كنت أجلس في الخيمة[1] في معتقل عوفر العسكري مع رفاقي نتبادل أطراف الحديث حين وصلني خبر اعتقال أخي نائل، كان هذا في أواخر سنة 2004، وعلمت حينها أيضاً بأن اعتقاله من المنزل جرى بطريقة همجية وتم اقتياده الى جهة مجهولة. إنها "الجهة المجهولة" التي يُنقل إليها معظم المعتقلين حين يتم اعتقالهم، ويكون ممنوعاً من زيارة محامٍ، أو أي تواصل مع العالم الخارجي، وذلك لأنه يقبع في أحد مراكز التحقيق الاحتلالية الموزعة في أنحاء الوطن، والصفة المشتركة بين هذه المراكز هي أن تعذيب الأسير هو اللغة الوحيدة خلال التحقيق، وحينها يصبح مكان تواجده غير مهم بقدر ما يحتل القلق كافة أجزاء الجسد وثنايا الروح، فنحن نعشق طريق الحرية ذلك لأننا نملك أقصى درجات الإحساس والشعور الإنساني.
اجتاحني الشعور بالقلق عليه، بل والخوف لدرجة أنني لم أعد أستطع النوم، سادني شعور الأخ الأكبر التقليدي الذي يرتبط بإخوته بعمق، ويحاول ممارسة سيطرة معينة عليهم بدافع المسؤولية، وكأن درء الخطر عنهم هو مهمته التي وُجد من أجلها. تمنيت لو أنني كنت بدلاً منه في التحقيق، وبدأت أتخيل كافة أشكال التحقيق التي حدثنا عنها الرفاق خلال جلسات التثقيف، من شبحٍ متواصل، وحرمان من النوم، ومنع من الاستحمام، وصراخ وشتائم، وتعاقُب المحققين على الأسير. كما عرّج خيالي على خطر غرف العار المسماة بالعصافير داخل السجون، وبدأت أسأل نفسي: هل سيحتمل أخي نائل كل هذه الأساليب وهو في سن السابعة عشرة، ويعيش تجربة التعذيب والتحقيق لأول مرة؟ أنا أعرفه منذ صغره عنيداً، صلباً، متحمساً، متمسكاً بوجهة نظره، مقداماً حين يتطلب الأمر عطاءً، شهماً، لكن القلق إنساني. وسيطرت عليّ فكرة أنه أخي الأصغر الذي لا أحب ولا أرغب في أن أقلق عليه، لدرجة أنني وصلت الى معاتبة نفسي عتاباً عاطفياً أخذ شكل الأنانية حينها، إذ أصبحت ألوم نفسي لأنني لم أمنعه من خوض طريق النضال.
حاولت قدر الإمكان إخفاء مشاعر الخوف والقلق عمّن حولي، وكعادتي بدأت أمازح هذا وأضحك مع ذاك، واستمريت في إعطاء دروس محو الأمية لأحد الرفاق العنيدين بالعطاء كعناده وإصراره على عدم التعلم، لكنني لم أيأس منه خلال تلك الفترة، ربما لأنني حاولت إشغال نفسي عن التفكير في أخي وفيما يجري معه في زنازين ومكاتب تعذيب مركز التحقيق الذي نجهل مكانه، وربما لو كنت في وضع طبيعي لما واظبت على تعليم الرفيق الذي يرفض التعلم. لم يفارقني شعور القلق والخوف، وعشت أياماً طويلة أتخيل ما يحدث مع أخي، وهنا شعرت بمدى صعوبة أن تكون أسيراً داخل السجون، ومن ذوي أسير آخر في الوقت نفسه، فحينها تختلط المشاعر: هل أنت مشتاق إلى أمك وأبيك وإخوتك خارج السجن، أم أنك غير مكترث بأحد سوى بأخيك الذي يتعرض للتعذيب الآن؛ هل أنت أسير أم من أهل أسير، وكم من عائلة فلسطينية اتخذت من العطاء صفات عدة في الوقت نفسه، كم من أم فلسطينية كانت في اللحظة نفسها أماً لشهيد وأسير وجريح ومطارَد ومبعَد. طوبى لقلب هذه الأم التي واظبت على الحياة في ظل حصار الموت لها.
مر أكثر من ثلاثة أشهر ونحن لا نعرف أي شيء عن نائل سوى أنه في التحقيق، لم تفدنا اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأي خبر يُطمئن القلب سوى أن نائل في قيد الحياة ويطلب دعواتنا، كنت أعلم بأنهم يكذبون، لأن نائل حين يكون في أصعب لحظات حياته فإنه سيرسل سلاماته لنا، ولا شيء غير ذلك. لو قالوا إنه في قيد الحياة ويرسل تحياته لكم لصدقتهم حينها، لكن الصليب الأحمر عادة لا يفيد، بل يزيد الطين بلة بدلاً من تخفيف معاناة أهل الأسير. كانت أصعب ثلاثة أشهر مررنا بها، إلى أن جاء خبر من المحامي أنه زار نائل في مركز تحقيق عسقلان وأنهى التحقيق، وهو بصحة جيدة ويهدينا سلاماته ويدعونا إلى عدم القلق عليه، وأنه قوي. حينها علمت فعلاً بأنه نائل، وبدأ القلق يتلاشى رويداً رويداً، إذ إن التحقيق هو أصعب مراحل الاعتقال، فما بالك وهو يمارَس على أخيك؟ وهنا جاءتني فكرة كتبت عنها في حينها، وهي كيف يصبح أمل الضحية أحياناً بأن يُخفَّف تعذيبه فقط، فيتمنى أن يمارَس عليه تعذيباً أخف من تعذيب أقسى، وكم من عائلة فلسطينية فرحت حين علمت بأن ابنها أنهى رحلة عذاب التحقيق وأصبح أسيراً في أحد السجون. يا لوقاحة الاستعمار ولغته وأعوانه، ويا لعظمة مَن قرر مقاومة منظومة المخرز وهزيمتها.
على الفور تواصلت مع عائلتي وألححت عليهم بأن يوكلوا لنائل المحامي نفسه الذي يترافع عني، فهو صديق وأنا أثق به وكان طلبي نابعاً أيضاً من تمنٍّ داخلي بأن أرى أخي نائل في إحدى جلسات المحاكم العبثية التي تشكل كذبة قضاء المحتل، وفعلاً قام الأهل بتعيين المحامي الذي طلبنا منه على الفور أن يطالب إدارة السجون بنقل أخي إلى أحد السجون بدلاً من بقائه في زنازين مركز تحقيق عسقلان، لكن سلطات الاحتلال لم تستجب لطلب المحامي، ومكث نائل مدة طويلة في الزنازين كنوع من أنواع القمع الذي مارسته استخبارات الاحتلال عليه.
جاء موعد محاكمتي التي أعلمني الأهل بأنها ستكون في نفس يوم محاكمة نائل، فخرجت إلى المحكمة هذه المرة نشيطاً وبكل حيويتي وتركيزي، علّني ألمح نائل وأسلّم عليه ولو من بعيد، وطلبت من الأسرى الذين يرافقونني ويعرفون أخي، أن يركزوا معي وأن يخبروني في حال لمحوه ماراً في أحد الأزقة، إلى أن جاء المحامي إلى زنزانة الانتظار وقال لي سوف تكون جلستك مع أخيك جلسة واحدة، بمعنى أن نائل سيجلس إلى جانبي داخل قفص النسور في المحكمة، حينها فرحت كثيراً وشحنت طاقتي لكي أسيطر على لحظة اللقاء، حاورت عواطفي بأن تبقى ساكنة لأخرجها فيما بعد، أمّا الآن فكوني قوية صلبة ومدّي أخي بالقوة.
دخلت إلى المحكمة ووجدت أهلي داخل القاعة، لكنهم لم يحضروا نائل بعد؛ فجلست وتحدثت مع الأهل، وكان قلقنا على نائل محور حديثنا، إذ كنا سنراه لأول مرة بعد رحلة الألم التي مر بها، لم أكترث حينها كم ستكون فترة حكمي، بل كنت أوزع نظري ما بين أهلي وباب المحكمة، أنتظر دخول نائل لكي أحضنه وأقبله وأشد على ساعديه على الرغم من قناعتي بأنه هو من كان سيشد على ساعدي حينها.
دخل أسير إلى المحكمة وجلس بجانبي في قفص النسور ينتظر قدوم القاضي لمحاكمته، ألقيت التحية عليه، وعاودت الحديث مع أهلي وكلي حرقة بسبب تأخر نائل، إلى أن جاء صوت مَن جلس بجانبي وناداني باسمي، حينها شعرت بجسدي يقشعر بكامله، إنه صوت نائل، لكن أين نائل؟ نظرت إلى الأسير الجالس إلى جانبي، والذي يلبس "بدلة" السجن الكبيرة جداً جداً عليه، وحذاء بلا أربطة، ووجهه أبيض كأنه لم ير الشمس منذ سنين. تأملت في وجهه كثيراً، إلاّ أنني لم أعرفه سوى من ضحكته، هذه ضحكة نائل، هذا هو النائل، وسط ركام العذاب يضحك، أخذته إلى صدري وقلت لأهلي الذين لم يتعرفوا اليه مثلي إنه نائل، ها هو العفريت الذي أقلقنا عليه. غمرته بكل ما كان لدي من قلق وخوف، تحدثنا لدقائق معدودة وقال لي إنه تحمّل كثيراً، وهو الآن في الزنازين الجماعية، وينتظر خروجه إلى سجن الأشبال. كان حديثاً سريعاً كأننا نغش في امتحان، قبّلته بقدر ما استطعت، واحتضنته بقدر ما استطعت، واعتذرت له بصمت لأنني أخوه الأكبر، لكنني لا أستطيع خدمته الآن، فمن يكبّل أيدينا أقوى مني ومنه حالياً، وحين جاء وقت الوداع ودعنا بعضنا بعضاً وكأننا سنلتقي بعد أيام.
عدت إلى القسم في المعتقل وصورة أخي لم تفارق خيالي. كم يستطيع هذا العدو أن يعذب حتى الملامح الإنسانية، تحول قلقي إلى حقد، وخوفي إلى إصرار، ولم أعد ألوم نفسي على شيء، إلّا إنني ازددت يقيناً من أنني لم أكن أستطع منع أخي من خوض طريق النضال، بل أنني الآن لا أريد أن أمنعه من سلوك هذا الطريق، وسأحثه كما سأحث أبنائي عليه، لأنك حين تكون محايداً في معركتك فهذا يعني أن تكون هدفاً صامتاً للعدو، والأجدى أن تكون هدفاً متمرداً مقاوماً.
[1]هناك سجون لا تزال فيها أقسام من الخيام الكبيرة بدلاً من حجرات الأسر.