The New Palestinian Generation and the Land of Its Despair Cultivated with Hope
Full text: 

لم نذُق ثمار الخبرة العربية الحديثة في مجال استشراف المستقبل، وها نحن نقرأ محاولات ذات نبرة واثقة لمستقبليين غربيين في التنبوء بكيف سيكون مستقبلنا. ربما حَمِضت تلك الثمار في المجلدات الأكاديمية التي لا يستفيد منها سوى الأكاديميين، بينما نشرت مؤخراً مجلة "ذا لانسيت" بحثاً[1] يتنبّأ بتغيرات راديكالية في القرن الحالي. استوقفني اقتباس لمحرر المجلة، ريتشارد هورتون، يقول فيه: "القرن الحادي والعشرين سيشهد ثورة في تاريخ الحضارة الإنسانية. أفريقيا والعالم العربي سيرسمان مستقبلنا"، وقد استند في بحثه إلى دراسات ديموغرافية تشير إلى أنه سيكون لخيارات المرأة وسلطتها على رحمها دور كبير في نتائجها.

وفي الوقت الذي يتجذر العقل العربي بالاعتقاد بترك المستقبل لله العالم بالغيب، حتى في نشرات حالة الطقس، فإن دراسات المستقبل تُستخدم في جغرافيات أُخرى من أجل بناء المجتمعات. لكن قبل أن يصير المستقبل موضوع دراسة، فإنه كان وسيظل تطلعاً طبيعياً إلى البشري الذي يتحلى بالقليل من الوعي، ويرغب في أن يترك نسلاً وراءه. ومع أن إيمان المستقبليين بالجهد الذي قد يُبذل من أجل تحسين حياة البشر يتصادم والأفق المظلم الذي يكشفه أمامنا يومياً، التردي السياسي والاجتماعي العربي الفلسطيني، إلّا إن تنبّوء باحثي "ذا لانسيت" وغيرهم بثورات تكون النساء وراءها هو ما سيشكل، في فلسطين، ما يشبه صفعات لهذا التردي. وسأحاول هنا أن أستقرأ التاريخ واللحظة، الأمر الذي سيجعل تنبوءاً كهذا منطقياً، محلياً على الأقل، وفي ظل غياب أي رؤى استشرافية عربية أو فلسطينية.

يحب الراشدون أن يتكلموا باسم الجيل الجديد وأن ينطقوا بدلاً منه، وعليه، فأنا متأكدة أن مؤسسات دراسات المستقبل العربية لا ترى في هذا الجيل صائغاً لرؤاها. ولهذا، سأحاول أن أقرأ لا أن أنطق، مفترضة أني، في سياق التسارع الزمني الذي تجر عربته الثورة التكنولوجية وثقافة الرأسمالية الاستهلاكية، ربما أكون محسوبة على الجيل الجديد، إلّا إني حتماً لست في عداد جيل المستقبل الذي أُطلقت عليه تسمية "جيل زَدْ" (Generation Z).

المحزن في حياة هذا الجيل هو أنه لم ينشأ على خيبات الأمل. بل على خيبات من دون أمل. فهو لم يشهد، كجيل الألفية الذي سبقه، اشتعال الانتفاضتين والرفض الكبير الذي أعلنه الشعب الفلسطيني وقيادته المتمثلة في أبي عمار، وإنما تفتّح وعيه على انهيار الخطاب الفلسطيني الرافض، وعلى الانقسام الفلسطيني والتفكك الكامل لمنظمة التحرير الفلسطينية، واستبدال الأحزاب الفلسطينية في أراضي ٤٨ ذات الهوية التاريخية النضالية بحزب واحد اختزل طموحه في العمل البرلماني، وقَمْع السلطة الوطنية الفلسطينية للمقاومة السلمية التي تخرج ضد الاحتلال الإسرائيلي في محافظات الضفة، واعتقالها أصحاب الرأي الحر من صحافيين وناشطين ومنتقدين لأداء السلطة ومواقفها، وصمتها أمام السياسات الإسرائيلية، وآخرها صفقة القرن ومشروع الضم الإسرائيلي. عندئذ، سيفهم الشاب أو الصبية الفلسطينية أن كل شيء مباح، وأن الغضب أو المقاومة هما شكل من أشكال التطرف.

الأمر الذي يبدو أكثر خطورة من الركاكة والخنوع السياسي اللذين يشهدهما هذا الجيل، هو الانحدار الاجتماعي الذي تنتجه هذه الركاكة، والذي تُعدم في إثره الحريات الشخصية وحريات التعبير، وتتحول فلسطين التي لا أحد يتجرأ على المسّ بأحقيتها في الاعتراف العالمي بها كدولة شرعية، إلى ديكتاتورية تحت الاحتلال. فالحريات الشخصية، وتحت سطوة العشائر، وانعدام سلطة القانون، لم تسلم من أن تُهدر من دون حسيب، وقد شاهدنا آخر أداء للعشائر في غزة بعد أن عملت مع الحكومة على الإفراج عن مجرم قتل ابنته، بعد شهر من حبسه. يقول المؤرخ البريطاني توينبي إن الحضارات تموت بالانتحار لا بالاغتيال. هكذا يمكن وصف ما يمر به الشعب والقيادة الفلسطينيين، فالمشروع الصهيوني الذي يتغذى ويُغذي خوفه على وجوده، لن يغتاله اغتيالاً كاملاً. ثم إن ليّ ذراع ثقافة المقاومة، وتفكيكها في معمل صناعة مفاهيم الإرهاب الحديثة، جعلا أداة القتل تتجه نحو الرأس الفلسطيني.

إن أول ما قد يُترجم من وعي الجيل الجديد من مشاهدته الحية للحالة الفلسطينية فيصير مرئياً، هو اللغة، ولا سيما أن وسائل التواصل الاجتماعي تشكل منصة مفتوحة لهذه اللغة لأن تتشكل على نحو فردي، وبتأثيرات مناخات جمعية يمكن لنا أن نستشف منها اللغة المتحولة بفعل الانحدارات السياسية الاجتماعية. ويمكن تحديد اللغة، موضوع الحديث، في تلك التي تعبّر عن نقد الجيل الجديد لمجتمعه وقيادته من خلال تفكيك لغة مقدسة أنتجها تصلب العقل المتمسك بالموروث الوطني كقيمة فوق أهل الوطن أنفسهم، وفوق حرياتهم وآرائهم. فنحن لم نعد نسمع، في كثير من التظاهرات، شعار: "نموت وتحيا فلسطين"، لأن هذا الجيل يريد أن يحيا كي تحيا بلده، بل لعله يرى مفهوم التضحية متجلياً بالعمل وليس بالشهادة. إن فكرة الوطن لا يمكن أن تدوس فوق رأسه، ذلك بأن حريته السياسية لا يمكن أن تتحقق من دون حريته الاجتماعية والشخصية، هذا في الوقت الذي تنادي أصوات بوجوب وضع الوطن كأولوية، وإلقاء قضايانا الأُخرى في الهامش. وربما تذهب لغة الغضب أحياناً إلى السؤال عن جدارة استحقاق شعب بدولة إن هو عنّف أفراده، وقتل نساءه، وحرر مجرميه من العقاب.

نُصرّ وسط هذا كله على الأمل، في محاولة لاستخدامه كقيمة يمكن قياسها في السلّم الجمعي، ومقاربتها زمنياً في مقابل زمن آخر. لكن دعونا نتوقف قبل أن نجلس في ميزان الربح والخسارة، عند السؤال عن معناه: ما معنى أن يتحلى شعب بالأمل؟ وكيف يكون الأمل، أصلاً، شعوراً جمعياً؟ ولماذا لا يحق لنا أن نفقده؟ فهو ليس رديفاً للتفاؤل وليس عدواً لليأس، وهو لا يمكن أن يكون إلّا شعوراً فردياً يتصل بتجارب الفرد، حتى تلك التي تُنتجها علاقته بشعبه أو وطنه. ألم يذهب جيجيك إلى أبعد من ذلك فتحدث عن شجاعة اليأس المتحققة في ألّا نتخيل بديلاً من الواقع، وأن نتقبل عواقبه؟ فهو يرى في حلم البديل، النظري ربما، خادماً للانسداد الجاري في التفكير في مأزقنا. وبما أن الجيل الجديد لم يجد في حلم التحرر السياسي بديلاً من واقعه الذي تتعاظم فيه التحديات العسيرة، فإنه سمح لنفسه بأن يعبّر عن يأسه، من دون أن ينزع هذا التعبير عنه حقه في الشعور بالأمل بالتغيير. وبذلك تشكّل مفهوم جديد، إن جاز التعبير، للأمل الذي يولد من اليأس والنقد الذاتيين، وليس الذي يتغذى على قدسية الشعار والوطن العفيف.

يبدو أن هذا اليأس هو الذي شكّل منبع اللغة الجديدة التي تتمظهر أمامنا، متمسكة باقتران التحرر السياسي بالاجتماعي (من الضروري هنا الإشارة إلى أننا نتحدث عن نُخب شبابية تصوغ هذه اللغة، تقابلها شريحة شبابية واقعة تحت الإعماء السياسي والمجتمعي والجندري)، وتتبنّاها أقلية شبابية في المجتمع الفلسطيني، شرع صوتها يعلو في الآونة الأخيرة، نذكر منها حراك "طالعات"، وهو حراك نسوي سياسي تقوده نساء ضد الاحتلال الإسرائيلي والمنظومة الأبوية الفلسطينية. ونحن لا نستطيع اقتطاع هذا الحراك عن الشوط الذي قطعته المرأة الفلسطينية في التاريخ الحديث، لكن يمكن الإشارة إلى ميزاته التي سآتي على ذكرها، وإلى انتمائه إلى عالم كامل يشهد حراكات نسوية نشطة، أو ربما ملامح ثورة نسوية تولد على نار المظلومية المتقدة، وإن كانت ولادتها أفقية على نار الوقت الهادئة.

الشوط الأول الذي قطعته المرأة الفلسطينية المدنية أو المتمدنة، ولا سيما في المدن التي وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي خلال النكبة، سقط ضمن "فقدان الذاكرة الجماعية المرتبطة بالماضي المديني للمجتمع الفلسطيني قبل 1948. فبلور هذا الفقدان النظرة إلى وضعية النساء الفلسطينيات، والتحولات التي طرأت على مكانتهن، فذُوتت الرواية الصهيونية التي انتشرت بين أوساط الكثير من الفلسطينيين والفلسطينيات، والتي تعزو أي تطور على هذا الصعيد إلى تأثير المجتمع الإسرائيلي ورافعات الحداثة التي جلبها علينا."[2]

وأدّت المرأة لاحقاً أدواراً كثيرة في لحظات سياسية مفصلية كالانتفاضة الأولى، فهي لم تتقدم فيها إلى الصفوف الأولى في المقاومة فحسب، بل ساهمت أيضاً في ضبط المجتمع وسط حالة الطوارىء، فخلقت المدارس المنزلية، وشكلت اللجان الشعبية، وأطلقت حملات مقاطعة البضائع الإسرائيلية.

صحيح أن من المبكر الحديث عن أثر هذا الحراك في النضال السياسي والنسوي الفلسطيني، وبالتالي في وعي الأجيال الجديدة، لكنه أولاً يسحق أي نظرية تتحدث عن رافعات الحداثة التي جلبها المجتمع الإسرائيلي، ويختلف حتى عن تيارات نسوية فلسطينية وطنية أقدم منه في كونه مستقلاً وغير منتمٍ إلى فصائل أو أحزاب سياسية موجودة ذات بُنى ذكورية أصلاً، وفي عدم حصر نضاله في ردات الفعل الطارئة كانتفاضة أو غيرها، وأخيراً في تجاوزه للجغرافيا الفلسطينية، ورفع صوته للاحتجاج على قتل النساء ومواجهتهن أشكال القمع في العالم العربي أيضاً. وقد بدأنا نتلمّس تقرّب فئات كثيرة من الأجيال الشابة من هذا الفكر، من خلال وجودهم في الشوارع تلبية لنداءات حراك "طالعات"، في الوقت الذي لم تعد تلبي هذه الفئات الشابة نداء الأحزاب الفلسطينية الموجودة في الكنيست الصهيوني، أو نداء الفصائل الفلسطينية في الضفة، والتي لم تعد ترفع صوتها احتجاجاً على هذه السلوكيات الاجتماعية. وفوجئتُ قبل مدة حين قالت لي صبية في بداية عشرينياتها بأن مجايليها يسموننا "جيل الأحزاب". فهذا الجيل لم ينتمِ إلى الأحزاب كي يهجرها، ولم يكن انخراطه فيها تحصيل حاصل كما عند أجيال سبقته، وإنما هو متحرر من هذه الأحزاب.

لا أعرف إن كان من الأرحم أن نرى أطراف شارة الانتصار الفلسطينية التي رفعها أبو عمار قبل أن تسقط يده، أو أن نولد بعد أن تسقط، لكن ما أعرفه هو أن جيل زَدْ الذي يُقلق آباءه بسبب انتمائه إلى عصر وأدوات عجيبة، ربما سيبدأ الحرث في أرض تكاد تكون مقفرة سياسياً واجتماعياً. إن كل مَن رفعت صوتها اليوم، في تظاهرة طالعات، أو مَن رفع صوته في تظاهرة "صرخة كويرية للحرية" البارحة في حيفا، لن يقبلا بعدُ أن تدفن في تلك الأرض، وعلى حساب الوطن، مطالبهما في حقوقهما على عقلهما وجسدهما، حتى إن كان هذا الأمل خارجاً من أعنف يأس في الكون. فمقتل ٢٠ امرأة فلسطينية منذ بداية العام، وحالات الاغتصاب والتحرش، وظاهرة التنمر على المثليات والمثليين، والتي تعطيها المؤسسات الدينية السياسية شرعية علنية، تجعل من النضال السياسي النسوي وجهة صائبة للمشي في هذه الطريق الوعرة نحو مستقبل سيصير في إمكان الجيل الجديد، ذاك ذي الصوت العالي، أن يرسمه، لا أن يكون موضوع دراسته. وهذه الوعورة ربما تبدو طارئة، لكنها مع الأسف ستغطي، الآن وفي المدى المنظور على الأقل، أرضاً شاسعة نعيش فوقها جميعاً.

 

المصادر

[1] انظر:

Group of authors, “Fertility, Mortality, Migration, and Population Scenarios for 195 Countries and Territories from 2017 to 2100: A Forecasting Analysis for the Global Burden of Disease Study”, The Lacent, 14 February 2020, 

وانظر أيضاً: "منار حسن، "تدمير الحاضرة الفلسطينية جعل المرأة حبيسة الحيز الريفي" (مقابلة)، "عرب ٤٨" (9/6/2018) في الرابط الإلكتروني.

[2] حسن، مصدر سبق ذكره.

Author biography: 

أسماء عزايزة: شاعرة وصحافية فلسطينية.