تطبيقها لإقامة سلام دائم وعادل في الشرق الأوسط، مثلما ورد في نصّ القرار. وهكذا تغيرت خطوط الرابع من حزيران / يونيو، وهي الخط الأخضر من خطوط الستاتوس كو التي شُيّدت عبر "استمرار الحرب بوسائل أُخرى"، إلى خطوط إدراكية سياسية مثبتة، وباتت نقطة انطلاق لحل الدولتين في الخطاب الدولي. أمّا القدس التي حُدّدت مكانتها في قرار التقسيم كجسم دولي، فانزاح النقاش بشأنها من القلق إزاء فرض مكانتها كعاصمة لإسرائيل، مثلما ذكر البيان الأميركي في سنة 1953، إلى النقاش على مستقبل الجزء الشرقي منها بعد أن أعلنت إسرائيل تطبيق القانون الإسرائيلي عليها مباشرة بعد احتلالها، ولاحقاً بعد أن سنّت في سنة 1980 قانون أساس "القدس عاصمة إسرائيل الموحدة".[11]

لقد شكل "نجاح "إسرائيل في تحديد الستاتوس كو وفرضه وفق رؤيتها من دون أي محاسبة أو ثمن بعد النكبة، سابقة، إذ اعتُمد بعد سنة 1967 كجزء من السياسة الإسرائيلية في مواجهاتها الإقليمية والدولية، واستُخدم إطاراً لإعادة صك "ستاتوس كو" جديد يستدمج الأول ويوسّعه نحو مساحات جديدة. وبينما جاء فرض الستاتوس كو الأول بعد تحقيق إنجازات على الأرض في إثر نكبة الشعب الفلسطيني وتوقيع اتفاقيات وقف إطلاق النار، جاء بناء الستاتوس كو الثاني بعد إنجازات حرب 1967، إذ هُزمت الجيوش العربية بلمح البصر، وسيطرت إسرائيل على مساحات شاسعة جديدة تابعة لمصر وسورية، علاوة على سائر الأراضي الفلسطينية. في هذا الواقع المتشابك بثنائية النصر والهزيمة، بات خطاب إقامة دولة يهودية "لضمان أمن اليهود"، وخصوصاً بعد المحرقة النازية، يتحول بالتدريج بحيث انتقل الخطاب الإسرائيلي من التمحور حول ثلاثية الدولة / الضحية / الحدود الآمنة، إلى التمحور حول ثلاثية "أرض إسرائيل" / الحدود الآمنة / القوة الإقليمية. لقد عزز "الانتصار" و"التوسع" والسيطرة على ما يشكل وفق المخيال التوراتي قلب "أرض إسرائيل" نموَ خطاب القومية اليهودية الذي يتجاوز الصهيونية التقليدية التي حققتها الاشتراكية الصهيونية العلمانية الاستعمارية وأقامت "الستاتوس كو الأول"، إلى قومية استيطانية يهودية؛ كما أنتج التزاوج بين القوة والنصر من جهة، والخطاب القومي - التوراتي من جهة أُخرى، تصرّف إسرائيل كقوة إقليمية ذات نزعة إمبريالية، وتحوّل التمدد الاستيطاني وفرض الستاتوس كو المتجدد إلى استكمال للحرب بوسائل أُخرى، بحيث باتت إسرائيل تستخدم خطاب حقها التاريخي في "أرض إسرائيل" لجلب المستوطنين إلى الأرض المحتلة، وضرب أوتاد جديدة لتعليم حدودها المستقبلية.

 الستاتوس كو بصفته تخوماً (Frontier)

لقد تعاملت إسرائيل منذ البداية مع الستاتوس كو على أنه تخوم بمفهوم فريديريك جاكسون تيرنر (1893)، أي خط متخيل يتموضع باستمرار على الحدّ بين ما تم تحقيقه والاستيلاء عليه، وبين ما يمكن تحقيقه والذي يحتاج إلى استكشاف وسبر وتوسيع.[12] إن التعامل مع "الستاتوس كو" بمنطق التخوم يعني أن السياسة الإسرائيلية تنظَّم وفق مبدأ توسيع وإزاحة مستمرة لحدود السيادة والسيطرة، وأنها عبارة عن عملية غزو مستمرة للخطاطات الإدراكية الدبلوماسية الدولية والإقليمية، في كل مرة يتم احتلال قطعة من الشرعية وتطويعها وتمريرها واستدماجها كي تتحول إلى"ستاتوس كو" جديد إلى أن يتم تغييره مجدداً.

ضمن هذا المفهوم للتخوم انتقلت إسرائيل بعد احتلال 1967 خطوة إضافية لتوسيع "الستاتوس كو" وغزو مساحات جديدة بالوسائل السياسية لفرض حقائق جديدة عليها، فقد أعلنت مباشرة بعد الاحتلال ضمّ الجزء الشرقي للقدس تحت مظلتها السيادية، وجلبت المستعمرين اليهود إليها لقلب الوقائع داخلها، وهذا بالتزامن مع زرع المستعمرات في الأراضي التي احتلتها، وذلك من أجل تغيير طبيعتها الديموغرافية والطوبوغرافية.

كان الدور الوظيفي للستاتوس كو الأول بعد سنة 1948 هو طيّ صفحة النكبة الفلسطينية وتحويلها إلى "تاريخ" ماضٍ غير قابل للإصلاح، ولهذا جرى بناء جدار في وجه عودة اللاجئين، محولاً إسرائيل إلى دولة عرقية على 78% من مساحة فلسطين وعاصمتها القدس. وإذا كان تشييد "الستاتوس كو" الأول هو الوجه الآخر لاستمرار النكبة الفلسطينية بطرق أُخرى، فإن إعادة هيكلة هذا الوضع بعد النكسة، وإزاحته باستمرار وفق منطق التخوم التي تُغزى باستمرار، هما تشييد لإسرائيل كإمبراطورية إقليمية منتصرة في حالة دائمة من غزو سياسي للمكان ولحدوده.

ضمن هذا السياق الذي ينظم التوسع الاستعماري عبر تحويل "الستاتوس كو" إلى تخوم متحركة تدفع باستمرار نحو حافة جديدة، تتموضع "اتفاقيات أبراهام" كجزء من سيرورة توسعية مستمرة لإسرائيل التي انتقلت من منظومة "دولة إسرائيل" حتى احتلال سنة 1967 إلى منظومة "دولة أرض إسرائيل" فيما بعد، ومن مشروع الدولة العرقية شبه النقية إلى"الإمبراطورية" التي تسيطر على أراضٍ "خارج" حدودها الدولية التي حدّدها قرار التقسيم رقم 181، ووراء تلك التي فرضتها من خلال اتفاقيات الهدنة وحوّلتها إلى "ستاتوس كو" في أرض سورية ومصرية وفلسطينية.

كان وضع الستاتوس كو الإسرائيلي يتوسع في موازاة تعمّق الضعف العربي وتزايد الإحباط الشعبي من أداء الأنظمة العربية بعد هزيمتها القاصمة في سنة 1967. فقد عززت الهزيمة من صورة الأنظمة في المخيال الشعبي العربي كأنظمة فاشلة، وكُتبت في هذا الإطار آلاف الأبحاث والدراسات عن الهزيمة، ونُظمت القصائد التي تهجوها وتحمّلها مسؤولية الانهيار العربي، وباتت قصائد نزار قباني ومظفّر النواب ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم عن الهزيمة والأنظمة العربية جزءاً من الثقافة العربية العامة التي تعكس مشاعر الاحتقار تجاه هذه الأنظمة. ومع أن نتائج حرب 1973 ساهمت قليلاً في رفع معنويات الشعوب العربية، إلّا إن اتفاق كامب ديفيد في 19 أيلول / سبتمبر 1978، وخروج مصر من المواجهة، غذّيا مجدداً مشاعر الخيبة من هذه الأنظمة، وعمّقا مشاعر الغضب والإحباط تجاهها. وفي مقابل ترهّل الأداء العربي وفقدان صدقية الأنظمة، كانت إسرائيل تعمل بنشاط في سبعينيات القرن المنصرم لتشييد "ستاتوس كو" جديد عبر تغيير الوقائع على الأرض من خلال توسيع الاستيطان وتهويد القدس، وتحرّك من جديد حدودها مع كل مستعمرة جديدة تزرعها في الأرض المحتلة، ومع كل قانون جديد تسنّه لتجذير سياساتها، مترجمة بشكل فعلي معنى السياسة كاستمرار للحرب بوسائل أُخرى.

 مبدأ التطبيع: المال في مقابل الحماية

قايضت إسرائيل الأراضي المصرية المحتلة باتفاق كامب ديفيد الذي وضعت فيه خطاطات الستاتوس كو الذي تعمل على ترسيخه لتفكيك المسألة الفلسطينية من خلال إقامة "الحكم الذاتي" الذي ورد لأول مرة في الرسائل المتبادلة بشأن معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في سنة 1979، والتي نصّت على ضرورة البدء بالمفاوضات لتنفيذ النصوص المتعلقة بالضفة الغربية وقطاع غزة خلال شهر من تبادل وثائق التصديق بين الطرفين. وورد في نص الرسالة المتفق عليها بين بيغن والسادات بشأن الحكم الذاتي في الضفة الغربية وغزة وبشأن المفاوضات من أجل تنفيذه: "هدف المفاوضات هو الاتفاق قبل إجراء الانتخابات على الترتيبات الخاصة بإقامة سلطة الحكم الذاتي المنتخبة (المجلس الإداري)، وتحديد سلطاتها ومسؤولياتها، والاتفاق على ما يرتبط بذلك من مسائل أُخرى. وفي حالة إذا ما قرر الأردن عدم الاشتراك في المفاوضات فستجري المفاوضاتبين مصر وإسرائيل"؛[13] وأيضاً: "وتتفق الحكومتان على أن تتفاوضا بصفة مستمرة وبحسن نية من أجل الانتهاء من هذه المفاوضات في أقرب تاريخ ممكن. كما تتفق الحكومتان على أن الغرض من المفاوضات هو إقامة سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية وغزة من أجل تحقيق الحكم الذاتي الكامل للسكان."[14]

في إثر هذا الاتفاق حققت إسرائيل خطوة إضافية في تثبيت مبدأ "الستاتوس كو" كتخوم متحركة، وفي الانتقال من حدود التقسيم إلى خطوط الهدنة، ثم إلى اقتراح "الحكم الذاتي"، وجاء هذا كانتصار استثنائي لإسرائيل التي نجحت في تحييد أكبر جيش عربي وتحويل "أم الدنيا" إلى مجرد متفرجة في البدايات، ثم إلى وسيط لنقل الرسائل ورعاية اتفاقيات الهدنة، ووقف إطلاق النار لاحقاً. لقد أصبح اتفاق كامب ديفيد أول اعتراف عربي بأن "الستاتوس كو" الذي تفرضه إسرائيل يتحول إلى حقيقة على الأرض، ولذلك فإنه يشكل فعلياً بداية الانهيار العربي العام وتفكّك "الموقف العربي" إلى أجزاء تواجَه بالقطعة، وتُدار إسرائيلياً وفق سلّة خيارات متعددة.

وفضلاً عن أثره الاستراتيجي في الخريطة الجيو – استراتيجية، وعن تذويته للستاتوس كو الإسرائيلي المتحرك، فإن أثره الذي لا يقلّ كارثية هو تحويل القضية الفلسطينية، ولأول مرة، من قضية إجماع – ولو صورية، إذ ان التعاون بين إسرائيل وبعض الأنظمة مثلما كشفت الدراسات لاحقاً بدأ باكراً جداً - إلى قضية خطابية خلافية، تتأرجح المواقف منها ما بين مَن يدعو إلى تحرير كامل التراب، ومَن يدعو إلى اتفاقيات بروح "الأرض في مقابل السلام"، وآخر ينادي بالتوافق مع الولايات المتحدة، وآخر ينادي بالتحالف مع الاتحاد السوفياتي. وفي خضم الصراعات تحوّل الخلاف على قضية فلسطين إلى ناظم لخطاب متعدد الاتجاهات: داخلي للأنظمة العربية في مقابل شعوبها، وخارجي فيما بينها، ودولي أمام الجهات الدولية، وباتت المسألة الفلسطينية بانثيوناً رمزياً يتم دخول بوابته باستمرار لتعميد السياسات الداخلية والخارجية "أيديولوجياً"، وفيه يتم إقامة طقوس "تحليل" (من حلال) من خلال المقولات المتناقضة والممارسات المتباينة التي تحمل في الوقت ذاته الشيء ونقيضه. ففي هذا البانثيون صارت تُعتمد ممارسات القمع الداخلي للشعوب باسم القضية الكبرى، وأصبحت الانقلابات العسكرية تبرَّر لمواجهة "المؤامرات"، والجرائم تُغسل باسم "التحرير"، وفيه تحاط حروب الأنظمة التي أنهكت شعوبها كحرب الخليج الأولى والثانية ببهرجات خطابية عن فلسطين، وفي ظلّه تُحاك المؤامرات، وتُستنبت الميليشيات تحت شعار دعم القضية، وتُضرب الأحزاب والحركات بعضها ببعض، وتواجه الأنظمة بعضها بعضاً. وسواء اتخذت الأنظمة مواقف براغماتية أو راديكالية، أو اعتمدت خطاباً نارياً أو متساوقاً، أو دعمت بالمال والسلاح منظمات فلسطينية أو قمعتها وحاصرتها، كانت فلسطين في قلب الصراعات تتنازعها الجهات كلها وتحشوها بما تريد من معانٍ ودلالات. وفي موازاة حالة الصراع هذه كانت تتعمق الشروخ والصراعات بين الأنظمة العربية وداخلها وتجاهها، وكان التفوق الإسرائيلي العسكري، وتوسيع "الستاتوس كو" ودفع حدّه باستمرار، تنشط وتتعاظم باستمرار. وساهم فشل تجربة منظمة التحرير في الأردن ولبنان، في نقل القضية الفلسطينية من قضية أرض مستعمَرة وشعب مستعمَر يعاني يومياً جرّاء الاستلاب والقهر، إلى حقل دلالات متناقض وحمّال أوجه متبدلة، إذ صارت فلسطين تعني الاستلاب والظلم من جهة، و"شعاراً" مقطوعاً عن معناه تستخدمه الأنظمة والتكتلات والأحزاب والمنظمات العسكرية المختلفة والمتصارعة لغايات متناقضة، من جهة ثانية.

أفرزت جدلية تعويم القضية الفلسطينية عبر قطعها عن أسبابها وتحويلها إلى حقل دلالات خلافية، ووجود أنظمة عربية مشغولة ببقائها وخائفة على وجودها ومستقبلها ومهددة في خريطة جيو - استراتيجية متنازعة، أجواء ملائمة لإسرائيل للاستمرار في تحريك "الستاتوس كو" وتمديده وتوسيعه إلى مناطق جديدة؛ فبعد توقيع اتفاق المبادىء في سنة 1993 "أوسلو" وتأجيل قضايا الحل الدائم التي تضم الاستيطان والقدس واللاجئين إلى الحل النهائي، وفي ظل فشل الاتفاق في الوصول إلى الحل الدائم بعد خمسة أعوام، أصبحت إسرائيل تعمل على تحويل الكتل الاستيطانية إلى جزء من "ستاتوس كو" عبر إزاحة النقاش من تفكيك المستعمرات كاملة إلى الحديث عن تبادل الأراضي التي صارت بالتدريج بمثابة اعتراف شبه رسمي بأن المستعمرات حقيقة لا تتغير، فضلاً عن العمل الحثيث على قلب الواقع في القدس في استمرار لمسعى تحويلها إلى عاصمة الدولة على الرغم من القرارات الدولية بعد النكبة. ومع عدم وجود أي محاسبة دولية، فإن إسرائيل استمرت في تحريك "الستاتوس كو" ليشمل، علاوة على المستعمرات، ضم الأغوار ورفض عودة اللاجئين.

ومع انفجار الربيع العربي وتزايد مخاوف الأنظمة على مصيرها، وفي ظل تفكيك الخطر الذي مثّلته الجيوش العربية التقليدية بالقطعة، بدءاً من تحييد مصر عبر اتفاقية كامب ديفيد، ثم انهيار الجيش العراقي بعد الاحتلال الأميركي، وتحييد الأردن بعد اتفاقيات وادي عربة، وأخيراً انكفاء الجيش السوري على قضاياه الداخلية، إلى جانب استفحال الصراعات بين ما صار يُعرف بـ "المحور الشيعي" والمحور السنّي"، أصبحت الأجواء مواتية لمزيد من تعزيز "الستاتوس كو" عبر تحويل الواقع على الأرض، أي وجود سلطة حكم محلي فلسطينية خدماتية، إلى حل نهائي.

جاء إعلان ترامب عن اتفاقيات لتطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل بعد أقل من شهر ونصف شهر من الموعد الذي أعلنه نتنياهو لفرض السيادة الإسرائيلية على المستعمرات وضم الأغوار، بما يعني تحويل واقع الأبارتهايد من واقع بفعل الأمر الواقع إلى واقع قانوني. وجاء ذلك على خلفية وجود إدارة أميركية يقودها دونالد ترامب تعتمد المبدأ التجاري كمبدأ سياسي مقطوع عن أي أخلاق سوى الربح والخسارة والمقايضة، وفي ظل التماهي المطلق للإدارة الأميركية وبطانتها الإفنجيلية مع اليمين الإسرائيلي الاستيطاني. وحمل الإعلان وعوداً باتفاقيات إضافية مقبلة، وفعلاً انضمت البحرين بعد عدة أسابيع، ثم السودان والمغرب. وفي ظل تحويل المسألة الفلسطينية، مثلما ذكرت، إلى قضية خلافية وحقل دلالات متناقض، أعلنت الإمارات أن هذا الاتفاق جاء في مقابل توقيف الضم، الأمر الذي يعني أنها فعلياً قامت بهذه الخطوة لمصلحة الفلسطينيين، أمّا المصادر الإسرائيلية فأعلنت من جهتها أن الضم تم تأجيله لثلاثة أعوام، لكنه لم يسقط عن الطاولة. وقد تناقض هذا الموقف مع قيام الإمارات بتوقيع اتفاقيات تعاون اقتصادي وتبادل تجاري وثقافي وأمني مع إسرائيل تتجاهل "الخط الأخضر"، وتتعامل فعلياً مع إسرائيل على مبدأ "أرض إسرائيل" الذي يقع في قلب مخطط الضم ويشكل حاضنته الأيديولوجية. ففي الثامن من شباط / فبراير 2021 أعلن "مجلس استيطان السامرة" توقيع اتفاقيات تعاون بين مجموعة من الشركات الاستيطانية التي أقامت مصانعها في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وبين شركة إماراتية للتوزيع، وذلك من أجل استيراد منتوجاتها من العسل وزيت الزيتون والطحينة،[15] هذا في الوقت الذي تدير الجهات الفلسطينية وحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) معركة من أجل مقاطعة المستعمرات، وفي موازاة قيام دول غربية بوضع علامة على منتوجات المستعمرات بشكل مختلف عن منتوجات إسرائيل في حدود الرابع من حزيران / يونيو.

في هذا السياق تشكل "اتفاقيات أبراهام" إقراراً بانتصار إسرائيل في تدشين مبدأ "الستاتوس كو المتدرج" الذي أُعيد ترسيمه وفق رؤية دولة "أرض إسرائيل"، ووفق مبدأ تعميد دولة "أرض إسرائيل" كقوة إقليمية تعمل بمنطق "الإمبراطورية" المنتصرة التي تؤدي دور الحامية مع محيطها. لقد ذهبت الدول العربية إلى التطبيع في لحظة "نشوة" إسرائيلية ومسعى لإنهاء المسألة الفلسطينية، وفي ظل إعلان نتنياهو نيّته ضم المستعمرات الصغيرة والكبيرة وعدم استعداده تفكيك أي منها حتى التي زُرعت في قلب المناطق الفلسطينية، وضمن تحقيق خطة ترامب التي وُضعت وفق تصورات اليمين، وتعاملت مع الوقائع الإسرائيلية كنقطة انطلاق لا موضوع خلاف، وكحقائق لا قضايا تفاوض. أي أن الاتفاقيات جاءت في لحظة "استقواء" و"انتشاء" وشعور بالقدرة والقوة الإسرائيلية التي تشكل الصورة السالبة لتحطيم الحلم الفلسطيني بالتحرر وإنهاء الاحتلال وتقرير المصير.

بين أقطاب الاستقواء الإسرائيلي وتجاهل جميع القرارات الدولية ومساعي تحطيم الحلم الفلسطيني انبلجت "اتفاقيات أبراهام"، لتعكس علاقات قوة إقليمية مختلة تتموضع فيه "دولة أرض إسرائيل" كقوة عسكرية ثابتة بين أنظمة متنازعة مشغولة بأمنها وقلقة إزاء وجودها واستمراريتها، بحيث بات هذا الانشغال والقلق "دينامو" تصنيع التحالفات وضبطها. وفي هذا السياق "المخلخل" شرعت سياسات إسرائيل الاستعمارية وسيرورة "تشييد ستاتوس كو "تتحول وفق مبدأ التخوم التي توسع بشكل مستمر في مقابل نجاتها من أي محاسبة دولية، علاوة على عمق علاقتها الاستراتيجية مع القوى العظمى، أكان ذلك مع الولايات المتحدة أم الدول الكبرى الغربية، إلى نقطة قوة إضافية لمصلحة إسرائيل تدلل على متانتها، بحيث أصبحت "قوتها" واستقواؤها عامل جذب للأنظمة المرتبكة لا عامل نفور، بينما بات الفلسطينيون عقبة ومشكلة في وجه إقامة التحالفات. من هنا يمكن أن نلحظ أن عمق التحالف مع إسرائيل يرتبط بنيوياً مع تجاهل الفلسطينيين، إذ كلما تعمق التعاون أكثر، جرى تبنّي سردية إسرائيل تجاه "الأرض" و"السلام" أكثر، وبالتوازي تجاهل السردية الفلسطينية وإرهاصاتها.

على خلفية هذا المشهد الذي تنزاح فيه إسرائيل من موقع دولة العدو في البداية إلى موقع الحليف الذي يَعِد بالأمن والأمان، تنخرط الأنظمة المطبّعة في علاقة غير متكافئة يتم فيها تبادل "الأمن"[16] و"الحماية" في مقابل التطبيع مع إسرائيل في لحظتها المنتصرة. فها هي إسرائيل توافق على نشر القبة الحديدية في الخليج[17] من أجل مواجهة ما يسمى "الخطر الإيراني"، وفي المقابل تفتح الإمارات بوابتها الاستثمارية والاقتصادية وتشرعها أمام إسرائيل وسط تبنٍّ عملي لمفهوم الأخيرة لفكرة "أرض إسرائيل" والتعامل مع المنتوجات الإسرائيلية وسط تجاهل لأي فوارق بين منتوجات المستعمرات ومنتوجات داخل الخط الأخضر. إن علاقات التطبيع هذه تستبطن عملياً الانتقال من مبدأ الأرض في مقابل السلام الذي تم تبنّيه في اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة إلى مبدأ الحماية في مقابل المال. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الاتفاقيات وُقّعت تحت وصاية ترامب الذي يرى أن السياسة هي شكل من أشكال التجارة، فإن معادلات المقايضة في اتفاقيات التطبيع تخضع أيضاً لمبدأ الحاجة والثمن، وتتبدل مركباتها وفق سياقاتها، فيصبح التطبيع في مقابل الغذاء لدولة تعيش على حافة الجوع كالسودان هو المبدأ الناظم للعلاقة، بينما يصبح الإقرار بسلطة المغرب على الصحراء الغربية، حتى لو ناقض هذا القرارات الدولية كلها، هو الثمن الذي يقدَّم في مقابل التطبيع.

في اتفاقيات التطبيع كلها التي تم توقيعها تحت مسمى "اتفاقيات أبراهام" أدت إسرائيل دوراً شبيهاً بدور الإمبراطوريات التقليدية، وهو توفير الحماية لكيانات قلقة أمنياً وسياسياً وداخلياً في أماكن بعيدة ومترامية من دون الحاجة إلى وجودها بشكل عسكري فجّ، بل من خلال التعاون الذي تحدّده هي وتضع شروطه: لا تنازل عن أراضٍ؛ لا تنازل عن السيطرة على القدس؛ لا تنازل عن الاستيطان؛ لا إنهاء للاحتلال.

وفضلاً عن جميع المعاني المرتبطة بتعامل إسرائيل مع "الستاتوس كو" كتخوم تشرعنها باتفاقيات مع الدول العربية، فإن "اتفاقيات أبراهام"، من حيث تسميتها، تنضوي على إقرار من جانب الدول المطبّعة بالاعتراف بالسردية الصهيونية كاملة وحقّها في فلسطين، والتي تتلخص بادعاء العودة إلى الأرض التي وعد الله بها نسل إبراهيم من بني إسرائيل من جهة، وادعاء أن الصراع مع الفلسطينيين لم يكن يوماً صراعاً قومياً ولا استعمارياً من جهة أُخرى، وإنما سوء فهم ثقافي وديني ورفض "طفولي" ناتج من سوء تصرّف فلسطيني، إذ يتم وفق هذا المنطق إحلال الثقافة مكان السياسة واستبعاد كل ما يرتبط بها من مسائل متعلقة بالأرض والسكان والاحتلال، وبالتالي، محو الخط الأخضر والتعامل مع إسرائيل مثلما تمثّل نفسها وفق "الستاتوس كو" الذي وضعته سواء في الخليل، أو الحرم الشريف، أو مستعمرات الجولان، أو بؤر الاستيطان أينما تكن. إن استبدال السياسة بالثقافة هو استبدال استراتيجي يسمح بأن يشتري أمير إماراتي فريق "بيتار" وهو أكثر فريق عنصري في إسرائيل، ويسمح أيضاً بعقد صفقات بين الإمارات وبين شركات ومصانع تعمل في المستعمرات من دون أن يشكّل ذلك أي حرج.

 

المصادر:

[1] حجاي آشد، "عشرة أعوام من السياسة الخارجية الإسرائيلية: استمرار حرب الاستقلال بطرق أُخرى"، "دفار"، 24 نيسان / أبريل 1958.

[2] تُلفظ ستاتوس كفو باللغة العبرية.

[3]مردخاي بار أون، "ستاتوس كو - قبل أو بعد؟ ملاحظات تفسيرية لسياسات أمن إسرائيل 1949 - 1958"، "عيونيم بتكومات يسرائيل"، العدد 5 (1995)، ص 65 - 111.

[4] انظر المنشور في الرابط الإلكتروني.

 [5]انظر:"قرار الجمعية العامة رقم 303 الخاص بالقدس بتاريخ 9 كانون الأول (ديسمبر) 1949: إعادة تأكيد وضع القدس تحت نظام دولي دائم"، في موقع "الرحلات الفلسطينية – المسرد الزمني"، في الرابط الإلكتروني.

[6] المصدر نفسه.

[7] أرشيف جلسات الحكومة الإسرائيلية – دولة إسرائيل (11 / 12 / 1949)، سجلات جلسات الحكومة الأولى، ص 3، 22 (بالعبرية).

[8] American Foreign Policy, 1950-1955; Basic Documents, vol. 2 (Washington: U. S. Government Print Office, 1957), pp. 2254.

[9] انظر: "نص قرار تقسيم فلسطين رقم 181"، "الجزيرة نت"، 28 / 11 / 2016، في الرابط الإلكتروني

[10] دافيد بن - غوريون، "يوميات الحرب: 1948-1949" (تل أبيب: وزارة الدفاع، 1982)، ص 93.

[11] انظر القانون في موقع الكنيست، في الرابط الإلكتروني.

[12] Fredrick Jackson Turner, “The Significance of the Frontier in American History”, “American Historical Association”, 1893.

13] راجع ملحق نصوص الرسائل المتبادلة بشأن معاهدة كامب ديفيد، في: "معاهدة السلام بين جمهورية مصر العربية ودولة إسرائيل (واشنطن، 26 / 3 / 1979)" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية)، ص24. ولمراجعة هذه النصوص إلكترونياً، انظر الرابط.

[14]المصدر نفسه.

[15] Tovah Lazaroff, “West Bank Samaria Settler Olive Oil and Wine to be Exported to Dubai”, The Jerusalem Post, 8 December 2020.

 

[16] Uri Cohen, “Defense Cooperation Between Israel, Gulf States Possible-Officials”, The Jerusalem Post, 18 December 2020.

[17] Yaniv Kubovich, “Israel Allows U.S. to Deploy Iron Dome Missile Defense in the Gulf”, Haaretz, 24 January 2021.

Author biography: 

هنيدة غانم: باحثة في علم الاجتماع السياسي، والمديرة العامة للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار.