Salim Tamari: Diaries and Memoirs as a Source of Social History
Date: 
February 15 2021

تركز جزء من المشروع البحثي للباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية سليم تماري، على اليوميات والسير والمذكرات، وتجلى ذلك في كتابه "الجبل ضد البحر" (مواطن، 2005، 2019)، وفي تحريره ودراسته لعدة يوميات ومذكرات كجزء من عمله البحثي في دراسة التاريخ الاجتماعي، مثل مذكرات الموسيقار المقدسي واصف جوهرية، وكتاب "عام الجراد، مذكرات جندي مقدسي في الحرب العظمى" الصادرين عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية. وقد عمل تماري من خلال دراسة المذكرات والسير على البحث في حيوات الفلسطينيين، مستكشفاً ما تقدمه هذه الروايات عن التاريخ الاجتماعي وعن المهمشين في التاريخ، والجوانب التي لا تصل إليها الأرشيفات والمصادر التاريخية الأُخرى في العادة. وفي هذه المقابلة حاورنا تماري عن عمله البحثي في السير والمذكرات، وعن قيمتها كمصدر تاريخي وما يمكن أن تضيفه.

  •   لماذا تركز مشروعك البحثي على دراسة فلسطين ومجتمعها من خلال السير والمذكرات؟

السبب الرئيسي هو اعتقادي أن السير والمذكرات تشكل مصدراً مهماً لكتابة التاريخ الاجتماعي في مكان لا تغطيه الأرشيفات الرسمية. فنجدها تحكي عن حياة أشخاص لا يظهرون في الحيز العام، كالفلاحين، وصغار الكتبة، والنساء وكذلك الأمر بالنسبة إلى أهالي الأرياف في فترة لم يكتبوا أو يقرأوا فيها، إلاّ إننا نجد سيرهم مدونة في مصادر أُخرى. إلى جانب ذلك، يشدني حب قراءة السير بشكلها الروائي وغير الروائي، وأجد فيها متعة لأنها تكشف جانباً نفسياً يتضمن البوح بمكنونات الذات، وهو ما لا نجده مثلاً في تاريخ الاقتصاد السياسي أو التاريخ العام.

  • كيف يمكن أن تشكل السير والمذكرات مدخلًا لدراسة التاريخ الاجتماعي في فلسطين؟

بعدة طرق، أولها أن السير والمذكرات تغطي وتيرة الحياة اليومية، وثانياً، أنها تعالج قضايا لها علاقة بلغة العصر، فمثلًا، السكاكيني عندما يكتب مذكراته يستخدم لغة كانت متداولة في ذلك الحين. وتعطي اليوميات صورة شاهد عيان على ذلك العصر، وهذا ما لا نجده في مصادر أُخرى مثل المذكرات التي تُكتب في فترة لاحقة، أو في التقارير الحكومية التي تفتقد التعبير عن مكنونات الشخص. ففي تقارير المخابرات أو الشرطة أو موظفي الدولة أو الإحصاء القديمة التي تصلنا مثلاً، من الممكن أن نجد نصاً يكذب فيه الشخص تجنباً لدفع الضريبة أو خوفاً من تبعات كلامه، بينما تعطينا المذكرات مرآة صادقة عمّا يحدث في التاريخ.

  • لكن قد يكون في المذكرات والسير تحيز شخصي، فهي ليست محايدة مثل الأرشيفات!

طبعاً، فالمذكرات واليوميات جوهرها ذاتي لهذا لا تكون حيادية. لكن من ناحية ثانية، هناك أيضاً تصور خاطئ أن الأرشيفات محايدة، والمذكرات غير محايدة. برأيي جميعها غير محايدة، لكنها توفر أمامك رؤية من زاوية معينة. مثلاً، تختار الدولة المعلومات التي لها علاقة بالضريبة، أو الديموغرافيا، وتركز على بعض الأمور وتتجنب أموراً أُخرى، أي هناك جانب انتقائي فيها. ولذا فكلها غير محايدة ومنحازة لأسباب مرتبطة بأجندات الشخص أو الدولة.

  • القصد هو أنه في الأمكان إجراء قراءات مقارنة في الأرشيفات، أمّا في السير واليوميات فمن الصعب فعل ذلك!

ما تقوله صحيح.  لذلك فإن كتابة التاريخ الاجتماعي برأيي يجب أن ترتكز على نوعين من المصادر، الأول، الإحصاءات الرسمية والتقارير، والثاني، رؤية أكثر وجدانية نجدها في المذكرات واليوميات.

  • كيف طورتَ منهجية دراسة السير والمذكرات وتحقيقها داخلياً وخارجياً كمصادر تاريخية اجتماعية؟

أنا لم أطور منهجية، فالمنهجية موجودة، وكل اهتمامي انصب على مذكرات ويوميات أشخاص لم يظهروا في الحيز العام، من خلال التقارير الرسمية أو من خلال سير النخبة. مثلًا، عالجتُ سيرة جندي عثماني قتل في الحرب العالمية الأولى، وعالجتُ كتابات لتوفيق كنعان كانت مغمورة جداً في سيرته الذاتية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى واصف جوهرية الذي كان موسيقاراً لكنه ترك مذكرات حميمة جداً. ولو أردتُ الحديث عن مدخل أو وسيلة فهو البحث في الجانب المهمش من حياة الناس الذي لا نجده في الحيز العام.

  • هل ينتج الاعتماد على السير رواية تاريخية منحازة إلى الطبقة الوسطى التي عادة ما تكتب مذكراتها؟

معظم الذين كتبوا مذكراتهم كان لديهم بعض الثقافة ومركز اجتماعي معين، وكانوا من فئات ميسورة نسبياً. ومن الممكن أنهم كانوا مهمشين لكن ليس بالطريقة المقصودة نفسها عندما نتحدث عن الفئات المهمشة جداً مثل العمال والفلاحين، الذين دونت سيرهم من خلال مصادر أُخرى. مثلًا، نعرف عن حياة فلاحين في إسبانيا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد من خلال تقارير لجان التحقيق الكنسية (inquisition)، التي كانت تهتم إذا ما كان المسلمون واليهود يمارسون دينهم بعد إقصائهم من بلداتهم. وهناك حالات شبيهة موجودة لدينا أيضاً، فالتحقيقات التي كانت تجري مع قادة الثورة والفلاحين، هي مصدر غني عن حياتهم. أنت تسميها منحازة ويمكن أن تكون محقاً، لكن عادة ما يكون الغرض من هذه المصادر الحصول على معلومات، لكننا نجد فيها خلفية كبيرة عن حياة الناس العادية، وهي مصادر غير متوقعة، ومن غير الممكن الحصول عليها دائماً. فسجلات المخابرات في فلسطين مثلاً، تحتوي في أغلبها على سجلات المخابرات الأردنية، وقد حصلت عليها إسرائيل ونشرتها، وأصبحت مصدراً غنياً جداً لحياة الناس السياسية من خلال التحقيقات. وهناك مصادر أُخرى، هي الرسائل، فالمجلد الثالث في يوميات السكاكيني يتضمن رسائله إلى ابنه، وهي غنية جداً بتفصيلات الحياة اليومية في تلك الفترة، لذلك يجب أن تبحث عن السبل والتقنيات غير المعهودة.

  • لكن السير المتوفرة يمكن أن تعكس جزءاً من حياة الناس الذين لم يكتبوا

تماماً، جزء من مهمتنا –نحن العاملين في حقل العلوم الاجتماعية- البحث عن مصادر للحيوات غير المدونة، كسجلات المخابرات، والأغاني الشعبية. في مدرسة الأنال (Annales school) في فرنسا مثلاً، طوروا دراسات ديموغرافية من خلال شواهد القبور، لأنه في فرنسا وبلاد أوروبية أُخرى، وكذلك الأمر في بلادنا، وخصوصاً في الفترة العثمانية، كان يُكتب على شواهد القبور معلومات أساسية عن المتوفى (تاريخ الولادة، تاريخ الوفاة، والعمل الذي كان يمارسه)، وهذه المعلومات غنية. ومن خلال شواهد القبور كان ممكن الحصول على معلومات عن آثار الطاعون في فترات متعددة، كأعمار المتوفين، والعدد المرتفع لوفيات الأطفال نتيجة الأوبئة أو ما شابه.

  • كيف تفهم الهزيمة، النكبة والنكسة، في السير والمذكرات؟ هل يمكن الاستفادة من هذه النصوص في تأريخ الهزيمة؟

السؤال ينطبق على كل الحروب. طبعاً، يمكن الاستفادة من مذكرات من شاركوا في الحروب أو الأيام الفاصلة فيها، لأن هذه التفصيلات لا تظهر في التاريخ الرسمي وغير الرسمي، وخصوصاً في نكبة 1948، فهناك مذكرات مهمة لإشكنتا في يافا[1]، ويوسف هيكل، وعارف العارف في القدس، الذين شاركوا بدرجات متفاوتة في الحرب، وتركوا مذكرات مهمة. وهي طبعاً منحازة وتعبر عن آمال الشخص وطموحاته ومكانته، لكن لأنهم كانوا في موقع معين في لحظة معينة، استطاعوا أن يعطونا رؤية لما حدث لا نجدها في التقارير الرسمية والأخبار المنشورة. أمّا حرب ١٩٦٧، فالغريب أن الكتابة عنها أقل، على الرغم من أنه كان بإمكان الناس الكتابة أكثر من فترة ١٩٤٨. لماذا؟ لا أعرف تماماً. أظن أن ضربة سنة ١٩٦٧ كانت غير متوقعة. ومع هذا فهناك مذكرات من هذه الحرب، مثل مذكرات محمد غوشة، وآخرين. وهناك قسم كبير منها لم يظهر بعد لكنه موجود. وإذا أردنا أن نرى الصورة بأكملها يجب أن نعتمد على الأرشيفات والمذكرات إلى جانب التاريخ الشفهي. طبعاً، هناك مؤرخون إسرائيليون طعنوا في صدق الرواية الشفهية لأنها استرجاعية. لكن في التاريخ الاجتماعي هناك تراث غني جداً يظهر باستخدام التاريخ الشفهي، وغير صحيح أنه يظهر وجهة نظر واحدة، فهناك تعدد للروايات والأشخاص والمناطق، وهناك طرق في التحقيق والاستدلال لتنقية هذه الذاكرة.

  • بما أن السير والمذكرات التي بحثت فيها في كتاب "الجبل ضد البحر" خلصت فيها إلى أن ما جرى في النكبة هو بتر للحداثة، ما الذي يمكن استنتاجه من دراسة سير ومذكرات ما بعد النكبة؟

كلمة حداثة إشكالية، لأن الحداثة ليست من نوع واحد. فقد حدث انقطاع بين تراث المناطق الساحلية ليس في الجانب الثقافي فحسب وإنما كذلك الاقتصادي والسياسي والإداري مع المناطق الداخلية. وما تسميه بتراً رافقته عملية إعادة صوغ علاقة المناطق العربية التي كانت تحت إدارة السلطتين المصرية والأردنية بالعالم العربي. وأعتقد أن توجهنا أصبح أردنياً خليجياً، بينما في السابق كان الارتباط أكبر ببلاد الشام ومصر. ولذا فقد أعيد صوغ العلاقات الثقافية والسياسية لبقايا فلسطين، وهذه تتطلب رؤية جديدة. وهناك أمور أُخرى لها علاقة بالحداثة والتي استمرت مثل الانتشار الواسع لمحو الأمية والتعليم الجامعي، وبروز مجموعات مهنية جديدة عن طريق الدراسة الجامعية مثل المهندسين والأطباء بأعداد أكبر، وهذه غيرت طبيعة الحداثة في فلسطين أو بقايا فلسطين، وصار الناس يستثمرون بشكلٍ أكبر في التعليم بسبب فقدان الأرض. والثورة في التعليم أثرت في بروز شرائح جديدة في المجتمع الفلسطيني.

  • ما أثر النكبة في السير والمذكرات؟

النكبة كانت انفصاماً كبيراً في الوعي، وفي نمط الحياة، وخصوصاً إذا ما كان الناس مزارعين أو تجاراً. وجعلتهم يعيدون التفكير في أنفسهم وما جرى لهم، وظهر استقطاب ديني ولاديني في الوقت نفسه. وقد أثر هذا في المذكرات، إذ انعكست هذه الاستقطابات في الكتابات بطريقة جديدة من خلال تبني أطروحات أيديولوجية لم تكن موجودة من قبل، لكن تم تبنيها من خلال وصف الحياة اليومية وليس على حسابها. وكان الانتقال إلى واقع جديد فيه تحدٍ لنمط الحياة السابق، لكنهم ظلوا يتحدثون عن نمط الحياة اليومية. واللافت أنه بعد الـنكبة ظهر القليل من الكتابات بعد الحرب مباشرة، فحدث نوع من الانقطاع، لاعن الحياة اليومية، لكن عن الخلفية التي كانت تسمح بأن يكتب الناس بهدوء. وبعد الخمسينيات عادت الكتابات بالطريقة نفسها، لكن عن أماكن جديدة. أي أن تواريخ القرى باقية ومستمرة فالمعلمون والمخاتير واصلوا الكتابة، لكن ظهر نوع جديد في الكتابة وهو استعادة التاريخ الذي له علاقة بالقرى التي تركوها، إذ إن المثقفين صاروا يكتبون عما حدث وهذا نوع جديد لم يكن من قبل، وظهرت نزعة رومانسية أو استرجاعية. وهناك من أصبح لديهم ذاكرة فوتوغرافية، ذات طابع رومانسي، فظهرت تسميات مثل فقدان الجنة، وكل قضايا الصراع والتوتر والاضطهاد داخل المجتمع صارت تختفي وأصبح المجتمع مثالياً جداً ويعاد رسمه بطريقة أُخرى نتيجة الحرب وفقدان المكان. وأصبح الاسترجاع والتخيل رومانسياً جداً. 

 

[1] إشكنتا، محمد سعيد، "أسرار سقوط يافا"، في عدلي مسعود الدرهلي، "يافا للأبد"، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013.

Read more