Daughter, If My Eyes Cannot Reach You, My Voice Will Get to Your Ears
Date: 
March 03 2021
Author: 
blog Series: 

كانت هذه العبارة باللهجة العامية الفلسطينية من العبارات الأولى التي لن أنساها، والتي خاطبتُ فيها بنيّتي الأسيرة، ابنة الواحد والعشرين عاماً ونيف، عبر أثير إذاعة (صوت فلسطين) ضمن برنامج (لا بد للقيد أن ينكسر)، المخصص لشؤون الأسرى وإسماعهم أصوات ذويهم ورسائلهم. وحيث الاعتقال في زمن الكورونا التي ألقت بظلها على كل شيء، وأصبحت حجة لمنعنا من رؤية أبنائنا وبناتنا الأسرى في السجون، أصبح أثير الإذاعة متنفّساً لكلمات تخرج من قلب مكلوم لتسمعها أذن متلهفة لأسير وأسيرة.

منذ اللحظة التي تلت النهوض من  الصدمة الأولى بعد ليلة الاعتقال المروعة في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أدركنا نحن عائلة الأسيرة شذى زياد الطويل، الطالبة في جامعة بيرزيت في اختصاص علم الحاسوب، أننا أمام تجربة إنسانية بنكهة فلسطينية صرفة، يحاكي إطارها العام قصصاً إنسانية في كثير من البيوت الفلسطينية التي ذاقت وبال الأسر من محتل لا يزال يرزح على صدورنا منذ أكثر من 73سنة، منذ نكبة 1948 وحتى يومنا هذا، في أطول وأسوأ احتلال في الحقبة الإنسانية المعاصرة.

وتَتابُع الزمن الذي يُحسب في مقياس البشر  أياماً، وفي مقياسنا نحن أهالي  الأسرى دهوراً، وهو يفصل بيننا وبين أسيرنا وأسيرتنا ليؤكد لنا أننا أمام تجربة إنسانية لا تلخصها كلمات مفتاحية كالأسر والأسير، والسجن والسجان، والمحاكم العسكرية، ولوائح الاتهام، والصليب الأحمر، وأقبية التحقيق والتحقيق العسكري؛ ولا يمكن اختصارها بسجلات أسماء الأسرى أو في إحصاءات لأعدادهم التي فاقت حالياً الـ 4400، بين أسير وأسيرة وشبل، بل إننا أمام فسيفساء لمعاناة إنسانية معقدة ومتداخلة بكل ما تحمله الكلمة من تفصيلات، إنها مجموعة من القصص الإنسانية لكل منها خصوصيته وما يميزه.

إنها قصتي الخاصة، وأنا الأم الأربعينية المكلومة التي لديها من البنين واحد سمّته أسعد،  ومن البنات واحدة سمّتها شذى، بكرها وقرّة عينها، وأنا الأم  التي أصبحت بين ليلة وضحاها أم الأسيرة شذى، والتي لم تكن تفكر في أسوأ كوابيسها أنه سيأتي مَن ينتزع ابنتها الغضة من فراشها في ليلة باردة ماطرة، وهي الأم التي كانت تنتفض إزاء أي مكروه يمس ابنتها وتدافع عنها،  فكيف السبيل إلى مواجهة قوة مدججة من الجنود الصهيونيين اجتمعوا على رقيقتي ومدللتي، وبدمعة عين خنقتها تارة وأرسلتها تارة كتبتُ للعالم أجمع باللغتين العربية والإنكليزية، عبر صفحتي في السوشيال ميديا، عن تجربة اعتقال بنيّتي، متقمصة دورها وهي المقيدة، وقلت فيها (إسمي شذى زياد الطويل، أنا طالبة في جامعة بيرزيت، جامعة الشهداء، أدرس في سنتي الثالثة في كلية تكنولوجيا المعلومات، أحلم كما غيري من الشباب بمستقبل باهر، فلسطينية القلب والهوى والهوية، مدللة أبي وأمي ومحبوبة عائلتي وأصدقائي، هذه السطور كتبتها أمي عني، أمي التي تكتب ولا تعلم أين أنا الآن وفي أي حال، هل نمت ليلتي؟؟ هل أنا واقفة مقيدة معصوبة العينين ممنوعة من الجلوس؟؟؟ هل أنا (مشبوحة)؟؟ هل أُنقل كما البضاعة في (البوسطة) بين مختلف السجون على طول الوطن؟؟ لأنني أنا الآن عاجزة عن ممارسة أبسط حقوقي المقيدة، فالاحتلال الذي يرزح على صدورنا قام ليلة امس في عتمة الليل، في الساعة الثالثة والنصف قبيل صلاة الفجر، بترويع عائلتي وحارتي ومدينتي، وانتزعني من حضن عائلتي كما انتزع الآلاف غيري من أحضان عوائلهم، هذه السطور جاءت متأخرة يوماً كاملاً لأن أمي وأبي وعائلتي وأصدقائي كانوا يحاولون يوم أمس لملمة ما تبعثر من مشاعرهم وإنسانيتهم وحقوقهم، والقيام بخطوات عملية بالتواصل مع المؤسسات الحقوقية والصليب الأحمر ونادي الأسير لمعرفة مكاني وفي أية حالة، كانوا إلى جانب هواتفهم ترقباً لرنةٍ تحمل بعض المعلومات عن وضعي وأين أنا؛ هذه السطور جاءت متأخرة يوماً كاملاً لأن أبي وأمي وعائلتي كانوا منشغلين باستقبال الأهل والأصدقاء وتلقّي مكالماتهم، والرد على مواقع التواصل الاجتماعي، فكل فلسطيني يعي ما هو الاعتقال بصورة عامة، فما بالكم بطالبة جامعية صلبة في شخصها، رقيقة في ظاهرها. الاحتلال لا يوفر أياً كان من جرائمه، سواء كنتَ طفلاً أو شاباً... فتى أو فتاة... رجلاً أو مسناً، فالكل تحت مطرقته أمام أعين العالم، إن وصلتكم هذه الكلمات ادعوا لي ولكل الأسرى بالثبات والفرج). هذه الكلمات بقلمي في محاولة مني أنا الأم لتلخيص تجربة الاعتقال في ساعاتها الأولى المروعة.

وهي قصة الأب الذي أصبح في لحظة أب الأسيرة التي كان يود أن يسيّجها برموش عينيه، وقد خاطبها عبر الإذاعة علّها تسمع صوته، وقال لها (واحد وتسعون يوماً خلت من الضجيج العذب والشغب،  وخلت من التشاكس بلا سبب،  وخلت من التسابق في مجاورتي،  والتزاحم على مجالستي،  وخلت من الكلمات العذبة: (( يا بابا بتحبني)؛ واليوم لقد ذهب  كل ذلك، لكنه حتماً سيعود وقريباً بإذن الله .... يابا يا شذى وإن شاء الله تظلي قوية كما عهدناك).

إنها قصة عائلة بكاملها كانت تترقب وتتلهف لسماع مكالمة واحدة من أي محام أو أهل أسيرة مقدسية من زوار سجن الدامون،  حملوا معهم أخباراً عامة عن ابنتنا، وتشابهت الرسائل في المضامين، "بنتكم بتطمنكم، صحتها منيحة، معنوياتها عالية"، و"هي صحيح صغيرة في العمر، لكنها قوية ومتماسكة، وعلاقتها جيدة جداً بالأسيرات"، كل هذه الرسائل حتى ولو تشابهت كانت بالنسبة إلينا رسائل متجددة يطيب لنا أن نسمعها.

"سنُنبت من جروحنا ربيعاً كأننا لم نذق بالأمس طعماً مراً"

كعائلة، ننظر إلى  تجربة الاعتقال هذه وقبل كل شيء على أنها  قصة تلك الفتاة التي أضحت الآن أسيرة في سجن الدامون وواحدة من 41 أسيرة، بين قاصر وأم وزوجة وطالبة جامعية وابنة وأخت وحبيبة، فكل واحدة منهن تؤدي دور البطولة في قصة إنسانية عقْدتها وحلُّها أنهن فلسطينيات أبيّات.

هي قصة شذى التي بدأت منذ كانت طالبة مدرسة أفلحت في استغلال هامش الحرية التي منحتها إياه عائلتها، وعلى رأسها والدها الذي كان يقول دائماً إنها خُلقت لزمان غير زماننا،  لتُخرج ما لديها من مخزون الطاقة الإيجابية التي تزاحمت في أجندتها على شكل أنشطة مجتمعية تطوعية مع مجموعات بيئية وثقافية، وشاركت مع أقرانها في تأسيس لجنة الحكواتي التابعة لجمعية أبناء البيرة وهي لا تزال في السادسة عشرة من عمرها، ارتدت الثوب البيراوي ووضعت على رأسها الوشاح المورد ليبدو شعرها الطويل الكستنائي منسدلاً من تحته منثوراً على ظهرها وهي تتقمص شخصية الحكواتي، تروي قصصاً شعبية وتنجح في استقطاب حواس الأطفال الذين كانوا يلتفون حولها في العديد من المناسبات، و شاركت في إدارة مخيم صيفي بالشراكة بين مؤسسة شباب البيرة وجمعية أبناء البيرة وهي في الثامنة عشرة من عمرها.

وبعد التحاقها بجامعة بيرزيت وإنهائها السنة الجامعية الأولى ترشحت لنادي علم الحاسوب لتحصد أعلى الأصوات بين زملائها من الذكور،  في ترجمة عملية لحبها لأصدقائها وحبهم لها وحبها لمساعدة زملائها الطلبة، وانعكس ذلك على عملها النقابي الطلابي؛ فأدارت مع زملائها وزميلاتها عدداً من الحوارات بين إدارة الجامعة والحركة الطلابية لتحقيق مطالب طلابية، وكنا كعائلة نرقبها بفخر وهي تمارس حقها في العمل النقابي الطلابي كأي طالب من طلاب الجامعات في العالم، ولم يتبادر إلى أذهاننا أن الاحتلال يتربص بها وبزملائها تحت ذرائع واهية ليقيد حريتهم، كيف لا وهم بذلك سيكونون نخبة لمجتمع فلسطيني، نخبة تقلق على سلامة المجتمع المدني، والعمل النقابي، وعلى الحريات المدنية، وتشكل عماداً لدولة المستقبل بعد اندحار الاحتلال.

اليوم ترزح شذى مع رفيقاتها من طلبة جامعة بيرزيت وأسيرات أخريات في سجن الدامون، ولا تزال تنتظر محاكمتها في محاكم عسكرية أساس قانونها أنه أداة يتم تطويعها بيد الجلاد الذي لا يرحم. تحوّل شذى مع رفيقاتها تلك الأقبية الرطبة والنتنة إلى مصانع للكرامة والحياة، قاهرات بذلك جلاديهم، وهي التي أرسلت مع ميس أبو غوش عندما تحررت الأخيرة من سجنها في الدامون في نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2020 أولى رسائلها المكتوبة إلى أهلها، وعنونتها "سننبت من جروحنا ربيعاً كأننا لم نذق بالأمس طعماً مراً".

انظر

Read more