تمتع الشعب الفلسطيني، بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين، وإعلان الانتداب عليها، بمكانة مواطن حصل بموجبها على جنسية فلسطينية خوّلته حمل هوية وجواز سفر. لكن هذه المكانة عانت نقصاً في ثلاثة أمور أساسية وجوهرية هي: الأول، جاءت الجنسية في إطار تقسيم العرب وأوطانهم؛ الثانية، الحكومة التي منحت هذه المكانة كانت قوة احتلال حرمت الفلسطينيين من ممارسة حقهم الطبيعي في تطبيق فعلي لهذه المكانة من خلال تقرير المصير؛ الثالثة، وعد بلفور الذي قدمته حكومة الاحتلال البريطاني، بضرورة إنشاء بيت وطني لليهود في فلسطين.
مع ذلك، واصل الشعب الفلسطيني واليهود الذين يعيشون فيها، أو قدموا إليها بموجب وعد بلفور، حمل الجنسية الفلسطينية حتى انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، حين شنّت العصابات الصهيونية عدواناً شاملاً على الشعب الفلسطيني ووطنه التاريخي وعلى الدول العربية، احتلت خلاله أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين، متسببة بفقدان الفلسطينيين مكانتهم من مواطنين إلى لاجئين في جزء من وطنهم (الضفة الغربية وقطاع غزة)، وفي الدول المضيفة.
نتيجة ذلك، ظلت مكانة لاجىء ترافق معظم الشعب الفلسطيني حتى اليوم، على الرغم من منح بعض الدول جنسيتها للفلسطينيين المقيمين على أرضها، مثل الأردن الذي أضاف إليهم سكان الضفة الغربية، بما فيها القدس بحكم توحيد الضفتين في سنة 1952، بينما منحت بقية الدول المضيفة اللاجئين الفلسطينيين (لبنان وسورية ومصر)، وثيقة سفر.
في إثر إعلان "صفقة القرن" التي تدعمها الولايات المتحدة، أعيد طرح المكانة والجنسية والهوية التي سيحملها الشعب الفلسطيني بعد تنفيذ عملية الضم، أكان شاملاً أم متدرجاً أم جزئياً (على الرغم من تراجع إمكان تنفيذ ذلك موقتاً)، أو في حالة انهيار السلطة الوطنية الفلسطينية وعودة إسرائيل إلى حكم مناطق السلطة.
تتناول هذه المقالة ثلاثة نماذج من المكانة التي يمكن أن يحصل عليها الشعب الفلسطيني، هي: مكانة المحتل وفقاً للمفهوم الإسرائيلي، مع عدم التطرق إلى هذه المكانة في القانون الدولي؛ مكانة رخصة "ساكن دائم" التي مُنحت للسكان الفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة، من دون الحديث عن المكانة الدولية التي منحها قرار التقسيم لسكان مدينة القدس؛ الجنسية الإسرائيلية التي مُنحت لمَن بقي من الفلسطينيين في فلسطين التاريخية، على الرغم من الثقوب الواسعة التي تعانيها هذه المكانة، مقارنة بالإسرائيليين اليهود.
مكانة الفلسطينيين في الصفقة والضم
طُرحت مسألة السيادة الإسرائيلية على مناطق في الضفة الغربية، وخصوصاً في الأغوار الفلسطينية، قبيل انتخابات الكنيست الثالثة في سنة 2019، عندما صرّح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أنه ينوي فرض السيادة الإسرائيلية على غور الأردن بعد الانتخابات، من دون أن يمنح سكانها أي مكانة أو جنسية.[1] وجاءت صفقة القرن الأميركية لتأكيد نيات نتنياهو في الضم، عندما أيدت ضم دولة إسرائيل لـ 30% من الضفة الغربية مع الشوارع الرئيسية الطولية والعرضية فيها، تاركة الفلسطينيين في معازل وكانتونات صغيرة وكبيرة تسمى دولة فلسطينية، سيكون في إمكانها إعطاء مواطنيها الجنسية الفلسطينية، الناقصة بحكم سيطرة دولة الاحتلال على الأمن الشامل في مناطق الدولة الفلسطينية، وبحكم سيطرتها على المعابر الدولية البرية أو الجوية.
لكن شريك الليكود في الحكم، حزب أزرق - أبيض برئاسة رئيس الأركان الإسرائيلي السابق بنيامين غانتس، صرّح أن المناطق التي ستضمها دولة إسرائيل، تشمل منح سكانها الجنسية الإسرائيلية، لاعتقاده أن المساحات التي ستُضم إلى دولة الاحتلال لا تتضمن عدداً كبيراً من السكان.[2]
وعلى الرغم من تراجع نيات الضم، أكانت وفقاً لصفقة القرن، أم ضماً جزئياً بحسب المخططات الإسرائيلية المتعددة، فإن فكرة الضم لم تُشطب من جدول أعمال الحكومة، وذلك بسبب وجود مستعمرات إسرائيلية منتشرة في جميع أنحاء الضفة الغربية والقدس ومحيطها، وهذا وفقاً لتصريحات نتنياهو في المؤتمر المشترك الذي عقده مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومع نائب رئيس الإمارات العربية المتحدة.[3]
وفي مقابل المخططات الإسرائيلية والأميركية بالضم الكلي لـ 30% أو الجزئي من أراضي الضفة الغربية، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) بدء التحلل من الاتفاقيات الموقّعة بين الجانبين، وبلّغ الجميع في السر والعلن أن أي عملية ضم إسرائيلية تعني بالنسبة إليه عودة إسرائيل إلى ممارسة صلاحياتها كاملة في الضفة الغربية، وبالتالي فإن السلطة الوطنية ستسلّم مفاتيح الحكم لإسرائيل بحسب العديد من تصريحاته السابقة، الأمر الذي يعني - بشكل أو بآخر - عودة الحكم العسكري والمدني إلى مناطق "أ" و"ب"، وبالتالي العودة إلى "اللامكانة" للفلسطينيين وفقاً لبطاقة الهوية التي حملوها في السابق والآن، وسيحملونها في المستقبل، والتي ستُدمغ بختم "الجيش الإسرائيلي"، وما يترتب على ذلك من حرمانهم من حقوق كثيرة.
المكانة تحت الحكم العسكري
بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في سنة 1967، عاش الفلسطينيون في ظل الحكم العسكري التابع للاحتلال الإسرائيلي الذي رفض تحديد مكانتهم، ومنحهم بطاقات هوية طابعها أمني ويصدرها "الجيش الإسرائيلي، بهدف التعريف عن شخصياتهم وأماكن سكناهم فقط، من دون أن تحمل بطاقة الهوية تلك أي حقوق أو مكانة أو جنسية أو تعريف بالقومية، وإنما ورد فيها تسميات متعددة مثل: "ساكن في المناطق المدارة"، أو "عربي من المناطق"، أو "العربي في يهودا والسامرة"، والتي غابت فيها تسمية الفلسطيني تماماً، خشية الاعتراف بمكانة مَن يحملها في المجالات الوطنية والاقتصادية والثقافية والدينية، وما يترتب على ذلك من حقوق متنوعة. أمّا مَن وُلد من الفلسطينيين في فلسطين التاريخية قبل سنة 1948، فقد أشارت هويته إلى أنه وُلد في دولة إسرائيل، كأن هذه الدولة قامت قبل ذلك التاريخ.
وتحولت الهوية المعبّرة عن مكانة الشخص والحامية له ولحقوقه الفردية والجماعية، إلى بطاقة هوية هي أداة في يد الاحتلال الإسرائيلي لتقييد حريته وتحركه في الضفة الغربية وبينها وبين قطاع غزة الذي حُرم سكانه من الإقامة في الضفة، وأي تغيير في عنوان السكن من القطاع إلى الضفة، وبالعكس، يتوجب تقديم طلب بشأنه إلى الإدارة المدنية التابعة للاحتلال التي تبتّ بالطلب، وهي المهمة التي كانت تستغرق أعواماً. ومنذ بداية الانتفاضة الثانية، بدأت عملية ترحيل جماعي من الضفة إلى قطاع غزة، لكل مَن يثبت أنه من سكانه.
لم تعبّر الإجراءات المذكورة عن المفهوم الأمني للاحتلال الإسرائيلي فقط، بل جاءت أيضاً لتعبّر عن مخاوف عميقة من استخدام كلمة فلسطيني أو فلسطين في بطاقة هوية الحكم العسكري، أو حتى في بطاقة هوية المواطنين الفلسطينيين العرب في دولة إسرائيل.
ولم تتغير مكانة الفلسطينيين، على الرغم من توقيع اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، إذ رفضت إسرائيل أن تحمل أوراقها الرسمية، بما فيها وثيقتا الهوية وجواز السفر، أي إشارة إلى كلمة وطنية في المعاملات الرسمية، نتيجة سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الحدود وعلى السجل المدني الذي منعت بموجبه إحداث أي تغيير عليه، بدعوى أن منطقة الحكم الذاتي التي اتُّفق على إنشائها لم تصبح دولة بعد. ونتيجة ذلك، لم تتضمن بطاقة الهوية أو جواز السفر الفلسطيني أي إشارة إلى جنسية أو قومية حاملها، ومنحته مكانة محدودة جداً وغير مكتوبة في المنطقة "أ" من دون أن يُعامل حاملها خارج تلك المنطقة بشكل مختلف، بأي شكل من الأشكال، إذ ظلت المكانة التي يتمتع بها الفلسطيني في ظل الحكم الذاتي تشبه المكانة القائمة للفلسطيني عقب الاحتلال الإسرائيلي لسائر الأراضي الفلسطينية في حزيران/يونيو 1967.[4]
كذلك، لم تمنح قوات الاحتلال الإسرائيلي عشرات الآلاف من الفلسطينيين أي مكانة أو هوية، وذلك لرفضها منحهم لمّ شمل، علماً بأنهم، في أغلبيتهم العظمى، ولدوا في الضفة الغربية، لكن أهاليهم لا يملكون بطاقة الهوية التي تشير إلى مكان إقامتهم – هوية الحكم العسكري.
بناء عليه، وفي حالة الضم الجزئي أو الكلي، أو انهيار السلطة أو تفككها أو تسليم المفاتيح، فإن الحكم العسكري والإدارة المدنية، ذراعَي الاحتلال في الضفة الغربية، سيعودان إلى تحمّل مسؤولياتهما المتنوعة (بما في ذلك الشؤون المدنية) على المواطنين الفلسطينيين، الأمر الذي حاولت إسرائيل التخلص منه منذ سنة 1967 حتى توقيع اتفاق أوسلو، الأمر الذي يعيد الصراع إلى المربع الذي انتهت منه مع توقيع اتفاق أوسلو، وهو ما ترفضه إسرائيل بشدة.
كما أن إعادة تموضع قوات الاحتلال الإسرائيلي داخل المدن الفلسطينية، تؤدي إلى تصعيد يومي يدفع في نهاية المطاف إلى اندلاع احتجاجات أو انتفاضة ثالثة، الأمر الذي يعيد النشاط والحيوية إلى المؤسسات الدولية الرافضة للاحتلال والضم، كي تطالب وتضغط من أجل إيجاد حلول أُخرى للشعب الفلسطيني، ربما تكون الدولة ثنائية القومية التي تتقاسم ثروات فلسطين التاريخية بين أبناء القومية العربية الفلسطينية وبين المحتل الإسرائيلي، وهو ما ترفضه دولة إسرائيل بشكل مطلق، بما في ذلك الحكومة الحالية؛[5] أو الدولة الواحدة التي تمنح مواطنيها الفلسطينيين الجنسية الإسرائيلية، بدلاً من دولة التمييز العنصري، وبذلك تنتهي إسرائيل كدولة خاصة باليهود، وهو أيضاً خيار ترفضه دولة الاحتلال بالمطلق.
نتيجة ذلك، يبدو أن دولة الاحتلال ستفضل الوضع القائم مع الشعب الفلسطيني على الضم، أكان جزئياً أم كاملاً وفق "صفقة القرن"، خشية منح الفلسطينيين مكانة يتساوون فيها مع اليهود في الدولة العبرية.
الساكن الدائم
الخيار الثاني للمكانة التي يمكن أن تمنحها دولة إسرائيل للشعب الفلسطيني المحتل، في حال الضم، أكان جزئياً أم كاملاً، يمكن أن يشبه المكانة التي منحتها إسرائيل لسكان القدس الشرقية، عندما سلخت المنطقة وسكان القرى المجاورة عن محيطهم الفلسطيني في الضفة الغربية بعد الاحتلال في سنة 1967، وذلك بواسطة أوامر إدارية خوّلت وزير داخلية الاحتلال ضم مناطق من الضفة الغربية إليها، ومنحت سكانها رخصة "ساكن دائم"، وبالتالي لم تمنحهم جواز سفر إسرائيلياً، مع المحافظة على الجنسية الأردنية، وهي مكانة تختلف كلياً عن مكانة مواطن في دولة الاحتلال الإسرائيلي. كما جرى تزويدهم ببطاقات هوية زرقاء اللون تخوّل حاملها السكن في القدس والتجول والعمل داخل إسرائيل، وتمنحه التزامات وليس حقوقاً اجتماعية وصحية، ومشاركة في الانتخابات البلدية من دون المشاركة في انتخابات الكنيست.[6]
لكن الفلسطينيين سكان القدس الشرقية المحتلة، لم يتنبهوا إلى ما تحمله تلك البطاقات الزرقاء من خطر على وجودهم، حتى صدر قرار من محكمة العدل العليا الإسرائيلية في سنة 1988،[7] حُدد فيه "مكانة ساكن" في القانون الإسرائيلي. وفي هذا القرار ذكر القاضي أهارون براك، الذي أصبح فيما بعد رئيساً لمحكمة العدل العليا، أن: "رخصة الساكن الدائم تنتهي عندما يترك صاحب الرخصة البلد ويستقر في دولة أُخرى." وأضاف: "اعتُمدت رخصة الساكن الدائم على الأمر الواقع الذي وُجد فيه سكان 'شرقي القدس' [عند احتلالها]، وعندما تزول الأسباب الموجبة لرخصة 'الساكن الدائم'، مثل السفر من غير عودة خلال فترة محددة، تُسحب هذه الرخصة، ولا يحقّ لحاملها سابقاً المطالبة مرة ثانية بهذا الحقّ."[8]
وبعد صدور القرار الإسرائيلي، في شأن تحديد مكانة الساكن في دولة إسرائيل، جرت تعديلات على بطاقة الهوية الإسرائيلية الممنوحة للمقدسيين تضمنت مرة إشارة إلى أن حاملها "مقيم في دولة إسرائيل"، ومرة أُخرى إلى أن حاملها "ساكن في دولة إسرائيل"، من دون الإشارة إلى القومية التي حُذفت كلياً من بطاقة الهوية الحالية، وذلك على عكس بطاقات الهوية الإسرائيلية التي حُددت فيها القومية بهدف ممارسة التمييز العنصري في حقّ الفلسطينيين في الداخل المحتل.[9]
لكن قرار محكمة العدل العليا الإسرائيلية، استُغل من طرف الجهات التنفيذية (وزارة الداخلية وبلدية القدس وغيرهما)، إذ شنت سلطة الاحتلال الإسرائيلي حملات لسحب بطاقات هوية الفلسطينيين في القدس المحتلة، في محاولة منها لتهويد المدينة المقدسة. واستناداً إلى هذا القرار حاربت الحكومة الإسرائيلية المؤسسات والفاعليات الفلسطينية في القدس المحتلة، أكانت سياسية أم تعليمية أم اجتماعية أم رياضية أم ثقافية أم حتى إغاثية، بدعوى أن "رخصة الساكن الدائم" لا تعطي حامليها حقاً فردياً أو جماعياً لممارسة أي نشاطات وطنية، لأنها تُعبّر عن توجهات تختلف عن التوجهات الإسرائيلية - اليهودية في المدينة، ومَن يرغب في ممارسة هذه النشاطات فإن عليه التوجه نحو أراضي السلطة الفلسطينية.[10]
بناء على ما سبق، فإن منح مكانة "ساكن دائم" للفلسطينيين، أكان الضم جزئياً أم شاملاً، سيضيف أعباء اقتصادية كبيرة على إسرائيل التي تعاني أزمات اقتصادية هائلة جرّاء انتشار جائحة كورونا، وستكون الأزمة أعمق إذا مُنحت هذه المكانة لجميع سكان الضفة الغربية الذين يصل عددهم إلى نحو 3 ملايين نسمة، إذ قدرت المصادر الإسرائيلية تكاليف ذلك بـ 50 مليار شيكل (14 مليار دولار تقريباً).[11]
علاوة على ذلك، وجرّاء إجراءات الطرد المتواصلة، ربما يسعى الفلسطينيون للبحث عن مكانة لهم شبيهة بتلك المكانة المتوفرة للفلسطينيين في دولة إسرائيل، الأمر الذي يهدد إسرائيل كدولة يهودية وفق معظم تصريحات قادة دولة الاحتلال. بناء عليه، تفضل إسرائيل إبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، أو منحهم هوية الحكم العسكري، كحل موقت، إلى حين توفر ظروف تسمح لها باستكمال فصول جديدة من النكبة التي حلت بالفلسطينيين في سنة 1948.
الجنسية الإسرائيلية
منحت إسرائيل، بعد إقامتها، مَن بقي من الفلسطينيين فيها، بطاقة الهوية والجنسية الإسرائيليتَين، وفرضت عليهم الحكم العسكري حتى سنة 1966، وتضمنت الإجراءات فرض قيود كثيرة مثل منعهم من العمل والدراسة، وتحديد مجال حركتهم، إلخ. وبعد رفع الحكم العسكري، مُنح الفلسطينيون حقوقاً فردية كتلك التي يحصل عليها اليهود، لكنهم لم يحصلوا على حقوق جماعية في المجالات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والثقافية، وغيرها من الحقوق التي تحصل عليها الأقليات في الدول الأُخرى،[12] الأمر الذي عرّضهم ويعرّضهم لتمييز عنصري، على أساس العرق، ما زال متواصلاً حتى اليوم. كما بقيت مكانة الفلسطينيين أقل من المكانة التي يتمتع بها اليهود بحكم وثيقة استقلال دولة الاحتلال الإسرائيلي، والتي تحدثت عن حق تقرير المصير لليهود فقط، ولم تتطرق إلى الفلسطينيين كأقلية ذات حقوق سياسية واجتماعية، إذ اعتبرتهم الوثيقة "آخرين" يعيشون في دولة إسرائيل.[13]
وأُضعفت مكانة المواطنين الفلسطينيين مرة أُخرى، في سنة 2003، عندما أعلنت الحكومة الإسرائيلية، بقرار يجدَّد كل عام، حرمانهم من لمّ الشمل، بحجة المحافظة على الأمن، لكن الهدف الحقيقي لهذا القرار هو المحافظة على ما يسمى الأغلبية اليهودية.[14]
وتعرضت هذه المكانة أيضاً، لضربة إسرائيلية شديدة عندما مأسست إسرائيل رفض التعامل الجماعي مع الفلسطينيين كأقلية عرقية ذات خصوصيات دينية ووطنية واجتماعية وغيرها من الحقوق، عبر إصدار الكنيست الإسرائيلي "قانون القومية الإسرائيلي"، في سنة 2018، الذي يعتبر "أرض إسرائيل" (فلسطين التاريخية) وطناً تاريخياً خاصاً بـ "الشعب اليهودي"، يمارس فيه حقه الطبيعي في تقرير مصيره ثقافياً ودينياً وتاريخياً، من دون أي ذكر للشعب الفلسطيني وحقوقه ومكانته،[15] وذلك على الرغم من أن الإحصاءات الإسرائيلية تشير إلى أن العرب الفلسطينيين أكثر عدداً من اليهود، وأوسع انتشاراً في فلسطين التاريخية.[16]
وهنا، لا بد من التطرق إلى وجهة نظر المستعمرين اليهود المنتشرين في الضفة الغربية، والذين يطالبون بضم الضفة الغربية كلها، مع وضع شروط لمنح سكانها الجنسية، معتقدين أن المعايير الديموغرافية تميل إلى مصلحة اليهود في المنطقة الواقعة بين البحر والنهر، وخصوصاً بعد الانفصال عن قطاع غزة وخروج مليونين من الفلسطينيين من المعادلة الديموغرافية، علاوة على وجود مليون فلسطيني جرت زيادتهم منذ توقيع اتفاق أوسلو، الأمر الذي يعني أن عدد سكان الضفة الغربية بالنسبة إليهم هو أقل من مليون ونصف، مدّعين أن مركز الإحصاء الفلسطيني لا يطرح معطيات صحيحة وسليمة.[17] وهذه الشروط هي:
1 - الحقّ في الجنسية فردياً وليس جماعياً.
2 - حرمان أعضاء التنظيمات الفلسطينية من الجنسية الإسرائيلية، بمَن فيهم أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، وكل مَن سُجن أو حرّض على دولة إسرائيل منذ سنة 1967.
3 - منع الجنسية عن كل مَن يرغب في الاحتفاظ بجنسية أُخرى يختارها.[18]
لكن هذا الخيار ترفضه جميع التيارات الإسرائيلية الحاكمة التي تدرك أن التبعات الاقتصادية والديموغرافية، تختلف عمّا تطرحه الأقلية التي تستعمر الضفة الغربية، لأنه يعرّض ما يسمى "يهودية الدولة" للخطر على المستوى القريب والبعيد، وجاءت صفقة القرن لتعبّر بوضوح عن مثل هذا الرفض.
خلاصة
مع التراجع عن ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، عاد التركيز على مواصلة الأمر الواقع الذي تعتبره قوات الاحتلال مريحاً لها سياسياً واقتصادياً وديموغرافياً، وذلك في انتظار بيئة وأجواء تسمح لها بتكرار النكبة الأولى. وفي المقابل، لا يمكن للفلسطينيين البقاء في حالة الجمود الحاضرة، نظراً إلى استمرار مصادرة أراضيهم وإقامة مستعمرات جديدة وتوسيع القائمة، لفرض ضم غير مكتوب، يعيش فيه الفلسطينيون في دولة واحدة من دون أي مكانة، وما يترتب على ذلك من حرمان من الحقوق الوطنية والسياسية والاقتصادية والمدنية، والحقوق الفردية في مجال الملكية وحقوق الإنسان الأساسية التي يفتقدها الفلسطينيون اليوم.
إن الوضع الحالي، علاوة على قانون القومية الإسرائيلي، وحالة الحصار التي يمر بها الفلسطينيون، وانعدام المكانة لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة ومدينة القدس، وعدم المساواة التي يمر بها الفلسطينيون في فلسطين التاريخية، تُعتبر أسوأ من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لأن الاحتلال الإسرائيلي يعتبر تلك الإجراءات مرحلة انتقالية، إلى حين توفير ظروف تسمح بطرد الفلسطينيين من جميع أراضيهم ووطنهم التاريخي، وبالتالي شطب أي مكانة لهم في فلسطين التاريخية.
إن المطلوب فلسطينياً، وفي جميع أماكن وجود الشعب الفلسطيني، طرح برنامج وطني ونضالي موحد، يتم من خلاله التصدي للتمييز العنصري الممارس في حقّهم، ومنع إحداث نكبة ثانية، إلى حين توفر ظروف تمكّنهم من ممارسة حقهم في تقرير المصير، بعد إفشال دولة إسرائيل خيار حل الدولة الفلسطينية المستقلة.
المصادر:
[1] "نتنياهو: لن يتم منح الفلسطينيين في غور الأردن الجنسية بعد الضم الإسرائيلي"، "تايمز أوف إسرائيل – عربي"، 29 / 5 / 2020، في الرابط الإلكتروني.
[2] "أبراهام يارون: المعركة بين نتنياهو وغانتس على الضم"، النشرة الإخبارية المسائية من القناة الإسرائيلية الثانية، 23 / 6 / 2020.
[3] في 13 / 8 / 2020، تم بثّ المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، مباشرة على أجهزة التلفزة الإسرائيلية، ومن ضمنها القناة الإسرائيلية "كان 11" (التي يستند إليها الكاتب في هذه المعلومة)، وذلك في أعقاب المؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونتنياهو والشيخ محمد بن زايد نائب رئيس دولة الإمارات العربية.
[4] يستند الكاتب في هذه المسألة إلى بطاقة الهوية وجواز السفر اللذين حازهما بعد احتلال سنة 1967.
[5] يُستخلص هذا التحليل من خلال المقابلة التي أجراها الصحافي الإسرائيلي ديكل يارون مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والتي بثّتها القناة الثانية وإذاعة الجيش الإسرائيلي في 3 / 8 / 2020، كما أن مكتب رئيس الحكومة أكد أن إسرائيل لا تريد السيطرة على الفلسطينيين.
[6] رامون أمنون وياعل رونين، "سكان لا مواطنين، إسرائيل وعرب شرقي القدس، 1967-2017"، (بالعبرية)، (القدس: معهد القدس لأبحاث السياسات، 2017)، ص 10.
[7] قدّم الفلسطيني مبارك عوض شكوى ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق شمير ووزير داخليته، بسبب قرار إبعاده عن القدس، وكان عوض قد سكن القدس الشرقية بعد سنة 1967 وحمل هويتها، بعد طرد عائلته من القدس الغربية في سنة 1948، وسافر إلى الولايات المتحدة وحمل الجنسية الأميركية، ثم عاد إلى القدس حيث أسس المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف قبل الانتفاضة الأولى، إلى أن قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إبعاده عنها.
[8] أمنون ورونين، "سكان لا مواطنين..."، مصدر سبق ذكره، ص 208.
[9] انظر صورة بطاقة هوية الشهيدة فدوى أبو طير، المرفقة في خبر بعنوان "الاحتلال يقتل مقدسية في اليوم العالمي للمرأة!"، على موقع "الجزيرة مباشر"، 8 / 3 / 2016، في الرابط الإلكتروني.
[10] David Coren, “Foreign Activity in East Jerusalem: A Challenge to Israeli Sovereignty in the Capital”, “Jerusalem Institute for Strategy and Security”, 23 / 1 / 2019,
[11] "إجراءات الضم في يهودا والسامرة – انعكاسات"، تقرير لـ "منظمة ضباط من أجل أمن إسرائيل"، (بالعبرية)، أيلول / سبتمبر 2018، ص 24.
[12] البروفسور عاميحي كوهين، "تبادل الأراضي ومكانة الفلسطينيين في مناطق الضم"، "مدونة الأمن السري"، 21 / 5 / 2020، في الرابط الإلكتروني.
[13] انظر وثيقة الاستقلال (بالإنجليزية)، في موقع الكنيست الإسرائيلي، في الرابط الإلكتروني.
[14] انظر: "قانون الجنسية والدخول إلى إسرائيل (تعليمات طوارىء) 2003"، (بالعبرية)، موقع الكنيست الإسرائيلي، في الرابط الإلكتروني.
[15] "قراءة فلسطينية في قانون القومية الإسرائيلي"، نشرة غير دورية محدودة التوزيع صادرة عن "هيئة مقاومة الجدار والضم"، في سنة 2018.
[16] Akiva Aledar, “The Government Admits: There is no Longer a Jewish Majority Between the Jordan and the Sea”, Haaretz, 16 / 10 / 2012.
[17] بينت تسيمرمن وآخرون، "فارق المليون: السكان العرب في الضفة الغربية وقطاع غزة" (بالعبرية)، (تل أبيب: منشورات مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية، 2006)، ص 52.
[18] عليّان الهندي، "مراجعة في كتاب الضم الآن - الطريق إلى الدولة الواحدة"، "مجلة شؤون فلسطينية"، العدد 261 (خريف 2015)، ص 206.