قد يبدو مفهوم "تعليم تحرري" فضفاضاً بالمعنى، وأحياناً قد يبدو، وبحسب السياق الذي يقال فيه، مغرقاً في حالة من الأمل.. الأمل الذي قد يبدو ساذجاً في مرحلة ما. فما هو التعليم التحرري؟ وما الذي نحتاج إليه لتكريس هذا النوع من التعليم؟ ومن هو جمهوره، ومن هم صانعو سياساته؟ وأنا هنا لا أسعى لوضع تعريف عام وشامل له، وإنما أسعى للإضاءة الفكرية بشأن مفهوم "التعليم التحرري" في الأكاديميا الجامعية بصورة عامة والفلسطينية بصورة خاصة، في الأكاديميا الجامعية وانعكاسات السياسات المعرفية فيها على المجتمع نفسه. فإذا ما تم الافتراض أن المدرسة هي المرحلة الأولى للتعليم المؤسساتي الرسمي، فإن الجامعة مرحلة استكمالية ضرورية مهمة، إن لم تكن الأكثر أهمية، ولا تختلف فيها سياسات الضبط والتأديب عن مثيلتها في المدرسة، وإنما تأخذ شكلاً بيروقراطياً أوسع.
سؤال التعليم التحرري مهم وإشكالي، فما هو التعليم التحرري في مجتمع محافظ، كالمجتمع الفلسطيني، من جهة، ومستعمَر على مختلف الأصعدة، من جهة أُخرى، وكيف يكون أثره في المتعلّم إذ يتخرج ويجد نفسه يغرّد خارج مسارب مجتمعه؟ وما أهداف "التعليم التحرري" في الجامعة إذ يلقَّن الطالب، في بعض المساقات، المعرفةَ تلقيناً، ويعلو فيها، كثيراً، شأن المنظّر الغربي على شأن نظيره العربي، قليل الحظوة بالاعتراف؟
في المجتمعات المستعمرة وما بعد الاستعمارية يتخذ مفهوم "التعليم التحرري" أبعاداً مركبّة، فمن جهة يتوجب أن يقود التعليم التحرري، في الحدّ الأدنى إلى تكريس فكرة التحرر من الاستعمار وكل بناه الفكرية والاقتصادية والإيديولوجية المباشرة وغير المباشرة، وتفكيكها ورفضها بل ومقاومتها.. وإنتاج نظرية وممارسة تحررية وطنية تنطلق من الهمّ والظرف والسياق الجماعي لدى المستعمَرين. فكل الجامعات الفلسطينية تؤكد في رسالتها الجامعية على مصطلح "جامعة وطنية"، وكثير منها يشير إلى هدفها في إيجاد معرفة وطنية لدى الجيل الجديد. لكن ما معنى "وطنية" ها هنا؟ وكيف يمكن صناعة التآلف بين السياسات الوطنية للجامعات الفلسطينية بأنواعها الثلاثة: الحكومية والخاصة والعامة، ولكل منها رؤيتها وسياساتها الداخلية، لكن المحكومة جميعها بسقف سياسات مجلس التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم العالي؟ وكيف يمكن المزاوجة بين المعرفة الوطنية والسياسات النيوليبرالية التي غدت تحكم كثيراً من سياسات الجامعات الفلسطينية وتحوّل بعضها إلى جامعات ربحية؟
على سبيل المثال، فإن كل الجامعات الفلسطيينة باختلافها تدرّس مساقاً إجبارياً، أو إجبارياً مقيّداً لكل الطلاب عن القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني، لكن لكل من هذه الجامعات سياساتها الداخلية في تحديد ما يتم تدريسه للطلاب، والكيفية التي يدرّسون بها.. وهذا، طبعاً، فضاء حرية نقالكل مؤسسة أكاديمية، لكن كيف يمكن لنا أن نقارن بين معنى المعرفة الوطنية في الجامعات الحكومية المحكومة بالسقف السياساتي الأوسلوي، وبين الجامعات العامة مثلاً التي تتمتع بهامش حرية أوسع من نظيرتها الحكومية؟
ومن جهة أُخرى، يمكن لنا أن نتساءل ماذا يعني التعليم التحرري في المجتمعات المحافظة والتقليدية كمجتمعنا الفلسطيني، حينما يجرّم الأفراد لالتزامهم بالقانون، وحين يغيب نظر المنظومة القضائية عن إبصار خطأ المسؤولين وتماديهم في صلاحياتهم.. وحين تقود "فزعة الجماعات" الثائرة المؤسسة الرسمية إلى التضحية بالأفراد إرضاءً للجماعة، بدلاً من مساءلة قانونية عادلة للمؤسسة نفسها! وقضية مقام النبي موسى، ليست بعيدة عن هذا السياق. كذلك للمفارقة الغرائبية وفي التوقيت نفسه، يغيب عن "فزعة" هذه الجماعات نصرة اعتصامٍ طويلٍ، يقترب من الستين يوماً، لذوي الإعاقة في "بيت الشعب": المجلس التشريعي الفلسطيني، في خريف تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر، وبرد كانون الأول/ديسمبر، وحتى مطلع هذا العام الجديد.. ليحصلوا على حقّهم القانوني في إقرار تشريعات قانونية تضمن لهم تأميناً صحياً حكومياً عادلاً وشاملاً، وذلك دونما اهتمام يرقى إلى مستوى الجيّد من المؤسسات الإعلامية ومؤسسات المجتمع المدني ومن الناشطين والمؤثرين الذين يملؤون فضاءنا بشعارات مستهلكة عن "الحرية" والديمقراطية" و"المواطنة" "والمساواة"!
لربما علينا، في سياق كهذا، أن نقرن "التعليم التحرري" بسياسات أُخرى للمتعلمين والمعلّمين معاً، مختصة بـ"علاج الصدمة"، إذ ينطلق الطالب فيها إلى الحياة وهو يدرك أن علينا أن نحفر في الصخر، بشكل جماعي، لإنقاذ أنفسنا بإنقاذ مجتمعنا من مآسيه لنستطيع بعدها أن نبصر الاستعمار الصهيوني يحفر بمعاوله أرضنا!
عودٌ على بدء، إن المؤسسات الأكاديمية بصورة عامة، سواء أكانت مدارس أم جامعات وغيرها، هي أمكنة تمارس فيها السلطتين السيادية والتأديبية. ففي المؤسسة الأكاديمية تمارَس السلطة التأديبية الخفية، إذ يتم التعامل معها على أنها، كما المستشفى والمصح والسجن، مؤسسات بانوبتيكونية تجمع بين المرئي والملفوظ لإنتاج الانضباط بين جدران المؤسسة، وتؤثر في جميع مناحي المجتمع.[1] فمفهوم التأديب يشمل علاقات السيطرة الخفية والواضحة في الصف المدرسي أو الجامعي، كما تتجسد في المنهاج الدراسي والاختبارات التي تحوّل المعلومات إلى قيم رقمية يمكن أن تحسب وتقاس، وهو ما يعمل على إيجاد صورة جديدة لأفراد في المجتمع (بتراتبيات سلّم التقييم الصفي مثلاً) كما لو أنها صورتهم الحقيقية وليست نتاج السلطة الخفية،[2] بالإضافة إلى أن موقع الأستاذ في المؤسسة التربوية، يعمل على إعادة إنتاج السلطة السيادية، لأنه يمارس سلطة واضحة على الطلاب في الصف التعليمي ويفرض عليهم ما يسمح لهم وما يحظر عليهم.
ومن هنا فإن أيّ تعليم تحرري، عليه بالضرورة أن يهدم علاقات القوى وسلطويتها وتراتبيتها هذه ويعيد إنتاجها بطريقة تتلاشى فيها الفروق بين المعلّم والمتعلّم، ما أمكن عمل ذلك. وأقول "ما أمكن" لأن المؤسسة التربوية أكانت جامعة أم مدرسة، لها اشتراطاتها على مسيرة العملية التعليمية ونتاجها حتى في أكثر الجامعات التي تتجه نحو التعليم الحديث واحترام الطالب ورأيه.. إذ يُشترط في المؤسسة الأكاديمية أن توضع علامات رقمية لتقييم أداء الطالب غير الرقمي، وتتجه في كثير من الأحيان إلى تسليع العملية التعليمية والاهتمام بالكمّ على حساب المضمون! وهذا ما يدفع أحياناً المعلمين إلى تلقين المعرفة تلقيناً دونما اهتمام بالمضمون ودونما سعي لتحرير ذهن المتعلمين ومساعدتهم على صناعة الثغرات النقدية في أذهانهم. وهذا ما انتبه إليه مبكراً باولو فريري الذي دعا إلى اعتماد نهج التعليم الحواري ومشاركة المتعلم في العملية التعليمية بدلاً من التعليم البنكي أو اللاحواري، الذي يتعامل مع المتعلّم كوحدة صمّاء وسلبية وفاقدة الفاعلية.. إذ ركز فريري على أهمية تحقق الفاعلية بممارسة المتعلمين التجربة النضالية والتحررية بدلاً من تعلمها فحسب وهو ما يؤدي إلى شق الطريق أمام تحرير الطلبة لذواتهم، ويهيئهم لتغيير الواقع والمشاركة في إعادة تشكيله، بما يحقق بدوره عملية التحرير الجماعي لأفراد المجتمع.[3]
وعملية التحرير الجماعية هذه لا تتحقق بإهمال الوعي الذاتي للمتعلّمين والابتعاد عن الانطلاق المعرفي والنظري من تجاربهم المحلية أولاً.. لذا لا بدّ من أن يضمن التعليم التحرري، في السياق الفلسطيني، وضع الأسس الأولى للتفكيك الإبستيمولوجي للجامعة، فكما يدشن محمود مدني[4]، فإن هناك ضرورة لسعي الجامعات الوطنية لملاءمة المعارف المنتجة مع الواقع الاستعماري عن طريق انبثاقها من الواقع نفسه كضرورة مركزية للتحرر من هيمنة المعارف الغربية الاستعمارية على سياسات إنتاج المعرفة في جامعات العالم الثالث، بصورة عامة.
ففي خطوة احتجاجية مقاومة للامتثال لمثل هذه السياسات التربوية الجامعية، صدحت صرخة طلابية احتجاجية بعنوان "لماذا منهاجي أبيض"[5] في كلية لندن الجامعية (UCL)، وانتقلت بعدها إلى العديد من الجامعات الأوروبية، وطالبت هذه الحركة الطلابية بمحاكمة المنهاج التعليمي ذي المركزية الأوروبية الاستعمارية والذي تعتمد عليه الجامعات الأوروبية بشكل واسع.. وهي حركة تسعى للتحرر من الإرث الاستعماري المعرفي والمادي داخل الجامعات، ذلك بأن المنهج التعليمي هو نتاج سياسات جامعية، وتيارات فكرية وتوجه أساتذة وطلاب بعض الأحيان.. وليس محض مادة تعليمية تعطى في الصفوف الجامعية.
وعلى صعيدنا الفلسطيني، لا بدّ من خطوات كهذه لتحرير المعرفة الجامعية من ارتكانها إلى مرجعيات المعرفة الغربية في مقابل إهمال المنظرين والفلاسفة العرب.. وهذا ملاحظ بوضوح، لا في الجامعات فقط، بل أيضاً في المنتوجات الفكرية والنظرية البحثية التي تعتمد بشكل كبير على النصوص الممركزة أوروبياً كمرجعيات مؤسسة للنص. وهذه، طبعاً، ليست دعوة إلى إحداث القطيعة مع النظريات العالمية والغربية، إنما نقد للهوس بها الذي يقترن بشعور تفوقها على غيرها مع شعور بـ "الدونية" تجاه المعارف المحلية والعربية والجنوب عالمية بصورة عامة. فلكل جغرافيا سياسية احتكاماتها السياسية والأيديولوجية والثقافية والفكرية التي تميزها من غيرها.. وفي سياقنا الفلسطيني المستعمر الذي يتقاطع في بعض إشكالياته مع أوضاع المجتمعات المستعمرة، فله خصوصيته المحلية ولا يتحقق التعليم التحرري إلاّ بفهم هذه التشابكية.
[1] ميشيل فوكو، "المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن"، ترجمة علي مقلد (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990).
[2] جون كوفالسكي، "من يحكم من في المدارس؟ فوكو والهوية المضمرة للسلطة". ترجمة عبد الرحيم الشيخ، "رؤى تربوية"، العدد 15 (2004)، 9-13، ص11.
[3] باولو فريري، "تعليم المقهورين"، ترجمة يوسف عوض. (ييروت: دار القلم، 2003).
[4] Mahmoud Madani, “Between the public intellectual and the scholar: decolonization and some post-independence initiatives in African higher education”, "Inter-Asia Cultural Studies", No.1 (2016): 68-83. “The African university”, "London review of books", Vol40. No14 (2018):29-32.
[5] Bhambra K. Gurminder, Dalia Gebrial and Kerem Nişancıoğlu, Decolonising the university” (London: Pluto press, 2018).