بات الحديث عن الأزمة الوطنية الفلسطينية لازمة مكررة ومستهلكة في الفكر السياسي الفلسطيني، ولا سيما الفصائلي منه، إذ استمرأت الكيانات السياسية الفلسطينية السائدة، ومنذ زمن، الحديث عن الأزمة (والمنعطفات التاريخية، والمهمات الاستراتيجية، والحلقة المركزية)، في الأدبيات الصادرة عنها، بَيد أنها ندر أن قدمت تشخيصاً موضوعياً وجدّياً لتلك الأزمة، والأكثر ندرة أنها لم تتحدث ولا مرة عن نهاية أزمة ما، أو عن إيجاد حلول لها.
على الرغم ممّا تقدم، فإن هذه المداخلة مكرسة للحديث عن الأزمة الوطنية الفلسطينية، أيضاً، لكن مع الأخذ في الاعتبار مسألتَين أساسيتين: الأولى، التمييز بين المشكلات الموضوعية التي نشأت مع الحركة الوطنية الفلسطينية منذ تأسيسها، ومنها: الخلل الكبير في موازين القوى لمصلحة إسرائيل؛ تمزّق المجتمع الفلسطيني وخضوعه بالتالي، لأنظمة مختلفة؛ غياب إقليم مستقل للفلسطينيين؛ نشوء تلك الحركة في الخارج، مع التبعات التي نجمت عن ذلك، وخصوصاً مع الاعتماد على الموارد الخارجية، وعلى مستوى معين من الاحتضان العربي، وهي عوامل تحكمت في تحديد مستوى كفاح الفلسطينيين، وقيّدت تطور حركتهم الوطنية، وظلّت كامنة في مختلف أزماتهم ومعزّزة لها. والثانية، التمييز بين جوهر الأزمة الفلسطينية، أي مشكلاتها العضوية، وبين الأشكال التي تمظهرت بها، أي بين الرئيسي والثانوي. فعلى سبيل المثال، إن الانقسام، والافتقار إلى الشرعية، وغياب قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية على تجديد كياناتها (المنظمة والسلطة والفصائل)، على أهميتها، إنما هي تمظهرات للأسباب الأساسية لأزمة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
على ذلك، ولأن الجانب الأول لا خلاف عليه إجمالاً، فإنني سأركز في مداخلتي على عرض الجانب الثاني، أي الأسباب الأساسية لتلك الأزمة، قبل إقامة السلطة، أو بعدها، وهي في اعتقادي تتمثل في الجوانب الآتية:
أولاً، ظهرت أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية في منتصف السبعينيات بعد أن وصلت إلى سقفها الممكن، أو بعد تحقيقها الإنجازات الوطنية المنوطة بها، وفقاً للمعادلات التي نشأت عليها (الكفاح المسلح من الخارج مع الاعتماد على حاضنة عربية). ففي تلك المرحلة، أي بعد 15 عاماً على انطلاقتها، استطاعت الحركة الوطنية الفلسطينية استنهاض وتوحيد الشعب الفلسطيني المجزّأ والمشتّت، وتأسيس كيانه الوطني (منظمة التحرير)، وتعزيز هويته الوطنية الجمعية، وإدراج قضيته في سلّم الأجندات العربية والدولية، وتحقيق الاعتراف العربي والدولي بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد له (عبر قرار قمة الرباط ووصول ياسر عرفات إلى منصة الأمم المتحدة). ويُستنتج من ذلك فكرة أساسية فحواها أن الفصائل الفلسطينية بعد ذلك لم تعد تستطيع إضافة أي إنجاز يُذكر، هذا إذا استثنينا تجربة الانتفاضة الشعبية الأولى (1987 - 1993)، في الضفة وغزة، والتي هي في شكلها الأساسي نتاج تجربة شعبنا في الداخل، أكثر ممّا هي نتاج فعل الفصائل في الخارج؛ وهذا طبعاً من دون التقليل من علاقات التأثير المتبادل.
ثانياً، لا تتوقف الأزمة الوطنية الفلسطينية على أفول تجربة الكفاح المسلح في الخارج، بعد الخروج من لبنان (1982)، وهي الفكرة المؤسسة والملهمة للكفاح الوطني الفلسطيني المعاصر، ولا على توقيع اتفاق أوسلو (1993)، أو الانقسام الفلسطيني (2007)، أو انسداد حل الدولتين، أو اهتزاز الشرعية، بل هي أعمق وأشمل من ذلك كله أيضاً، فهي أزمة كيانات، ورؤى، وعلاقات، وأشكال كفاح، فاقم منها تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر إلى سلطة (تحت الاحتلال)، وإلى جزء من شعب في جزء من أرض مع جزء من حقوق. وبما أن هذا ليس تفصيلاً بسيطاً، أو طارئاً، فإنه يعني أننا بحاجة إلى إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، لا إلى تجديد قديم لبُنى وأفكار وأشكال عمل باتت مستهلكة وقديمة.
ثالثاً، يمكن الاستنتاج، ممّا تقدم، أن معضلة الحركة الوطنية الفلسطينية لم تكن في تبنّي هذا الخيار أو ذاك، دولة واحدة أو دولتين أو ثنائية القومية، أو انتهاج الكفاح المسلح أو الانتفاضة أو المفاوضة، وإنما بطريقة إدارة تلك الخيارات، وفي العطب البنيوي في الكيانات الفلسطينية (القيادة الفردية؛ غياب الحراكات الداخلية وافتقاد علاقات المساءلة والتداول؛ الافتقار إلى التفكير النقدي وحسابات الجدوى وعلاقات المساءلة والمحاسبة؛ التحول إلى سلطة/في لبنان ثم في الداخل)، إذ لو توفر للفلسطينيين قيادة وبُنية أفضل لربما كان يمكن مراجعة وتصويب هذا المسار أو ذاك الخيار في حال إخفاقه، لكن مع بُنى بالية أو معطوبة فقد كان من شأن ذلك، مثلما شهدنا، الاستمرار في الخط نفسه مهما يحدث!
رابعاً، بناء على هذا، يجب عدم الافتراض أن حال الفلسطينيين وحركتهم الوطنية كانت ستكون أفضل لو جرت إدارتها على نحو أصوب، ذلك بأن الفلسطينيين وفقاً لإمكاناتهم الذاتية ليس لديهم القدرة بمفردهم على هزيمة إسرائيل، بمعنى الكلمة، ولا على دحر الاحتلال من الضفة وغزة، لأن ذلك سيحتاج إلى عوامل عربية ودولية، أيضاً، لكنهم بإمكانهم وحدهم، وبامتلاكهم إدارة وبُنى ورؤى ملائمة، رفع تكلفة الاحتلال والاستيطان ومفاقمة التناقضات في المجتمع الإسرائيلي، وعزل إسرائيل في العالم، وتالياً كسب الصراع بالنقاط. وعليه، فإن الفلسطينيين مع إدارة أصوب، أو إدارة رشيدة ومسؤولة، كانت ستكون أحوالهم أفضل، من ثلاث نواحٍ هي: أولاً، تخفيف التكاليف والتضحيات المقدمة في العملية الكفاحية، والتي كانت باهظة جداً في الداخل والخارج، ومن دون أي توازن ولو نسبي بين التكلفة والمردود،؛ ثانياً، إمكان توفُّر بُنى كيانية سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، في مختلف أماكن وجود الشعب الفلسطيني، وذلك قياساً بحال التفكك والتدهور والتهميش للفلسطينيين وكياناتهم اليوم، على الصعد كافة؛ ثالثاً، الحفاظ على المكانة السياسية والأخلاقية لقضية فلسطين العادلة والمشروعة عربياً ودولياً. وهنا يمكن الحديث عن سهو، أو عدم إدراك الحركة الوطنية الفلسطينية لركيزتين في العملية الوطنية: الأولى، مواجهة إسرائيل وسياساتها الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية، والثانية بناء المجتمع الفلسطيني، وتنمية موارد الفلسطينيين وتعزيز كياناتهم وترسيخ العوامل التي تساهم في صمودهم في أرضهم، مع ملاحظة ألّا تضر العملية الأولى بالثانية، وألّا تودي العملية الثانية إلى خلق واقع من الاحتلال المريح والمربح لإسرائيل.
خامساً، الافتقار إلى الرؤية السياسية الجامعة، أو الهدف الجامع، وذلك في الحقيقة أحد الأسباب المؤسسة للأزمة الوطنية الفلسطينية، ولتصدّع القضايا أو الأهداف التي يُجمع عليها الفلسطينيون في أماكن وجودهم كافة. ومعلوم أن الحركة الوطنية الفلسطينية انطلقت قبل احتلال إسرائيل للضفة وقطاع غزة (في سنة 1967)، وكان الهدف الجامع هو تحرير فلسطين، وهو ما استمر حتى بعد الاحتلال إلى منتصف السبعينيات حين بدأ التحول نحو البرنامج المرحلي، بداية من الدورة 12 للمجلس الوطني الفلسطيني (1947)، والذي أتى بطريقة فوقية وفجائية، كاستجابة للتماثل مع النظامَين الدولي والعربي، بعد حرب تشرين / أكتوبر 1973، أكثر ممّا أتى نتيجة تطور في الفكر السياسي، أو استجابة لتطورات العملية الوطنية الفلسطينية في الصراع ضد إسرائيل. والدليل على هذا موجود في قرارات المجالس الوطنية التي تتحدث عن إقامة "سلطة" على أي أرض يجري تحريرها مروراً باعتبارها مجرد برنامج مرحلي (تكتيكي) لا علاقة له برؤية فلسطينية إلى طبيعة الحل النهائي، وصولاً إلى طرح فكرة دولتين لشعبين ارتباطاً بحل قضية اللاجئين على أساس القرار 194. وما يُفترض التذكير به هنا هو أن ذلك البرنامج لم يحصل على إجماع الفلسطينيين، حتى إن حركة "فتح"، كبرى الفصائل الفلسطينية، والتي تشكل قيادة للكفاح الفلسطيني، لم تقرّ البرنامج المرحلي في مؤتمرها الرابع الذي عُقد في دمشق في سنة 1980، وإنما جرى إقراره في مؤتمرها السادس (تونس، 1988)، وذلك على خلفية الشروط التي وُجدت فيها تلك الحركة بعد الخروج من لبنان، بل إنه فُرض، في حينه، من طرف القيادة في المجلس الوطني الفلسطيني الذي نعرف كيف شكّلته وهيمنت عليه. أقول ذلك بغضّ النظر عن الموقف من هذا التحول سلباً أو إيجاباً، رفضاً أو قبولاً، وذلك للتذكير بكيفية صوغ الخيارات وكيفية تقرير السياسات في البيت الفلسطيني (للتأكد يمكن مراجعة قرارات الدورة 13 للمجلس الوطني الذي رفض قيام كيان فلسطيني "ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وتقرير مصيره فوق ترابه الوطني"). ولنا في تمرير اتفاق أوسلو مثالاً لذلك، إذ أُقر في المجلس المركزي فقط، ولم يُقرّ في المجلس الوطني إلّا بعد ثلاثة أعوام على إقامة السلطة (1996)، الأمر الذي يذكّر أيضاً، بمسرحية، أو مهزلة، تمرير تغيير أو تعديل بنود الميثاق الوطني الفلسطيني في مؤتمر غزة، في إبان زيارة كلينتون (أواخر سنة 2008).
سادساً، يترتّب على الملاحظة السابقة ملاحظة أساسية أُخرى فحواها أن الحركة الوطنية الفلسطينية استُدرجت مبكراً إلى مربع تجزئة قضيتها، وبالتالي تجزئة رؤيتها إلى إسرائيل، بحيث باتت هذه الأخيرة دولة احتلال واستيطان في الضفة وغزة فقط (ودولة عنصرية تجاه الفلسطينيين جميعاً)، كأن ذلك بدأ مع احتلال 1967، وليس مع إقامتها منذ سنة 1948 على هذا الشكل، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية إزاء الشعب الفلسطيني، في أي مكان. وفي المقابل، ظلت إسرائيل، قبل قيامها وبعده، تتعامل مع الفلسطينيين كشعب عدو وفقاً لاستراتيجيا واحدة قائمة على الاستعمار والاقتلاع والاستيطان والتمييز العنصري، ومرتكزة على سياسات ونظم قانونية متعددة، من أجل تجزئة الفلسطينيين وتفكيك قضيتهم وتذويب حقوقهم. وظلت إسرائيل أيضاً تتعامل مع فلسطين كوحدة متكاملة، أو كوطن قومي لليهود حتى بعد اتفاق أوسلو، في حين انطلى ذلك على الحركة الوطنية الفلسطينية التي باتت تتصرف وفقاً لما تقدم، تبعاً لأوهامها بإمكان قيام دولة لها في الضفة وغزة، بواسطة المفاوضات. ونجم عن ذلك أن الحركة الوطنية الفلسطينية استبعدت فلسطينيي 48 عن معادلاتها، على صعيد الرؤى والكيانات (وها هي اليوم تستبعد حتى اللاجئين)، علماً بأن ذلك يتناقض مع اعتبار منظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً لشعب فلسطين (هذا من دون الخوض هنا في كيفية استيعابهم، إن على صعيد البرنامج أو الإطارات الملائمة).
سابعاً، يُستنتج من ذلك ضرورة الخروج من الانحصار في الخيار الجزئي لفكرة الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، فيما يتعلق بالأرض والشعب والحقوق، أو في خيار فكرة التحرير التقليدية التي تقوم على حصر الصراع في الأرض فقط، وعلى تخيّل امتلاك القوة، وتوفر المعطيات العربية والدولية المواتية لتقويض إسرائيل واستعادة فلسطين كلها، وهذا بالمناسبة تخيّل مشروع، لكن مشكلته أنه ليس واقعياً ولا عقلانياً بعد جميع التجارب التي مرت، وعلى ضوء ظروفنا وظروف العالم العربي. لذا، فالبديل من هذا وذاك ربما يتمثل في إدخال تعديلات على فكرة التحرير، بما يفيد استعادة التطابق بين شعب فلسطين وأرض فلسطين وقضية فلسطين، ومراجعة الوسائل وأشكال العمل والخطابات التي سادت طوال العقود الماضية، وتطوير معانيها بحيث لا تقتصر على تحرير الأرض، بل تشمل أيضاً، تحرير الفلسطينيين من علاقات الاستعمار والعنصرية والهيمنة الإسرائيلية، وتحرير اليهود ذاتهم من الصهيونية، وإضفاء قيم الحقيقة والعدالة والحرية والمساواة والمواطنة الديمقراطية على فكرة التحرير. وهذا كله يتطلب التأسيس على نقطة مركزية تنبع من وحدة الأرض والشعب والقضية، مع خصوصية كل وضع، وتكون منطلقاً للرؤية السياسية الجامعة، وللكيان السياسي الجامع. ميزة تلك الفكرة أنها، أولاً، تفتح المجال أمام حركتنا الوطنية للاستثمار في التناقضات الإسرائيلية، فضلاً عن تفويت أو تفكيك الفكرة الصهيونية التي تتأسس على معادلة الحرب الوجودية، عرب ضد يهود، والتي شكلت محور الهوية والإجماع الإسرائيليين؛ ثانياً، إنها اللغة التي يفهمها العالم اليوم، وتجعل للفلسطيني، أينما يكن، مصلحة مباشرة في الكفاح. وبديهي أن تلك الفكرة تعني تقويض المشروع الصهيوني الذي يقوم على دولة يهودية عنصرية واستيطانية واستعمارية، أو تفضي إلى ذلك، وهو ما يتطلب توفر معطيات عربية ودولية لمصلحة شعبنا. إلّا إن من الصعب بصورة عامة، تصور خيارات فلسطينية ناجزة، أو تجيب عن الأسئلة كلها، بعد التطورات والمتغيرات التي حدثت عندنا وعند الإسرائيليين، وفي المنطقة العربية، لكن لا يجوز بأي حال من الأحوال الإبقاء لعقود على واقع الانحصار بخيار واحد، أو الامتناع من تصور إمكان نشوء تحولات تفضي إلى تآكل فكرة إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية.
ثامناً، من مفارقات الحركة الوطنية الفلسطينية أنها انطلقت على أساس استعادة القضية من الأنظمة العربية، إلّا إنها عادت واستندت إلى تلك الأنظمة في كفاحها المسلح، وذلك بحسب فرضيتها عن "التوريط الواعي". وبالنتيجة، فإن تلك الحركة هي التي تورطت في الصراعات العربية (لبنان مثلا)، ثم ها هي تلك الأنظمة تصل إلى "التورط" المجاني واللاواعي في التطبيع مع إسرائيل، بدلاً من "التورط" الواعي في مصارعتها (!)، والذي نمّ عن سذاجة ورغبوية في التفكير السياسي، إلى حد اعتقاد أصحاب تلك الفكرة أنهم أوصياء على الأنظمة العربية التي هي أصلاً تهمش مجتمعاتها وتعزلها عن المشاركة السياسية. والأساس هنا الخلط في الفكر السياسي الفلسطيني بين مستويين في الصراع ضد إسرائيل: الأول، إسرائيل كقضية مباشرة للفلسطينيين، كونها تستهدفهم في وجودهم وحقوقهم؛ الثاني، إسرائيل كقضية عربية، بمعزل عن تمثل ذلك في أجندات الأنظمة العربية، إذ لكل مستوى أجنداته وأبعاده ومتطلباته.
باختصار، نحن إزاء صراع صعب ومعقد ومركب، ومتداخل مع الأوضاع العربية والدولية، وعلينا ملاحظة ذلك، سواء في سعينا لإيجاد حلول للأسباب الأساسية المولدة للأزمات الوطنية الفلسطينية، بمختلف تجلياتها، أو في سعينا لإعادة بناء العمل الوطني الفلسطيني، على صعيد الرؤى والكيانات وأشكال العمل والعلاقات.